صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







الاعتكاف فضائل وأحكام

راشد بن عبد الرحمن البداح

 
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، والصلاة والسلام على خير البريات ، وعلى الآل والصحب والتابعين أزكى التحيات ، أما بعد :
فإن الله "جعل بعض الأيام والليالي أفضل من بعض ، وما من هذه المواسم الفاضلة موسم إلا ولله تعالى فيه وظيفة من وظائف طاعته ، ولله فيه لطيفة من لطائف نفحاته ، فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات ، وتقرب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات ،فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات ، فيسعد فيها سعادة يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات "1 حتى إذا جاء يوم القيامة تفاوتت بينهم الدرجات وإن كانوا من أهل الجنات ، فكانوا – إجمالاً – على قسمين ذكرهما الإمام ابن القيم – رحمه الله – عند قوله تعالى ( إن المصّدقين والمصّدقات وأقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعف لهم ولهم أجر كريم . والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون … )الآية ، قال : ( وعمال الآخرة على قسمين ، منهم من يعمل على الأجر والثواب ، ومنهم من يعمل على المنزلة والدرجة ، فهو ينافس غيره في الوسيلة والمنزلة عند الله تعالى ، ويسابق إلى القرب منه )2
وإن ثمت عملاً صالحاً يحصل لمن انشرح صدره أن يسابق وينافس به على المنازل والدرجات العلا، ألا وهو كما عبر عنه ابن رجب – رحمه الله –بـ( الخلوة المشروعة لهذه الأمة وهي الاعتكاف ،خصوصاً في شهر رمضان ، خصوصاً في العشر الأواخر منه كما كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يفعله ؛ فالمعتكف قد حبس نفسه على طاعة الله وذكره ، وقطع عن نفسه كل شاغل يشغله ، وعكف بقلبه وقالبه على ربه وما يقربه منه ، فما بقي له همٌ سوى الله وما يرضيه عنه .. فمعنى الاعتكاف وحقيقته : قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق "3
"وليست العزلة المشروعة لتربية النفس وتهذيبها مقصورة على سنة الاعتكاف فحسب؛ بل كان السلف –رضي الله عنهم- يحثون السالك على اختلاس أوقات يخلو فيها بنفسه للذكر أو الفكر أو المحاسبة أو غيرها .
قال عمر –رضي الله عنه- :" خذوا بحظكم من العزلة " وقال مسروق-رحمه الله-:" إن المرء لحقيق أن يكون له مجالس يخلو فيها يتذكر ذنوبه ، فيستغفر منها " 4.
ويوصينا ابن الجوزي – رحمه الله- بالعزلة فيقول: " فيا للعزلة ما ألذها ! فلو لم يكن في العزلة إلا التفكير في زاد الرحيل ، والسلامة من شر المخالطة كفى " ويقول : " ولأن أنفع نفسي وحدي خير لي من أنفع غيري وأتضرر.. الصبر الصبر على ما توجبه العزلة ، فإنه إن انفردْتَ بمولاك فتح لك باب معرفته ..5" إن أهم ما يُعنى به الموفق لطاعة مولاه هو إصلاح تلك المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله ، وفي الصوم والاعتكاف من الإصلاح الشيء الكثير .

ولنقرأ الآن ما فتح الله به على طبيب القلوب ابن القيم –رحمه الله – حيث يقول – وما أحسن ما قال - : " لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى متوقفاً على جمعيته على الله تعالى ، وكان فضول الطعام والشراب وفضول المخالطة، وفضول الكلام ، وفضول المنام مما يزيده شعثاً ، ويشتته في كل وادٍ ، ويقطعه عن سيره إلى الله تعالى، أو يضعفه أو يعوّقه ويوقفه: اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب .. وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى .. فيصير أنسه بالله بدلاً عن أنسه بالخلق، فيُعِدُّه بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور ،حين لا أنيس له ولا ما يفرح به سواه ، فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم . ولما كان هذا المقصود إنما يتم مع الصوم ، شرع لهم الاعتكاف في أفضل أيام الصوم ، وهو العشر الأخير من رمضان "6

إن الاعتكاف سنة فاضلة في زمن فاضل ، وقد صار سنة مهجورة لا تكاد تعرف في بعض البلاد، فكان إحياؤه آكد وأعظم أجراً ؛ لأن السنة كلما هجرت كان الأجر في إحيائها أعظم ، ونظير ذلك أن النبي –صلى الله عليه وسلم- لما أخّر العشاء إلى ثلث الليل قال للصحابة " ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم 7 قال ابن رجب : " وفي هذا إشارة إلى فضيلة التفرد بذكر الله في وقت من الأوقات لا يوجد فيه ذاكر له "8

ومما يؤكد أفضلية الاعتكاف وعظيم شأنه أمور منها :
1- أن في تلك العشر ليلة هي خير من ألف شهر ، أي خير من ثلاث وثمانين سنة ليس فيها ليلة القدر، وإنما كان يعتكف –صلى الله عليه وسلم- رجاء أن يوافقها ، بل قد اعتكف العشر الأوّل ثم الأوسط ، ثم أطْلع رأسه فكلم الناس ، فدنوا منه ، فقال " إني اعتكفت العشر الأوّل ، ألتمس هذه الليلة ، ثم اعتكفت العشر الأوسط ، ثم أُتيت فقيل لي: إنها في العشر الأواخر ، فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف 9.
2- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- لم يتركه ، وكان يعتكف كل سنة عشرة أيام ، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً ، بل لما تنافست نساؤه على الاعتكاف تركه ، ثم قضاه في العشر الأول من شوال 5، كل ذلك تحصيلاً لتلك القربة ألا تفوت ، وفعله كافٍ لبيان فضله .
3- أنه –صلى الله عليه وسلم- يترك ما هو مباح له أصلاً، وهو النوم والنساء ، وبذلك يفسر قول عائشة – رضي الله عنها – ( جدّ و شدّ مئزره ) بأنه ترك النوم والنساء .
4- أنه–صلى الله عليه وسلم- يفعل ما نهى عنه ؛ فقد نهى عن الوصال وهو تأخير السحور إلى السحر ، وكان يفعله لا سيما في العشر،وكما قد نهى عن إحياء الليل كله ، إلا أن أعلم النساء به قالت " وأحيا ليله" وقد قال العلماء : ( يحتمل إحياء الليل كله ؛ لأنه لم يرد شيء صحيح يخالف هذا الظاهر ) 10
5- ومما يؤكد أهمية الاعتكاف : أن الرجل لو نذر وهو مشرك أن يعتكف ، ثم أسلم ؛ فإنه يجب عليه وفاؤه، كما ورد عن عمر-رضي الله عنه-
6- ومما يؤكد أفضلية الاعتكاف -أيضاً-أن أزواج النبي –صلى الله عليه وسلم- اعتكفن معه وبعده ، حتى إن عائشة – رضي الله عنها –لتقول : " اعتكف مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- امرأة مستحاضة من أزواجه ، فكانت ترى الحمرة والصفرة ، فربما وضعنا الطست تحتها وهي تصلي "11 فيا سبحان الله ! إذا كانت حتى نساء الصحابة يعتكفن ، بل وإن كن مستحاضات ، فما بال الرجال من الشباب والكهول عن هذه العبادة راغبون ؟ ألم يعلموا أن النبي –صلى الله عليه وسلم- لما أحس بدنو أجله اعتكف عشرين يوماً ؟ فيا أيها الدعاة : إن كنتم تريدون هداية الناس ، فاعبدوا الله حقاً بمثل الاعتكاف!
ويا طلبة العلم : لا يفتح عليكم بالعلم إلا بالاجتهاد في العبادة ولزوم التقوى . ويا أيها الشباب : تناديكم امرأة من التابعيات وهي حفصة ابنة سيرين – رحمها الله- فتقول:" يا معشر الشباب ! اعملوا فإنما العمل في الشباب " 12واعتكاف الشباب أعظم اجراً من غيرهم ؛ لأن داعي الشهوة والهوى أقوى، وفي بعض الآثار :" أيها الشاب التارك لشهوته ، المتبذل شبابه من أجلي : أنت عندي كبعض ملائكتي "13. ولذلك فإن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله :"شاب نشأ في عبادة ربه عز وجل" و"رجل معلق قلبه بالمساجد" وكلا الوصفين يحصلان في الاعتكاف .
يا من يقتدى بكم : كيف يقتدي الناس بطيب أقوالكم، ولم يروا الطيب من أفعالكم ؟ فاحذروا أن تكونوا كما قال أبو حازم –رحمه الله – " رضي الناس من العمل بالعلم ، ورضوا من الفعل بالقول !
هذا وقد أنعم الله على طلاب المدارس والجامعات ومدرسيهم بإجازة طيلة أيام العشر الأخير في رمضان ، وهم مغبونون بذلك ، فما عذرهم ؟ وهل يليق بهم أن يقضوا تلك الإجازة في سهر أو لهو أو نزهة أو سفر لا طائل تحته ؟ ثم أهم أشد شغلاً من رسولهم – صلى الله عليه وسلم – الذي لم يدع الاعتكاف أبدًأ ، مع أن قضايا الأمة تدار من عنده ؟
رأى شريح جيرانًا له يجولون ، فقال : مالكم ؟ فقالوا : فرغنا اليوم . فقال شريح : وبهذا أمر الفارغ ؟ 14
والعجب من أمر بعض طلبة العلم ومن يُقتدى بهم ؛ بلْه العامة - تهاونهم بهذه السنة الفاضلة، وزعمهم أنهم في أمر أعظم وأولى ، مع أن لهم مندوحة عن ترك تلك السنة بما سنبينه في الأحكام – إن شاء الله - .
ومنهم من يقول : أعتمر في العشر أفضل من أن أعتكف ! . ( والحقيقة أن الجمع بينهما أكمل ، وإن كان لابد لأحدهما دون الأخر ، فالاعتكاف أفضل لوجهين :

1- أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يكن يعتمر ، وإنما يعتكف، وهو لا يفعل إلا الأكمل والأفضل .
2- أن الاعتكاف مهجور في كثير من المساجد ، وإحياؤه – حينئذٍ – أولى من العمرة التي يتنافس عليها معظم العباد في هذا الزمان ) 15 .
7- من الفضائل التي تحصل بالاعتكاف :
الرباط في سبيل الله . وهو انتظار الصلاة بعد الصلاة ، والذي رتب عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – أجراً عظيمًا . بأن ( يمحو الله به الخطايا ، ويرفع به الدرجات ) 16، وبأن صاحبه ( في صلاة ماكان في المسجد ينتظر الصلاة مالم يحدث )17. ولذلك يمكن أن يقال : كل اعتكاف رباط ، ولا عكس .

أحكام الاعتكاف

قد حد الله للاعتكاف حدودًا وأحكامًا ، ثم قال عنها سبحانه : (( تلك حدود الله فلا تقربوها )) . وسأبين ماتدعو الحاجة إليه من تلك الأحكام ، فيما يلي :
1- على المعتكف تحصيل مقصود الاعتكاف باتباع هديه – صلى الله عليه وسلم- فيه ؛ فقد اعتكف مرة في قبة تركية ، وجعل على سدتها حصيرًا ؛ sup>18وسبب ذلك كما قال ابن القيم – رحمه الله - : " تحصيلاً لمقصود الاعتكاف وروحه ، عكس ما يفعله الجهال من اتخاذ المعتكف موضع عٍشرة ، ومجلبة للزائرين ، وأخذهم بأطراف الأحاديث بينهم ، فهذا لون ، والاعتكاف النبوي لون ! "19.
2- إذا نوى الاعتكاف لم يجب عليه إتمامه ، وجاز له قطعه ، ولا سيما إذا خشي على عمله الرياء 20. قال ابن باز – رحمه الله - :" وله قطع ذلك إذا دعت الحاجة لذلك ؛ لأن الاعتكاف سنة ، ولايجب الشروع إذا لم يكن منذورًا "21.
3- لم يرد حديث صحيح في تحديد أقل مدة الاعتكاف ، لكن أخذ بعض العلماء من قول عمر – رضي الله عنه – كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة " . وفي رواية " يومًا "22 : أن أقل الاعتكاف يوم وليلة ، ولعله أقرب للصواب .
4- ليس له أن يخص يومًا بعينه يعتاد الاعتكاف فيه .
5- ذهب الأئمة الأربعة وجماهير العلماء سلفًا وخلفًا إلى أن المعتكف يدخل معتكَفه قبل غروب الشمس من الليلة التي يريد أن يعتكف فيها ؛ ومن نوى اعتكاف العشر كلها فعليه أن يدخل بغروب شمس يوم عشرين ، وذلك لأمور :
أ - أن ليلة إحدى وعشرين من الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر ، وإذا قلنا يدخل بعد الفجر من يوم ( 21 ) يكون قد فوّت ليلة ترجى فيها .
ب – أن إذا دخل ليلة ( 21 ) يصدق عليها أنه اعتكف العشر، بينما إذا دخل فجرًا ونقص الشهر ، يكون حينئذ قد اعتكف ثمانية أيام !
جـ – أن معنى قول عائشة في الحديث المتفق عليه ( وإذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكَفه )23 أي المكان الذي أعد لاعتكافه – صلى الله عليه وسلم- فيه ، من خيمة ونحوها24.
6- يحسن بالمعتكف أن يتخذ لنفسه مكانًا خاصاً ؛ وذلك ليخلو بريه ، وليستريح فيه ، ولكيلا يتعوره أحد حين استبدال ملابسه ، أو استقبال من يريد زيارته من أهله25 .
7- يجوز تنقل المعتكف في أنحاء المسجد ، لكن الأولى للمعتكف ألا يكثر الحركة والتنقل في المسجد لأمرين :
- أن النبي – صلى الله عليه وسلم- قد اتخذ خباء في المسجد لا يخرج منه إلا لصلاة ، وخير الهدي هديه – صلى الله عليه وسلم- .
- أن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال :" الملائكة تصلي على أحدكم مادام في مصلاه "26بل قد روى مالك في ( الموطأ ) عن أبي هريرة موقوفًا أنه قال : " ... فإن قام من مصلاه فجلس في المسجد ينتظر الصلاة لم تزل الملائكة تصلي عليه في مصلاه حتى يصلي " . قال ابن رجب :" فهذا يدل على أنه اذا تحول من موضع صلاته من المسجد إلى غيره من المسجد انقطع حكم جلوسه في مصلاه "27.
8- أما قضية الخروج من المسجد ، فقد ذكر الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله – أنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
- الأول : جائز ، وهو الخروج لأمر لابد منه شرعً