بسم الله الرحمن الرحيم

حوار حول الحدث *

هذا الحوار كان بعد موضوع الحدث - أسبابه - آثاره - استغلاله - أخطاره - علاجه


الحلقة الأولى :
أشكرك على تعقيبك، وعلى تكرار النصيحة بالتفقه، وعلى نقل أقوال العلماء في التترس، والرمي بما يعم المحارب وغيره لعدم التمييز بينهما.... كالمنجنيق.
وأود أن أبين ما يأتي:
أولا: النكاية في عدونا من اليهود والصليبيين المعاصرين، مطلب يسرنا ويشفي صدورنا، ولم نكن ولا نكون بإذن الله تعالى ضد ذلك. لأن النكاية بهم مما يرضي الله، ويشفي صدور المؤمنين، كما قال تعالى: ((ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين)) [التوبة: 120]
ثانيا: الدفع عن بلدان المؤمنين فرض على الكفاية الذي لا يسقط عن الأمة إلا بوجود طائفة تقوم به قياما كافيا.
ثالثا: لا أزال أرى أن حال دول العالم اليوم، ليست متميزة تميزا محضا، بأن يقال: هذه دار إسلام محضة، وهذه دار حرب محضة، وتلك دار عهد محضة، بل طرأ عليها كلها ما يجعلها مشوبة بحال وحال أخرى. فلو طبقنا تعريف العلماء لكل من دار الإسلام ودار الكفر، لوقعنا في مشكلات يصعب الخروج منها.
وأذكر على سبيل المثال:
-ما ذكر في كتاب بدائع الصنائع، قال:
(فصل وأما بيان الأحكام التي تختلف باختلاف الدارين فنقول: لا بد أولا من معرفة معنى الدارين دار الإسلام ودار الكفر، لتعرف الأحكام التي تختلف باختلافهما، ومعرفة ذلك مبنية على معرفة ما به تصير الدار دار إسلام أو دار كفر، فنقول: لا خلاف بين أصحابنا في أن دار الكفر تصير دار إسلام بظهور أحكام الإسلام فيها. واختلفوا في دار الإسلام أنها بماذا تصير دار الكفر، قال أبو حنيفة: إنها لا تصير دار الكفر إلا بثلاث شرائط: أحدها ظهور أحكام الكفر فيها. والثاني أن تكون متاخمة لدار الكفر والثالث أن لا يبقى فيها مسلم ولا ذمي آمنا بالأمان الأول وهو أمان المسلمين وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إنها تصير دار الكفر بظهور أحكام الكفر فيها)
وعلى هذا التعريف-في جملته-إذا نظرنا إلى بعض بلدان المسلمين اليوم، فسنجد أن الأحكام التي تظهر فيها، هي أحكام الكفر، وأن أحكام الإسلام تحارب فيها، وأن الدعاة إلى تطبيق هذه الأحكام في السجون والمعتقلات وتحت التعذيب، ومشردون ، يأمنون على أنفسهم في بلاد الكفر أكثر من أمنهم في بلادهم.
فهل نعتبر هذه البلدان دار كفر، ويكون لنا الحق أن نعاملها معاملة بلاد الكفر؟ وأنت تعلم ما يترتب على ذلك.
-وقال ابن القيم رحمه الله: "قال الجمهور: دار الإسلام هي التي نزلها المسلمون وجرت عليها أحكام الإسلام، وما لم تجر عليه أحكام الإسلام لم يكن دار إسلام أحكام أهل الذمة(2/728)وهي كالأولى.
- وقد سألت كثيرا من العلماء المعاصرين، عندما ألفت رسالة "الجهاد في سبيل الله حقيقته وغايته" عن تعريفهم لدار الإسلام ودار الكفر، فلم يجب عن سؤالي إلا سماحة الشيخ ابن حميد رحمه الله-وهو من خيرة العلماء-وإن كان حسب قولك من علماء السلطة، وهذا نص جوابه:
"نفيدكم أن العبرة بمن كانت له الولاية والحل والعقد والتصرف في البلد: فإن كان ذلك للمسلمين فهي دولة إسلامية، وإن وجد بها كفار، وإن كان الحل والعقد والتصرف والولاية للكفار فتعتبر الدولة كافرة، وإن كثر فيها المسلمون" رقم: 422/1، وتاريخ 7/3/1401هـ أثبت النص في الكتاب المذكور 1(/609 )
وإذا نظرنا إلى هذا التعريف، فسنجد أن الذي يحلون ويربطون في كثير من بلدان المسلمين، هم العلمانيون الذين يحاربون شرع الله، ويدعمون أحكام القوانين الأجنبية، وأن عامة المسلمين في تلك البلدان لا يحلون ولا يربطون، فهل نطلق على بلدان المسلمين التي يحكمها علمانيون يحاربون الإسلام، أنهادار كفر ونجري عليها أحكام دار الكفر؟
أقصد من هذا أن أحوال البلدان تغيرت من حال إلى حال، وأنها تحتاج إلى اجتهاد جديد قد يخالف التعريفات السابقة، والأقيسة السطحية.
رابعا: الواجب على من يقومون بمثل هذه الهجمات أن يوازنوا بين المصالح والمفاسد المترتبة على بلدان المسلمين، ولا يقصروا النظر على مجرد النكاية بالأعداء، كيفما كانت، فمن المعروف عند العلماء أن لا يغير المنكر إذا ترتب عليه ما هو أنكر منه، وقد احتل أعداء الإسلام بعض البلدان، وهم اليوم يعدون العدة –متذرعين بهذه الهجمات- لاحتلال المزيد من البلدان الإسلامية، إضافة إلى وضع خارطة جديدة لبلدان المسلمين، واتخاذ الأسباب للسيطرة التامة على جعل قادة الشعوب الإسلامية ينفذون أهدافهم، وأهمها مضايقة دعاة الإسلام الذين يقفون ضد الخضوع للسيطرة اليهودية على ما يسمونه بمنطقة الشرق الأوسط، في كل ما يحقق أهداف اليهود والصليبيين.
وقد جاءت نصوص القرآن والسنة ومقاصد الشريعة والقواعد الفقهية، على مراعاة المفاسد والمصالح في الأعمال:
فمن القرآن قوله تعالى: ((ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون)) [ الأنعام: 108]
قال القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية "قوله تعالى ((ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله)): نهى فيسبوا الله جواب النهي، فنهى سبحانه المؤمنين أن يسبوا أوثانهم لأنه علم إذا سبوها نفر الكفر وازدادوا كفرا. قال ابن عباس قالت كفار قريش لأبي طالب: إما أن تنهى محمدا وأصحابه عن سب آلهتنا والغض منها، وإما أن نسب إلهه ونهجوه، فنزلت الآية الثانية.
قال العلماء حكمها باق في هذه الأمة على كل حال، فمتى كان الكافر في منعة وخيف أن يسب الإسلام أو النبي عليه السلام أو الله عز وجل، فلا يحل لمسلم أن يسب صلبانهم ولا دينهم ولا كنائسهم، ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك، لأنه بمنزلة البعث على المعصية....
الثالثة في هذه الآية أيضا ضرب من الموادعة، ودليل على وجوب الحكم بسد الذرائع، حسب ما تقدم في البقرة، وفيها دليل على أن المحق قد يكف عن حق له إذا أدى إلى ضرر يكون في الدين" [الجامع لأحكام القرآن: (7/61)]
ومن السنة ماروه الإمامان البخاري ومسلم رحمه الله، ما روته عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله قال: (ألم تري أن قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم؟) فقلت: يا رسول الله أفلا تردها على قواعد إبراهيم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت) [البخاري: 1506ومسلم :1333]
وقال الإمام الشاطبي رحمه الله: "ومنها الترك للمطلوب خوفا من حدوث مفسدة أعظم من مصلحة ذلك المطلوب، كما جاء في الحديث عن عائشة (لولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية، فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر في البيت، وأن ألصق بابه) وفي رواية: (لأسست البيت على قواعد إبراهيم)" [الموافقات: (4/62)]
فقد ترك مصلحة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم مع رغبته في ذلك، خشية من مفسدة افتتان المسلمين من قريش، بنقض الكعبة.
وقال ابن القيم رحمه الله في كتابه "إعلام الموقعين عن رب العالمين":
"الإنكار له شروط:
المثال الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر، ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله، فإنه لا يسوغ إنكاره، وان كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر.
وقد استأذن الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها وقالوا أفلا نقاتلهم فقال لا ما أقاموا الصلاة.
وقال من رأى من أميره ما يكرهه، فليصبر ولا ينز عن يدا من طاعته.
ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل، وعدم الصبر على منكر، فطلب إزالته فتولد منه ما هو اكبر منه.
فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها.
بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك مع قدرته عليه، خشية وقوع ما هو أعظم منه، من عدم احتمال قريش لذلك، لقرب عهدهم بالإسلام، وكونهم حديثي عهد بكفر.
ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد، لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه....." [أعلام الموقعين عن رب العالمين: (3/4)]
وقال في موضع آخر: (الوجه السادس: أنه تعالى نهى المؤمنين في مكة عن الانتصار باليد وأمرهم بالعفو والصفح، لئلا يكون انتصارهم ذريعة إلى وقوع ما هو أعظم مفسدة من مفسدة الإغضاء واحتمال الضيم. ومصلحة حفظ نفوسهم ودينهم وذريتهم راجحة على مصلحة الانتصار والمقابلة) [أعلام الموقعين: (3/138)]
ولا شك أن التسبب في زيادة إيذاء الكفار للمسلمين ومضايقتهم، واحتلال بلدانهم، وجمع الدول الكافرة والمنافقة والفاسقة، على محاربة الإسلام والمسلمين بأعدادهم وعددهم التي لم يعد المسلمون القوة التي تدفعها من أهم المفاسد التي يجب توقيها.

الحلقة الثانية من الرد على الدليل اليماني
-إن قياس الطائرة التي تحمل من لا يجوز قتلهم، على المنجنيق الذي يرمي به المحاربون عدوهم، ذخيرته من الحجارة أو الحديد...، لا يزال عندي قياسا فاسدا.
كيف تقاس طائرات شحنت بأنفس يحرم قتلها بغير حق، على منجنيق أو مدفع أو صاروخ ليس فيها بشر، وإنما ذخيرتها من الحجارة أو الحديد ...؟ لا أزال أرى أن القياس فاسد، للنهي عن قتل النفس بغير حق، والنهي عن قتل من لا يقاتل ولا يعين على القتال.
الفرق بعيد بين رمي الحصون والقلاع، بآلة ذخيرتها حجارة وحديد، وأخرى شحنت بأناس لا يجوز قتلهم شرعا.
إن مثل هذا القياس سيجرئ قليلي العلم والمعرفة على اقتحام عقبات ليسوا أهلا لاقتحامها...
أما الذين كانوا في البرجين، فيمكن قياسهم على المتترس بهم-إذا كان الرماة مسلمين، و إذا حكمنا بمشروعية الرمي من أساسه.
فهذا الرمي تترتب عليه مضار ومفاسد، تجعل مفسدة فعله أكبر من مصلحة النكاية بالعدو، وهاهي الأمة الإسلامية تتلقى آثار ذلك الهجوم في البلدان الإسلامية كلها: برا وبحرا وجوا.
وهاهم المسلمون في الشعب الأفغاني المسلم، يقتلون وتهدم منازلهم، ويشردون في الشعاب والوديان، ويموتون في الطرقات جوعا ومرضا...
بل إن جميع البلدان الإسلامية تنتظر نصيبها من العدوان الصليبي المعاصر، والتخطيط اليهودي الصهيوني الماكر.
والعدوان في حقيقته سيكون موجها لدعاة الإسلام ومؤسساتهم التي تحاربها-أساسا- الحكومات العلمانية في بلدان المسلمين، واليوم سنحت لهم ولأسيادهم الفرصة لشن الغارة عليها.
ولسنا ننسى التهور الجاهل الذي احتل بسببه الشباب المغرر بهم بيت الله الحرام، قبل 23 عاما، مسوغين ذلك بأحلام شيطانية حشرتهم من أنحاء الأرض، ليكونوا أتباع المهدي المزعوم، فكان سببا لمحاربة كثير من الدول العلمانية، الدول للدعوة الإسلامية ودعاتها في كل أنحاء الأرض.
-الجهاد يحتاج إلى إعداد القوة التي أمر الله بها، من البشر والعتاد، ومن الحكمة القيادية ذات الفقه في الدين، والرأفة بالجند والأتباع من المسلمين، وليس مجرد قيام طائفة بهجوم لم يدرسوا عواقبه على الشعوب الإسلامية في كل أنحاء الأرض.
- وهنا لا بد من الرد على استدلالك بآية ((كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله)) وقولك: "وأما كون العدو أكثر وسيفعل فهذا كله لا يسقط الجهاد إذا تعين وأنصحك بقراءة وتدبرقوله تعالى : ( كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)(البقرة: من الآية249) وقوله سبحانه : (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران:173)"
إن غالب المشكلات التي تستثير شبان المسلمين، وتوقعهم في مآزق غير مشروعة، يأتي من أمثال هذا الاستدلال، الذي يأخذ أربابه نصا من القرآن أو السنة، أو جملة من كلام العلماء، ويتركون نصوصا أخرى يجب مراعاتها وضمها إلى النصوص المستدل بها، ليخرج المستدل بحكم صحيح، فقده المستدل بسبب اجتزائه نصا وتركه غيره من النصوص، على حد الاكتفاء بـ((ويل للمصلين))
إن الله الذي قال ((كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة...)) هو –سبحانه- الذي أمر المسلمين بإعداد القوة المستطاعة التي ترهب أعداء الله: ((وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وءاخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون)) [الأنفال: 60]
وهو تعالى الذي أمر الفئة القليلة من المسلمين في مكة بالكف عن قتال عدوهم الذي لم يدع وسيلة من وسائل التعذيب والإهانة، إلا استعملها في فتنتهم، كما قال تعالى: ((ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة...)) [النساء: 77]
وأمر الله المؤمنين بالكف عن قتال المشركين في مكة، معقول المعنى، وهو أن الفئة المؤمنة القليلة، لم تكن عندها القدرة الكافية على قتال المشركين الذين يفوقونهم أضعافا مضاعفة عددا وعدة.
وكان بعض المسلمين راغبين في رد عدوان المشركين عليهم، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأذن لهم، ولو علم الله أن لهذه الفئة القليلة المؤمنة مصلحة في قتال المشركين في مكة لأذن لهم في ذلك.
قال الآلوسي في قوله تعالى: ((ألم ترى إلي الذين قيل لهم كفوا أيديكم)): نزلت كما قال الكلبى في عبد الرحمن بن عوف الزهري والمقداد ابن الأسود الكندي وقدامة بن مظعون الجمحى وسعد بن أبى وقاص، كانوا يلقون من المشركين أذى شديدا، وهم بمكة قبل الهجرة، فيشكون إلى رسول الله، ويقولون: ائذن لنا يا رسول الله في قتال هؤلاء، فانهم قد آذونا والنبي يقول: (كفوا أيديكم وامسكوا عن القتال، فإني لم أومر بذلك) [تفسير روح المعاني: (5/85]
والصحيح أن مراحل الدعوة والجهاد التي مر بها الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لا زالت باقية الحكم، إذا واجه المسلمون ما يشبهها، وليست كلها منسوخة.
وهو سبحانه الذي جعل الفئة القليلة بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تهادن اليهود والمشركين في المدينة، ويسجل في مهادنتهم تلك الوثيقة المدنية التي لم ينقضها إلا اليهود، وكان الله يعلم أن اليهود لا عهد لهم، ولكن سنته الكونية-وهي اتخاذ الأسباب- كسنته الشرعية لا بد من مراعاتها.
والله تعالى الذي قال: ((كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله)) هو الذي جعل رسوله صلى الله عليه وسلم، يتأخر عن غزو قريش في مكة إلى السنة الثامنة من هجرته.
وكان المشركون هم الذين يبادرون بقتال المسلمين في عقر دارهم، كما فعلوا في غزوة أحد والأحزاب.
وفي غزوة بدرلم يخرج الرسول صلى الله عليه وسلم غازيا لقريش، وإنما خرج لقطع الطريق على عيرهم التي كانت محملة بتجارتهم التي أرادوا الاستعانة بها على قتال المسلمين، والله عز وجل هو الذي أراد لهم ذات الشوكة، لعلمه تعالى أنه ناصرهم على عدوهم، وجاعلٌ هذه الغزوة فرقانا بين الحق والباطل.
والله تعالى الذي قال: ((كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله)) هو الذي جعل رسوله صلى الله عليه وسلم، قائد الفئة المؤمنة القليلة، يكتب الصلح مع قربش ويرجع عن العمرة التي أحرم بها هو وأصحابه، وكان بعض أصحابه يرون في ذلك الصلح، حيفا ودنية على المسلمين وهم أهل حق، والمشركون أهل باطل، حتى لقد رد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بصير الذي جاء يرسف في قيوده مستجيرا من أذى المشركين بعد أن تم التوقيع على الصلح.
والرسول صلى الله عليه وسلم، وهو قائد الفئة القليلة المؤمنة، أشفق على أصحابه عندما تكالبت الأحزاب عليهم من كل جانب، وغدرت بهم يهود، فأراد أن يدفع عنهم ذلك الكرب والشدة التي نزلت بهم، ووصفها الله تعالى هذا الوصف الرباني في كتابه: ((ياأيها الذين ءامنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا(9)إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا(10)هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا(11) [الأحزاب]
ولقد أراد الرسول صلى الله عليه وسلم، أن يخفف على أصحابه ذلك الزلزال الشديد، ففاوض قائدي غطفان على أن يعطيهما ثلث ثمار المدينة، ليرجعا عن قتال المسلمين، كما ذكر ذلك في السيرة النبوية، وكتب التفسير.
قال القرطبي رحمه الله: (فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقام المشركون بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر،لم يكن بينهم حرب إلا الرمي بالنبل والحصى، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه اشتد على المسلمين البلاء، بعث إلى عيينة بن حصن الفزاري وإلى الحارث بن عوف المري، وهما قائدا غطفان، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة لينصرفا بمن معهما من غطفان ويخذلا قريشا ويرجعا بقومهما عنهم، وكانت هذه المقالة مراوضة ولم تكن عقدا.
فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهما أنهما قد أنابا ورضيا، أتى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فذكر ذلك لهما واستشارهما، فقالا: يا رسول الله هذا أمر تحبه فنصنعه لك أو شيء أمرك الله به فنسمع له ونطيع؟ أو أمر تصنعه لنا؟ قال (بل أمر أصنعه لكم. والله ما أصنعه إلا أني قد رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة)
فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله والله لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وما طمعوا قط أن ينالوا منا ثمرة إلا شراء أو قرى، فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك نعطيهم؟ والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وقال، (أنتم وذاك) وقال لعيينة والحارث: (انصرفا فليس لكما عندنا إلا السيف) وتناول سعد الصحيفة وليس فيها شهادة فمحاها) [الجامع لأحكام القرآن: (14/133)]
قد يقول القائل: ولكن الله قد نصر الفئة المؤمنة القليلة على الفئة الكثيرة.
وأقول: نعم. ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم، نظر إلى الأسباب التي يجب أن يتخذها المؤمن في جهاد عدوه، ومنها العدد والعدة-وهو نظر شرعي كما بين الله ذلك في سورة الأنفال: ((الآن خفف الله عنكم...)) وحاول دفع المفسدة الكبرى الظاهرة عن أصحابه، وهي انتصار أعدائهم عليهم، فبذل للعدو شيئا من المال، ليصرفهم عن أصحابه، دفعا للمفسدة الكبرى بالمفسدة الصغرى، وفي ذلك دليل على أن القائد يجب أن يشفق على جنده ومن وراءهم، وأن يستشيرهم فيما يعود ضرره عليهم.
والفئة القليلة المؤمنة في غزوة مؤتة، عندما رأى سيف الله خالد ألا طاقة لها لقلة عددها (3 آلاف) بعدوها، الذين بلغ عددهم(300 ألف) تقريبا، اتخذ الوسيلة التي أنقذها من عدوها، ولم يستمر في مواجهة العدو بتلك الفئة، مستدلا بآية: ((كم من فئة...)
أما نصر الله للفئة المؤمنة القليلة بقدرته، فهذا أمر غيب لا تعلمه الفئة المؤمنة، وإن كانت تطمع فيه وترجوه، لذلك لا بد من لها أن تتخذ كل سبب تستطيعه من عدد وعدة.
-وما ذكرته من تحرش النبي صلى الله عليه وسلم بعير قريش، وعدم احتلالهم المدينة، قياس فاسد أيضا، لأن المدينة كان بها كتائب الأنصار والمهاجرين، وكان يقودهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانوا على تقوى من الله وتوكل، وكانوا يتوقون إلى الشهادة ودخول الجنة، حتى كان الواحد منهم يرمي التمرات التي يريد أكلها، ويخوض غمار الحرب، استبطاء لدخول الجنة.
أما اليوم فإن غالب زعماء المسلمين، قد التزموا السمع والطاعة للصليبيين واليهود، وهم الذين يملكون مرافق الشعوب الإسلامية، من مال واقتصاد وإعلام، وجيش وسلاح، وهاهم يتحالفون مع الأعداء ضد المسلمين، والشعوب لا وزن لها، ولا تستشار في شيء، ومن حرك رأسه منكرا، عاملوه بما تعرف.
هاهم يحتلون باكستان، ودول آسيا الوسطى... وبقية البلدان الإسلامية في الطريق.
فهل يرد أعداء الله من احتلال بلدان المسلمين راد؟!
- المجاهدون لا بد لهم من أمير يقودهم، ويدبر أمورهم، ويوصيهم بما يجب عليهم شرعا، كما كان يفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبعه على ذلك أصحابه، واستمر المسلمون على ذلك.
كما في حديث بريدة قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: أغزو باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، أغزو ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا.) [صحيح مسلم: (3/1357]
وقال ابن تيمية رحمه الله:
"يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لاقيام للدين ولا للدنيا إلا بها، فان بنى آدم لاتتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلي بعض، ولابد لهم عند الاجتماع من رأس، حتى قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: (إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم) رواه أبو دواد من حديث أبى سعيد وأبي هريرة.
وروى الإمام أحمد فى المسند عن عبد الله بن عمرو أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: (لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم) فأوجب تأمير الواحد فى الاجتماع القليل العارض فى السفر، تنبيها بذلك على سائر أنواع الاجتماع، ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم وإقامة الحدود، لاتتم إلا بالقوة والإمارة.
ولهذا روي أن السلطان ظل الله فى الأرض" [مجموع الفتاوى: (28/390)]
قد تقول: إن الذين قاموا بالهجوم على نيويورك-إن كانوا من المسلمين-لهم أمير، يسمعون له ويطيعون.
وتقول كما سبق أن قلت:" رابعا : أما المفاسد المترتبة على ذلك فلا يقررها من جلس في بيته أو مكتبه ونأى عن المعركة أواكتفى هو ورفاقه منها بالصراع السياسي والفكري وإنما الذين أوقفوا أنفسهم للجهاد والأعداد هم الذين يقررون ذلك وكونك لم تعد أنت ورفاقك للجهاد فلا يلزم منه أن بقية الأمة لم تعد ولا يلزم أن يظهروا إمكانية إعدادهم ليقتنع القاعدون"
وأقول: لا أريد أن أطعن في إخواننا الذين أعدوا أنفسهم للجهاد، ونصروا إخوانهم المسلمين في أفغانستان، وفي الشيشان وفي البوسنة والهرسك، وفي كوسوفا، وأرجو الله أن يكتب أجرهم، وأن يتقبل من فارق الحياة الدنيا شهيدا عنده.
فقد كانوا يقاتلون تحت قيادة في البلد المعتدى عليه، ويدفعون عن أهله.
ونرجو الله أن يوفقهم لاتخاذ كل سبب متاح لمناصرة إخوانهم في فلسطين، ضد أعداء الله من اليهود.
ولكن لا يلزم من ذلك أن تكون موازنتهم وتقديرهم للمصالح والمفاسد، صحيحة في كل الأحوال، بل قد يصيبون ويخطئون، وأنت تعرف موقف عمر بن الخطاب مما فعل خالد في غزوة اليمامة، وإن كان أبو بكر عذره في خطئه[القصة في تاريخ الطبري: 2/274] وقد عزل عمر خالد بن الوليد عندما ولي الخلافة بعد أبي بكر، ومن أسباب عزله تلك القصة.
-ولا أريد أن أتوسع في الدفاع عمن سميتهم القاعدين، وأهل الصراع السياسي، والعلماء الرسميين، فكثير من هؤلاء أكثر فقها من غيرهم. وتزكية النفس قد تحبط العمل.
والذي أريد بيانه هو أن لا ينبغي أن يترك علماء الإسلام الوظائف الحكومية، بل قد يجب عليهم ذلك، ليخففوا من الشر، ويزيدوا في الخير في حدود طاقتهم، وهذا ما قرره فقهاء الإسلام المجاهدون الدعاة، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية، وكونهم لا يقدرون أن ينفذوا بعض الأحكام الشرعية، لا يسوغ الهجوم عليهم.
اقرأ كلام ابن تيمية وبعض أدلته في الجمل الآتية:
[(إذا كان المتولي للسلطان العام، أو بعض فروعه، كالإمارة والولاية والقضاء ونحو ذلك، إذا كان لا يمكنه أداء واجباته وترك محرماته، ولكن يتعمد ذلك ما لا يفعله غيره قصدا وقدرة جازت له الولاية، وربما وجبت... وهذا باب يختلف باختلاف النيات والمقاصد، فمن طلب منه ظالم قادر وألزمه مالا، فتوسط رجل بينهما، ليدفع عن المظلوم كثرة الظلم، وأخذ منه وأعطى الظالم، مع اختياره أن لا يظلم، ودفعه ذلك لو أمكن، كان محسنا، ولو توسط إعانة للظالم كان مسيئا... ومن هذا الباب تولي يوسف الصديق على خزائن الأرض لملك مصر، بل ومسألته أن يجعله على خزائن الأرض، وكان هو وقومه كفارا... ومعلوم أنه مع كفرهم لا بد أن يكون لهم عادة وسنة في قبض الأموال وصرفها على حاشية الملك وأهل بيته ورعيته، ولا تكون تلك جارية على سنة الأنبياء وعدلهم، ولم يكن يوسف يمكنه أن يفعل كل ما يريد، وهو ما يراه من دين الله، فإن القوم لم يستجيبوا له، لكن فعل الممكن من العدل والإحسان، ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته ما لم يكن يمكن أن يناله بدون ذلك، وهذا كله داخل في قوله: {فاتقوا الله ما استطعتم}) التغابن: 16. [مجموع الفتاوى (20/55-57)]
وقال في موضع آخر: (والنجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بالقرآن، فإن قومه لا يقرونه على ذلك، وكثيرا ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضيا، بل وإماما وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها فلا يمكنه ذلك، بل هناك من يمنعه ذلك، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها..) [مجموع الفتاوى (19/218)].
ولا شك أن التخفيف من الشر خير من تركه يكثر، إذا لم يُستَطَعْ إزالته كله، وتكثير الخير خير من تركه يقل إذا لم يُستَطَعْ جلبه كله، ونور في ظلمة خير من ظلمة لا نور فيها، كما قال ابن تيمية في موضع ثالث: (فإذا لم يحصل النور الصافي، بأن لم يوجد إلا النور الذي ليس بصاف، وإلا بقي الإنسان في الظلمة، فلا ينبغي أن يعيب الرجل وينهى عن نور فيه ظلمة، إلا إذا حصل على نور لا ظلمة فيه، وإلا فكم ممن عدل عن ذلك، يخرج من النور بالكلية). [مجموع الفتاوى (10/364).]
ولقد كنت كما يعلم الله زاهدا في تضييع الأوقات في الرد ورد الرد، ولكني فهمت أنك مصر على أن الحق معك، وأن الباطل مع غيرك، وأن دلالة النصوص التي استدللت بها قطعية، ومن المعلوم أن العلماء لا يمكن أن يختلفوا في نص قطعي الثبوت قطعي الدلالة، وغالب العلماء يخالفونك في فهمك، لهذا اضطررت أن أواصل الرد.
(((وأنصح الشباب المسلم الذي يريد الجهاد في سبيل الله، أن يغتنموا الفرصة في أفغانستان وفي فلسطين)))
وسأعتبر هذا الرد هو الأخير، لأن موضوعات أخرى تلح علينا في كتابتها وإرسالها للقراء، في هذا الوقت الذي تنزل فيه المصائب على إخواننا في فلسطين، وفي أفغانستان وفي غيرهما.
ونسأل الله مرة أخرى أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

=========
* هذا الحوار مع الأخ الدليل اليماني  في منتدى الفجر على هذا الرابط

كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل