صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







دعوى أن شيخ الإسلام يقول بقدم العالم !

د. عبد الله بن صالح بن عبد العزيز الغصن

 
المبحث الأول
معتقد أهل السنة في إمكان حوادث لا أول لها

المطلب الأول
التسلسل: تعريفه، أقسامه، حكم كل قسم

التسلسل لغة: اتصال بعض الأشياء ببعض إلى ما لا نهاية يقال: تسلسل الأمر: أي اتصل بعضه ببعض إلى ما لا نهاية، وشيء مسلسل: أي متصل بعضه ببعض، ومنه سلسلة الحديد(1) .
والتسلسل: لفظ مجمل لم يرد إثباته في الكتاب والسنة ولا نفيه فيهما وهو قسمان:
الأول: تسلسل في المؤثرين.
الثاني: تسلسل في الآثار.
أما القسم الأول وهو التسلسل في المؤثرين فيقصد به: أن يكون للحادث فاعل، وللفاعل فاعل وهكذا، أي أن يكون للمؤثر مؤثر معه لا يكون حال عدم المؤثر (2).
وهذا التسلسل في أصل التأثير والخلق باطل باتفاق العقلاء(3) ؛ ذلك أنه يقتضي أن لا يوجد شيء، وأن كل الأشياء الموجودة حادثة بعد العدم مفتقرة إلى من يوجدها، وليس فيها من يوجد نفسه أو يوجد شيئاً بنفسه، ويبين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن هذا النوع يستلزم تسلسل الممتنعات؛ لأن ما لا يوجد حتى يوجد ما لا يوجد ممتنع، وكذلك فإن تقدير أمور كلها مفعولات ليس فيها غير مفعول ومخلوق مع عدم وجود فاعل خالق مباين لها ممتنع ضرورة.
وكثرة الممتنعات المفتقرات لا تقتضي إمكان شيء فيها فضلاً عن وجوده(4) وقد حذر النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم أمته من الوقوع في الوسواس الذي يرد على النفوس حول التسلسل في الفاعل، فقد ورد في الصحيحين عن أبي هريرة(5) رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل: آمنت بالله» وفي لفظ: «آمنت بالله ورسله»(6) . وفي لفظ آخر: «يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته»(7) .
وعن أنس بن مالك(8) رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قال الله عزّ وجل: «إن أمتك لا يزالون يقولون: ما كذا؟ وما كذا؟ حتى يقولوا: هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟» (9).
وعنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لن يبرح الناس يتساءلون: هذا الله خالق كل شيء فمن خلق الله؟»(10).
وقد أجاب شيخ الإسلام رحمه الله عمن زعم أن طريقة العلاج النبوية بالاستعاذة لمن بلي بوسواس الفاعل ليست طريقة برهانية تقطع هذا الوسواس بأن المصطفى عليه الصلاة والسلام أمر بطريقة البرهان حيث يؤمر بها، والذي أمر به في دفع هذا الوسواس ليس هو الاستعاذة فقط، بل أمر بالاستعاذة، وأمر بالانتهاء عنه، وأمر بالإيمان بالله ورسوله، ولا طريق إلى نيل المطلوب من النجاة والسعادة إلا بما أمر به.
والشبهات القادحة في العلوم الضرورية لا يمكن الجواب عنها بالبرهان؛ لأن غاية البرهان أن ينتهي إليها، فإذا وقع الشك فيها انقطع طريق البحث والنظر، ولهذا كان من أنكر العلوم الحسية والضرورية لم يناظر، ومتى فكر العبد في الوساوس القادحة في العلوم الضرورية ونظر فيها ازداد ورودها على قلبه، وقد يغلبه الوسواس حتى يعجز عن دفعه عن نفسه والعياذ بالله.
ولهذا يزول بالاستعاذة بالله، فإن الله هو الذي يعيذ العبد ويجيره من الشبهات والوساوس قال عزّ وجل: { وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 36] .
وأما الأمر بالانتهاء عن التفكير في الوسواس مع الاستعاذة فهو إخبار بأن وجود هذا السؤال هو نهاية الوسواس فيجب الانتهاء عنه، وليس هو من البدايات التي يزيلها ما بعدها. ولما كان بطلان هذا السؤال معلوماً بالفطرة والضرورة أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن ينتهي عنه، كما يؤمر أن ينتهي عن كل ما يعلم فساده من الأسئلة الفاسدة التي يُعلم فسادها كما لو قيل: متى حدث الله؟ أو متى يموت؟ ونحو ذلك(11) .
وأما الأمر بالإيمان بالله ورسوله فهو من باب دفع الضد الضار بالضد النافع فإن قوله: آمنت بالله، يدفع عن قلبه الوسواس الفاسد، وهذا القول إيمان، وذكر الله يدفع به ما يضاده من الوسوسة القادحة في العلوم الضرورية الفطرية (12).
ويقترن بالتسلسل في المؤثرات والفاعلية تسلسل آخر وهو التسلسل في تمام الفعل والتأثير: ولهذا التسلسل نوعان:
النوع الأول: تسلسل في جنس الفعل.
النوع الثاني: تسلسل في الفعل المعين.
أما النوع الأول: وهو التسلسل في تمام الفعل والتأثير فهذا مثل أن يقال: لا يفعل الفاعل شيئاً أصلاً حتى يفعل شيئاً معيناً، أو لا يحدث شيئاً حتى يحدث شيئاً، أو لا يصدر عنه شيء حتى يصدر عنه شيء.
وهذا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء(13) .
أما النوع الثاني: وهو التسلسل: في حدوث الحادث المعين فصورته: أن يكون قد حدث مع الحادث تمامُ مؤثره، وحدث مع حدوث تمام المؤثر المؤثر وهكذا، فيلزم تسلسل الحوادث في الواحد.
وهذا - أيضاً - باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء، وهو من جنس التسلسل في تمام التأثير(14) .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رد عام على هذا القسم:
(التسلسل ممتنع في العلة، وفي تمام العلة، فكما لا يجوز أن يكون للعلة علة، وللعلة علة إلى غير غاية، فلا يجوز أن يكون لتمام العلة تمام، ولتمام العلة تمام إلى غير غاية، والتسلسل في العلل وفي تمامها متفق على امتناعه بين العقلاء، معلوم فساده بضرورة العقل)(15) .
ولما كان التسلسل في المؤثرات ممتنعاً ظاهر الامتناع لم يكن المتقدمون من النظار يطيلون في تقرير فساده، لكن المتأخرون أخذوا يقررونه ويناقشونه مما سبب اشتباه التسلسل بالآثار بالتسلسل في المؤثرين عند كثير من المتكلمين(16) .
ومن أقدم من نفى التسلسل في المؤثرات من الفلاسفة ابن سينا (ت - 428هـ) ثم اتبعه من سلك طريقه كالسهروردي المقتول (ت - 578هـ) وأمثاله، وكذلك الرازي (ت - 606هـ) والآمدي (ت - 631) والطوسي(17) وغيرهم (18).
لكنَّ متأخري المتكلمين زادوا في الحاجة إلى نفي التسلسل في المؤثرات الحاجة إلى نفي الدور(19) أيضاً، إلا أن الدور القبلي مما اتفق العقلاء على انتفائه، ولذلك لم يحتج عامة العقلاء إلى تقرير ذلك لوضوحه بما فيهم المتقدمون من المتكلمين، والفلاسفة.
وهذا الطريق الذي سلكه المتأخرون في إبطال التسلسل في المؤثرات والدور القبلي طريق صحيح، إلا أنه طريق طويل شاق لا حاجة إليه، وإن كان منهم من يورد شكوكاً يعجز بعضهم عن حلها (20).
وأما القسم الثاني: وهو التسلسل في الآثار فيراد به أن يكون أثر بعد أثر، فلا يكون حادث إلا بعد حادث، ولا يكون حادث حتى يكون قبله غيره من الحوادث ، فتتسلسل الحوادث(21) المتعاقبة في الماضي والمستقبل.
والنزاع مشهور بين الطوائف في هذا القسم، وتعود الأقوال المشهورة فيه إلى ثلاثة أقوال (22):
القول الأول: لا يجوز تسلسل الحوادث المتعاقبة لا في الماضي، ولا في المستقبل، ويطلقون عليه - أحياناً -: امتناع وجود ما لا يتناهى في الماضي والمستقبل، وقال بهذا الجهم بن صفوان(23) ، وأبو الهذيل العلاف(24) وعن هذا الأصل قال الجهم (ت - 128هـ) بفناء الجنة والنار، وقال أبو الهذيل (ت - 235هـ) بفناء حركات أهلهما(25).
القول الثاني: يجوز تسلسل الحوادث في المستقبل دون الماضي، أو امتناع مالا يتناهى في الماضي دون المستقبل؛ لأن الماضي قد وجد، والمستقبل لم يوجد بعد، وهو قول أكثر المعتزلة والأشعرية والكرامية ومن وافقهم.
القول الثالث: جواز تسلسل الحوادث المتعاقبة في الماضي والمستقبل، وقال بهذا أئمة أهل الملل، ومنهم أئمة أهل الحديث، وقال به أئمة الفلاسفة (26) .
وأما امتناع دوام الحوادث في المستقبل وجوازها في الماضي فلم يقل به أحد من الناس.
ومن الملاحظ أن الجهمية انفردت بنفي تسلسل الحوادث في المستقبل، وأول من أظهر هذا القول في الإسلام: الجهم بن صفوان (ت - 128هـ) ، وشبهته: أن ما كان له ابتداء فلا بد أن يكون له انتهاء، وأن الدليل الدال على امتناع ما لا يتناهى لا يفرق بين الماضي والمستقبل فقال بفناء الجنة والنار، بل وفناء العالم كله، حتى لا يبقى موجود إلا الله، كما كان الأمر في الابتداء كذلك.
وتبعه أبو الهذيل العلاف (ت - 235هـ) في ذلك لكنه يرى فناء الحركات فقال: إن الدليل إنما دل على انقطاع الحوادث فقط، فيمكن بقاء الجنة والنار، ولكن تنقطع الحركات فيبقى أهل الجنة والنار ساكنين ليس فيهما حركة أصلاً، ولا شيء يحدث، فيبقى أهل الجنة وأهل النار في سكون دائم لا يقدر أحد منهم على الحركة (27).
وقد اشتد إنكار السلف - رحمهم الله - على الجهمية في هذه المسألة، بل كفروهم بهذه المسألة، لما قاله خارجة بن مصعب رحمه الله(28) :
(كفرت الجهمية في غير موضع من كتاب الله، قولهم: إن الجنة تفنى، وقال الله: { إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص: 54] فمن قال: إنها تنفد فقد كفر، وقال: { أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا } [الرعد: 35] ، فمن قال: إنها لا تدوم فقد كفر، وقال: {لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة: 33] ، فمن قال: إنها تنقطع فقد كفر، وقال:{عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}[هود: 108](29) ،فمن قال: إنها تنقطع فقد كفر، وقال: أبلغوا الجهمية أنهم كفار، وأن نساءهم طوالق) (30).
ومما يدل على بقاء الجنة ودوامها غير ما ذكر من الآيات السابقة قول الله سبحانه وتعالى عن أهل الجنة: { لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48] .
وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر (ت - 72هـ) رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يدخل أهل الجنة الجنة، ويدخل أهل النار النار، ثم يقوم مؤذن بينهم فيقول: يا أهل الجنة لا موت، ويا أهل النار لا موت، كل خالد فيما هو فيه».
وعن أبي سعيد الخدري(31) رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجاء بالموت كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت.
ثم يقال: يا أهل النار هل تعرفون هذا، فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت، قال: فيؤمر به فيذبح، قال: ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } [مريم: 39] »(32) .
وقال عليه الصلاة والسلام: «ينادي مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وأن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وأن تشبوا فلا تهرموا أبداً»(33) .
وأما مناقشة الجهمية في عدم فناء النار وذكر الأدلة على عدم فنائها فسيأتي في فصل مستقل - إن شاء الله -.
ويناقش الإمام ابن القيم (ت - 751هـ) رحمه الله مذهب أبي الهذيل العلاف (ت - 235هـ) الذي يقضي بفناء حركات أهل الدارين، الجنة والنار في نونيته المشهورة، مبتدئاً بذكر مذهبهم ثم مناقشته قائلاً:

قال الفناء يكون في الحركات لا *** في الذات واعجباً لذا الهذيان
أيصير أهل الخلد في جناتهم *** وجحيمهم كحجارة البنيان
ما حال من قد كان يغشى أهله *** عند انقضاء تحرك الحيوان
وكذاك ما حال الذي رفعت يدا *** ه أُكلة من صحفة وخِوَان (34)
فتناهت الحركات قبل وصولها *** للفم عند تفتح الأسنان
وكذاك ما حال الذي امتدت يد *** منه إلى قنو(35) من القنوان
فتناهت الحركات قبل الأخذ هل *** يبقى كذلك سائر الأزمان
تباً لهاتيك العقول فإنها *** والله قد مسخت على الأبدان
تباً لمن أضحى يقدمها على الـ *** آثار والأخبار والقرآن(36)

وقالت أكثر فرق المتكلمين بامتناع حوادث لا أول لها أي امتناع تسلسل الحوادث المتعاقبة في الماضي: وعمدتهم في نفي تسلسل الحوادث الماضية هو دليل (التطبيق)(37) ، وصورته: أننا لو افترضنا سلسلتين غير متناهيتين، إحداهما تزيد عن الأخرى، بأن نفرض أن الأولى بدأت من هذه السنة إلى غير بداية في الماضي، وأن الثانية بدأت من العام الماضي، إلى غير بداية في الماضي أيضاً، ثم نطابق بين هاتين السلسلتين، بأن نأخذ الحلقة الأولى من السلسلة الأولى، ونطبقها على الحلقة الثانية من السلسلة الثانية ثم نأخذ الحلقة الثانية من السلسلة الأولى، ونطبقها على الحلقة الثانية من السلسلة الثانية وهكذا، نطبق الثالثة بالثالثة، والرابعة بالرابعة، والخامسة بالخامسة، وهلم جراً، ذاهبين بالتطبيق نحو الماضي.
حينئذٍ لا يخلو الأمر: إما أن يستمر التطبيق إلى غير نهاية، فيترتب على ذلك مساواة الزائد للناقص، وهذا ظاهر البطلان، أو تنتهي الناقصة، فيلزم أيضاً انتهاء الزائدة؛ لأنها قد زادت عليها بقدر متناهي، والزائد بالمتناهي متناهي. وبذلك ينقطع التسلسل، وهو المطلوب إثباته (38).
ويوضح ابن تيمية هذا الدليل ويلخصه بقوله: (إذا فرضنا الحوادث من الطوفان والحوادث من الهجرة، وطبقنا بينهما، فإن تساويا لزم أن يكون الزائد كالناقص وهو محال.
وإن تفاضلا لزم فيما لا يتناهى أن يكون بعضه أزيد من بعض. قالوا: وهذا محال)(39) .

وأجيب عن دليلهم بعدة أجوبة منها:
1 - أنا لا نسلم إمكان التطبيق مع التفاضل، وإنما يمكن التطبيق بين المتماثلين لا بين المتفاضلين (40).
2 - جواز وقوع التفاضل الذي منعوه وأحالوه، ذلك أن الحوادث من الطوفان إلى ما لا نهاية له في المستقبل أعظم من الحوادث من الهجرة إلى ما لا نهاية له في المستقبل، والعكس فإن من الهجرة إلى ما لا بداية له في الماضي، أعظم من الطوفان إلى ما لا بداية له في الماضي، وإن كان كل منهما لا بداية له، فإن ما لا نهاية له من هذا الطرف وهذا الطرف ليس محصوراً محدوداً موجوداً حتى يقال هما متماثلان في المقدار، فكيف يكون أحدهما أكثر؟ (41).
3 - أن الاشتراك في عدم التناهي لا يقتضي التساوي في المقدار إلا إذا كان كل ما يقال عليه إنه لا يتناهى له قدر محدود، وهذا باطل(42) .
4 - أن التطبيق إنما يمكن في الموجود، أما التطبيق في المعدوم فممتنع، كما في تطبيق مراتب الأعداد من الواحد إلى ما لا يتناهى، فإنا نعلم أن عدد تضعيف الواحد أقل من عدد تضعيف العشرة، وعدد تضعيف العشرة أقل من عدد تضعيف المائة، وعدد تضعيف المائة أقل من عدد تضعيف الألف والجميع لا يتناهى.
وهذه الحجة من جنس مقابلة دورات أحد الكوكبين بدورات الآخر، لكن هناك الدورات وجدت وعدمت، وهنا قُدرت الأزمنة والحركات الماضية ناقصة وزائدة (43) .
5 - أنه يمكن أن يقال: إن دليل التطبيق شامل للماضي والمستقبل فيما لا يتناهى على حد سواء، والإشكال في الحوادث من الهجرة، ومن الطوفان إلى ما لا يتناهى: هل هما متفاضلان؟ أم متماثلان؟
فإن تماثلا فهو محال؛ لأن أحدهما أزيد من الآخر.
وإن تفاضلا فهو محال؛ لأن التفاضل في ما لا يتناهى محال.
ويورد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إشكالاً على لسانهم في نقاش هذه الحجة فيقول: (فإن قيل: هذا تقدير التفاضل والتماثل في ما لم يكن بعد)(44) ، ويجيب عنه بقوله: (قيل: نعم، لكن تقدير التفاضل والتماثل بتقدير وجوده لا في حال كونه معدوماً، كما أن الماضي قَدرتم فيه التماثل والتفاضل بعد عدمه لا في حال وجوده، لكن قدرتم تلك الحوادث الماضية التي عدمت كأنها موجودة، ففي كلا الموضعين إنما هو تقدير التفاضل والتماثل في ما هو معدوم. فإن صح في أحد الموضعين، صح في الآخر، وإن امتنع في أحدهما امتنع في الآخر)(45) .
6 - يقال لهم أيضاً: لا نسلم إمكان التطبيق، فإنه إذا كان كلاهما لا بداية له، وأحدهما انتهى أمس، والآخر انتهى اليوم، كان تطبيق الحوادث إلى اليوم على الحوادث إلى الأمس ممتنعاً لذاته، فإن الحوادث إلى اليوم أكثر، فكيف تكون إحداهما مطابقة للأخرى؟
فلما كان التطبيق ممتنعاً جاز أن يلزمه حكم ممتنع(46) .
7 - أن يقال: كون الشيء ماضياً ومستقبلاً أمر إضافي بالنسبة إلى المتكلم المخبر، فما مضى قبل كلامه كان ماضياً، وما يكون بعده يكون مستقبلاً، وبنسبة أحدهما إلى الآخر: فالماضي ماض على ما يستقبل، والمستقبل مستقبلٌ لما قد مضى، وما من ماضٍ إلا وقد كان مستقبلاً، وما من مستقبل إلا وسيصير ماضياً، فليس ذلك فرقاً يعود إلى صفات النوعين حتى يقال: إن أحدهما ممكن، والآخر ممتنع، بل هذا الماضي كان مستقبلاً، وهذا المستقبل يصير ماضياً، فتتصف كل الحوادث بالمضي والاستقبال، فلم يكن في ذلك ما هو لازم للنوعين يوجب الفرق بينهما (47).
ويذكر أبو المعالي الجويني (ت - 478هـ) مثالاً يوضح قول المفرقين بين الماضي والمستقبل في التسلسل فيقول: (وضرب المحصلون مثالين في الوجهين، فقالوا: مثال إثبات حوادث لا أول لها قول القائل لمن يخاطبه: لا أعطيك درهماً إلا وأعطيك قبله ديناراً، ولا أعطيك ديناراً إلا وأعطيك قبله درهماً، فلا يتصور أن يعطي على حكم شرطه ديناراً ولا درهماً) (48) .
ثم يقول: (ومثال ما ألزمونا أن يقول القائل: لا أعطيك ديناراً إلا وأعطيك بعده درهماً، ولا أعطيك درهماً إلا وأعطيك بعده ديناراً...)(49).
ويبين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن القياس العقلي الذي اعتمدوا عليه في أصل أصول الدين عندهم الذي يبنون عليه نفي أفعال الرب وصفاته أن ذلك قياس باطل من وجوه:
أ - أن قوله: (لا أعطيك حتى أعطيك) نفي للمضارع المستقبل إذا وجد قبله ماض، وحق القياس الصحيح أن يقال: (ما أعطيتك درهماً إلا أعطيتك قبله ديناراً، ولا أعطيتك دينار(50) إلا أعطيتك قبله درهماً) فهذا إخبار أن كل ماض من الدراهم كان قبله دينار، وكل دينار كان قبله درهم، وهذا مثل الحوادث الماضية التي قبل كل حادث منها حادث(51) .
ب - وأما قوله: (لا أعطيك درهماً إلا أعطيتك بعده ديناراً، أو لا أعطيك ديناراً إلا وبعده درهم) فهذا مثل الحوادث في المستقبل وهو ما يقرون به، حيث يكون بعد كل حادث منها حادث، فإن أمكن أن يصدق في قوله في المستقبل، أمكن أن يصدق في قوله في الماضي، وعكسه بعكسه؛ لأن العقل لا يفرق بين هذا وهذا، ولكنه يفرق بين قوله: (لا أعطيك حتى أعطيك) وبين قوله: (ما أعطيتك إلا وقد أعطيتك)(52) .
جـ - أن قوله: (لا أعطيك حتى أعطيك)، مثل قوله: (ما أعطيتك حتى أعطيتك)، فالأول نفي المستقبل حتى يوجد المستقبل، والثاني نفي الماضي حتى يوجد الماضي، وكلاهما ممتنع، فإنه نفي للشيء حتى يوجد الشيء.
وحقيقته: الجمع بين النقيضين، إذ يجعل الشيء موجوداً معدوماً.
بخلاف قوله: (ما أعطيتك إلا وقد أعطيتك قبله، ولا أعطيك إلا وأعطيك بعده) فإنه إثبات بعد كل عطاء عطاء، وقبل كل عطاء عطاء، إذ هذا المثال يتضمن إثبات بعد كل حادث مستقبل حادث مستقبل، وقبل كل حادث ماض حادث ماض، وبهذا يتبين الفرق بين المثال الأخير وبين المثالين اللذين قبله(53) ، ولا يصح الاستدلال على منع الحوادث المتعاقبة في الماضي بقول الله عزّ وجل: { وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد: 8] أو قوله سبحانه وتعالى: {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً } [الجن: 28] ؛ لأن الباري عزّ وجل قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص(54) رضي الله عنهما أنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وكان عرشه على الماء»(55)
وأما قوله سبحانه وتعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12] ، فهذا يدل على أن الله قد أحصى وكتب ما يكون قبل أن يكون إلى أجل محدود، فإن الله عزّ وجل قد أحصى المستقبل المعدوم الذي لم يوجد بعد، كما أحصى الماضي الذي وجد ثم عدم، ولفظ الإحصاء لا يفرق بين الماضي والمستقبل(56) .
ولما كان لازم قول المتكلمين في التسلسل: الترجيح بلا مرجح؛ لأنهم يرون أن الله كان معطلاً عن الفعل ثم فعل من غير تجدد أمر لهذا الحدوث، قالوا بعد ذلك: إن المرجح هو الإرادة القديمة، والإرادة لا تحتاج إلى تخصيص، وأن الله قادر على الفعل في الأزل لكنه لم يفعل ولا ينبغي له أن يفعل(57) ، وقد قالوا ذلك هروباً من القول بقدم العالم الذي تقول به الفلاسفة، إذ فهموا أن القول بإمكان تسلسل الحوادث من الماضي إلى ما لا نهاية يستلزم قول الفلاسفة، وليس ذلك لازماً (58) .
ومن المعلوم أن القول بترجيح الممكن من عدمه بلا مرجح يقتضي ذلك، باطل في بديهة العقل، وهذا مناقض لما يستدل به المتكلمون أنفسهم على قدم الصانع، وحدوث العالم من أن المحدَث لا بد له من محدث، وذلك يستلزم أن ترجيح الحدوث على العدم لا بد له من مرجح، ولا بد أن يكون المحدث المرجح قد حدث منه ما يستلزم وجود المحدث، وكل ما أمكن حدوثه إن لم يحصل ما يستلزم حدوثه لم يحصل(59) .
ويلزم من قول المتكلمين لوازم فاسدة منها:
1 - أن الله عزّ وجل لم يزل معطلاً عن الفعل: إما أن يكون غير قادر على الفعل ثم صار قادراً عليه من غير تجدد سبب يوجب له القدرة على الفعل.
وإما أن يكون الفعل ممتنعاً في الأزل ثم صار ممكناً من غير سبب اقتضى إمكانه، وهذا يستلزم الانقلاب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي.
2 - وصف الله بالعجز والتعطل عن الفعل مدة لا تقاس بها مدة فاعليته، وهذا نقص يجب تنزيه الله عنه.
3 - أن الحادث إذا حدث بعد أن لم يكن محدثاً فلا بد أن يكون ممكناً، والإمكان ليس له وقت محدود، فما من وقت يقدّر إلا والإمكان ثابت قبله، فليس لإمكان الفعل وصحته مبدأ ينتهي إليه فيجب أنه لم يزل الفعل ممكناً جائزاً فيلزم جواز حوادث لا نهاية لها(60) .
وأما القول بأن الإرادة لذاتها هي التي تقتضي التخصيص فهو قول باطل؛ ذلك أن الإرادة التي يعرفها الناس من أنفسهم لا توجب ترجيحاً إلا بمرجح، والإرادة إذا استوت نسبتها إلى جميع المرادات وأوقاتها وصفاتها وأشكالها، كان ترجيح الإرادة لمثلٍ على مثل ترجيحاً من غير مرجح، وهذا ممتنع لمن تصوره.
ويقال لهم أيضاً: إن إرادة الإنسان أحد الشيئين ليست هي إرادته للآخر، سواء ماثله أو خالفه، فضلاً عن أن تكون إرادة واحدة نسبتها إلى المثلين سواء، وهي ترجح أحدهما بلا مرجح.
والقادر المختار ذو القدرة التامة هو الذي إذا أراد الفعل إرادة جازمة: لزم من ذلك وجود الفعل، وصار واجباً بغيره لا بنفسه، كما قال المسلمون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وما شاءهُ سبحانه فهو قادر عليه، فإذا شاء شيئاً حصل مراداً له - وهو مقدور عليه - فيلزم وجوده.
وما لم يشأ لم يكن، فإنه لم يرده - وإن كان قادراً عليه - لم يحصل المقتضى التام لوجوده فلا يجوز وجوده (61).
ويستدل أهل السنة على هذا بقوله سبحانه وتعالى: { ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [البروج: 15 - 16] ، وأن هذه الآية تدل على أمور:
1 - أنه تعالى يفعل بإرادته ومشيئته.
2 - أنه لم يزل كذلك، فقد ساق الله ذلك في معرض الثناء، وعدم فعله لما يريد في وقت من الأوقات نقص من ذلك الكمال وقد قال عزّ وجل { أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}: [النحل: 17] .
3 - أنه إذا أراد أي شيء فإنه يفعله؛ لأن (ما) موصولة عامة أي: يفعل كل ما يريد أن يفعله.
4 - أن فعله وإرادته متلازمان، فما أراد أن يفعله فعله، وما فعله فقد أراده، بخلاف المخلوق فإنه يريد ما لا يفعل، وقد يفعل ما لا يريد، فما ثم فعال لما يريد إلا الله وحده.
5 - إثبات إرادات متعددة بحسب الأفعال، وأن كل فعل له إرادة تخصه، فشأنه سبحانه أنه يريد على الدوام، ويفعل ما يريد.
6 - أن كل ما صح أن تتعلق به إرادته، جاز أن يفعله، فإذا أراد أن ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، وأن يجيء يوم القيامة لفصل القضاء، وأن يري عباده المؤمنين نفسه لم يمتنع عليه فعله فهو الفعال لما يريد، وإنما تتوقف صحة ذلك على إخبار الصادق به (62).
وبعد مناقشات طويلة من قبل شيخ الإسلام رحمه الله تجاه القائلين بامتناع حوادث لا أول لها يأتي حكمه رحمه الله على هذه الطريقة بقوله: (وامتناع حوادث لا أول لها، طريقة مبتدعة في الشرع باتفاق أهل العلم بالسنة، وطريقة مخطرة مخوفة في العقل، بل مذمومة عند طوائف كثيرة، وإن لم يعلم بطلانها لكثرة مقدماتها وخفائها... وهي طريق باطلة في الشرع والعقل عند محققي الأئمة، العالمين بحقائق المعقول والمسموع) (63).
ومما له صلة بموضوع التسلسل في الآثار، مسألة (التأثير)، فالخلاف في هذه المسألة مرتبط بالخلاف في موضع تسلسل الآثار:
ويرى شيح الإسلام رحمه الله أن لفظ (التأثير) لفظ مجمل لا يصح الحكم عليه بصحة أو خطأ قبل الاستفصال؛ لأن عامة اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء: فالتأثير في حق الله يراد به التأثير في كل ما سواه؛ وهو إبداعه لكل ما سواه. ويراد به التأثير في شيء معين وهو خلقه لذلك المعين، ويراد به مطلق التأثير وهو كونه مؤثراً في شيء ما.
فإن أريد بالتأثير التام: إبداعه لكل شيء في الأزل فهذا ممتنع بضرورة الحس والعقل، فإن الحوادث مشهودة، وأيضاً فكون الشيء مبدعاً أزلياً ممتنع.
وإن أريد به التأثير في شيء معين: فمعلوم أن هذا التأثير حادث بحدوث أثره، فإحداث الأثر المعين لا يكون إلا حادثاً.
وإن أريد بالتأثير مطلق الفعل وهو كونه فاعلاً في الجملة، فهذا يوجب أنه لم يزل موصوفاً بمطلق الفاعلية(64) .
وقد اختلف الناس في مقارنة التأثير للمؤثر على حسب اختلافهم في التسلسل على ثلاثة أقوال:
القول الأول: يجب أن يقارن الأثر للمؤثر ولتأثيره، بحيث لا يتأخر الأثر عن التأثير في الزمان، وهذا قول الفلاسفة بناء على قولهم بقدم العالم، وقدم الحوادث مع محدثها، ويلزم من قولهم لوازم:
1 - أن لا يحدث حادث بعد الحادث الأول إلا ويفتقر إلى علة تامة مقارنة له، فيلزم تسلسل علل، أو تمام علل ومعلولات في آن واحد، وهذا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء.
2 - أن لا يحدث في العالم شيء؛ فإن العلة التامة إذا كانت تستلزم مقارنة معلولها في الزمان، وكان الرب علة تامة في الأزل لزم أن يقارنه كل معلول وكل ما سواه معلول له: إما بواسطة، وإما بغير واسطة.
فيلزم أن لا يحدث في العالم شيء.
القول الثاني: يجب تراخي الأثر عن المؤثر التام، كما يقوله أكثر أهل الكلام بناء على قولهم بامتناع تسلسل الحوادث في الماضي، ويلزم من قولهم أن يصير المؤثر مؤثراً تاماً بعد أن لم يكن مؤثراً تاماً، بدون سبب حادث، أو أن الحوادث تحدث بدون مؤثر تام، وأن الممكن يرجح وجوده على عدمه بدون المرجح التام.
القول الثالث: أن المؤثر التام يستلزم وجود أثره عقبه، لا معه في الزمان، ولا متراخياً عنه، وهذا قول أهل السنة استناداً إلى قولهم بجواز تسلسل الحوادث في الماضي، لكنهم لا يقولون بقدم شيء من المحدثات المخلوقات.
وقد استدلوا بقول الله عزّ وجل: { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] وعلى هذا فيلزم حدوث كل ما سوى الرب؛ لأنه مسبوق بوجود التأثير، ليس زمنه زمن التأثير كما تقول الفلاسفة، ولا متراخياً عنه بحيث يعطل الرب عن الفعل فترة كما تقوله المتكلمة، ولهذا يقال: طلقتُ المرأة فطلقت، وأعتقتُ العبد فعتق، وكسرتُ الإناء فانكسر، فالطلاق والعتق والانكسار عقب التطليق والإعتاق والكسر. لا يقترن به، ولا يتأخر عنه (65).
وبعد هذه الجولة السريعة في مبحث التسلسل: يتبين لنا أن التسلسل عند أهل السنة والجماعة ينقسم إلى ثلاثة أقسام: تسلسل واجب، وتسلسل ممكن، وتسلسل ممتنع:
فأما التسلسل الواجب فهو: ما دل عليه العقل والشرع من دوام أفعال الله تعالى في الأبد، وأنه كلما انقضى لأهل الجنة نعيم أحدث لهم نعيماً آخر لا نفاد له، وكذلك عذاب أهل النار.
وكذلك التسلسل في أفعاله - سبحانه - من جهة الأولية والأزل، وأن كل فعل له - سبحانه - فهو مسبوق بفعل آخر قبله.
وأما التسلسل الممكن: فهو في مفعولاته في طرف الأزل كما تتسلسل في طرف الأبد، فإن الله إذا لم يزل حيّاً قادراً مريداً متكلماً - وذلك من لوازم ذاته - فالفعل ممكن له بوجوب هذه الصفات له.
وأما التسلسل الممتنع فهو مثل التسلسل في المؤثرين وهو أن يكون مؤثرون كثر، كل واحد منهم استفاد تأثيره ممن قبله لا إلى غاية(66) .


المطلب الثاني
الــصــفــات الاخــتــيــاريــة

يراد بالصفات الاختيارية: الصفات المتعلقة بمشيئة الله وقدرته.
مثل الكلام والسمع والبصر والإرادة والمحبة والرضى والرحمة والغضب والسخط والخلق والإحسان والعدل والاستواء وغيرها (67) .
وكل ما وجد وكان من أفعال الله بعد عدمه فإنما يكون بمشيئته وقدرته، وهو - سبحانه - ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فما شاءه وجب كونه، وهو يجب بمشيئة الرب وقدرته، وما لم يشأه امتنع كونه مع قدرته عليه، كما قال تعالى: { وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا}[السجدة: 13] وقال سبحانه:{ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} [البقرة: 253] ، وقال عزّ وجل: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 112]
ولذلك يقول ابن تيمية رحمه الله:
(كون الشيء واجب الوقوع لكونه قد سبق به القضاء، وعلم أنه لا بد من كونه لا يمتنع أن يكون واقعاً بمشيئته وقدرته وإرادته - وإن كانت من لوازم ذاته كحياته وعلمه - فإن إرادته للمستقبلات هي مسبوقة بإرادته للماضي: { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [يس: 82] ، وهو إنما أراد هذا الثاني بعد أن أراد قبله ما يقتضي إرادته، فكان حصول الإرادة اللاحقة بالإرادة السابقة) (68).
والفعل من الله قسمان: متعدٍ ولازم، فالمتعدي مثل: الخلق والإعطاء، واللازم مثل: الاستواء والنزول، ويُمثل لهما بقول الحق تبارك وتعالى: { هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [الحديد: 4] ، فذكر فعلين متعدٍ ولازم، فالخلق متعدي، والاستواء لازم، وكلاهما حاصل بقدرته ومشيئته وهو متصف به.
والفعل المتعدي مستلزم للفعل اللازم؛ لأن الفعل لا بد له من فاعل، سواء كان متعدياً إلى مفعول أو لم يكن، والفاعل لا بد له من فعل، سواء كان فعله مقتصراً عليه أو متعدياً إلى غيره، والفعل المتعدي إلى غيره لا يتعدى حتى يقوم بفاعله.
ويذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن ذلك معلوم بالسمع والعقل:
أما السمع: فإن أهل اللغة العربية التي نزل بها القرآن متفقون على أن الإنسان إذا قال: (قام فلان وقعد)، وقال: (أكل فلان الطعام وشرب الشراب)، فإنه لا بد أن يكون في الفعل المتعدي إلى المفعول ما في الفعل اللازم وزيادة، إذ كلتا الجملتين فعلية، وكلاهما فيه فعل وفاعل، والثانية امتازت بزيادة المفعول.
وأما من جهة العقل : فمن جوز أن يقوم بذات الله تعالى فعل لازم له كالمجيء والاستواء ونحو ذلك، لم يمكنه أن يمنع قيام فعل يتعلق بالمخلوق كالخلق والبعث والإماتة والإحياء، كما أن من جَوّز أن تقوم به صفة لا تتعلق بالغير كالحياة لم يمكنه أن يمنع قيام الصفات المتعلقة بالغير كالعلم والقدرة والسمع والبصر.
ولهذا لم يقل أحد من العقلاء بإثبات أحد الضربين دون الآخر، بل قد يثبت الأفعال المتعدية القائمة به كالتخليق من ينازع في الأفعال اللازمة كالمجيء والإتيان، وأما العكس فلا يعلم له قائل (69).
وقد تنوعت وكثرت الأدلة المثبتة للأفعال الاختيارية من الكتاب والسنة، وأقوال سلف الأمة حتى لا تكاد تحصى كثرة:
أما الأدلة من القرآن الكريم فتبلغ المئين ومنها على سبيل المثال:
قول الله عزّ وجل: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } [البقرة: 186] .
وقال سبحانه: { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا } [المجادلة: 1] .
وقال عزّ وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [البقرة: 174] .
وقال: {كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 47] .
وقال - سبحانه -: { )إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.
وقال عزّ وجل: { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ } [آل عمران: 77] .
وقال: { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3] .
وقال: { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى* إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى* إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي } [طه: 11 - 14] .
وقال - سبحانه -: { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم } [الأنبياء: 83، 84] .
وقال: { وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ } [الأنبياء: 89، 90] .
وقد ذكر عزّ وجل عن النداء قوله: { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص: 62] .
وذكر عن الحكم والإرادة والمحبة قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1] .
وقال: { وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء: 16] .
وقال سبحانه: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [آل عمران: 31] وقال: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] .
وقال عن السخط والرضى: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } [محمد: 28] .
وقال عزّ وجل: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 12 - 14] .
وقال: { أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا } [النازعات: 27 - 32] .
والآيات في هذا كثيرة جدّاً تفوق الحصر(70) .
أما الأحاديث فمنها:
قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم فيما يرويه عن ربه: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله: حَمِدني عبدي، فإذا قال: الرحمن الرحيم: قال: أثنى عليَّ عبدي، فإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجدني عبدي»(71) .
وفي الصحيحين عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر، كلاهما يدخل الجنة، قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: يقتل هذا فيلج الجنة، ثم يتوب الله على الآخر فيهديه إلى الإسلام، ثم يجاهد في سبيل الله فيستشهد»(72) .
وقال عليه الصلاة والسلام: «الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء»(73) .
وفي الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان قاعداً في أصحابه إذ جاء ثلاثة نفر، فأما رجل فوجد فرجة في الحلقة فجلس، وأما رجل فجلس، يعني خلفهم، وأما رجل فانطلق.
فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟
أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله .
وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه .
وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه»(74) .
وفي الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما يرويه عن ربه - تبارك وتعالى -: «لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي(75) عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت، وأكره مساءته ولا بد له منه»(76).
وعن عبادة بن الصامت(77) رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، فقالت عائشة: إنا لنكره الموت؟ قال: ليس ذاك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت يُبَشّر برضوان الله وكرامته، وإذا بشر بذلك أحب لقاء الله، وأحب الله لقاءه
وإن الكافر إذا حضره الموت بُشر بعذاب الله وسخطه فكره لقاء الله، وكره الله لقاءه»(78)
وعن أبي سعيد الخدري (ت - 74هـ) رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك.. فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب؟ وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك، فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب، وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً»(79) .
وفي الصحيحين عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأما معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن اقترب إليَّ شبراً اقتربت إليه ذراعاً، وإن اقترب إليَّ ذراعاً اقتربت إليه باعاً وإن أتاني يمشي أتيته هرولة»(80) .
وعن أبي هريرة (ت - 57هـ) رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن عبداً أصاب ذنباً فقال: رب أصبت ذنباً فاغفر لي، فقال ربه: أعلم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنباً آخر فقال: أي رب، أذنبت ذنباً فاغفره لي، فقال ربه: أعلم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، غفرت لعبدي»(81) .
وعن أبي هريرة (ت - 57هـ) رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يقول الله يوم القيامة: يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني، فيقول: يا رب كيف أعودك، وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده .
ويقول: يا ابن آدم، استسقيتك فلم تسقني فيقول: أي رب، وكيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ فيقول تبارك وتعالى: أما علمت أن عبدي فلاناً استسقاك فلم تسقه؟ أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي؟
قال: ويقول: يا ابن آدم، استطعمتك فلم تطعمني، فيقول: أي رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً استطعمك فلم تطعمه؟ أما إنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي»(82) .
وعن أبي هريرة (ت - 57هـ) رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله ينادون: هلموا إلى حاجتكم، قال: فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، قال: فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم: ما يقول عبادي؟ قال يقولون: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك. قال: فيقول: هل رأوني؟ قال: فيقولون: لا والله ما رأوك. قال: فيقول: وكيف لو رأوني. قال: فيقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة وأشد لك تمجيداً، وأكثر لك تسبيحاً. قال: يقول: فما يسألوني؟ قال: يسألونك الجنة، قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله ما رأوها. قال: يقول: فكيف لو رأوها. قال: يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصاً، وأشد لها طلباً، وأعظم فيها رغبة. قال: فمم يتعوذون؟ قال: يقولون: من النار. قال: يقول: وهل رأوها. قال: يقولون: لا والله ما رأوها. قال: يقول: فكيف لو رأوها. قال يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فراراً، وأشد لها مخافة. قال: فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم. قال: يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة. قال: هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم»(83) .
والأحاديث كثيرة في هذا الباب يصعب إحصاؤها واستقصاؤها (84).
وأما المنقول من أقوال سلف الأمة الموافق للكتاب والسنة فكثير جدّاً:
فمنهم البخاري(85) رحمه الله فقد ذكر عن الفضيل بن عياض(86) رحمه الله قوله: (إذا قال لك الجهمي: أنا أكفر برب يزول عن مكانه، فقل: أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء) (87) .
وقال عبد الرحمن بن مهدي(88) رحمه الله: «من زعم أن الله لم يكلم موسى فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل)(89) .
وروى البخاري (ت - 256هـ) حديث عبد الله بن أنيس(90) رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله يحشر العباد يوم القيامة، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب «أنا الملك وأنا الديان لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وأحدٌ من أهل النار يطلبه مظلمة»»(91) .
وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يحب أن يكون الرجل خفيض الصوت، ويكره أن يكون رفيع الصوت، وأن الله عزّ وجل ينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، فليس هذا لغير الله.
قال البخاري (ت - 256هـ) رحمه الله: (وفي هذا دليل أن صوت الله لا يشبه أصواتب الخلق؛ لأن صوت الله - جل ذكره - يسمع من بعد كما يسمع من قرب، وأن الملائكة يصعقون من صوته، فإذا تنادى الملائكة لم يصعقوا، وقال عزّ وجل: { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 22] فليس لصفة الله ند، ولا مثل، ولا يوجد شيء من صفاته في المخلوقين)(92) .
ومنهم الدارمي (ت - 280هـ) رحمه الله حيث رد على المريسي (ت - 218هـ) إنكاره نزول الباري عزّ وجل وتأويله النزول بنزول أمره ورحمته لا بنفسه بقوله: «وهذا من حجج النساء والصبيان، ومن ليس عنده بيان، ولا لمذهبه برهان؛ لأن أمر الله ورحمته ينزل في كل ساعة ووقت وأوان، فما بال النبي صلّى الله عليه وسلّم يحدد لنزوله الليل دون النهار، ويؤقت من الليل شطره أو الأسحار؟. فبرحمته وأمره يدعو العباد إلى الاستغفار، أو يقدر الأمر والرحمة أن يتكلما دونه فيقولا: هل من داع فأجيب؟ هل من مستغفر فأغفر؟ هل من سائل فأعطي؟... وما بال رحمته وأمره ينزلان من عنده شطر الليل، ثم لا يمكثان إلا إلى طلوع الفجر ثم يرفعان؟...» (93).
وقال رحمه الله: (الله المتكلم أولاً وآخراً، لم يزل له الكلام، إذ لا متكلم غيره ولا يزال له الكلام، إذ لا يبقى متكلم غيره، فيقول: { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر: 16] . - ثم ذكر آيات إلى أن قال: - وقال لقوم موسى حين اتخذوا العجل فقال: { أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} [طه: 89] . وقال: { عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} [الأعراف: 148] .
قال أبو سعيد: ففي كل ما ذكرناه تحقيق كلام الله وتثبيته نصاً بلا تأويل، ففيما عاب الله به العجل في عجزه عن القول والكلام بيانٌ بين أن الله غير عاجز عنه، وأنه متكلم، وقائل؛ لأنه لم يكن يعيب العجل بشيء وهو موجود فيه) (94) .
ومنهم الآجري (ت - 360هـ) رحمه الله حيث ذكر حديث أبي موسى الأشعري(95) رضي الله عنه قال: (قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأربع قال: إن الله عزّ وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يرفع القسط ويخفضه، يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور - أو النار - لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره)(96) .
وقال رحمه الله عن النزول: (الأخبار قد صحت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن الله عزّ وجل ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة، والذين نقلوا إلينا هذه الأخبار هم الذين نقلوا إلينا الأحكام من الحلال والحرام، وعلم الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد، وكما قبل العلماء منهم ذلك كذلك قبلوا منهم هذه السنن، وقالوا: من ردها فهو ضال خبيث، يَحذَرونه، ويحذرون منه)(97).
ومنهم: الإمام الإسماعيلي (ت - 371هـ) حيث قال في عقيدته: (ويعتقدون أن الله.. مالك خلقه وأنشأهم لا عن حاجة إلى ما خلق، ولا لمعنى دعاه إلى أن خلقهم، لكنه فعال لما يشاء، ويحكم ما يريد، لا يسأل عما يفعل، والخلق مسؤولون عما يفعلون)(98) .
وقال رحمه الله: (ويقولون ما يقوله المسلمون بأسرهم: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لا يكون، كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } [الإنسان: 30]
ويقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق... وإنه لا خالق على الحقيقة إلا الله عزّ وجل... وإنه عزّ وجل ينزل إلى السماء على ما صح به الخبر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلا اعتقاد كيف فيه) (99).
ومنهم ابن أبي زمنين (ت - 399هـ) رحمه الله حيث قال: (ومن قول أهل السنة: أن الله عزّ وجل خلق العرش واختصه بالعلو والارتفاع فوق جميع ما خلق، ثم استوى عليه كيف شاء، كما أخبر عن نفسه في قوله: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] وفي قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } [الحديد: 4] ) (100).
وقال: (ومن قول أهل السنة: أن الله عزّ وجل ينزل إلى السماء الدنيا، ويؤمنون بذلك)(101) .
ومنهم الإمام الصابوني (449هـ) حيث قال في عقيدته: (ويعتقد أصحاب الحديث أن الله - سبحانه - فوق سبع سماواته، على عرشه مستو، كما نطق به كتابه في قوله عزّ وجل في سورة الأعراف: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] وقوله في سورة يونس: { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ } [يونس: 3] )(102) .
وقال رحمه الله: (ويثبت أصحاب الحديث نزول الرب سبحانه وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، من غير تشبيه له بنزول المخلوقين، ولا تمثيل، ولا تكييف، بل يثبتون ما أثبته رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وينتهون فيه إليه) (103).
وبعد: فهذه جملة مختصرة من أقوال سلف الأمة في بيان المعتقد الحق في أفعال الله وصفاته التي تكون بمشيئته وقدرته، وأقوالهم - رحمهم الله - تفوق الحصر في بيان هذا المعتقد عرضاً له، ورداً على مخالفيه من الجهمية ومن وافقهم (104). وقد كان الناس على قول واحد في صفات الله وأفعاله الاختيارية وهو الإيمان بها، وأنها متعلقة بمشيئة الله وقدرته، وأن الله متصف بها وهي قائمة بذاته سبحانه وتعالى.
حتى جاءت الجهمية ومن وافقهم من المعتزلة وغيرهم فنفوا الصفات الاختيارية عن الله نفياً مطلقاً فلا يقوم بالرب - عندهم - شيء من الأمور الاختيارية، فلا يرضى على أحد بعد أن لم يكن راضياً عنه، ولا يغضب عليه بعد أن لم يكن غضبان، ولا يفرح بالتوبة بعد التوبة؛ ولا يتكلم بمشيئته وقدرته، وأن الكلام قائم بذاته. ويجعلون هذه الأمور الاختيارية مخلوقاً منفصلاً عن الله - تعالى -.
وكان الناس بعد ظهور الجهمية والمعتزلة فريقين حتى ظهرت الكلابية ومن وافقهم كأبي الحسن الأشعري(105) وأبي العباس القلانسي(106) ، ومن وافقهم من السالمية(107) وغيرهم، فأثبتوا بعض الصفات لكنهم لم يثبتوا الصفات الاختيارية التي تكون بمشيئة الله وقدرته، فالصفات التي أثبتوها هي قديمة بأعيانها لازمة لذات الله كالعلم والقدرة، وأما ما يكون بمشيئته وقدرته فلا يكون إلا مخلوقاً منفصلاً عنه، فلا تقوم الصفات الاختيارية - عندهم - بذات الرب - جل وعلا (108)- .
ومنشأ الخلاف بين الكلابية ومن وافقهم وبين أهل السنة: في مسألة الخلق: هل هو المخلوق أم غيره؟ والفعل هل هو المفعول أم غيره؟
وقد ذكر الإمام البخاري (ت - 256هـ) رحمه الله وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن نزاع الناس في أفعال الله اللازمة كالمجيء والإتيان والاستواء، والأفعال المتعدية كالخلق والإحسان والعدل ناشئ عن النزاع في هذه المسألة(109) .
فالمأثور عن السلف أن الخلق غير المخلوق، وأن الفعل غير المفعول، فالفعل إنما هو إحداث الشيء، والمفعول هو الحدث، لقوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}[الأنعام:73] فالسماوات والأرض مفعول، وكل شيء سوى الله بقضائه فهو مفعول، فتخليق السماوات فعله؛ لأنه لا يمكن أن تقوم سماء بنفسها من غير فعل الفاعل، وإنما تنسب السماء إليه لحال فعله، ففعله من ربوبيته حيث يقول: {كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] .
والفعل صفة، والمفعول غيره، ويدل على هذا قول الله - تبارك وتعالى - {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} [الكهف: 51] ، ولم يرد بخلق السماوات نفسها، وقد ميز فعل السماوات عن السماوات، وكذلك فعل جملة الخلق.
قال البخاري (ت - 256هـ) رحمه الله: (قال أهل العلم: التخليق فعل الله، وأفاعيلنا مخلوقة لقوله - تعالى -: { وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } [الملك: 13، 14] يعني السر والجهر من القول، ففعل الله صفة الله، والمفعول غيره من الخلق)(109).
وقد استدل السلف على هذا بكلام الله عزّ وجل وأنه غير مخلوق، حيث استعاذ النبي صلّى الله عليه وسلّم بكلمات الله، ولا يستعاذ بالمخلوق كما ذكر ذلك نعيم بن حماد (ت - 228هـ) رضي الله عنه وغيره(110) .
وأما دليل السلف العقلي على أن الخلق غير المخلوق فقد ذكره ابن تيمية رحمه الله بقوله: (إن كل ما سوى الله تعالى مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن، وأن الله انفرد بالقدم والأزلية، وقد قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } [الفرقان: 59] . فهو حين خلق السماوات ابتداءً: إما أن يحصل منه فعل يكون هو خلقاً للسماوات والأرض، وإما أن لا يحصل منه فعل، بل وجدت المخلوقات بلا فعل، ومعلوم أنه إذا كان الخالق قبل خلقها ومع خلقها سواء، وبعده سواء، لم يجز تخصيص خلقها بوقت دون وقت بلا سبب يوجب التخصيص) (111).
وأما القول الثاني: وهو أن الخلق هو نفس المخلوق، والفعل هو المفعول، وليس لله عند هؤلاء صنع ولا فعل ولا خلق ولا إبداع إلا المخلوقات نفسها.
وشبهتهم هي قولهم: (لو كان خلق المخلوقات بخلق: لكان ذلك الخلق: إما قديماً، وإما حادثاً، فإن كان قديماً: لزم قدم كل مخلوق، وهذا مكابرة.
وإن كان حادثاً: فإن قام بالرب لزم قيام الحوادث به.
وإن لم يقم به كان الخلق قائماً بغير الخالق وهذا ممتنع.
وسواء قام به أو لم يقم به يفتقر ذلك الخلق إلى خلق آخر، ويلزم التسلسل)(112) .
وقد أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بجواب السلف والجمهور عن كل مقدمة من مقدمات هذا الدليل:
فالمقدمة الأولى: قولهم: (بلزوم قدم كل مخلوق) بأن من يوافقونه على قدم الإرادة مع تأخر المراد يلزمونهم بأن الخلق قديم أزلي، وإن كان المخلوق متأخراً، ومهما قالوه في الإرادة ألزموا بنظيره في الخلق، وهذا جواب إلزامي لا حيلة لهم فيه ألزمهم به الحنفية والكرامية وكثير من الحنبلية، والشافعية، والمالكية، والصوفية، وأهل الحديث.
وأما المقدمة الثانية: وهي قولهم: لو كان حادثاً قائماً بالرب لزم قيام الحوادث به وهو ممتنع: فقد منعهم ذلك السلف وأئمة أهل الحديث وغيرهم وقالوا: لا نسلم انتفاء اللازم، وقالوا: بأن الله يتكلم بمشيئته وقدرته، وأن كلماته لا نهاية لها، وأن الله لم يزل فعالاً. وهذه المسألة: - أي امتناع دوام الحوادث من عدمه - من الأصول الكبار الفارقة بين أهل السنة ومخالفيهم في صفات الله وفي خلقه.
وأما المقدمة الثالثة: وهي: إن لم يقم الخلق بالله كان الخلق قائماً بغير الخالق وهذا محال، وهذه المقدمة صحيحة، ولم يمنعهم ويخالفهم إلا بعض المتكلمين من المعتزلة وغيرهم. فمنهم من يقول: الخلق يقوم بالمخلوق، ومنهم من يقول: خلق وفعل بإرادة لا في مكان ومحل(113) . وهذا القول ممتنع لا يعرف عن أحد من السلف.
وأما المقدمة الرابعة: وهي قولهم: الخلق الحادث يفتقر إلى خلق آخر: فقد منعهم من ذلك عامة الناس ممن يقول بحدوث الخلق من أهل الحديث والسلف وأهل الكلام والفلسفة والفقه والتصوف وغيرهم.
وقالوا: إذا خلق السماوات والأرض بخلق لم يلزم أن يحتاج ذلك الخلق إلى خلق آخر، ولكن ذلك الخلق يحصل بقدرته ومشيئته، وإن كان ذلك الخلق حادثاً. ثم إنهم يسلمون أن المخلوقات محدثة منفصلة بدون حدوث (خلق)، فإذا جاز هذا في الحادث المنفصل عن المحدِث، فلأن يجوز حدوث الحادث المتصل به بدون (خلق) بطريق الأولى والأحرى.
وأما المقدمة الخامسة: وهي قولهم: إن ذلك يفضي إلى التسلسل، فيجاب عنهم بأن التسلسل هنا هو التسلسل في الآثار، وهذا قد اتفق السلف على جوازه، والبرهان إنما دل على امتناع التسلسل في المؤثرين، فإن هذا يعلم فساده بصريح المعقول، وهو مما اتفق العقلاء على امتناعه(114).
وصلة مسألة الخلق هل هو المخلوق أم غيره؟ بالصفات الاختيارية هي في بدء خلق السماوات والأرض حين خلقها الله عزّ وجل ولم تكن قبل ذلك، وقد تجددت له صفة الخلق وهي ما يسميه المتكلمون (حلول الحوادث بالرب)، فيقولون: إن الصفة (الخلق) هي مخلوق منفصل عن الله عزّ وجل لا يقوم بذات الرب، فالخلق هو المخلوق، والصفة مخلوقة، وقال بعضهم: إن الصفة قديمة بأعيانها لازمة لذات الرب كما تقدم بيانه(115).
ومن منشأ الخلاف - أيضاً - بين أهل السنة ومخالفيهم في الصفات والأفعال الاختيارية: مسألة المضافات إلى الله سبحانه وتعالى في الكتاب والسنة والتفريق بينها، وأنها ثلاثة أقسام:
القسم الأول: إضافة الصفة إلى الموصوف فهي: إما إضافة اسمية، كقوله - تعالى -: { وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة: 255] ، وقوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58] .
وإما بصيغة الفعل كقوله تعالى: { )عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ } [البقرة: 187] ، وقوله: { عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَأُوا} [المزمل: 20] .
القسم الثاني: إضافة المخلوقات والأعيان: كقوله تعالى: { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ } [الحج: 26] ، وقوله - تعالى -: { نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا } [الشمس: 13] ، وقال تعالى: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ } [الإنسان: 6] .
وهذه الأعيان إذا أضيفت إلى الله - تعالى - فإما أن تضاف بالجهة العامة التي يشترك فيها المخلوق مثل كونها مخلوقة ومملوكة له ومقدرة، ونحو ذلك، فهذه إضافة عامة مشتركة كقوله: { هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لقمان: 11] .
وقد تضاف الأعيان لمعنى يختص بها ليميز به المضاف عن غيره مثل: بيت الله، ناقة الله، عبد الله، روح الله، فمن المعلوم اختصاص ناقة صالح بما تميزت به عن سائر النياق، وكذلك اختصاص الكعبة وهكذا، فإن المخلوقات اشتركت في كونها مخلوقة مملوكة مربوبة لله يجري عليها حكمه وقضاؤه وقدره، وهذه الإضافة لا اختصاص فيها، ولا فضيلة للمضاف على غيره.
وامتاز بعضها بأن الله يحبه ويرضاه ويصطفيه ويقربه إليه، فهذه الإضافة يختص بها بعض المخلوقات كإضافة البيت، والناقة، والروح: مثل قوله تعالى: { وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ } [الأنبياء: 91] .
القسم الثالث: ما فيه معنى الصفة والفعل مثل قوله تعالى: { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء: 164] .
وقوله تعالى: { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [يس: 82] ،
وقوله: { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي } [الكهف: 109] وقوله: { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1] ، وقوله: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ } [النساء: 93] ، وقوله: { فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55] ، وقوله: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} [محمد: 28] ، وقوله: { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً } [الفجر: 22]
ومن الأحاديث قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم في حديث الشفاعة: «إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله»(116) .
وقوله عليه الصلاة والسلام: «يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة»(117) .
والخلاف في الصفات الاختيارية هو في القسم الثالث الذي فيه معنى الصفة والفعل؛ لأن القسم الأول قد اتفق أهل السنة على إثباته وأنه قديم غير مخلوق، خلافاً للجهمية الذين نفوا الصفات جملة.
وأما القسم الثاني فلم يخالف أحد في مخلوقيته.
وأما القسم الثالث: فهو موضع الخلاف ومنشأ النزاع والناس فيه على أقوال:
أحدها: أن الجميع إضافته إضافة ملك، وليس لله حياة قائمة به، ولا علم قائم به، ولا قدرة قائمة به، ولا كلام قائم به، ولا حب، ولا بغض، ولا غضب، ولا رضى، بل جميع ذلك مخلوق من مخلوقاته، وهذا قول المعطلة نفاة الصفات.
ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن أول من ابتدع هذا القول في الإسلام الجهمية، وقد ابتدعوه بعد انقراض عصر الصحابة وأكابر التابعين(118) .
الثاني: أن كل ما يضاف إلى الله هو صفة لله وإن كان بائناً عنه، وقال كثير منهم: إن أرواح بني آدم قديمة أزلية وهي صفة لله، وأن ما يسمعه الناس من أصوات القراء ومداد المصاحف قديم أزلي، وهو صفة لله، وقال بهذا القول الحلولية.
الثالث: أن صفات الله وأفعاله الاختيارية من الغضب والرضى والمحبة والبغض والإرادة وغيرها: إما أن تكون قديمة قائمة بالرب بأعيانها عند من يجوز ذلك وهم الكلابية، وإما مخلوقاً منفصلاً عنه فهو يلحق بأحد القسمين السابقين، فيمتنع أن يقوم به نعت أو حال أو فعل، أو شيء ليس بقديم، ويسمون هذه المسألة (مسألة حلول الحوادث بذاته) (119).
وقال بهذا المعتزلة وبعض الكلابية والأشعرية، وكثير من الحنبلية ومن اتبعهم من الفقهاء والصوفية وغيرهم.
الرابع: أن صفات الله وأفعاله الاختيارية قسم ثالث: فهي ليست من المخلوقات المنفصلة عن الله، وليست بمنزلة الذات والصفات القديمة الواجبة التي لا تتعلق بها مشيئته، لا بأنواعها، ولا بأعيانها، وهذا قول سلف المسلمين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأئمة المسلمين المشهورين بالإمامة، وهو القول الصحيح.
وبهذا التفصيل في مسألة المضاف إلى الله والتفريق بين ما يضاف إلى الله من صفاته، وبين مخلوقاته يتضح لنا صلة هذه المسألة بالخلاف الدائر في صفات الله وأفعاله الاختيارية بين فرق المسلمين، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن المضاف إلى الله في نصوص الكتاب والسنة أصل عظيم ضل فيه كثير من أهل الأرض من أهل الملل كلهم(120) .
ويستدل نفاة الصفات والأفعال الاختيارية بأدلة عقلية(121) منها:
الأول: قولهم: (أن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده، فلو جاز اتصافه بها لم يخل منها، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث). وهذا الدليل مبني على مقدمتين، وفي كل من المقدمتين نزاع معروف بين طوائف المسلمين.
أما الأولى: وهي أن القابل للشيء لا يخلو منه ومن ضده. فأكثر العقلاء على خلافها حتى المتكلمين أنفسهم لم يذكروا لها حجة عقلية صحيحة(122) .
وأما المقدمة الثانية: وهي أن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، فهذه - أيضاً - قد نازع فيها طوائف من أهل الكلام والفلسفة والفقه والحديث والتصوف وغيرهم، وقالوا: التسلسل الممتنع هو التسلسل في العلل، فأما التسلسل في الآثار المتعاقبة والشروط المتعاقبة فلا دليل على بطلانه، فلا يمكن حدوث شيء من الحوادث إلا على هذا الأصل، ومن لم يجوز ذلك لزمه القول بحدوث الحوادث بلا سبب حادث، وذلك يستلزم ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح.
الثاني: هو قولهم: (لو كان قابلاً لها لكان قابلاً لها في الأزل، وذلك فرع إمكان وجودها ووجودها في الأزل محال).
وهذا الدليل أبطلوه هم بالمعارضة بالقدرة: بأنه - سبحانه - قادر على إحداث الحوادث، والقدرة تستدعي إمكان المقدور، ووجود المقدور وهو الحوادث في الأزل محال.
وهذا الدليل باطل من وجوه:
أولاً: أن يقال: وجود الحوادث: إما أن يكون ممتنعاً، وإما أن يكون ممكناً.
فإن كان ممكناً أمكن قبولها والقدرة عليها دائماً، وحينئذٍ فلا يكون وجود جنسها في الأزل ممتنعاً، بل يمكن أن يكون جنسها مقدوراً مقبولاً.
وإن كان ممتنعاً فقد امتنع وجود حوادث لا تتناهى، وحينئذٍ فلا تكون في الأزل ممكنة، لا مقدورة ولا مقبولة، وحينئذٍ فلا يلزم امتناعها بعد ذلك، فإن الحوادث موجودة فلا يجوز أن يقال بدوام امتناعها، وهذا تقسيم حاصر يبين فساد هذا الدليل.
ثانياً: أن يقال: لا ريب أن الله تعالى قادر: فإما أن يقال: إنه لم يزل قادراً. وهذا هو الصواب. وإما أن يقال: بل صار قادراً بعد أن لم يكن.
فإن قيل: لم يزل قادراً، فقال: إذا كان لم يزل قادراً: فإن كان المقدور لم يزل ممكناً أمكن دوام وجود الممكنات، فأمكن دوام وجود الحوادث، وحينئذٍ فلا يمتنع كونه قابلاً لها في الأزل.
ثالثاً: إذا قيل: هو قابل لما في الأزل، فإنما هو قابل لما هو قادر عليه يمكن وجوده، فأما ما يكون ممتنعاً لا يدخل تحت القدرة فهذا ليس بقابل له.
رابعاً: أن يقال هو قادر على حدوث ما هو مباين له من المخلوقات، ومعلوم أن قدرة القادر على فعله القائم به أولى من قدرته على المباين له، وإذا كان الفعل لا مانع منه إلا ما يمنع مثله لوجود المقدور المباين، ثم ثبت أن المقدور المباين هو ممكن وهو قادر عليه، فالفعل أن يكون ممكناً مقدوراً أولى(123) .
الثالث: قولهم: إن قيام الحوادث به تغيّر، والله منزه عن التغير.
والجواب: أن لفظ (التغير) لفظ مجمل، فالتغير في اللغة لا يراد به مجرد كون المحل قامت به الحوادث، فإن الناس لا يقولون للشمس والقمر والكواكب إذا تحركت إنها قد تغيرت، ولا يقولون للإنسان إذا تكلم ومشى إنه تغير، ولا يقولون إذا طاف وصلى، وأمر ونهى، وركب إنه تغير إذا كان ذلك عادته، بل إنما يقولون تغير لمن استحال من صفة إلى صفة، كالشمس إذا زال نورها ظاهراً لا يقال إنها تغيرت، فإذا اصفرت قيل: تغيرت.
وإذا جرى أحد على عادته في أقواله وأفعاله فلا يقال إنه قد تغير، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [الرعد: 11] ، ومعلوم أنهم إذا كانوا على عادتهم الموجودة يقولون ويفعلون ما هو خير لم يكونوا قد غيروا ما بأنفسهم، فإذا انتقلوا عن ذلك فاستبدلوا بقصد الخير قصد الشر، وباعتقاد الحق اعتقاد الباطل قيل: قد غيروا ما بأنفسهم.
وإذا كان هذا معنى التغير: فالرب تعالى لم يزل ولا يزال موصوفاً بصفات الكمال، وكماله من لوازم ذاته، فيمتنع أن يزول عنه شيء من صفات كماله، ويمتنع أن يصير ناقصاً بعد كماله (124).
الرابع: قولهم: حلول الحوادث أفول، والخليل قد قال: {لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام: 76] والآفل هو المتحرك الذي تقوم به الحوادث، والخليل قد نفى محبة من تقوم به الحوادث فلا يكون إلهاً(125) .
وهذا الدليل حجة عليهم لا لهم، ذلك أن الله عزّ وجل قال: { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } [الأنعام: 76 - 78] ، فقد أخبر الله في كتابه أنه حين بزغ الكوكب، والقمر، والشمس إلى حين أفولها لم يقل الخليل: لا أحب البازغين، ولا المتحركين، ولا المتحولين، ولا أحب من تقوم به الحركات ولا الحوادث.
والأفول في اللغة هو المغيب والاحتجاب(126) . وهذا باتفاق العلماء.
ولم يقل إبراهيم: { لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ } [الأنعام: 76] إلا حين أفل وغاب عن الأبصار، وهذا يقتضي أن كونه متحركاً منتقلاً وجسماً تقوم به الحوادث لم يكن دليلاً عند إبراهيم على نفي محبته، ثم إن قول إبراهيم له حين بزغ: { هَـذَا رَبِّي } [الأنعام: 76، 77، 78] ولم ينف عنه الربوبية من حين بزوغه إلى حال أفوله دل ذلك على أنه لم يجعل حركته منافية لذلك، وإنما جعل المنافي الأفول، وإن كان الخليل إنما احتج بالأفول على أنه لا يصلح أن يتخذ رباً يشرك، ويدعى من دون الله، فليس فيه تعرض لأفعال الله تعالى، فقصة الخليل حجة عليهم لا لهم.
وأما قولهم: إن الأفول هو التغير: فإن أريد بالتغير الاستحالة: فالشمس والقمر والكواكب لم تستحل بالمغيب.
وإن أراد به التحرك: فهو لا يزال متحركاً، ولفظ التغير والتحرك مجمل: إن أريد به التحرك أو حلول الحوادث: فليس هو معنى التغير في اللغة، وليس الأفول هو التحرك، ولا التحرك هو التغير، بل الأفول أخص من التحرك، والتغير أخص من التحرك. وبين التغير والأفول عموم وخصوص، فقد يكون الشيء متغيراً غير آفل، وقد يكون آفلاً غير متغير، وقد يكون متحركاً غير متغير، ومتحركاً غير آفل(127) .
وبعد ذلك ذكر شيخ الإسلام أن نفي النفاة للصفات الاختيارية - التي يسمونها حلول الحوادث(128) - ليس لهم دليل عقلي عليه، وأما السمع فلا ريب أنه مملوء بما يناقض هذا القول. وقد احتال متأخروهم حين لم يكن معهم حجة عقلية ولا سمعية، فاحتجوا بما يسمونه بحجة الكمال والنقصان وهي: أن الصفات إن كانت صفات نقص وجب تنزيه الرب عنها، وإن كانت صفات كمال فقد كان فاقداً لها قبل حدوثها، وعدم الكمال نقص، فيلزم أن يكون كان ناقصاً، وتنزيهه عن النقص واجب بالإجماع (129).
وهذه الحجة فاسدة من وجوه:
أحدها: لا نسلم أن عدم هذه الأمور قبل وجودها نقص، بل لو وجدت قبل وجودها لكان نقصاً، مثال ذلك: تكليم الله لموسى عليه السلام ونداؤه له، فنداؤه حين ناداه صفة كمال، ولو ناداه قبل أن يجيء لكان ذلك نقصاً، فكل منها كمال حين وجوده، ليس بكمال قبل وجوده.
الثاني: لا نسلم أن عدم ذلك نقص، فإن ما كان حادثاً امتنع أن يكون قديماً، وما كان ممتنعاً لم يكن عدمه نقصاً، إنما النقص فوات ما يمكن من صفات الكمال.
الثالث: أن هذا يرد في كل ما فعله الرب وخلقه فيقال: إن كان نقصاً فقد اتصف بالنقص، وإن كان كمالاً فقد كان فاقداً له.
فإن قال المخالف: صفات الأفعال عندنا ليست بنقص ولا كمال.
قيل: إذا قلتم ذلك أمكن المنازع أن يقول: هذه الحوادث ليست بنقص ولا كمال.
الرابع: أن يقال: إذا عُرض على العقل الصريح ذاتٌ يمكنها أن تتكلم بقدرتها وتفعل ما تشاء بنفسها، وذات لا يمكنها أن تتكلم بمشيئتها ولا تتصرف بنفسها ألبتة بل هي بمنزلة العاجز الذي لا يمكنه فعل يقوم به باختياره: فإن العقل الصريح يقضي بأن هذه الذات أكمل، وحينئذٍ فأنتم الذين وصفتم الرب بصفة النقص. والكمال باتصافه بهذه الصفات، لا في نفي اتصافه بها.
الخامس: أن يقال: الحوادث التي يمتنع كون كل منها أزلياً، ولا يمكن وجودها إلا شيئاً فشيئاً إذا قيل: أيهما أكمل: أن يقدر على فعلها شيئاً فشيئاً أو لا يقدر على ذلك؟، كان معلوماً بصريح العقل أن القادر على فعلها شيئاً فشيئاً أكمل ممن لا يقدر على ذلك، وهم يقولون: إن الرب لا يقدر على شيء من هذه الأمور، ويقولون: إنه يقدر على أمور مباينة له(130) .


المبحث الثالث
شرح حديث عمران بن حصين رضي الله عنه

حدّث عمران بن حصين(131) رضي الله عنه قال: (دخلت على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعقلت ناقتي بالباب، فأتاه ناسٌ من بني تميم، فقال: اقبلوا البشرى يا بني تميم، قالوا: قد بشرتنا فأعطنا (مرتين)، ثم دخل عليه ناس من أهل اليمن فقال: اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم، قالوا: قد قبلنا يا رسول الله، قالوا: جئناك نسألك عن هذا الأمر، فقال: كان الله ولم يكن شيء قبله، وفي لفظ (غيره) وفي لفظ (معه) وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات والأرض، وفي لفظ: ثم خلق السماوات والأرض، فنادى مناد: ذهبت ناقتك يا ابن حصين، فانطلقت فإذا هي يقطع دونها السراب، فوالله لوددت أني كنت تركتها) (132).
قوله عليه الصلاة والسلام: اقبلوا البشرى: المراد بهذه البشارة أن من أسلم نجا من الخلود في النار، فبشرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما يقتضي دخول الجنة.
قالوا: بشرتنا فأعطنا في هذا دليل إسلامهم حيث بشرهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم، لكنهم طلبوا العاجل من أمر الدنيا على التفقه في الدين وطلب الآخرة، فتغير وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وذكر الحافظ ابن حجر (ت - 852هـ) رحمه الله في الفتح سبب غضب الرسول صلّى الله عليه وسلّم بقوله: (سبب غضبه صلّى الله عليه وسلّم استشعاره بقلة علمهم لكونهم علقوا آمالهم بعاجل الدنيا الفانية، وقدموا ذلك على التفقه في الدين الذي يحصل لهم ثواب الآخرة الباقية)(133) ولذلك كان هذا الإقبال على الدنيا بمنزلة عدم قبول البشرى حيث قال عليه الصلاة والسلام بعد ذلك: إذ لم يقبلها بنو تميم.
ويؤخذ من هذا أنه يجب قبول ما جاء عن الله عزّ وجل أو عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بدون توقف أو استفسار أو طلب للعلة، بيان ذلك من الحديث أن قول بني تميم: قد بشرتنا فأعطنا لا يدل ظاهره على أنهم لم يقبلوها، ومع ذلك جعل طلبهم للعاجل بمنزلة عدم قبول البشرى(134) .
قولهم: نسألك عن أول هذا الأمر ما كان؟ المراد بالأمر هنا: الشيء المشاهد الموجود وهو خلق السماوات والأرض وما بينهما على الصحيح، فالسؤال عن بدء الخلق المشاهد المعهود بـ(أل) العهدية (الأمر).
والأمر يطلق ويراد به المأمور المفعول، ويراد به المصدر والشأن والحكم، والمراد بالأمر في هذا الحديث المعنى الأول(135) .
قوله: كان الله ولم يكن شيء قبله وفي رواية (غيره) وفي رواية (معه):
الحديث روي بهذه الألفاظ الثلاثة فلفظ قبله ولفظ غيره وردا في البخاري، وأما لفظة (معه) فقد بين شيخ الإسلام أن هذه اللفظة ثابتة في الصحيح لكنها ليست في صحيح البخاري(136) ولما كانت الألفاظ المروية ثلاثة، وكانت القصة متحدة بمجلس واحد، وسؤالهم وجوابه كان في المجلس نفسه دل على أن لفظة واحدة هي التي قالها الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وأن لفظتين وقعتا بالمعنى. والراجح أن لفظة (قبله) هي التي قالها الرسول صلّى الله عليه وسلّم لأمور:
الأول: أن أكثر أهل الحديث يروون هذا الحديث بلفظة قبله فيروونه: كان الله ولم يكن شيء قبله. وكثرة رواية الحفاظ والأئمة لهذه اللفظة مرجح لها على غيرها.
الثاني: أن لفظ (القبل) هو الموافق للنصوص الأخرى مثل قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم في دعائه: (أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء)(137) .
قوله: كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء: هذه الجمل الثلاث ورد الوصل بينها بالواو، ثم جاءت الجملة الرابعة موصولة بما قبلها بثم وهي (ثم خلق السماوات والأرض)، وهذا يدل على أن الحديث ليس مقصوده بيان أول المخلوقات؛ لأن الواو لا تفيد الترتيب على الصحيح. لكن المقصود هو إجابة أهل اليمن عن أول خلق السماوات والأرض، فجاء بثم التي تفيد الترتيب والتراخي ليبين أن خلق السماوات والأرض لم يكن هو أول مخلوقات الله، فقد سبقه مخلوقات لله سبحانه وتعالى والله أعلم(138) .
وقوله: كان الله: أي فيما مضى من الزمان وهي تنبئ - هنا - عن الأزلية، والأزل ليس وقتاً بعينه مثل قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} [الأحزاب: 40] .
وقوله: وكان عرشه على الماء معناه: أنه خلق الماء سابقاً ثم خلق العرش على الماء، فوقت خلق السماوات والأرض كان عرشه على الماء، وتبين الأحاديث الأخرى أن القلم خلق بعد العرش، ثم خلق السماوات والأرض وما فيهن(139) ، ومطلق قوله: (وكان عرشه على الماء) يقيد بقوله: (ولم يكن شيء قبله) والمراد بكان في الأول: الأزلية، وفي الثاني: الحدوث بعد العدم(140) .
قوله: كتب في الذكر: يعني اللوح المحفوظ كما قال سبحانه: { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ } [الأنبياء: 105] أي من بعد اللوح المحفوظ(140) .
وأضيفت الكتابة إلى الله تعالى، ولا يلزم أنه - سبحانه - هو الذي يباشر الكتابة بنفسه بل يجوز أن يأمر بذلك ما يشاء، ودليل ذلك حديث عبادة بن الصامت (ت - 34هـ) رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة»(141) فالمأمور بالكتابة في هذا الحديث هو القلم وهو من مخلوقات الله .
ولفظة (كل شيء) أي: من الكائنات، وهي تعم كل موضع بحسب ما سيقت له، كما في قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } [الرعد: 16] وقوله: { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ } [الأحقاف: 25] ، وقوله: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } [النمل: 23] .
قوله: فإذا هي يُقطع دونها السراب: أي يحول بيني وبينها السراب، والسراب هو: ما يُرى نهاراً في الفلاة كأنه ماء(142) ، وهذا كناية عن بُعدها.
قوله: فوالله لوددت أني كنت تركتها: وفي رواية (لوددت أنها قد ذهبت ولم أقم). قال ابن حجر (ت - 852هـ) رحمه الله (الود المذكور تسلط على مجموع ذهابها وعدم قيامه لا على أحدهما فقط؛ لأن ذهابها كان قد تحقق بانفلاتها، والمراد بالذهاب: الفقد الكلي)(143) .
فكانت رغبته في بقائه في مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتعلم العلم والإيمان، ولا يفوته آخر الحديث، فهو تأسف على أنه قد فاته آخر حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفي هذا بيان حرص الصحابة - رضوان الله عليهم - على تحصيل العلم، والبحث عن الخير.
وقد بحث ابن حجر (ت - 852هـ) رحمه الله عن تتمة الحديث التي تأسف عليها عمران بن حصين (ت - 52هـ) رضي الله عنه فقال: (وقد كنت كثير التطلب لتحصيل ما ظن عمران أنه فاته من هذه القصة إلى أن وقفت على قصة نافع بن زيد الحميري(144) فقوي في ظني أنه لم يفته شيء من هذه القصة بخصوصها، لخلو قصة نافع بن زيد رضي الله عنه عن قدر زائد على حديث عمران) (145) وقد نبه ابن تيمية رحمه الله إلى أن بعض الناس يزيد في آخر الحديث قوله: (وهو الآن على ما عليه كان) وينسبون هذه الجملة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبين أن هذا كذب مفترى على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد اتفق أهل العلم بالحديث على أن هذه الزيادة كذب موضوع مختلق، وليس هو في شيء من دواوين الحديث، لا كبارها ولا صغارها، ولا رواه أحد من أهل العلم بإسناد لا صحيح ولا ضعيف، ولا بإسناد مجهول، وإنما تكلم بهذه الكلمة بعض متأخري الجهمية، فتلقاها منهم أهل وحدة الوجود الذين يقولون: وجوده عين وجود المخلوقات(246).
وصلة حديث عمران بن حصين (ت - 52هـ) رضي الله عنه بموضوع إمكان حوادث لا أول لها: أن المتكلمين الذين يرون امتناع دوام الحوادث في الماضي استدلوا بهذا الحديث ظناً منهم أن سؤال أهل اليمن وجواب الرسول صلّى الله عليه وسلّم لهم إنما كان عن بدء المخلوقات كلها، لا عن بدء خلق السماوات والأرض، فمقصود الحديث عندهم هو إخبار الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن الله كان موجوداً وحده، معطلاً عن الفعل، غير قادر عليه، ثم إنه ابتدأ إحداث جميع أنواع الحوادث، وانتقل الفعل من الامتناع إلى الإمكان بلا سبب، وصار قادراً بعد أن لم يكن بلا سبب(147) .
والذي عليه سلف الأمة ومن وافقهم أن مراد الرسول صلّى الله عليه وسلّم هو الإخبار عن خلق الله لهذا العالم المشهود الذي خلقه في ستة أيام ثم استوى على العرش، كما قال عزّ وجل: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [يونس: 3] .
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص (ت - 65هـ) رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء»(148) ، فأخبر عن تقدير خلق هذا العالم، وأنه قبل أن تخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء.
وقد ناقش ابن تيمية رحمه الله المخالفين الذين يرون أن المقصود في حديث عمران رضي الله عنه (ت - 52هـ) هو الإخبار عن أول المخلوقات مطلقاً بأجوبة عديدة منها:
1 - أن قول أهل اليمن: (جئناك لنسألك عن أول هذا الأمر) إما أن يكون الأمر المشار إليه هذا العالم، أو جنس المخلوقات.
فإن كان المراد: خلق العالم المشاهد فيكون النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أجابهم؛ لأنه أخبرهم عن أول خلق هذا العالم.
وإن كان المراد بالأمر جنس المخلوقات، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يجبهم في الحديث؛ ذلك أنه لم يذكر أول الخلق مطلقاً. بل قال: (كان الله ولا شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السماوات والأرض) فلم يذكر إلا خلق السماوات والأرض، وإذا كان قد أجابهم عن خلق السماوات والأرض ولم يجبهم عن أول الخلق مطلقاً علم أنهم سألوه عما أجابهم. والرسول صلّى الله عليه وسلّم منزه عن أن يجيبهم عما لم يسألوه، ويترك إجابة ما سألوه عنه.
2 - أن قولهم: (هذا الأمر) الإشارة إلى الحاضر المشهود، ولو سألوه عن أول الخلق مطلقاً لما أشاروا إليه بهذا، فإن ذاك لم يشهدوه، فلا يشيرون إليه بهذا، بل لم يعلموه أيضاً، فإن ذاك لا يعلم إلا بخبر الأنبياء، والرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يخبرهم بذلك، فلو كان أخبرهم به لما سألوه عنه، فعلم أن سؤالهم كان عن أول هذا العالم المشهود.
3 - أن الثابت عن المصطفى صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: (كان الله ولم يكن شيء قبله) - كما سبق بيانه - وإذا كان إنما قال هذا اللفظ: فلم يكن فيه تعرض لابتداء الحوادث، ولا لأول مخلوق.
4 - أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السماوات والأرض» . فلم يذكر في الجمل الثلاث الأول ترتيباً، لكنه رتب الجملة الرابعة بـ(ثم) التي تفيد الترتيب والتراخي على ما قبلها من الجمل.
وعليه: فلا يفيد الحديث بيان أول المخلوقات مطلقاً، بل ولا فيه الإخبار بخلق العرش والماء، وإن كان ذلك كله مخلوقاً، لكن القصد هو إخبار أهل اليمن عن بدء خلق السماوات والأرض وما بينهما، وهي المخلوقات التي خلقت في ستة أيام، لا ابتداء ما خلقه الله قبل ذلك.
5 - أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم حين أخبر عن العرش والماء والكتابة: أخبر عن كونها ووجودها، ولم يتعرض لابتداء خلقها، ولما ذكر السماوات والأرض أخبر بما يدل على خلقها، وسواء أكان قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: (وخلق السماوات والأرض) أم (ثم خلق السماوات والأرض) فعلى التقديرين يكون قد أخبر بخلقهما، فلم يكن المقصود الإخبار بخلق العرش ولا الماء، فضلاً عن أن يقصد أن خلق ذلك كان مقارناً لخلق السماوات والأرض.
6 - أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لو كان قال: (ولم يكن شيء معه) فليس فيه ما يدل على ذكر أول المخلوقات وترتيبها، بل المقصود: أنه لا شيء معه من هذا الأمر المسؤول عنه، وهم سألوه عن أول الأمر، وسياق الحديث يدل على أنه أخبرهم بأول هذا العالم الذي خلق في ستة أيام، ولم يخبرهم بما قبل ذلك (149).
7 - أن كثيراً من الناس يجعلون هذا الحديث عمدتهم من جهة السمع في أن الحوادث لها ابتداء وأن جنس الحوادث مسبوق بالعدم، إذ لم يجدوا في الكتاب والسنة ما ينطق به، وجعلوا هذا معنى حدوث العالم الذي هو أول مسائل أصول الدين عندهم، فيبقى أصل الدين الذي هو دين الرسل عندهم، ليس عندهم ما يعلمون به أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قاله، ولا في العقل ما يدل عليه، بل العقل والسمع يدل على خلافه.
ومن كان أصل دينه الذي هو عنده دين الله ورسوله لا يعلم أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم جاء به كان من أضل الناس في دينه.
8 - أن المتكلمين لما اعتقدوا أن هذا هو دين الإسلام أخذوا يحتجون عليه بالحجج العقلية المعروفة لهم.
وعمدتهم التي هي أعظم الحجج مبناها على امتناع حوادث لا أول لها، وبها أثبتوا حدوث كل موصوف بصفة، وسموا ذلك إثباتاً لحدوث الأجسام. فلزمهم على ذلك نفي صفات الرب عزّ وجل وأن الله لا يرى في الآخرة، وأنه ليس فوق العرش، وكان حقيقة قولهم تكذيباً لما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وتسلط أهل العقول من الفلاسفة وغيرهم على تلك الحجج التي لهم فبينوا فسادها.
9 - أن الغلط في فهم معنى هذا الحديث سببه عدم المعرفة بنصوص الكتاب والسنة، بل والمعقول الصريح، فإنه أوقع كثيراً من المتكلمين وأتباعهم في الحيرة والضلال، فإنهم لم يعرفوا إلا قولين: قول الدهرية(150) القائلين بالقدم، وقول الجهمية القائلين بأنه: لم يزل معطلاً عن أن يفعل أو يتكلم بقدرته ومشيئته، ورأوا لوازم كل قول تقتضي فساده وتناقضه، فبقوا حائرين مرتابين جاهلين، وهذه حال من لا يحصى منهم، نسأل الله السلامة.
10 - أن الله تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب لدعوة الخلق إلى عبادته وحده لا شريك له، وذلك يتضمن معرفته لما أبدعه من مخلوقاته، وهي المخلوقات المشهورة الموجودة من السماوات والأرض وما بينهما، فأخبر في الكتاب الذي لم يأت من عنده كتاب أهدى منه بأنه خلق أصول هذه المخلوقات الموجودة المشهودة في ستة أيام ثم استوى على العرش، فهذا إخبار عن العالم الموجود وابتداء خلقه، وأما ما خلقه قبل ذلك شيئاً بعد شيء فهذا بمنزلة ما سيخلقه بعد قيام القيامة، ودخول أهل الجنة وأهل النار منازلهما، وهذا مما لا سبيل للعباد إلى معرفته تفصيلاً.
11 - أن الإقرار بأن الله لم يزل يفعل ما يشاء ويتكلم بما يشاء هو وصف الكمال الذي يليق به - سبحانه - وما سوى ذلك نقص يجب أن ينزه عنه، فإن كونه لم يكن قادراً ثم صار قادراً على الفعل فإنه يقتضي أنه كان ناقصاً فاقداً صفة القدرة التي هي من لوازم ذاته وهذا ممتنع: فإنه إذا لم يكن قادراً ثم صار قادراً فلا بد من أمر جعله قادراً بعد أن لم يكن، فإذا لم يكن هناك إلا العدم المحض امتنع أن يصير قادراً بعد أن لم يكن، وكذلك يمتنع أن يصير عالماً بعد أن لم يكن قبل هذا.
بخلاف الإنسان فإنه كان غير عالم وغير قادر ثم صار عالماً قادراً (151).
وقد ناقش الإمام أحمد (ت - 241هـ) رحمه الله الجهمية بقوله:
(ففي مذهبكم قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم، حتى خلق التكلم، وكذلك بنو آدم كانوا لا يتكلمون حتى خلق الله لهم كلاماً، وقد جمعتم بين كفر وتشبيه، وتعالى الله عن هذه الصفة.
بل نقول: إن الله لم يزل متكلماً إذا شاء، ولا نقول: إنه كان ولا يتكلم حتى خلق الكلام ولا نقول: إنه قد كان لا يعلم، حتى خلق علماً فعلم، ولا نقول: إنه كان ولا قدرة له، حتى خلق لنفسه القدرة، ولا نقول: إنه كان ولا نور له، حتى خلق لنفسه نوراً، ولا نقول: إنه كان ولا عظمة له، حتى خلق لنفسه عظمة.
فقالت الجهمية - لما وصفنا الله بهذه الصفات -: إن زعمتم أن الله ونوره، والله وقدرته، والله وعظمته، فقد قلتم بقول النصارى، حين زعموا أن الله لم يزل ونوره، ولم يزل وقدرته.
قلنا: لا نقول: إن الله لم يزل وقدرته، ولم يزل ونوره، ولكن نقول: لم يزل بقدرته، ونوره، لا متى قدر ولا كيف.
فقالوا: لا تكونوا موحدين أبداً حتى تقولوا: قد كان الله ولا شيء.
فقلنا: نحن نقول: قد كان الله ولا شيء، ولكنا إذا قلنا: إن الله لم يزل بصفاته كلها أليس إنما نصف إلهاً واحداً بجميع صفاته؟)(152) .
ثم ضرب للجهمية مثلاً بالنخلة لها جذع، وكرب، وليف، وسعف، وخوص، وجمّار، واسمها اسم شيء واحد، سميت نخلة بجميع صفاتها، فكذلك الله - وله المثل الأعلى بجميع صفاته - إله واحد.
وقال الإمام الدارمي (ت - 280هـ) رحمه الله:
(والله - تعالى وتقدس اسمه - كل أسمائه سواء. لم يزل كذلك، ولا يزال، لم تحدث له صفة، ولا اسم لم يكن كذلك، كان خالقاً قبل المخلوقين، ورازقاً قبل المرزوقين، وعالماً قبل المعلومين، وسميعاً قبل أن يسمع أصوات المخلوقين، وبصيراً قبل أن يرى أعيانهم مخلوقة)(153) .
والنفاة يزعمون أن الفعل ممتنع في الأزل، والأزل ليس شيئاً محدوداً يقف عنده العقل، بل ما من غاية ينتهي إليها تقدير الفعل إلا والأزل قبل ذلك بلا غاية محدودة.
ويضرب ابن تيمية رحمه الله مثلاً لذلك بأنه لو فرض وجود مدائن أضعاف مدائن الأرض، في كل مدينة من الخردل ما يملؤها، وقدر أنه كلما مضت ألف ألف سنة فنيت خردلة: فني الخردل كله، والأزل لم ينته (154).
فما من وقت يقدر إلا والأزل قبل ذلك؛ لأن الأزل يعني عدم الأولية، فهو ليس شيئاً محدوداً (155).
وما من وقت صدر فيه الفعل بالنسبة إلى الله عزّ وجل إلا وقد كان قبل ذلك ممكناً وإذا كان ممكناً فما الموجب لتخصيص حال الفعل بالخلق دون ما قبل ذلك فيما لا يتناهى؟ (156) .
وبهذا يتضح أن المراد في حديث عمران (ت - 52هـ) رضي الله عنه هو الإخبار عن حدوث العالم المشهود الموجود؛ ولذا فإن أهل السنة يجعلون هذا الحديث من أدلتهم على حدوث العالم، ولهم أدلة أخرى نقلية، وعقلية متعددة:
أما الأدلة النقلية فمنها:
قوله تعالى:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}[هود: 7].
وقال - سبحانه -: { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت: 11، 12] .
والذي عليه سلف الأمة وأئمتها مع أهل الكتاب أن هذا العالم خلقه الله وأحدثه من مادة كانت مخلوقة قبله وهي الدخان والبخار، وقد كان قبل خلق السماوات مخلوقات كالعرش والماء.
وقال الله -سبحانه-:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ }[الروم:33] .
وقال: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الأحقاف: 33] .
وقال: { أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى} [يس: 81].
وأما الأحاديث فمنها قوله صلّى الله عليه وسلّم في خطبته عام حجة الوداع: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» (157) .
وثبت عن عبد الله بن عمرو بن العاص (ت - 65هـ) رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء»(158) .
إضافة إلى حديث عمران بن حصين (ت - 52هـ) رضي الله عنه وحديث القلم الذي مر ذكرهما قبل قليل.
وأما الأدلة العقلية لإثبات حدوث العالم عند أهل السنة فيمكن أن نذكر بعضاً منها:
1 - أن يقال: إن كان حدوث الحوادث بلا سبب حادث جائزاً: أمكن حدوث العالم، وبطل القول بوجوب قدمه.
وإن كان ممتنعاً بطل القول بقدمه لامتناع حدوث الحوادث عن الموجب الأزلي، وبعبارة أخرى: إن كان تسلسل الحوادث ممتنعاً لزم حدوث العالم، وإن كان ممكناً أمكن حدوث كل شيء منه بحادث قبله (159).
2 - أن يقال: إن العالم لو كان قديماً: لكان إما واجباً بنفسه وهذا باطل، فكل جزء من أجزاء العالم مفتقر إلى غيره، والمفتقر إلى غيره لا يكون واجباً بنفسه.
وإما واجباً بغيره: فيكون المقتضي له موجباً بذاته، بمعنى: أنه مستلزم لمقتضاه، سواء كان شاعراً مريداً أم لم يكن، فإن القديم الأزلي إذا قُدِّر أنه معلول مفعول فلا بد له من علة تامة مقتضية له في الأزل، وهذا هو الموجب بذاته.
ولو كان مبدعه موجباً بذاته علة تامة لم يتأخر عنه شيء من معلوله ومقتضاه. والحوادث مشهودة في العالم:فعلم أن فاعله ليس علة تامة، وإذا لم يكن علة تامة لم يكن قديماً.(160)
3 - أن العالم ممكن الوجود، والممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا محدثاً، وأما القديم الذي يمتنع عدمه فلا يقبل العدم(161) .
4 - أن العالم إذا كان تحله الحوادث من غيره دل على أن غيره متصرف فيه قاهر له تحدث فيه الحوادث ولا يمكنه دفعها عن نفسه.
وما كان مقهوراً مع غيره لم يكن موجوداً بنفسه، ولا مستغنياً بنفسه، ولا عزيزاً ولا مستقلاً بنفسه، وما كان كذلك لم يكن إلا مصنوعاً مربوباً فيكون محدثاً (162).
وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله إجماع أهل الملل والأديان على أن كل ما سوى الله فهو مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن (163) .
وذكر أنه قد استقر في فطر الناس أن السماوات مخلوقة مفعولة، وقد أحدثها خالقها بعد أن لم تكن، ولم يخطر بالفطر السليمة أن السماوات والأرض قد خلقتا مع الله أزلاً (164).
وأما المتكلمون فلهم طرق متعددة في إثبات حدوث العالم(165) . إلا أن أقواها عندهم هو دليل حدوث الأجسام، وهو ما سأذكره وأناقشه بشيء من الاختصار - بعد قليل -؛ ذلك أن الأدلة الأخرى قد زيفها أكثر متأخريهم وعقلائهم.
ومما له صلة بحدوث العالم عند المتكلمين مسألة (الجوهر الفرد) التي خاضوا فيها كثيراً في كتبهم المتقدمة، وفي دراساتهم المتأخرة؛ ذلك أن إثبات الجوهر الفرد مرتبط بالقول بتناهي الأجسام، فهو يؤيد قولهم بحدوث العالم حين يردون على الفلاسفة، إذ هذا المصطلح مقابل مصطلح الهيولي والصورة(166) عند الفلاسفة.
وتأتي فكرة الجوهر الفرد في مقابل ما ذهب إليه النظام(167) من القول بإمكان تجزؤ الأجسام إلى ما لا نهاية، مما يؤدي إلى تقرير القول بقدم العالم(168) .
فعلى مذهب المتكلمين أن الله أزلي قديم، وأن العالم مكون من جواهر وأعراض حادثة، وكل ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، ولا بد لهذه الجواهر والأعراض من محدث، وهو الله، والله يخلق هذه الأجزاء، ثم تفنى، ويعيد خلقها... (169).
والجوهر الفرد هو المتحيز الذي لا ينقسم، والجزء الذي لا يتجزأ (170).
والجوهر الفرد أصوله يونانية، وأول من قال به من الإسلاميين أبو الهذيل العلاف (ت - 235هـ) من المعتزلة.
والكلام في الجوهر الفرد مقدماته طويلة، وهي من الكلام المذموم شرعاً، حتى حذّاق النظار، وأذكياء الطوائف حار كثير منهم في مسألة الجوهر الفرد، فتوقفوا فيها تارة، وجزموا أخرى (171).
وإثبات حدوث العالم عن طريق الجوهر الفرد لا حاجة لنا به، ويتضح ذلك من أمور:
1 - أن العلم بحدوث ما يحدث، والاستدلال على ثبوت الصانع ليس مفتقراً إلى أن يُعلم: هل في النطفة جواهر منفردة أو مادة؟ وهل ذلك قديم أو حادث؟. بل مجرد حدوث ما شُهد حدوثه يدل على أن له مُحدثاً، كما يدل حدوث سائر الحوادث على أن لها محدثاً.
2 - أن الشك في حدوث الحيوان والنبات - عندهم - مبني على كونها من الجواهر المفردة أو المادة والصورة، وإمكان قدم الجواهر المفردة أو المادة. ومعلوم أن هذا لو كان صحيحاً، لكان من الدقيق الذي يحتاج إلى بيان، وهم لم يثبتوا ذلك، فذلك موضع اضطراب بين المتكلمين والفلاسفة.
3 - أن حدوث ما يشهد حدوثه من الثمار والزروع والحيوان وغير ذلك أمر مشهود، فإن الإنسان إذا تأمل في خلق الله، وما يخرجه الله من الأرض من الزروع، وما يخرجه من الحيوان من النطفة والبيض أيقن بحدوث هذه الأعيان(172) .
ويبين شيخ الإسلام رحمه الله أن القول بأن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة قول لا يعرف عن أحد من أئمة المسلمين، لا من الصحابة، ولا من التابعين لهم بإحسان، ولا من بعدهم من الأئمة المعروفين (173) .
وذكر مضمون كلام القائلين بالجوهر الفرد وهو: (أن الله لم يخلق منذ خلق الجواهر المفردة شيئاً قائماً بنفسه، لا سماءً، ولا أرضاً، ولا حيواناً، ولا نباتاً، بل إنما يحدث تركيب تلك الجواهر القديمة فيجمعها ويفرقها، والحوادث المتتابعة أعراض قائمة بتلك الجواهر، لا أعيان قائمة بنفسها)(174) ، وقال بعد ذلك: إن (هذا خلاف ما دل عليه السمع والعقل والعيان، ووجود جواهر لا تقبل القسمة منفردة عن الأجسام مما يعلم بطلانه بالعقل والحس، فضلاً عن أن يكون الله تعالى لم يخلق عيناً قائمة بنفسها إلا ذلك)(175) .
وذكر رحمه الله جانباً آخر من جوانب إثبات المتكلمين للجوهر الفرد وهو أن الأجسام لا يستحيل بعضها إلى بعض، بل الجواهر التي كانت مثلاً في الأول، هي بعينها باقية في الثاني، وإنما تغيرت أعراضها، وقال بعد ذلك: (هذا خلاف ما أجمع عليه العلماء - أئمة الدين وغيرهم من العقلاء - من استحالة بعض الأجسام إلى بعض، كاستحالة الإنسان وغيره من الحيوان بالموت تراباً، واستحالة الدم والميتة والخنزير وغيرها من الأجسام النجسة ملحاً أو رماداً، واستحالة العذرات تراباً، واستحالة العصير خمراً، ثم استحالة الخمر خلاً، واستحالة ما يأكله الإنسان ويشربه بولاً ودماً وغائطاً ونحو ذلك) (176).
إن الأجسام إذا صغرت أجزاؤها فإنها تستحيل كما هو موجود في أجزاء الماء إذا تصغّر فإنه يستحيل هواء، فلا يبقى موجود ممتنع من القسمة، بل يقبل القسمة إلى حد ثم يستحيل إذا كان صغيراً، وليس استحالة الأجسام في صغرها محدوداً بحد واحد، بل قد يستحيل الصغير، وله قدر يقبل نوعاً من القسمة، وغيره لا يستحيل حتى يكون أصغر منه(177) .
ودليل حدوث الأجسام عند المتكلمين يقوم على أربع دعاوى:
أ - إثبات الأعراض.
ب - إثبات حدوث الأعراض.
ج - استحالة تعري الأجسام عن الأعراض.
د - ما لا يسبق الحوادث فهو حادث، لاستحالة حوادث لا أول لها، أو: كل ما لا يخلو من الحوادث وهو لا يسبقها فهو إذاً حادث (178).
ويمكن أن يجاب عن دليل حدوث الأجسام عند المتكلمين بأجوبة عديدة منها:
1 - أن الاستدلال بحدوث الأعراض ليس من أصول الدين، ولم يثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دعا الناس إلى الالتزام بها؛ لذا ذم سلف الأمة وأئمتهم الاستدلال به وبغيره مما لم يثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم أعرضوا عنه لطول مقدماته، وللخوف على سالكيه من الشك والارتياب(179) .
2 - أن العقل يعلم بطلان هذا الدليل: يقول ابن تيمية رحمه الله: (انظر في هذا الأصل الذي اتبع فيه متأخروهم لمتقدميهم من إثباتهم حدوث العالم والأجسام بهذه الطريق: هل هي طريقة صحيحة في العقل أم لا؟ وهل هي موافقة للشرع أم لا؟ فاعرضها على الكتاب والميزان، فإن الله تعالى يقول: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } [الحديد: 25] ، فأعرض عما يذكرونه(180) بما ثبت من كتاب الله وسنة رسوله، وما ثبت عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأئمة المسلمين.
وزنه أيضاً بالميزان الصحيحة العادلة العقلية، واستعن على ذلك بما يذكره كل من النظار في هذه الطريقة وأمثالها، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله، ولا تتبع الظن فإنه لا يغني من الحق شيئاً)(181) .
3 - أنه يلزم من هذا الدليل لوازم فاسدة كنفي الصفات عن الله عزّ وجل مطلقاً، أو نفي بعضها، والقول بخلق القرآن، وإنكار العلو، ونفي القدرة على الفعل قبل بدء الخلق - على مذهبهم - والترجيح بلا مرجح وغيرها، وكل هذا خلاف الكتاب والسنة(182) .
4 - أن إثبات المتكلمين حدوث العالم من طريق حدوث الأجسام هو سبب تسلط الفلاسفة عليهم، فحين استدل المتكلمون بالأدلة السمعية والعقلية استدلالاً خاطئاً، تسلط عليهم الفلاسفة لما ظن الفلاسفة أنه ليس في إثبات حدوث العالم أو قدمه إلا قولان: قول المتكلمين، وقولهم، وقد رأوا أن قول المتكلمين باطل، فجعلوا ذلك حجة في تصحيح قولهم، وظنوا أنهم إذا قدحوا في أدلة المتكلمين يكونون قد قدحوا في أدلة الشرع، فالمتكلمون - كما يقول شيخ الإسلام عنهم -: لا للإسلام نصروا، ولا لأعدائه كسروا، بل سلطوا الفلاسفة عليهم، وعلى الإسلام (183).
5 - أن المتكلمين المقرين بهذا الدليل قد اختلفوا في كثير من جزئياته وتفاصيله، فالبعض يقر ببعض المقدمات، والبعض يرد على هذه المقدمات التي يترتب بعضها على بعض .(184)
وذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن طريقة إثبات الصانع التي لا تكون إلا بإثبات حدوث العالم، ولا يكون إثبات حدوث العالم إلا بإثبات حدوث الأجسام هي أساس الكلام الذي اشتهر ذم السلف والأئمة له.
والذامون لهذه الطريقة نوعان:
منهم من يذمها؛ لأنها بدعة في الإسلام، فإنا نعلم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يدع الناس بها ولا الصحابة؛ لأنها طويلة مخطرة كثيرة الممانعات والمعارضات، فصار السالك فيها كراكب البحر عند هيجانه، وهذه طريقة الأشعري (ت - 324هـ) في ذمه لها، فبعد أن بين أن طريقة الرسول صلّى الله عليه وسلّم أوضح من طريقة المتكلمين، بيّن رحمه الله بعض أوجه القصور في دليل المتكلمين إذ يقول عن طريقة المتكلمين إنه: (لا يصح الاستدلال بها إلا بعد رتب كثيرة يطول الخلاف فيها، ويدق الكلام عليها، فمنها ما يحتاج إليه في الاستدلال على وجودها، والمعرفة بفساد شبه المنكرين لها... وليس يحتاج - أرشدكم الله - في الاستدلال بخبر الرسول عليه الصلاة والسلام على ما ذكرناه من المعرفة بالأمر الغائب عن حواسنا إلى مثل ذلك؛ لأن آياته، والأدلة على صدقه محسوسة مشاهدة، قد أزعجت القلوب، وبعثت الخواطر على النظر في صحة ما يدعو إليه)(185) .
وإن كان الأشعري (ت - 324هـ) والخطابي(186) ، والغزالي(187) وغيرهم لا يفصحون ببطلانها.
ومنهم من ذمها؛ لأنها مشتملة على مقدمات باطلة لا تحصل المقصود بل تناقضه(188) .


المبحث الثاني
دعوى أن قول شيخ الإسلام بإمكان حوادث لا أول لها
يستلزم القول بقدم العالم ومناقشتها

المطلب الأول
دعوى أن قول شيخ الإسلام بإمكان حوادث لا أول لها يستلزم القول بقدم العالم

ادعى المناوئون لابن تيمية رحمه الله أنه يقول بقدم العالم بناء على قوله رحمه الله بإمكان حوادث لا أول لها، ظناً منهم أنه ليس في المسألة إلا قولان: قول المتكلمين الذين يرون امتناع حوادث لا أول لها رداً على القائلين بقدم العالم، وقول الفلاسفة الذين يرون قدم العالم، فقال أبو بكر الحصني (ت - 829هـ) في رده على ابن تيمية رحمه الله (مبحث الرد عليه في القول بقدم العالم) (189) .
وقال آخر عن ابن تيمية رحمه الله: (أنه أثبت قدم الزمان) (190).
ويدّعون أن ابن تيمية رحمه الله هو أوّل من قال بإمكان حوادث لا أول لها، كما يقول علي السبكي (ت - 756هـ) : (هذا هو الذي ابتدعه ابن تيمية والتزم به حوادث لا أول لها)(191) . وحين يجدون ابن تيمية رحمه الله يستدل بأقوال السلف، يبدأون بالإجابة عن هذه النصوص واحداً تلو الآخر، ولا يجدون لها مخرجاً، إلا أن يقولوا عن الإمام الدارمي (ت - 280هـ) رحمه الله إنه كان فيما سبق لا يخوض في صفات الله - سبحانه - ويصفون هذه بطريقة السلف، ثم انخدع بالكرامية، وأصبح مجسماً مختل العقل عند تأليفه النقض (192) .
ويزعم المناوئون أن ابن تيمية رحمه الله قد استفاد هذا القول من الفلاسفة، وبالأخص من متأخريهم، قال أحدهم: (اتفقت فرق المسلمين - سوى الكرامية وصنوف المجسمة - على أن الله - سبحانه - منزه من أن تقوم به الحوادث، وأن تحل به الحوادث، وأن يحل في شيء من الحوادث، بل ذلك مما علم من الدين بالضرورة، ودعوى أن الله لم يزل فاعلاً متابعة منه للفلاسفة القائلين بسلب الاختيار عن الله - سبحانه -) (193).
وقال آخر: (ابن تيمية قد أخذ هذه المسألة - أعني قوله بقدم نوع العالم - عن متأخري الفلاسفة؛ لأنه اشتغل بالفلسفة)(194) .
وانتقدوا عليه رحمه الله قوله بقدم النوع، وحدوث الأفراد فقالوا: إنه يقول بـ(القدم النوعي في الكلام، مع أنه لا وجود للكلي إلا في ضمن الأفراد، فلا معنى لوصف النوع بالقدم، بعد الاعتراف بحدوث كل فرد من أفراده) (195).
وقال: (عدم فناء النوع في الأزل بمعنى قدمه، وأين قدم النوع من حدوث أفراده؟ وهذا لا يصدر إلا ممن به مس بخلاف المستقبل) (196).
ويقولون: إنه يرى أن جنس الحوادث أزلي كما أن الله أزلي، أي لم يسبق الله - تعالى – بالوجود (197) .
ولذلك قالوا عنه بأنه يقول بالقدم الجنسي للعرش، أي أن الله لا يزال يعدم عرشاً ويحدث آخر من الأزل إلى الأبد حتى يكون له الاستواء أزلاً وأبداً (198).
قال علي السبكي (ت - 756هـ) في ابن تيمية رحمه الله:
يرى حوادث لا مبدا لأولها ***في الله - سبحانه - عما يظن به(199)
وقد قال ابن حجر العسقلاني (ت - 852هـ) عن مسألة إمكان حوادث لا أول لها: (وهي من مستشنع المسائل المنسوبة لابن تيمية)(200) .
وتتلخص الدعاوى في الآتي:
1 - استشناع القول بإمكان حوادث لا أول لها، وأنه أول من قال بهذا القول.
2 - رد القول بالقدم النوعي، وحدوث الأفراد، وهذه تابعة للتي قبلها.
3 - قولهم بأنه يرى قدم جنس العرش، وهذه تابعة للتي قبلها.
4 - قولهم بأنه موافق للفلاسفة في هذا القول(201) .


المطلب الثاني
مــنـاقـشـة الـدعـوى

الدعاوى الباطلة التي تثار إما أن تكون كذباً من أصلها، بحيث لا يكون في كلام المدعى عليه شيء منها أصلاً، فالإجابة عن هذا سهلة، وهي بأن يقال له: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111] .
وإما أن يكون في كلام المدعى عليه شيء من الدعوى، وأصل لها، لكن يدخل في ذلك:
إما اختلاف المعتقد بين صاحب الدعوى، وبين المدعى عليه، وإما سوء القصد من صاحب الدعوى، وإما سوء الفهم والجهل بقضية الدعوى، وقد تأتي إحدى هذه الاحتمالات منفردة، وقد تكون مجتمعة - أحياناً - وقد وقعت هذه الاحتمالات في هذه الدعوى على ابن تيمية رحمه الله.
فأما استشناع المخالفين لابن تيمية رحمه الله قول ابن تيمية بإمكان حوادث لا أول لها فإنما هو استشناع مذهب السلف الذي أقروا به وقرروه في كتبهم، وهذا ما قرره البحث في هذا الفصل بكل تفاصيله وتشعباته، فلسنا في حاجة إلى إعادة الكلام عنها، إذ بيّن البحث قول السلف في التسلسل وأنه يجوز في الماضي والمستقبل، وأن الله يفعل ما يشاء كما اتضح من كلام الإمام أحمد (ت - 241هـ) رحمه الله، والإمام الدارمي (ت - 280هـ) رحمه الله، وإنما كان بسط شيخ الإسلام رحمه الله هذه المسائل أكثر ممن قبله؛ لكثرة المخالفة، ولاشتباه الحق بالباطل عند كثير من الناس(202) .
ويمكن بيان ما قرره ابن تيمية رحمه الله في هذه المسألة إجمالاً بأنه يرى جواز وإمكان حوادث لا أول لها - وليس بوجوب حوادث لا أول لها - فإن الواجب هو فعل الرب الذي هو صفته، فلم يزل - سبحانه - فعالاً، فالله - سبحانه - لا يزال يفعل - متى شاء كيف شاء، لم يكن الفعل ممتنعاً عليه فعله حتى فعله، بل كان ولا زال قادراً على الفعل، وأنه لا دليل للمتكلمين على التفريق بين جواز دوام الحوادث في المستقبل، وفي الماضي، وأن الله قد أخبرنا عن بعض المخلوقات الموجودة قبل خلق السماوات والأرض وما بينهما، لكنه لم يخبرنا عن وقت خلقها، ولم يخبرنا هل هي أول المخلوقات أم لا؟، لأن ما خلقه الله قبل خلق السماوات والأرض شيئاً بعد شيء إنما هو بمنزلة ما سيخلق بعد قيام القيامة، ودخول أهل الجنة، وأهل النار منازلهما وهذا مما لا سبيل للعباد إلى معرفته تفصيلاً.
وأما استشناع ابن حجر (ت - 852هـ) رحمه الله كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فلأنه رحمه الله لم يكن متخصصاً في دقائق المسائل العقدية، فقد كان جل اشتغاله بعلم الحديث وعلم الرجال، وإلا فإن هذا هو مذهب أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة والأشعرية من أهل البدع القائلين بامتناع حوادث لا أول لها والله أعلم (203).
وأما قصيدة السبكي (ت - 756هـ) التي نقم فيها على ابن تيمية رحمه الله أنه يرى جواز حوادث لا أول لها، فقد عارضه يوسف السرمري(204) بقصيدة طويلة ذكر فيها مؤاخذات السبكي على ابن تيمية في قصيدته، ورد عليها واحدة واحدة، فكان رده على مسألة إمكان حوادث لا أول لها قوله:

أما حوادث لا مبدا لأولها *** فذاك من أغرب المحكي وأعجبه
قصّرت في الفهم فاقصر في الكلام فما *** ذا عشك ادرج فما صقر كعنظبه(205)
لو قلت قال كذا ثم الجواب كذا *** لبان مخطئ قول من مصوِّبه(206)
أجملت قولاً فأجملت الجواب ولو *** فصلتَ فصلتُ تبياناً لأغربه
إن قلت كان ولا علم لديه ولا *** كلام لا قدرة أصلاً كفرت به
أو قلت أحدثها بعد استحالتها ***في حقه سَمْتُ نقصٍ ما احتججتَ به
وكيف يوجدها بعد استحالتها *** فيه أيقدر ميت رفع منكبه
أو قلت فعل اختيار منه ممتنع *** ضاهيت قول امرئ مغوِ بأنصبه (207)
ولم يزل بصفات الفعل متصفا *** وبالكلام بعيداً في تقربه
سبحانه لم يزل ما شاء يفعله *** في كل ما زمن مامن معقبه
نوع الكلام كذا نوع الفعال قديـ *** ـم لا المعيّن منه في ترتبه
وليس يفهم ذو عقل مقارنة الـ *** ـمفعول مع فاعل في نفس منصبه
يحب يبغض يرضى ثم يغضب ذا *** من وصفه، أرضِهِ بُعداً لمغضبه
والخلق ليس هو المخلوق تحسبه *** بل مصدر قائم بالنفس فادر به
وقول كن ليس بالشيء المكوَّن والصـ *** ـغير يعرف هذا مع تلعبه
فالمصطفى قال كان الله قبل ولا *** شيء سواه تعالى في تحجبه(208)
وقد عارضت قصيدة السبكي (ت - 756هـ) قصيدة أخرى(209) جاء فيها:
وخالق قبل مخلوق يكوّنه *** وقاهر قبل مقهور يكون به
وراحم قبل مرحوم فيرحمه *** ورازق قبل مرزوق بأضربه
عن أمره صدر المخلوق أجمعه ***والأمر ويحك لا شك يقوم به
وقد تكلم رب العرش بالكتب الـ *** ـمنزلات كلاماً لا شبيه به
ولم يزل فاعلاً أو قائلاً أزلاً *** إذا يشاء هذا الحق فارض به
هذي حوادث لا مبدا لأولها *** بالنص فافهمه يا نومان وانتبه
إذ هي صفات لموصوف تقوم به *** قديمة مثله من غير ما شُبه
ومذهب القوم مروها كما وردت *** من غير شائبة التكييف والشبه (210)

وأما دعوى قول شيخ الإسلام بقدم النوع، وأن هذا يستلزم القول بقدم العالم، فيحتاج المجيب عن هذه الدعوى إلى بسط قول شيخ الإسلام حول هذه المسألة، ليُعرف هل قوله يستلزم ما ألزموه أم لا؟
إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يرى أهمية مسألة التفريق بين دوام النوع، وحدوث الأفراد والأعيان، وبيّن أن من اهتدى إلى الفرق بين النوع والعين تبين له فصل الخطأ من الصواب في مسألة الأفعال، ومسألة الكلام والخطاب، وكشف له الحجاب عن الصواب في هذا الباب، الذي اضطرب فيه أولوا الألباب، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم(211) .
وبين رحمه الله أن التفريق بين النوع والعين هو الذي نطق به الكتاب والسنة والآثار، وأن الرب أوجد كل حادث بعد أن لم يكن موجداً له، وأن كل ما سواه فهو حادث بعد أن لم يكن حادثاً، ولا يلزم أن يكون نفس كماله الذي يستحق متجدداً، بل لم يزل عالماً قادراً مالكاً غفوراً متكلماً كما شاء، كما نطق بهذه الألفاظ ونحوها الإمام أحمد (ت - 241هـ) وغيره من أئمة السلف(212) . وذكر أن أكثر أهل الحديث ومن وافقهم لا يجعلون النوع حادثاً، بل قديماً، ويفرقون بين حدوث النوع، وحدوث الفرد من أفراده، كما يفرق جمهور العقلاء بين دوام النوع ودوام الواحد من أعيانه، فإن نعيم أهل الجنة يدوم نوعه، ولا يدوم كل واحد من الأعيان الفانية.
ومن الأعيان الحادثة ما لا يفنى بعد حدوثه كأرواح الآدميين، فإنها مبدعة، كانت بعد أن لم تكن، ومع هذا فهي باقية دائمة (213).
والقول بقدم النوع لا ينفيه شرع ولا عقل، بل هو من لوازم كماله، كما قال - سبحانه - { أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل: 17] . والخلق لا يزالون معه، وليس في كونهم لا يزالون معه في المستقبل ما ينافي كماله، والعقل يفرق بين كون الفاعل يفعل شيئاً بعد شيء دائماً، وبين آحاد الفعل والكلام، فيقول: كل واحد من أفعاله لا بد أن يكون مسبوقاً بالفاعل وأن يكون مسبوقاً بالعدم، ويمتنع كون الفعل المعين مع الفاعل أزلاً وأبداً.
وأما كون الفاعل لم يزل يفعل فعلاً بعد فعل فهذا من كمال الفاعل(214) ، والحادث إذا حدث بعد أن لم يكن محدثاً، فلا بد أن يكون ممكناً، والإمكان ليس له وقت محدود، فما من وقت يُقدر إلا والإمكان ثابت قبله، فليس لإمكان الفعل وجواز ذلك وصحته مبدأ ينتهي إليه، فيجب أنه لم يزل الفعل ممكناً جائزاً صحيحاً، فيلزم أنه لم يزل الرب قادراً عليه، فيلزم جواز حوادث لا نهاية لأولها(215) . ولا يلزم من دوام النوع دوام كل واحد من أعيانه وأشخاصه، ولذلك يفرق ابن تيمية رحمه الله بين فعل الحوادث في الأزل، وبين كونه لا يزال يفعل الحوادث.
فإن الأول يقتضي أن فعلاً قديماً معه فعل به الحوادث من غير تجدد شيء.
والثاني يقتضي أنه لم يزل يفعلها شيئاً بعد شيء: فهذا يقتضي قدم نوع الفعل ودوامه، وذاك يقتضي قدم فعل معين(216) .
إن قول ابن تيمية رحمه الله بقدم النوع، لا يعني مشاركة الخالق - سبحانه - في القدم، بل كل فعل فهو مسبوق بالعدم، وهو مسبوق بفاعله - أيضاً - كما قال رحمه الله:
(قولكم: الحادث - من حيث هو - يقتضي أنه مسبوق بغيره، أو الحركة من حيث هي، تقتضي أن تكون مسبوقة بالغير.
يقال لكم: الحادث المطلق لا وجود له إلا في الذهن لا في الخارج(217) ، وإنما في الخارج موجودات متعاقبة، ليست مجتمعة في وقت واحد، كما تجتمع الممكنات والمحدثات المحدودة، والموجودات والمعدومات، فليس في الخارج إلا حادث بعد حادث، فالحكم: إما على كل فرد فرد، وإما على جملة محصورة، وإما على الجنس الدائم المتعاقب.
فيقال لكم: أتريدون بذلك أن كل حادث فلا بد أن يكون مسبوقاً بغيره، أو أن الحوادث المحدودة لا بد أن تكون مسبوقة، أو أن الجنس لا بد أن يكون مسبوقاً؟
أما الأول والثاني فلا نزاع فيهما، وأما الثالث فيقال: أتريدون به أن الجنس مسبوق بعدم، أم مسبوق بفاعله، بمعنى أن لا بد له من محدث؟
الثاني: مسلّم، والأول محل النزاع)(218) .
فقوله رحمه الله الثاني مسلّم: أي جنس الحوادث مسبوق بفاعله.
وقال رحمه الله: (كل واحد من أفعاله لا بد أن يكون مسبوقاً بالفاعل، وأن يكون مسبوقاً بالعدم، ويمتنع كون الفعل المعين مع الفاعل أزلاً وأبداً... فالفاعل يتقدم على كل فعل من أفعاله، وذلك يوجب أن كل ما سواه محدث مخلوق)(219) .
وحين يناقش المتكلمين الذين يفرقون بين الماضي والمستقبل، يبين رحمه الله أن لا فرق بينهما، فالحوادث الماضية عدمت بعد وجودها، فهي الآن معدومة، كما أن الحوادث المستقبلة الآن معدومة، فلا هذا موجود، ولا هذا موجود الآن، فكلاهما له وجود في غير هذا الوقت، ذاك في الماضي وهذا في المستقبل، وكون الشيء ماضياً أو مستقبلاً أمر نسبي(220) ، وناقشهم في رأيهم بأن إمكان جنس الحوادث له بداية، بأنهم إذا أقروا بأن جنس الحوادث ممكن بعد أن لم يكن ممكناً، فهذا دليل على ضعف حجتهم؛ لأن الإمكان ليس له وقت معين، بل ما من وقت يفرض إلا والإمكان ثابت قبله، فيلزم دوام الإمكان، وإلا لزم انقلاب الجنس من الإمكان إلى الامتناع من غير حدوث شيء، ولا تجدد شيء، وهذا ممتنع في صريح العقل(221).
وأما اشتراطهم على دوام إمكان جنس الفعل والحوادث بكونها مسبوقة بالعدم، فهذا يتضمن الجمع بين النقيضين؛ لأن كون هذا لم يزل، يقتضي أنه لا بداية لإمكانه، وأن إمكانه قديم أزلي. وكونه مسبوقاً بالعدم يقتضي أن له بداية، وأنه ليس بقديم أزلي، فصار مضمون كلامهم: أن ماله بداية ليس له بداية، فإن المشروط بسبق العدم له بداية، وإن قدر أنه لا بداية له كان جمعاً بين النقيضين(222) .
وفي مقابل رأي المتكلمين الذين يرون حدوث النوع وحدوث الأفراد، فقد ناقش ابن تيمية رحمه الله رأي الفلاسفة الذين يرون قدم النوع وقدم الأعيان والأفراد: فذكر أولاً سبب قولهم وهو: أنهم لما اعتقدوا أن الفاعل يمتنع أن يصير فاعلاً بعد أن لم يكن، ويمتنع أن يحدث حادثاً لا في وقت، وأن الوقت يمتنع في العدم المحض ظنوا أنه يلزم قدم عين المفعول، فالتزموا مفعولاً قديماً أزلياً لفاعل، وذكر أن هذا القول باطل(223) ، فليس شيء من أعيان الآثار قديماً، لا الفلك، ولا غيره، ولا ما يسمى عقولاً ولا نفوساً ولا غير ذلك، كما أنه ليس هو في وقت بعينه مؤثراً في مجموع الحوادث. بل التأثير الدائم الذي يكون شيئاً بعد شيء، وهذا من لوازم ذاته، فيكون مؤثراً في حادث بعد حادث، وفي وقت بعد وقت(224) .
وبعد مناقشاته رحمه الله المتكلمين والفلاسفة بيّن منشأ غلط الطائفتين، في عدم تفريقها بين قدم النوع، وحدوث الأفراد، وأن هذا راجع إلى غلطهم في الحركة والحدوث ومسمى ذلك فقال:
(ومما يعرف به منشأ غلط هاتين الطائفتين غلطهم في الحركة والحدوث ومسمى ذلك. فطائفة - كأرسطو وأتباعه - قالت: لا يعقل أن يكون جنس الحركة والزمان والحوادث حادثاً، وأن يكون مبدأ كل حركة وحادث صار فاعلاً لذلك بعد أن لم يكن، وأن يكون الزمان حادثاً بعد أن لم يكن حادثاً... فضلوا ضلالاً مبيناً مخالفاً لصريح المنقول المتواتر عن الأنبياء صلى الله عليهم وسلم، مع مخالفته لصريح المعقول.
وطائفة ظنوا أنه لا يمكن أن يكون جنس الحركة والحوادث والفعل إلا بعد أن لم يكن شيء من ذلك، أو أنه يجب أن يكون لا على الجميع لم يزل معطلاً، ثم حدثت الحوادث بلا سبب أصلاً)(225) .
وذكر أن القول الأخير لم ينقل عن الأنبياء ولا عن أصحابهم، وهو - أيضاً - يخالف صريح العقل (226) .
وبعد هذا: تبين واتضح أن شيخ الإسلام لا يقول بقدم العالم ولا بقدم شيء منه، وأن كل فعل فهو مسبوق بفاعله.
ومن ظن أن القول بقدم النوع يستلزم القول بقدم العالم، فإن هذا الظن راجع إلى أن هذا لم يعلم في المسألة إلا قولين: قول الفلاسفة القائلين بقدم العالم إما صورته وإما مادته.. وقول من رد على هؤلاء من أهل الكلام.. الذين يقولون: إن الرب لم يزل لا يفعل شيئاً ثم أحدث الفعل بلا سبب أصلاً (227).
فالقول بقدم النوع لا يستلزم القول بقدم العالم(228) ، ولذلك فإن شيخ الإسلام ابن تيمة رحمه الله يقرر حدوث العالم في مواضع متعددة:
فقال رحمه الله: (وأما أهل الملل وأئمة الفلاسفة وجماهيرهم فيقولون: إن كل ما سوى الله مخلوق كائن بعد أن لم يكن، وأن ما قامت به الحوادث من الممكنات فهو مخلوق محدث) (229)
وقال: (كل ما سوى الرب حادث كائن بعد أن لم يكن، وهو - سبحانه - المختص بالقدم والأزلية، فليس في مفعولاته قديم، وإن قدر أنه لم يزل فاعلاً، وليس معه شيء قديم بقدمه، بل ليس في المفعولات قديم ألبته، بل لا قديم إلا هو - سبحانه - وهو وحده الخالق لكل ما سواه، وكل ما سواه مخلوق كما قال - سبحانه - { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } [الزمر: 62] ) (230).
وقال رحمه الله (اتفق سلف الأمة وأئمتها مع أئمة أهل الكتاب: أن هذا العالم خلقه الله وأحدثه من مادة كانت مخلوقة قبله... كل ما سوى الله مخلوق، حادث، كائن بعد أن لم يكن، وأن الله وحده هو القديم الأزلي، ليس معه شيء قديم تقدمه، بل كل ما سواه كائن بعد أن لم يكن، فهو المختص بالقدم، كما اختص بالخلق والإبداع والإلهية والربوبية، وكل ما سواه محدث مخلوق مربوب عبد له)(231) .
وبهذا يتبين أن شيخ الإسلام يقرر حدوث العالم، وأن قدم النوع لا يستلزم قدم العالم، ما دام الفعل مسبوقاً بفاعله، كما عليه السلف والأئمة.
ويتبع القول بقدم النوع: ما افتراه المناوئون لابن تيمية أن يقول بقدم جنس العرش، وأنه لا زال يخلق عرشاً ويفني آخر، وهذا ادعاء لا أساس له من كلام شيخ الإسلام رحمه الله(232).
بل المنقول عنه أن كل ما في العالم فهو محدث مخلوق، وليس مع الله قديم من مخلوقاته - كما تقدم بيانه قريباً -.
ولا يزال ابن تيمية رحمه الله يقرر هذه المسألة بعد أخرى، حتى لا يفهم منه أنه يقول بقدم شيء من العالم لا العرش ولا غيره.
وتحدث عن العرش - في مواضع متعددة - مبيناً أنه مخلوق بعد أن لم يكن، وأنه ليس بقديم، ومن هذا قوله رحمه الله:
(في الآثار المنقولة عن الأنبياء أنه كان موجوداً قبل خلق هذا العالم أرض وماء وهواء، وتلك الأجسام خلقها الله من أجسام أخر، فإن العرش - أيضاً - مخلوق، كما أخبرتنا بذلك النصوص، واتفق على ذلك المسلمون) .
ففي هذا النص يصرح ابن تيمية رحمه الله أن العرش مخلوق محدث بعد أن لم يكن، ويقرر أن هذا هو ما أخبرت به النصوص، واتفق عليه المسلمون(233).
وقال في شرح حديث عمران بن حصين (ت - 52هـ) رضي الله عنه عن الحديث إنه: (لم يذكر خلق العرش، مع أن العرش مخلوق أيضاً، فإنه يقول: {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129] ، وهو خالق كل شيء: العرش وغيره، ورب كل شيء: العرش وغيره) (234).
وقال عن الحديث - أيضاً -: (ليس في هذا ذكر أول المخلوقات مطلقاً، بل ولا فيه الإخبار بخلق العرش والماء، وإن كان ذلك كله مخلوقاً كما أخبر به في مواضع أخر)(235) .
وعلى هذا (فليس مع الله شيء من مفعولاته قديم معه، لا بل هو خالق كل شيء، وكل ما سواه مخلوق له، وكل مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن) (236) .
وأما القول بأن ابن تيمية يرى أن العرش أول المخلوقات فهذا غير صحيح، فترجيح ابن تيمية رحمه الله كون العرش خلق قبل القلم، لا يعني أنه أول المخلوقات، ولم يتعرض لذلك ابن تيمية رحمه الله لا من قريب ولا من بعيد، بل كان كثيراً ما ينبه إلى أن النصوص لم تصرح ولم تدل على إثبات أول المخلوقات، فقال رحمه الله: (وأما في حديث عمران فلم يخبر بخلقه - أي العرش -، بل أخبر بخلق السماوات والأرض، فعلم أنه أخبرنا بأول خلق هذا العالم، لا بأول الخلق مطلقاً) (237).
وقال: (وإذا كان إنما قال: (كان الله ولم يكن شيء قبله) لم يكن في هذا اللفظ تعرض لابتداء الحوادث، ولا لأول مخلوق)(238) .
وقال عن حديث عمران (ت - 52هـ):(وليس في هذا ذكر أول المخلوقات مطلقاً)(239).
وقال عن الحديث السابق: (إن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يقصد الإخبار بوجود الله وحده قبل كل شيء، وبابتداء المخلوقات بعد ذلك) (240).

وأما الزعم بأن مذهب ابن تيمية رحمه الله في قدم النوع موافق لرأي الفلاسفة، فهذا غير صحيح من وجهين:
الوجه الأول: أن شيخ الإسلام رحمه الله وافق السلف في إثبات الصفات، وأن الله يفعل ما يشاء متى شاء، وكيف شاء سبحانه وتعالى.
وأما الفلاسفة فهم وإن أثبتوا دوام الفاعلية للرب لا عن اختيار ومشيئة، وأثبتوا وجود الله، فهم في الحقيقة معطلة لا يؤمنون بصفات الله عزّ وجل ولا بأسمائه، وقالوا: إن المخلوقات لازمة لله أزلاً وأبداً.
الوجه الثاني: أن لازم مذهب الفلاسفة في قدم النوع، وقدم العين والفرد، هو التعطيل عن الفعل، إذ على قولهم: لم يزل الفلك مقارناً له أزلاً وأبداً فيمتنع أن يكون شيء مفعولاً له؛ لأن الفاعل لا بد أن يتقدم على فعله.
فهم عطلوا الرب عن الفاعلية التي هي أظهر صفات الرب - تعالى - ولهذا وقع الإخبار بها في أول ما نزل على الرسول صلّى الله عليه وسلّم: { قْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1- 5] فالخلق يتضمن فعل الله، وخلق الإنسان يعني خلق الله الأشياء شيئاً بعد شيء.
والتعليم يتضمن قول الله وتعليم الإنسان يعني دوام هذه الصفة وتكرارها شيئاً بعد شيء، كما قال تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } [النساء: 113] ، وقال: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ } [آل عمران: 61] ، وقال: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه: 114] ، وقال: { الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } [الرحمن: 1 - 5] .
وترتب على هذا قول الفلاسفة بعدم علم الله بالجزئيات، وعلم الله إنما هو بالكليات، والكليات أمر ذهني لا وجود له في الخارج، وإذا لم يعلم شيئاً من الجزئيات لم يعلم شيئاً من الموجودات، فامتنع أن يعلّم غيره شيئاً من العلم بالموجودات المعينة؛ لأن من لا يعلم شيئاً يمتنع أن يعلم غيره (241).
ويرى ابن تيمية أن قول الفلاسفة أردأ الأقوال في المسألة، ويفضل قول المتكلمين على قول الفلاسفة، فالمتكلمون أقرب إلى الإسلام والسنة من الفلاسفة، وإن كانوا ضالين فيما خالفوا به السنة، وذلك من وجوه:
أحدها: أن يقول المتكلمون للمتفلسفة: أنتم ادعيتم قدم العالم، بناء على قدم الزمان - عندكم -، ووجوب دوام فاعلية الرب، ونحو ذلك، مما غايتكم فيه إثبات دوام الحوادث، إذ ليس في حججكم هذه وأمثالها ما يدل على قدم شيء من العالم لا السماوات التي أخبرنا الله أنه خلقها والأرض وما بينهما في ستة أيام، ولا غير ذلك.
الثاني: أن يقال: دوام فاعلية الرب - تعالى - ودوام الحوادث، يمكن معه أن تدوم الأفعال التي تقوم بالرب بمشيئته وقدرته، وتحدث شيئاً بعد شيء، وأن تحدث حوادث منفصلة شيئاً بعد شيء، وعلى كل من التقديرين فلا يكون شيء من العالم قديماً.
الثالث: أن يقال للفلاسفة: ما ذكرتموه من الأدلة العقلية الموجبة لدوام فاعلية الرب ودوام الحوادث يدل على نقيض قولكم لا على وفقه، فإن هذا يقتضي أن واجب الوجود لم يزل يفعل ويحدث الحوادث، وأنتم على قولكم يلزم ألا يكون أحدث شيئاً من الحوادث(242).
وقد رد شيخ الإسلام رحمه الله على القائلين بقدم العالم، وأطال النفس في ذلك. وبين أن جماهير العقلاء، وأهل الملل كلهم، وجمهور من سواهم من المجوس(243) ، وأصناف المشركين، وجماهير أساطين الفلاسفة لا يقولون بقدم العالم، وهم معترفون بأن هذا العالم محدث كائن بعد أن لم يكن، وأن هذا العالم كله مخلوق والله خالقه وربه(244) .
وذكر أن الفلاسفة الأوائل كانوا مقرين بحدوث العالم، وأن أول من اشتهر عنه القول بقدم العالم هو أرسطو (ت - 322ق.م)(245) .
وليس مع الفلاسفة دليل على قدم العالم، أو قدم شيء منه، وعامة حججهم إنما تدل على قدم نوع الفعل، وليس في شيء من أدلتهم ما يدل على قدم الفلك، أو شيء من حركاته، ولا قدم الزمان الذي هو مقدار حركة الفلك(246) .
وكل ما يحتج به الفلاسفة في إثبات قدم العالم فإنه يلزم من القول به من المحذور أعظم مما فرّ منه، ويدل على نقيض ما يقصد، حتى يؤول الأمر إلى أن يعترف المبطل ببطلان قوله، وبطلان كل ما يدل على قوله، أو ينكر الوجود بالكلية. وقد قال الله تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً } [الفرقان: 33] (247).
ولازم القول بقدم العالم هو التسلسل في المؤثرات وهذا مما اتفق على بطلانه حتى الفلاسفة أنفسهم، ويلزم أيضاً من القول بقدم العالم أن يكون الفاعل مستلزماً لمفعوله، لا يجوز أن يتراخى عنه مفعوله. فإن الفاعل لا يخلو من ثلاثة أقسام: إما أن يجب اقتران مفعوله به.
وإما أن يجب تأخر مفعوله عنه.
وإما أن يجوز فيه الأمران.
فلو كان العالم قديماً لم يجز أن يكون فاعله ممن يجب أن يتراخى عنه مفعوله؛ لأن ذلك جمع بين النقيضين: كيف يكون مفعوله قديماً أزلياً، ويكون متأخراً عنه حادثاً بعد أن لم يكن؟
وأما الاحتمال الثالث وهو جواز الأمرين فهو باطل؛ لأنه يجعل وجود المفعول ممكنا، والممكن لا يترجح أحد طرفيه إلا بمرجح، والقول في المرجح كالقول في غيره إذ لا يخلو من الأقسام الثلاثة المذكورة.
فتبين أن العالم لو كان قديماً للزم أن يكون مبدعه مستلزماً له، ووجود المؤثر التام في الأزل ممتنع، ذلك أن أثره إن كان خالياً من الحوادث لزم أن لا يكون في العالم شيء من الحوادث، وهذا خلاف الحس.

وأما إن كان أثره متضمناً للحوادث، فهذا ممتنع؛ لأنه يلزم منه صدور ما فيه الحوادث عما لا حوادث فيه، فالحوادث هي - أيضاً - من الصادر عنه.
وفي الجملة: فقدم العالم لا يكون إلا مع كون المبدع واجباً بذاته(248) ، وصدور الحوادث عن الموجب بذاته ممتنع، فصدور العالم عن الموجب بذاته ممتنع، فقدم العالم ممتنع(249)
وقول الفلاسفة في قدم العالم باطل من وجوه كثيرة منها:
1 - أن عمدة رأي الفلاسفة في قدم العالم هو امتناع حدوث الحوادث بلا سبب حادث، فيمتنع تقدير ذات معطلة عن الفعل لم تفعل، ثم فعلت من غير حدوث سبب. وهذا لا يدل على قدم العالم ولا قدم شيء منه، وإنما يدل على قدم نوع الفعل، وأن الله لا زال فعالاً (250) .
2 - أن يقال: دوام الحوادث في الماضي: إما أن يكون ممتنعاً، وإما أن يكون ممكناً، فلو كان ممتنعاً بطل قولهم، وعلم أن الحوادث لها ابتداء.
وإن كان ممكناً: أمكن أن تكون هذه الأفلاك حادثة مسبوقة بحوادث قبلها، كما قال الله عزّ وجل: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [هود: 7] ، وعلى التقديرين فلا يلزم قدم العالم(251) .
3 - أن القول بقدم العالم يتضمن وجود حوادث لا تتناهى في آنٍ واحد، وهذا محال باتفاقهم مع جماهير العقلاء، بل يتضمن وجود تمام علل ومعلولات لا تتناهى في آن واحد، ووجود ممكنات لا تتناهى في آن واحد، وهذا مما يصرحون بامتناعه، مع قيام الدليل على امتناعه، ويتضمن امتناع وجود حادث، ويتضمن وجود الحوادث بلا مؤثر تام، وكل هذا ممتنع.
4 - أن وجود حوادث لا أول لها إنما يمكن في القديم الواحد، فإذا قدّر قديمان: كل منهما تقوم به حوادث لا تتناهى، كما يقولونه في الأفلاك، فهذا ممتنع؛ لأن كلاً منهما لا بداية لحركاته ولا نهاية، مع أن أحدهما أكثر من الآخر، وما كان أكثر من غيره كان ما دونه أقل منه، فيلزم أن يكون ما لا أول له ولا آخر يقبل أن يُزاد عليه ويكون شيء آخر أكثر منه، وهذا ممتنع (252).
وبهذا يتضح أن ابن تيمية رحمه الله لم يكن يقول بقول الفلاسفة، ولم يكن يرتضيه، بل كان رده عليهم كثيراً وصريحاً في بيان خطئهم.

 

( نقلا عن كتاب " دعاوى المناوئين لشيخ الإسلام ابن تيمية " للدكتور عبدالله الغصن - وفقه الله ، طبع دار ابن الجوزي بالدمام ،ص161-139، ومن أراد الهوامش فعليه بالكتاب .. ).
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك

دعاوى المناوئين

  • ترجمة ابن تيمية
  • دعوى المناوئين
  • مواضيع متفرقة
  • كتب ابن تيمية
  • الصفحة الرئيسية