بسم الله الرحمن الرحيم

الشهوة .. طريقك للجنة..
أحمد زين
أرسل الموضوع إلى صديق


جاء متضجرًا حانقًا يتعجب .. لم كل هذا البلاء؟! ولم خلقها الله أساسًا فينا؟!.. ولم نتعذب ونعاني؟!.. قلت له: ماذا تقصد؟ .. قال : الشهوة اللعينة !!…
قلت له: مهلك .. لم تنظر إلى الأمر من هذه الزاوية ؟! .. سبحان الله... أنا أنظر إلى الأمر أن هذه الشهوة هي طريقك الأسهل إلى الجنة.. !!.
نعم.. هو امتحان صعب.. أعترف.. وهو اختبار كبير.. أعرف.. لكن الناجحين فيه سينالون على قدر التعب والجهد الذي بذلوه.. والحقائق تقول: إن عدد الناجحين يفوق كثيرًا عدد الفاشلين.. ولا يفشل إلا ضعاف النفوس، وخائري العزائم، وأشباه الآدميين..
إذن هو طريق "سهل" للجنة .. لكنه يحتاج منك فقط إلى عزم وقوة وتصميم ..
وسبحان الله.. هذه إرادته.. أن يركب الشهوة في الإنسان، ويجعلها بهذه القوة التي تدفعه مع الحب أن يسعى إلى الزواج ويفرح به.. رغم أن الزواج في حقيقته أعباء إضافية ومسئوليات جسيمة يتحملها كلا الزوجين.. وإذا كنا –رغم وجود الشهوة والعاطفة اللتان تعصفان بالقلوب- نجد البعض يفر من أعباء الزواج ويتعذر بكذا وكذا من الانشغالات، فما بالك لو لم يكن له دافع من شهوة وعاطفة… والزواج هو أحد أقصر الطرق إلى الجنة؛ فبه يتعاون الزوجان على العبادات، وبه تحصن الفروج، وتهدأ الأنفس، وتقر الأرواح، وبه يأتي الولد الصالح الذي يكمل المسيرة ويدعو لوالده ويسير على درب الإيمان، وبه -إن شاء الله- يتحقق وعد الله: " وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ" [الطور:21] . كما أن الشهوة تلك إن استطاع الإنسان أن يهذبها ويوجهها ويشذب ثورتها فله أجر لا يعادله أجر…

هدية الله لك .. كيف تستعملها؟

إن الإسلام -وهو دين الفطرة- لم يقع في شرك الاقتصار على مخاطبة الروح وبنائها، بل اهتم بتغذية المادة، وأعطى لقبضة الطين حقها كما أعطى لنفخة الروح حقها... فلم يأتِ الإسلام ويقول للناس: ترهبنوا ودعوكم من التفكير في أمور الجنس والشهوة . ولم يصفها بأنها من الدنس، بل على العكس هي من النعم بلا شك، كل ما في الأمر أن يهتدي المرء إلى الطريق الذي به يستفيد منها وينجو من خلاله من الشقاء بها...
وهذا هو منهج الإسلام في التعامل مع المادة، فهو حين تعامل مع قضية "المعدة" مثلا لم يهملها بل وجهها فقال: { وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ } [ الأعراف:31] لكنه أتبعها بـقوله: { وَلاَ تُسْرِفُواْ }، كما حذر من أن البعض بتضخيمه لقضية ما يدخل معدته، قد انزلق إلى مراتب غير إنسانية ووصفهم القرآن بقوله.. { وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ } [محمد:12] .
بل فتح الإسلام أمام الطعام آفاقًا جديدة حين جعله – ويا للعجب- وسيلة من وسائل تزكية النفس وتنقية الروح، وذلك تكريمًا للإنسان وحرصًا على كرامته ومروءته… فجعل هذه اللقيمات "طاعة" !! و"عبادة" !!، وسبيلاً لرضا الله –سبحانه- إذا نوى المرء الاستعانة بها على طاعة الله، والاستقواء بها في مواجهة العدو، والاستفادة منها في اكتساب القوت، وغير ذلك من النوايا التي يعتمدها المرء لتتحول عملية الأكل من عمل مادي بحت إلى عملية تسهم في إشباع حاجات المادة وبناء الروح معًا.

ومع الشهوة ماذا فعل؟!..

ومثل هذا يمكن أن نذكره مع العملية الجنسية التي خرج بها من أفق ضيَّقه الناس، وقصروه على عملية مادية بحتة لا يتحدث فيها الطرفان إلا بلُغة الطين "مادة الجسم"، إلى لغة النفخة الإلهية، وإلى آفاق مشعة بروحانيتها ونورانيتها، فانظر إلى لقاء الرجل بزوجته وهو يبدأه باسم الله، ثم دعاء لطيف أن يجنبهما الله وذريتهما من الشيطان وعمله، ثم يقرر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الطريق النظيف لتفريغ هذه الشهوة إنما هو صدقة !! وما أعجب ذلك حين يقول الرسول : "وفي بضع أحدكم صدقة"، ونفس العجب هو ما استولي على الصحابة -رضوان الله عليهم-: " أيقضي أحدنا شهوته ويتحصل الأجر". فأطلعهم الرسول على السر: "أرأيتم لو وضعها في حرام".. أي أن ذلك تحفيزًا له على لزوم الحلال والقناعة به…
بل إن الإسلام يفتح الباب واسعًا أمام الزوجين؛ لتكون كل لمحة عاطفية تدور بينهما إضافة إلى الميزان يوم الحساب... "إن الرجل إذا نظر إلى امرأته ونظرت إليه نظر الله إليهما نظرة رحمة فإذا أخذ بكفها تساقطت ذنوبهما..." فما أروعه من دين!!.

تشديد الله على الفجور

وفي المقابل فإن الله سبحانه شدد على الطرق الملوثة لقضاء الشهوات، يكفي أن الله -سبحانه- حين حذر من الزنا لم ينهَ عن مقارفته فحسب، بل نهى عن مجرد الاقتراب منه .. { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى } [الإسراء:32] ومن يتأمل عقوبة الزنا في الإسلام يجدها عقوبة شديدة إما الرجم للمتزوج أوالجلد للأعزب وكلاهما يجمعهما أمران: الغلظة إلى جانب التشهير بالفاعل، فانظر إلى الرسول وهو ينفي الإيمان عن الزاني في لحظة المعصية : "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" وزاد النسائي في رواية: "فإذا فعل ذلك خلع ربقة الإسلام من عنقه"، لماذا يقول رسول الله : "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني, والنفس بالنفس, والتارك لدينه المفارق للجماعة".. فلماذا هذا التشديد من الرسول ؟!
ولماذا يقول الإمام أحمد: "لا أعلم بعد القتل ذنبًا أعظم من الزنا"..
ولماذا يؤكد الله تعالى : { وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } [النور:2] رغم أن الإسلام هو دين الرحمة والرأفة؟ ..
لماذا شهر الله بالزناة فقال: { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ } [النور:2] رغم أن الإسلام يحب الستر ويدعو إليه ؟!
إن الزناة الذين هتكوا الأستار واحدًا واحدًا، وساروا وراء الشيطان في خطواته فما غضوا أبصارهم، ثم هم لم يمنعوا قلوبهم من التحرك نحو الحرام، ثم هم انتهكوا الحرمات وأسرفوا على أنفسهم، وهو كذلك أصموا أبصارهم عن تحذير الله لهم، وتغافلوا عن مصير من سبقهم من المذنبين، فهؤلاء لم ينزلقوا للمعصية "فجأة" لكنهم تعمدوها وأظهروها، هؤلاء أجرموا في حق المجتمع ودنسوا طهره، لذا فالرأفة بهم في غير محلها .. والرأفة بهم إنما هي قسوة على المجتمع، وقسوة على الآداب الإنسانية، وقسوة على الضمير البشري، وقسوة على حقوق الإنسان .
إن القسوة في الحد أرأف وأرحم بالمجتمع مما ينتظره من مصير سيء إذا شاعت الفواحش فيه لتفسد الفطرة وترتكس…
ومن هذا ما ذكره ابن القيم في تأثير المقيمين على الزنا المصرين عليه على المجتمع من حولهم: " فالزنا يجمع خلال الشر كلها؛ فلا تجد زانيًا وله صدق في حديث، ولا محافظة على صديق، ولا غيرة تامة على أهله ".
حتى الحيوانات تأنف من الزنا…
إذا كنا نتهم الفجور بأنه من الشهوات البهيمية فإن من لطيف ما ذكر أن الحيوانات نفسها تأنف من هذا الدنس!! لا تعجب من ذلك؛ فقد ذكر البخاري في صحيحه عن أبي رجاء العطاردي أنه رأى في الجاهلية قردًا يزني بقردة فاجتمعت القرود عليه حتى رجمته… وقال ابن تيمية: "وحدثني بعض الشيوخ الصادقين أنه رأى نوعًا من الطير قد باض فخرجت الفراخ من غير الجنس، فجعل الذكر يطلب بني جنسه حتى اجتمع عدد، فما زالوا بالأنثى حتى قتلوها" . وعلق شيخ الإسلام على هذا قائلاً: "ومثل هذا معروف في عادة البهائم "

الغرب والشرق .. والانفلات

يمنع الإسلام الفجور لأنه يهدف إلى إقامة مجتمع نظيف، لا تهاج فيه الشهوات، ولا تستثار فيه دفعات اللحم والدم، لا يريد أن تنتشر النظرة الخائنة والحركة المثيرة واللفتة المتبرجة والجسد العاري فتؤدي إلى سعار حيواني مجنون.
هذا السعار الذي اجتاح مجتمعات أخرى غربية وشرقية من حولنا.. هذه المجتمعات التي يقف بعضنا –للأسف- ويدعي أنها مجتمعات نظيفة لا أحد فيها يتصرف بسوء نية مع الجنس الآخر؛ والسبب في رأيه أنهم أطلقوا الحرية الجنسية فارتاح الناس.. وكذب والله فليست هذه المجتمعات سليمة الصدر ولا نقية السريرة، ولا شبع الشباب فيها من هذا الإطلاق الفوضوي للجنس.. فنسب الاغتصاب عالية، والتحرش الجنسي على أشده، والانفلات لا يوقفه شيء.. وما محاولات الانتحار لديهم ولا الأمراض النفسية المنتشرة إلا ثمرة هذا الانفلات.. وهذا أحد الذين كانوا يتصورون أن الشباب في الغرب لم يعد لاهثًا وراء التعرف على الفتيات، ولكن التجربة التي عكست له هذا التصور هي ما قاله : " دخلت أحد حجرات (الشات) وهي نطاقات على الإنترنت مخصصة للتعارف بين الناس، وكلما تعرفت على شاب أو رجل وذكرت له أني رجل وجدته يعتذر لأنه يود الحديث مع فتاة فكنت أصعق هل ما زال لديهم هذا السعار رغم أن المعروض عندهم من الجنس الآخر يحوطهم من كل جانب "!!.
فهل هذا المجتمع قد شبع من نهمه نحو الجنس؟!.. إن أي نظريات أرضية حاولت تقوية الانفلات الجنسي وتشجيعه قد باءت بالفشل، فالشيوعية التي جعلت من مبادئها شيوع الجنس وعدم الاقتصار على علاقات الزواج، ما لبث قادة الشيوعية أنفسهم أن أعلنوا على لسان زعيمهم " لينين ": "إن تلك النظرية حطمت الشباب وجعلتهم مجانين .. إنها ضد المجتمع، لأن هذا النظام أنتج أطفالاً بلا أسر" .
وفي المقابل فهل هذه الحرية الغربية التي تنادي بأن كل شيء ممكن أدت إلى تخفيف الشره الجنسي لدى المواطن الغربي، وبين أيدينا بعض الإحصائيات من أمريكا، فقد بلغ حجم تجارة الصور الإباحية عشرين مليار دولار في عام واحد، ووصل الدخول على المواقع الإباحية على الانترنت إلى 80 % من حجم استخدام الانترنت، وفي كل يوم يوزع في أمريكا نصف مليون نشرة تعرض كل المنتجات الإباحية، وترسل بالبريد الشخصي، وفي دراسة للدكتور أحمد المجدوب بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية بالقاهرة عن الجرائم في 14 دولة أوروبية، جاء فيها: "إن الأبحاث قد كشفت عن أن 27 سيدة من كل خمسين سيدة تتعرض للاعتداء الجنسي بطرق مختلفة!!! ، منها ثلاث حالات شروع و 12 يتعرضن لاعتداءات جسيمة، و12 يتعرضن لاعتداءات طفيفة " .

والمجتمع قد ينال جنة الدنيا والآخرة..

إذا كانت هذه هي المجتمعات من حولنا فأي صورة للمجتمع من هاتين الصورتين نريد؟ أم أن ثمة صورة طيبة وخيرة يمكن أن نتلمسها لمجتمعنا، هذا الذي لا يناسبه أيًّا من هذه الصور المزرية .. وحق له أن يكون له شخصيته المستقلة التي تليق بمكانته التي حددها له القرآن: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } [البقرة:143]. وذلك ليتسنى لنا القيام بدورنا المنوط: { لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ } [البقرة:143].
إن المجتمع المسلم الراشد يمكن أن يكون في جنة الدنيا، ويكون أفراده في جنة الآخرة إن هو شد على الفجور، وشجع العفة والطهارة والنقاء؛ ذلك لأنه يُحفظ من هذا التلوث الخلقي.. والفساد القيمي الذي يضرب في جذوره فينهار مهما بدا قويًّا ومتماسكًا.
ولا شك أن هذا المجتمع المنشود لا يكون خاليًا تمامًا من أحاديث النفس والهم بالمعصية ووساوس الشيطان .. بل تدور فيه هذه الأمور لأن من طبيعة الإنسان أن يتنازعه الخير والشر.. لكن السؤال يبقى: إذا دفعت النفس صاحبها نحو الردى.. ووسوس الشيطان باتباع الهوى.. فماذا يفعل الشاب؟ أينزلق أم يستعصم؟!..
ولذا فدعنا نعيش بعض الوقت مع قدوات رددت من قلوبها مع إمام الشباب العفيف يوسف -عليه السلام –: { مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ }… فتحولت الشهوة إلى قربى من الله، وتحولت المحنة إلى منحة، والفتنة إلى هداية، والاختبار إلى نجاح وفوز.
وما أحوجنا أن نصرخ في هذا الجو الملبد بالفتن .. مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ..
وما أحوج مجتمعنا أن يهتف -شبابًا وفتيات- .. مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ..
وما أحوج أمتنا إلى أن تقول جموع المسلمين .. مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ..

ها هو يوسف…

ولأني أحبه وأسأل الله أن ألقاه في الجنة فدعونا نبدأ به، إنه يوسف -عليه السلام- في لمحة سريعة، فها هو في المشهد.. الأبواب مغلقة، والظروف مهيأة لكن يبقى باب السماء مفتوحًا فيتذكر يوسف -بعد أن يرى برهان ربه- فيلوذ بحماه وينتصر على الإغراء والشهوة، فيستحق أن يكون من عباد الله المخلصين.. بشهادة الله تعالى وانظر إلى النعيم حين يشهد الله لعبد من عباده: { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } [يوسف : 24] .. أي كرم ذلك وأي فرح !!...
لم يأت البرهان ليوسف بلا جهد ولا عمل، ولم يأته وفي قلبه شر، لكنه أتاه بعد مجاهدة وقوة وصبر، وبعد صراع مرير مع نفسه ومع الشيطان لكنه في النهاية حسم الأمر بكلمة نطق بها: { مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ } .
.. ورأى الله في قلبه صدقًا حين هتف { السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ } . فاختبره الله، وسجن -عليه السلام- وما جريمته إلا أنه حصن نفسه عن التلوث بوحل المعصية، فما بالنا اليوم زهدنا في الدين .. والله إني لأعلم شابًّا زهد في الصلاة وتركها لمجرد أن سُرِق حذاؤه لدى دخوله المسجد!!. ولك أن تتخيل مدى ضعف الدين في قلبه، ومدى رخص العقيدة في نفسه!!
ولنبصر الفارق بين يوسف وهو في غياهب الجب.. ويوسف وهو على العرش.. يوسف وهو يباع بدراهم معدودة وزُهد فيه، ويوسف وهو على خزائن الأرض يتحكم فيها كما يريد، إن هذه المسافة الهائلة هي ذات المسافة بين معصية الله وطاعته، وثمن هذا الفارق هو الصبر عن معصية الله، إنه الحفظ، ولقيا الله في كل سبيل أمامك بعد أن تلجأ إليه ولا تخونه "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك"..

وها هو شبيه يوسف في عهد عمر

وإذا تعلل البعض بأن يوسف نبي، وكيف سنصل إلى درجته، فلا بد أن نذكرهم أن الله جعل من قصته قرآنا لا لنتسلى ولا لنقضي وقتا لطيفًا معها ، بل لنعتبر ونقتدي، ولذلك جاء في آخر آيات سورة يوسف قوله تعالى: " لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ " [يوسف:111] .
وهذا ما لحظه عمر -رضي الله عنه- فسمى بطل قصتنا تلك: "شبيه يوسف"، فقد كان في خلافة عمر -رضي الله عنه- شاب صالح، كان محط إعجاب الفاروق؛ لأنه كان يبكر إلى صلاة، مستكثرًا من النوافل والسنن، أحبته امرأة متزوجة غاب عنها زوجها، وحاولت أن تغريه بكل طريقة ففشلت لأنه يأبى، فعرفت امرأة عجوز هذا الأمر فقالت لها: أنا أجلبه لك مقابل كذا من المال.. فقعدت له العجوز في الطريق فلما مر بها قالت له: إني امرأة كبيرة السن ولي شاة لا أستطيع أن أحلبها، فلو دخلت فحلبتها لي.. فوافق رغبة في نيل الأجر من الله، فلما دخل فإذا المرأة التي أحبته قد خرجت إليه، فلما رأي ذلك توجه نحو القبلة وجلس، فراودته عن نفسه فأبي وقال: "اتَّقِ الله أيتها المرأة"، فجعلت لا تكف عنه حتى علا صوتها، فجاء الناس فقالت: إن هذا دخل علي يراودني عن نفسي، فوثبوا عليه وأوثقوه، فلما جاءوا به إلى عمر قال: "اللهم لا تخلف ظني به.. ما لكم؟" فحكوا له، فقال له عمر والدمع يكاد يفيض من عينيه: "اصدقني". فأخبره بالقصة، فقال له عمر: أتعرف العجوز؟ فقال: نعم إن رأيتها عرفتها. فأرسل عمر إلى نساء جيرانها وعجائزهن، فجاء بهن فعرضهن فلم يعرفها فيهن، فازداد ألم عمر؛ لأن الفتى يكاد يهلك وهو يرى فيه الصلاح والتقوى، حتى مرت به العجوز، فقال: هذه يا أمير المؤمنين، فرفع عمر عليها الدرة وقال: اصدقيني، فقصت عليه القصة كما قصها الفتى، فقال عمر: "الحمد لله الذي جعل فينا شبيه يوسف" … وصدق عمر فهذا الفتي "العادي" الذي لم يحفظ لنا التاريخ اسمه .. قد وقع في نفس ابتلاء يوسف وكانت صفحته بنفس نقاء هذا النبي الكريم.. لكن إن كان مجهولا عند الناس فأحسب أنه مشهور عند ربه .. وكفاه هذا ..

أقبل على الشهوات .. ونجا في آخر لحظة

ليس المجاهدون لأنفسهم، والمنتصرون على شهواتهم ملائكة ولا هبطوا من القمر ولا هم من طينة غير البشر، بل هم بشر فيهم الشهوات وفيهم الخطأ والصواب تعقلوا وعقلوا، فهذا رجل سعى إلى الحرام وحين ظفر به فكر للحظة واتخذ القرار الذي أسعده في حياته الباقية، إنه رجل صدق فيه قول الله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ" [الأعراف:201] فهو ما إن جاءه داعي الله حتى زالت الغشاوة من فوق عينيه..
فقد حكى الحسن البصري - وانظر إلى مكانة الراوي ومصداقيته-: كانت امرأة بغي قد فاقت أهل عصرها حسنًا، حتى سماها الناس " الملكة" ولا تمكن من نفسها إلا بمائة دينار ( حوالي 425 جراما من الذهب الخالص )، رآها رجل فقير فطيرت عقله، فذهب يعمل بكل ما أوتي من قوة حتى جمع المطلوب - لاحظ حلمه بها وسيطرة الشيطان عليه ورغبته الشديدة -، فجاء فقال: إنك قد أعجبتني، فانطلقت فعملت بيدي وعالجت حتى جمعت مائة دينار، فقالت: ادخل . فلما دخل، وكان لها سرير من ذهب فقالت: هلم إلي.. فلما جلس منها مجلس الخائن- لاحظ أن هذا منتهى أمله -، تذكر مقامه بين يدي الله فأخذته رعدة ورجع إلى عقله فقال: اتركيني لأخرج . فثارت لأنها رأت أن هذا انتقاص من قدر جمالها.. فقالت له: لا أتركك أبدًا، فقال : اتركيني ولك المائة دينار، فقالت: ماذا جرى؟! .. لقد كدحت حتى جمعت مائة دينار فلما قدرت على ما تعشق تركته؟! فقال: والله ما حملني على ذلك إلا الخوف من الله، وذكري مقامي بين يديه، كيف أجيبه إن سألني؟! .. وبم أرد إن حاسبني؟! فبكت وقالت: إذن تتزوجني؛ فلنعم الزوج أنت . فقال: لها ذريني لأخرج . قالت: لا، إلا أن تجعل لي عهدًا أن تتزوجني. فقال: لعل. فتقنع بثوبه ثم رجع إلى بلده .
فانظر إلى هذا الذي أدرك نفسه قبل فوات الأوان إنه القرار الذي لم يكلفه شيئًا إلا التبصر وإعمال العقل..

شهيد العفاف: الموت ولا سخط الله

وهذا رجل"عادي" أيضا ليس بِمَلَك، ولا بنصف مَلَك .. هو إنسان بل وشاب، شاغلته امرأة فأبى أن يأتي الحرام، لكنها من كثرة إلحاحها أثرت في قلبه فتنازعه الهوى والتقوى، لكنه رفض أن يلين لما يغضب الله.. واسمع من جابر بن نوح وهو أحد السلف الصالح يحكي قصته: كنت بالمدينة جالسًا عند رجل في حاجة، فمر بنا شيخ حسن الوجه حسن الثياب، فقام إليه ذلك الرجل فسلم عليه وقال: يا أبا محمد أسأل الله أن يعظم أجرك، وأن يربط على قلبك بالصبر، فإن الصبر معول المؤمن، وإني لأرجو أن لا يحرمك الله الأجر على مصيبتك.
فقلت له: من هذا الشيخ؟ فقال: رجل منا من الأنصار، فقلت: وما قصته؟ قال: أصيب بابنه وكان به بارًا قد كفاه جميع ما يعَنِّيه، ووفاته عجب. قلت: وما كانت؟ قال: أحبته امرأة، فأرسلت إليه تشكو حبه وتسأله الزيارة، وكان لها زوج فألحَّت عليه حتى شغلته ولكنه أبى أي تنازل عن دينه، فيئست منه حتى لم تعد تدري ما تفعل لدرجة أن ذهبت إلى امرأة كانت تعمل السحر، فعملت لها في ذلك…
وبلغ صراع الفتى مع نفسه أن خطر ذكرها بقلبه ذات مرة، فقام مسرعًا فصلى واستعاذ والأمر يشتد عليه، فقال: يا أبي أدركني بقيد . فقال: يا بني ما قصتك؟! فحَدَّثه بالقصة، وظل على ما يعاني من مرض نتيجة هذا التدافع الداخلي لديه بين الحق والباطل إلى أن مات –رحمه الله- .

الصالحون مع الفتن.. حال مختلف

هذه نماذج لشباب من المسلمين العاديين، الذين واجهوا الفتن بقلب حي حيي، وإيمان عميق جلي.. فثبتوا بعد أن اهتزوا قليلاً…
أما الصالحون الذين جاهدوا أنفسهم طويلاً، وشغلوا أنفسهم بالطاعات، وصفوا قلوبهم من كل ما دون الله، فإن الله آتاهم الإيمان الراسخ المتين الذي لا يتزعزع ولا يضطرب أبدًا.. فتأتيهم الدنيا فيسخرون منها ويركلونها بالأقدام، وما هذا إلا من عطايا الله لهم، وهذه قصة أحدهم إنه "السَّرِي بن دينار" وهو أحد العباد العارفين، نزل إلى قرية بها امرأة جميلة فُتن الناس بجمالها، فعلمت المرأة بصلاحه وتقواه، فقالت: لأفتننه. فلما دخلت من باب الدار تكشفت وأظهرت نفسها، فقال: مالك؟! فقالت: هل لك في فراش وطي وعيش رخي؟! فغض عنها الطرف وهو يقول: "تذاق الذنوب ثم تفنى ويبقى طعم المصائب، لذة المعاصي تنتهي ولا تنتهي الحسرات، ما بال عبد علم أن الله يراه ثم قارف الإثم".. فتابت المرأة وعرضت عليه الزواج فقال: "ما عُرض علينا في معصيته لا نحب استعماله في طاعته" .

"ولن يتركم أعمالكم"

وآخر مشهورة قصته فقد رُوي أن امرأة جميلة كانت بمكة، وكان لها زوج، وكانا رقاق الدين، فنظرت يومًا إلى وجهها في المرآة فقالت لزوجها: أترى أحدًا يري هذا الوجه ولا يفتن به؟! قال: نعم. قالت: من؟! قال: عبيد بن عمير. قالت: فائذن لي فيه فلأفتننه. قال: قد أذنت لك. فأتته كالمستفتية، فخلا معها في ناحية من المسجد الحرام، فأسفرت عن وجه مثل فلقة القمر..
فقال لها: يا أمة الله استتري. فقالت: إني فتنت بك. قال: إني سائلك عن شيء، فإن أنت صدقتني نظرت في أمرك. قالت: لا تسألني عن شيء إلا صدقتك. قال: أخبريني لو أن ملك الموت أتاك ليقبض روحك أكان يسُرُّكِ أن أقضي لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت. قال: فلو دخلتِ قبرك وأُجلستِ للمساءلة أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قلت: اللهم لا. قال: صدقت. قال: فلو أن الناس أعطوا كتبهم ولا تدرين أتأخذين كتابك بيمنك أم بشمالك أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت. قال: فلو أردت المرور على الصراط ولا تدرين هل تنجين أو لا تنجين أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا. قال صدقت. قال: فلو جيء بالميزان وجيء بك فلا تدرين أيخف ميزانك أم يثقل أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا. قال: فلو وقفت بين يدي الله للمسألة أكان يسرك أني قضيتها لك. قالت: اللهم لا. قال: صدقت. قال: "اتق الله فقد أنعم الله عليك وأحسن إليك"، قال: فرجعت إلى زوجها فقال: ما صنعت؟ قالت: أنت بطال ونحن بطالون. فأقبلت على الصلاة والصوم والعبادة، فكان زوجها يقول: مالي ولعبيد بن عمير أفسد عليَّ امرأتي، كانت في كل ليلة عروسًا فصيرها راهبة!!!.

خاتمة

فهذه النماذج عبرة وعظة نضعها أمامنا لعل القلوب تميل إلى الحق وتدع الباطل، ولعل أحدنا يتذكرها وقد همَّ بحرام فيمتنع ويعود إلى حمى مولاه .
ولنتذكر جميعًا أن الفرق بين العز والذل، بين الغنى والفقر، بين الإيمان والضلال هو لحظة واحدة، نفكر فنعقل فتصفو لنا الدنيا ونحظى بالآخرة، ولنا حديث في رسالة أخرى حول: "كيف تتعامل مع الشهوة" نحاول فيه التركيز على الوسائل التي تمكن الشاب المسلم من السيطرة على شهوته، وتوجيهها إلى المسار الصحيح الذي يحبه الله ويرضاه ..

لمناقشة أفكار هذا الموضوع أرسل لنا رأيك
Azhm3@hotmail.com
Do2000do@hotmail.com

الصفحة الرئيسة      |     الرسائل الدعوية