صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







قبس من نور النبوة

كلمات جامعة

الدكتور. عبد الرحمن إبراهيم فودة
أستاذ الأدب المقارن بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة

 
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعد...
مستمعى الكرام، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته وأهلاً بكم ومرحبًا فى حلقة من برنامج "قبس من نور النبوة"
 
أيها المستمع الكريم...
حين تسمو النفوسُ الإنسانية وتكبر آمالها, وتُصبحُ الحياةُ عامرةً بالتقوى وصالحِ الأعمال, تتطلعُ هذه النفوسُ إلى معرفة الفضائلِ والمكارمِ, فتصبحُ العبادة مُحبَّبة إلى النفس, كما تصبح الطاعةُ خُلقًا أصيلا من أخلاقها, وسجيةً عُظمى من سجاياها, وبذلك يرتفعُ الإنسانُ فوقَ الشهواتِ والشبهاتِ كما ينأى بنفسه عن المُغويات والمُغريات, ولا يكون للمادة عليه من سبيل, كيف لا... وقد أصبحت المُثل العُلا هى هَمَّهُ وغايتَه, وأصبح حُبُّ الخير غرضًا له وهدفًا...
 
لقد بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم في قبس من نور نبوته صلى الله عليه وسلم كثيرًا من سبل الخير, وأرشدنا إلى مدارج العز والكمال...
 
روى الترمذى وابن ماجة وغيرهما بإسناد حسن عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"من يأخذُ عنى هذه الكلمات فيعملَ بهن أو يعلّمُ من يعملُ بهن ؟
قال أبو هريرة : فقلت : أنا يا رسول الله، فأخذ بيدى فعدّ خمساً، فقال: اتق المحارم تكن أعبدَ الناس.
وارضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس.
وأحسن إلى جارك تكن مؤمنا.
وأحبَّ للناس ما تحب لنفسك تكن مسلماً.
ولا تكثر الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب"
يبدأ الحديثُ بأسلوب استفهامى يخاطب فيه النبى صلى الله عليه وسلم صحابتَه؛ ليستنهضَ هِمَمَهم العالية، وليحرِّضَهم على تعلُّم الخير وتعليمِه والعملِ به، ثم يذكر النبى صلى الله عليه وسلم خمسَ وصايا جامعة:
الأولى (اتق المحارم تكن أعبد الناس) والمعنى: تجنَّب ما حرَّمَ اللهُ فعلَه وقولَه على العباد، تكن أكثر الناس عبادة لله، وخشية منه سبحانه. فالجملة إنشائية طلبية، والغرض منها هو النصح والإرشاد، والمقصود بيان معنى العبادة الحقة، ليست العبادة صوراً وأشكالاً، ولا مظاهر وهمية لا صلة لها بدنيا الناس، بل هى الجمال والجلال، والاستقامة على شريعة الله سبحانه .. فإذا اجتنب المرءُ المحارم، ونأى بنفسه عن مزالق الهوى ومصائد الشيطان، وطهر نفسه من أدران الفحش والرذيلة كان العابدَ الزاهدَ حقاً، والتقى النقىَّ الصالحَ صدقاً .. ذلكم هو الذى يحبه الإسلام ويريده، ولله در من قال:
واتق الله، فتقوى الله مـا   ***    جاورت قلب امرئٍ إلا وَصَلْ
ليس من يقطعُ طُرْقاً بطلا   ***   إنمـا مـن يتقـى اللهَ البَطَـلْ
 
الوصية الثانية (وارضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس):
أى اقنع بنصيبك الذى قسمه الله لك من الدنيا تكن أغنى الناس، فالقناعة كنز لا يفنى وفى القناعة راحة للقلب والبال، كما قال الشاعر:
إذا ما كنتَ ذا قلب قنوع    ***    فأنت ومالِكُ الدنيا سواءُ

وفى هذا بيان لحقيقة الغنى، إذ ليس الغنى عن كثرة العرض من مال أو عَقار أو ادخار للثروات، ولكن الغنى الحقيقى هو غنى النفس كما أخبر النبى صلى الله عليه وسلم فى حديث (ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس) (1)
ولله در من قال:
ولستُ أرى السعادةَ جمعَ مالٍ    ***       ولكنَّ التقىَّ هو السعيدُ
 
أخى الحبيب، إن نعم الله تعالى ليست محصورة فى المال وما شابهه، بل إن هناك نعمِّا تفوق هذه النعمة، فالإيمان، والعافية، والسلامة، والأمن والسعادة بالطاعة، كل هذا يفوق نعمة المال.
 
والوصية الثالثة أخى المستمع الكريم (وأحسن إلى جارك تكن مؤمنا):
فهى دعوة إلى التعامل مع الآخرين لا سيما الملتصقين بك بالبر والإحسان، وأولى الناس بالإحسان إليه هو جارك، الذى أوصى الله تعالى بالإحسان إليه، وحث النبى صلى الله عليه وسلم على ذلك حين قال ( ما زال جبريل يوصينى بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) (2) وقال [ والله لا يؤمن (قالها ثلاثاً) قالوا من يا رسول الله. قال: الذى لا يأمن جارُه بوائقَه](3) وفى حديث آخر : "من بات شبعان وجاره جائع" انظر إلى أى مدى يهتم الإسلام بمشاعر الآخرين وأحاسيسهم لا سيما من يخالطهم المرء فى حياته، وأولاهم بهذا جيرانُه.
 
والوصية الرابعة هى فرع على سابقتها (وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلما): إنها مثالية الإسلام وعظمته فى حب الخير للجميع رحمةً وعطفا وبراً، وليست الأخلاق إلا الإنسانية والنبل، ولقد قال صلى الله عليه وسلم (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) (4)، وقد جاء الأدب القرآنى العام فى قوله تعالى (وقولوا للناس حسنا) [البقرة 83] فأحبوا الخير للناس كل الناس، وخذوا بأيديهم إلى ما يحبه ربنا ويرضاه..
 
أخى المستمع الكريم .. كما تحب لنفسك الخير فى الدنيا والآخرة، فاحرص على أن تحبه لأخيك، بل واسع فى تحقيقه له، يتحققْ فيك المعنى الحقيقى للإسلام.
وتأتى الوصية الأخيرة فى هذا الحديث لِتُحَذِّر مما يُذهب بهاء القلب ونورَه، ويُفقد الإنسانَ شعوره وإحساسَه، فلا يستفيق لنصح ولا يرتدعُ عن غى .. إنها تنهى عن كثرة الضحك الذى هو دليل السفهِ وخفةِ العقل، كما قال القائل:
ضَحِكْنا وكان الضَّحْكُ منا سَفَاهةً       ***         وحُقَّ لأرباب البريّة أن يَبْكوا
إنها دعوة إلى أن يتحلى المرء بخلق رصين، فيتجنب حياة الهزل والسخرية التى تتنافى مع وقار المسلم. فالحياة للمسلم أخى الكريم ليست لهواً وعبثا وليست هزلاً وصخبا، بل فيها الجد والكفاح، وفيها الآمال والتضحيات.
 
نعم، أخى الكريم، وليست الحياة جموداً وكآبة وحزناً، وإنما هى ساعة وساعة كما أشار النبى صلى الله عليه وسلم لحنظلة فى حديث آخر.
ولقد كان صلى الله عليه وسلم يضحك ويمزح، ولكنه لا يقول إلا الصدق، فما نقص الضحك من وقاره أو هيبته صلى الله عليه وسلم بل زاده حبا ووقاراً بين أصحابه وأمته.
ألا ما أجمل هذه الوصايا إنْ تمسك بها المسلمون
جعلنا الله وإياكم من أهل الثبات على الحق،
وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته

----------------
(1)  أحمد والبخارى ومسلم والترمذى وابن ماجه عن أبى هريرة وانظر صحيح الجامع 5377.
(2)   صحيح الجامع 5628 وقد أخرجه أحمد والبخارى ومسلم وأبو داود والترمذى من حديث ابن عمر.
(3) صحيح الجامع 7102 عن أبى شريح.
(4) صحيح الجامع 7583 عن أنس.
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
 عبد الرحمن  فودة
  • قبس من نور النبوة
  • الصفحة الرئيسية