صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







بدعةٌ في فقه الجهاد

بندر الشويقي
@Drbandarsh


بسم الله الرحمن الرحيم

 

"المجاهدون داخل فلسطين -وفقهم الله جميعا- يعانون مشكلاتٍ عظيمةً في جهادهم لأعداء الإسلام فيصبرون عليها، رغم أن عدوَّهم وعدوَّ الدين الإسلاميِّ يضربهم بقوته وأسلحته، وبكل ما يستطيع من صنوف الدمار، وهم -بحمد الله- صامدون وصابرون على مواصلة الجهاد في سبيل الله ... لم يضعفوا، ولم تلن شكيمتهم ولكنهم في أشد الضرورة إلى دعم إخوانهم المسلمين ومساعدتهم بالنفوس والأموال في قتال عدوِّهم عدوِّ الإسلام والمسلمين وتطهير بلادهم من رجس الكفرة وأذنابهم من اليهود".

تلك قطعةٌ من كلامٍ للشيخ الإمام عبدالعزيز بن بازٍ –رحمه الله- في بيان أصدره عام (1410ه)، ونشره بمجلة البحوث الإسلامية حاثاً على دعم الانتفاضة الفلسطينية الأولى.

في تلك الانتفاضة لم يكن الفلسطينيون يملكون صواريخ كالتي معهم الآن.
حتى البنادق لم تكن شائعةً بأيديهم كما هو الحال اليوم.
كانت آلتهم الرئيسة (الحجارة).
أما جنودهم، فقد اشتهر حينها عبر وسائل الإعلام مصطلح: (أطفال الحجارة)، بسبب كثرة الأطفال المشاركين في المواجهات مع العدوِّ وهم لا يملكون بأيديهم سلاحاً سوى الحجر والمقلاع، يواجهون بهما الدبابة والمدفع والطائرة.

كانت الأخبار تنقل لنا -بانتظامٍ، وكلَّ يومٍ- سقوط عددٍ من الأطفال والنساء والرجال، ممن نحتسبهم شهداء عند الله، وصار من المشاهد المعتادة التي نراها عبر الصحف والشاشات منظر الأمِّ الفلسطينيةِ الثكلى، تحتضن فقيدها وتبكيه، غير أنها تتوعد بالويل والثبور لمن قتله، في ثباتٍ يهزُّ القلوبَ مثلما يدميها.

استمرت الانتفاضة أكثر من أربع سنواتٍ، سقط –بل ارتفع إن شاء اللهُ- فيها من الفلسطينيين أكثر من (1300) شهيدٍ، زيادةً على التشريد والهدم الذي كان يلحق المنازل؛ إذ كان الصهاينة يعمدون إلى هدم بيوت الأسر التي يشارك أبناؤها في الانتفاضة.

هدأت تلك الانتفاضة عام (1412ه)، غير أنها عادت فاشتعلت من جديدٍ بعد حوالي عشر سنواتٍ، إثر دخول الهالك شارون باحة المسجد الأقصى، واشتباك جنوده مع المصلين الذين حاولوا منعه، فانطلقت بعد ذلك شرارة انتفاضةٍ ثانيةٍ استمرت خمس سنواتٍ أخرى.

كانت المواجهات في الانتفاضة الثانية أشدَّ عنفاً من الأولى؛ قتل اليهود فيها حوالي (4500) من الفلسطينيين، زيادة على حوالي خمسين ألف جريحٍ. واجتاح اليهود خلال تلك السنوات غزة والضفة عدَّة مراتٍ، في ظل ثباتٍ واستبسالٍ عظيمينِ من أهل فلسطينَ.

كانت هذه –وما زالت- حال الفلسطينيين مع اليهود. وكان المسلمون عامةً، وأهل العلم خاصةً في طول العالم الإسلاميِّ وعرضه –على اختلاف مشاربهم- يناصرونهم ويقفون معهم.

كانت الفتاوى تصدر، والتبرعات تجمعُ، والندوات والمؤتمرات تعقد بمشاركة أكابر العلماء، وتخرج التوصيات المنادية بمناصرة الفلسطينيين ودعم صمودهم. وخطاب الشيخ ابن بازٍ –رحمه الله- الذي نقلته مطلع كلامي كان واحداً من مظاهر التأييد والنصرة التي كانت الموقف الشرعيَّ البدهيَّ الذي لا يُنتظَرُ من عالمٍ بدين الله غيره. 
ولم نكن نسمع  خلافاً في هذا، إلا موقفاً متحفظاً من الشيخ الألبانيِّ –رحمه الله- في اجتهادٍ هو فيه مأجورٌ إن شاء الله.

لم يقتصر الأمرُ على العلماء، بل حتى على المستوى الرسميِّ كان الموقف  لا يحمل سوى التأييد والدعم العلني. والمتابعُ يتذكر حين طلبت بريطانيا تغيير سفير المملكة بلندن عام (1423ه)، بسبب قصيدةٍ قالها في مدح امرأةٍ فلسطينيةٌ نفذت عمليةً ضد الصهاينة، فتمَّ تغيير السفير الذي أبى أن يغير موقفه، فكانت تلك من مآثره التي يذكرُ بها.

لم تكن تلك المواقف قاصرةً على فلسطينَ، بل قد تربينا صغاراً وكبرنا ونحن نسمع ألسنة أكابر أهل العلم تلهج بالدعاء والتأييد والانتصار للمجاهدين في أفغانستان، وفي كشمير، وفي الفلبين، وفي إرتيريا، وفي كل بقعةٍ يهبُّ فيها المسلمون لمنازلة عدوٍّ وطئ أرضهم.

هذا ما أدركناه وما عاصرناه وعاينَّاهُ. وأكثر منه ذاك التاريخ الطويل الذي قرأناه وسمعنا به عن مواقف أهل العلم السالفين في حقبة ما سُمي بالاستعمار، وتأييدهم حركات الجهاد الشعبية ضعيفة العتاد، التي كانت تستهدف طرد المحتلِّ الأقوى عدةً وعتاداً.

في الشرق كانَ المسلمون بالهند –وعلى رأسهم أهل الحديث-، كانوا بتسليحهم المتواضع يصارعونَ الإنجليز بجيوشهم الجرارة؛ التي كانت القوة الأولى في العالم آنذاك.

وفي الغرب كان الليبيون يقاتلون الطليانَ.
والجزائريون والمغاربة يقاتلون الفرنسيينَ.
وكذا كان الحالُ في مصر، وفي الشام، وفي السودانِ.

 كانت حروباً غير متكافئة إطلاقاً من جهة العدة والعتاد، قتل فيها الملايين من المسلمين –أكثر من ستة ملايين في الجزائر فقط-، دون أن يصدَّهم ذلك عن الاستمرار في مجاهدة ومدافعة العدوِّ بما يتاحُ لهم من أدواتٍ.

قد يصالحون أحياناً ويهادنونَ، لكن لم يكن في علمائهم من يطلق القولَ بتحريم مقاتلة العدوِّ في ذلك الوقت بحجة قوته وضعف تسليح المسلمين كما نسمعه اليومَ من بعض الناسِ كلما هبَّ المسلمون مدافعين عدواً غاشماً معتدياً.

كان من أعظم جناياتِ الاتجاهات العصرانية إنكارها مفهوم (جهاد الطلب)، واليوم نرى من يتجه –باسم السُّنة والسلفية- إلى تقريراتٍ تنتهي عملياً إلى إسقاطِ (جهاد الدفع) في زماننا بحجَّة الشفقة على دماء المسلمين العاجزين عن مقاومة عدوٍّ أعلى تسليحاً منهم.

تشتعل المواجهة مع الصهاينة، ويستبسل الفلسطينيون في الثبات والمواجهة ومجاهدة العدوِّ، فينالونَ منه وينالُ منهم، ويحتسبونَ شهداءهم وجرحاهم، ويقف معهم إخوانهم في سائر أقطار الأرض بالدعاء والتأييد، وبالألم أيضاً. وفي خضم هذه النازلة يبرز صوتٌ نشازٌ لا يرى في هذه المعركة إلا مغامرةً صبيانيةً لحركيين يخالفون طريقة أهل العلم، ويتاجرون بدماء الفلسطينيين!

اللهم عفوك وغفرانك .. أولئك الذين يقالُ عنهم: (متاجرين بدماء الفلسطينيين)، هم أنفسهم الذين يقفون على خطِّ المواجهةِ مع العدوِّ، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، ومنهم من فقد أهله وولده، ومنهم من هدمت داره على من فيها، ثم يقالُ عنه –بعد ذلك-: متاجراً بدماء الفلسطينيين!

وليت هذا الموقف الغريب اقتصر على الوضع في غزة، بل أصحابه يجعلونه رأياً يعمُّ سائر بقاع الإسلام. فكلما وطئ الكافر الأقوى عتاداً أرض الإسلامِ أعادوا المقولة نفسها، فارتفعت أصواتهم بتحريم الجهاد ومنعه حفاظاً على دماء المسلمين!

ثم تزيدُ الصورة قبحاً، حين يعمد أصحابُ هذه المقولة إلى عملية تزويرٍ واسعةٍ، كي يثبتوا أن هذا الرأي لم يزل موقفَ أهل العلم الراسخين، أو أنه رأي علماء أهل السنة في مقابل المتهورين، والحركيين، والحزبيين، وما شئت من تلك التسميات البغيضة.

أثناء الاحتلال الأمريكي لأرض العراق، صدر شريطٌ عنوانه (من للعراق؟)، قرَّر صاحبه أن اتفاق العلماء يقضي بتحريم المقاومة، وذكر أن هذا هو الموقف السلفيَّ الواجب.

ولما خشي هذا القائلُ أن يورد عليه تأييد العلماء قاطبةً جهاد الأفغانِ ضدَّ الروس، شرعَ في التزوير، فذكر أن العلماء إنما أيَّدوا جهاد الأفغان لأن أمريكا كانت تدعمهم، فكان هناك توازنٌ في القوة بين الأفغانِ وبين أعدائهم الروس، فصارَ الدعم الأمريكيُّ للأفغان هو السبب الذي جعل العلماء يجعلونه جهاداً شرعياً!

من أين جاء القائل بتلك العلة المبتكرة؟
وهل سمع أحداً من أهل العلم يعلل فتياهُ بها ولو تلميحاً؟
وماذا سيقول عن تأييد العلماء –وعلى رأسهم ابن بازٍ رحمه الله-، للمجاهدين في كشمير، وفي الفلبين، وفي الشيشان، وفي فلسطين نفسها، ألأجل الدعم الأمريكيِّ أيضاً؟!

على أني أتساءل: أيَّ تقاربٍ أو توازنٍ في القوة وفَّره الدعم الأمريكيُّ للأفغان الحفاة العراة، في مواجهة آلة الحرب الروسية العاتية؟!

ألا يدري هذا القائلُ أن تلك (الحرب المتوازنة!) ذهب فيها من الشعب الأفغاني مئات الألوفِ (بعض الإحصاءات توصلهم إلى المليون ونصف وأكثر)، فضلاً عن مئات ألوفٍ أخرى من الجرحى والمعاقين، في حين لم يسقط من الفلسطينيين في مواجهاتهم الطويلة مع اليهود ما يقرب من هذا الرقم!

على أن الناظر يعجب كيف يغيب الفقهُ والفهمُ عن أصحاب هذه المقولة الواسعة حتى لا يتبصَّرون في مآلات قولهم رغم ظهور فسادها وسقوطها. فحاصل قولهم ومآله دعوةٌ مفتوحةٌ لأهل الكفر: أن أقبلوا وخذوا بلاد الإسلام هنيئاً مريئاً، فقتالكم محرمٌ علينا!

صاحبُ شريط (من للعراق؟) طرح على نفسه سؤالاً: ماذا لو تعرضت بلاد الحرمينِ لغزوٍ أمريكيٍّ، هل سيحرِّمُ مقاومتهم؟ ثم أجاب بما مؤداه أن موقفه لن يتغير، وأن المقاومة حينها ستكون ممنوعةً ومحرَّمةً على المسلمين ما داموا لا يملكون قوةً تضارعُ قوة عدوِّهم! .. يقولُ هذا في سياق تقرير موقف العلماء الربانيين الذين لم يتكلَّم أحدٌ منهم بمثل هذا قطُّ!

في أحداث غزة الحالية كتب آخرُ مُعلِّقاً ومُعرِّضاً:

 (ليلاً: عدوُّ أحمد يقتل أحد أولاده ..
أحمد يطلق النار تجاه العدو ..
العدو يدمِّر بيت أحمد ويقتل بقية أولاده ..
صباحاً: يحتفل أحمد بانتصاره ..
والله لا أدري أضحكُ أم أبكي...
تريدون أن نلغي أبصارنا وأسماعنا وعقولنا ونسلمها لكم).


سئل هذا القائل عما يجب أن يفعله أحمد، فأجاب:

"يجب على أحمد أن يفعل مثل
محمد -صلى الله عليه وسلم-، يهادن الكفار مدةً، يعدُّ العدة الإيمانية والعسكرية التي ترهب العدوَّ وتردعه، ثم يأخذ حقَّه".


هكذا -وبكل سذاجةٍ- يتمُّ تصويرٍ حربٍ تدور رحاها منذ أكثر من ستين عاماً. وكم تمنيتُ لو أن هذا القائل شرح لنا: كيف، وأينَ سيتم إعداد العدة متى شاع هذا الفقه العجيب الذي سيفتح بلاد الإسلام للعدوِّ يجوبها طولاً وعرضاً ليستأصل أيَّ بادرة إعدادٍ دون خوفٍ من أدنى مقاومةٍ أو ممانعةٍ.

وإذا كان هذا القائلُ يذكر عن نفسه: إنه لا يدري هل يضحك أم يبكي من قصة أحمد، فليأذن لي أن أحدثه بقصة زيدٍ، فربما يجد فيها مزيداً من دواعي الضحك والبكاء:

(ليلاً: عدوُّ زيدٍ يقتل أحد أولاده ..
أراد زيدٌ أن يردَّ .. صاح به جارُه: إياكَ .. ليست هذه طريقة الراسخين في العلم.
أمسك زيدٌ، فلم يحرك ساكناً حين جاء العدو وقتل ولده الثاني، وأتبعه الثالث.
عاد العدو ثالثةً، فذبح الأسرة كلها، وهدم الدار ..
لم يزل زيدٌ متمسكاً بما ظنه منهج الراسخين ..

أشاع زيدٌ هذا النهج في بلدته ..
جاء العدو، فقتل المزيدَ من أبناء البلد واحتلها ..
لم يقاوم أهلُ البلدة، لأن المقاومة حرامٌ عليهم قبل إعداد العدة.

طمع العدوُّ فأخذ البلدة الثانية والثالثة والرابعة .. ولا مقاومة أو ممانعة ..
استمر العدو في يأكل بلاد الإسلام بكل نعومةٍ، دون أن يخسر قطرة دمٍ، ببركة ما يقالُ إنها: طريقة الراسخين في العلم!


تلك قصة زيدٍ ..
وأظرفُ منها قصة عُبيدٍ ..


جاء العدوُّ فاحتل بلدةَ عُبَيدٍ .. قتل الآلاف من أهلها..
لم يقاوم أهل البلدةِ، لأن المقاومة محرمةٌ قبل إعداد العدة ..
أراد أهل البلدة أن يعدُّوا العدة للجهاد ..
لكن العدوَّ نصب عليهم حاكماً رافضياً ينوبُ عنه.
الحاكم الجديد منعهم من الإعداد ..
نزع أسلحتهم .. شرع في ذبحهم وتهجيرهم.
وما زال عُبيدٌ يردِّدُ: المقاومة لا تشرع .. تلك طريقة الراسخين.


هل لهذا المسلك علاقةٌ بالفقه والفهم؟! فضلاً عن أن يكون طريقة الراسخين!

الحديثُ عن جوازِ مصالحة العدوِّ مؤقتاً حالَ العجز عن مدافعته، يختلفُ عن مثل هذه الإطلاقات العمياء التي تنتهي إلى تحويل المسلمين إلى نعاجٍ خاضعةٍ يقودها الراعي بعصاه.

معضلة من يتحدث بتلك الطريقة أنه حين ينظر في ميزان المصالح والمفاسد، يستعمل حسبةً رياضيةً آليةً مجرَّدةً، فتراه يحسبُ: كم قُتلَ من المسلمين، وكم قتل من عدوهم، ثم يخرج بأن القتال
قطعاً غير مشروعٍ. أو تراه يتساءل: هل نجح الفلسطينيون في تحرير أرضهم؟ لا.. إذن لا فائدة من تلك الدماء التي أريقت!

ما لم يفهمه صاحبُ هذا الفقه الآليِّ أن المسلمين وإن عجزوا عن مدافعة العدوِّ الأقوى منهم في مواجهة عسكريةٍ مباشرةٍ، إلا أنهم –في الغالب- قادرون على الإثخان والنكاية فيه بطريقةٍ تجعل قدمه لا تستقرُّ بأرض الإسلام. وهذا اللون من الجهاد هو الذي لم يزل المسلمون يستعملونه وينجحون فيه طيلة عصور ضعفهم. بهذه الطريقة أنهوا حقبة (الاستعمار) في جميع بلاد الإسلام، وبالطريقة نفسها أخرجوا الروس من أفغانستان، وهي الطريقة التي يسلكها الفلسطينيون اليوم، ويحقِّقون فيها نجاحاً ظاهراً. غير أن هذا النجاح لا يبصره من يحصر نظره في عدد القتلى هنا، وعددهم هناك.

من يعرفُ تاريخ القضية الفلسطينية يدرك أن الفلسطينيين عملياً يقفون على أخطر ثغرٍ من ثغور الإسلامِ، وقد ظلوا منذ عقودٍ يصدُّون عن المسلمين عدواً طاغياً له أطماعٌ تمتدُّ في عمق البلاد المحيطة به.

دولة اليهود –المدعومة غربياً- نشأت عام (1948م)، وقادتها يحملون حلم (إسرائيل الكبرى) التي تمتد من الفرات إلى النيل، وتغطي بلاد الشامِ، مع نصف المملكة الشمالي .. هكذا كانت خططُهم .. أما اليومَ فقد تقلصت أطماعُ أكثرهم وانحسرت في ظل شراسة المقاومة الفلسطينية وصلابتها. وطواغيت الصهاينة: (بيريز، ورابين، وباراك، وأولمرت) صرحوا بتراجعهم عن إسرائيلهم الكبرى، بعدما أدركوا صعوبة ترويض أهل الإسلامِ وإخضاعهم، فخفضوا من تطلعاتهم، وجعلوا غاية مقصدهم تأمين قومهم كي لا يفكروا في الهرب من (أرض الميعاد!) التي تعبوا في تأسيسها لتكون وطناً لهم، مع أن كثيراً منهم يعيشُ داخل مستوطناتٍ محاطةٍ بأسوارٍ كأسوار السجونِ!

دولة اليهود كانت تستقطبُ المهاجرين من آفاق الأرضِ كي يستوطنوا أرضَ فلسطينَ عوضاً عن أهلها، غير أن ممانعة الفلسطينيين ومقاومتهم نجحت في تخويف المهاجرين وتقليل تدفقهم، ثم أفلحت في إيجاد هجرة معاكسة، فخرج من فلسطين أكثر من ثمانمئة ألف يهودي عائدين لبلدانهم، ولا يزالُ رُبعُ الباقين راغبين في الخروج –أيضاً- ويتمنونه حسب استطلاعٍ نشر في كبرى صحفهم وأشهرها.

وفي إحدى فترات المواجهة كان هناك أكثر من (25000) يخرجون كل عامٍ من دولة اليهود مولين الأدبار نحو بلدانهم التي قدموا منها.

ويشيع في صفوف الشباب الإسرائيلي ظاهرة التهرب من الخدمة العسكرية في حين يشتريها الشباب الفلسطينيون ويبحثون عنها، بعدما تربَّى أكثرهم على مفاهيم الجهاد والممانعة.

أضف لهذا كله أثر عمليات المقاومة الضاغط بقوةٍ على اقتصاد دولة اليهود التي لو قُدِّرَ لها الاستقرارُ مع توفر الدعم الغربيِّ لها، لبسطت سلطتها وهيمنتها الاقتصادية على المنطقة أجمع، وبخاصة أن تلك صنعة اليهود التي أتقنوها منذ القدم. غير أن عدم استقرار دولتهم يضعف اقتصادهم، ويضربُ قطاع السياحة، ويخيف الاستثمار الأجنبيَّ، ويرفع نسب البطالة، ويفتح الباب لمزيدٍ من الهجرات المعاكسة خارج فلسطين.

تلك صورة المعركة الكبرى التي أخطأتها عين من يتساءل: ما فائدة صواريخ القسام؟ أو يتعجَّب من الفرح بقتل نفرٍ من الصهاينة يقابله رقمٌ أكبرُ من الفلسطينيين.

النظر للمسألة بهذه الطريقة نظرٌ قاصرٌ. وهذا النوع من القضايا يتداخل فيه النظر الشرعيُّ مع نظر أهل الخبرة والدراية كلٌّ في مجاله. وليس لأحدٍ أياً كان أن ينصب نفسه –أو حتى شيخه- ليكونَ مرجعاً حاسماً في هذا اللون من المسائل.

والمسلمون في عصورهم المتأخرة، وإن ضعفوا من جهة الاستعدادِ المادي والمعنويِّ، إلا أن سلاحهم الذي لم يفقدوه: قدرتهم التي لا تنضب على تقديم المقاتل الصلب المقدام الذي يشتري الموت، كما يعشق عدوُّه الحياة.

لأجل هذا المعنى أخبر النبي –صلى الله عليه وسلم- أن الأمم سوف تتكالب على المسلمين حين يدبُّ فيهم الوهنُ، ولما سئل عن معنى الوهن قال: (حبُّ الدنيا وكراهية الموت). والذي يريد أن يشيع في الأمة فكرة عجزها المطلق عن المقاومة والممانعة، فهو إنما يحقنها بحب الدنيا وكراهية الموتِ، فيتمكن العدوُّ منها أكثر وأكثر.

على أني هنا لا أتحدثُ عن صاحب رأي يقترحُ (أن من المصلحة تحاشي مواجهة الصهاينة حالياً لعدم التكافؤ في القوةِ)، فذاك رأيٌ سائغٌ لا تثريبَ على قائله إن لم يجاوزه إلى التعميم والإطلاق، أو يحول رأيه هذا إلى مقابلةٍ بين الهدى والضلالِ، أو بين السنة والبدعة، أو يجهدُ في تصوير رأيه على أنه موقفٌ سلفيٌّ نقيٌّ لا يحتملُ اجتهاداً، فلا يعارضه إلا حركيٌّ، أو حزبيٌّ، أو ما شئت من تلك الأسماء والألقاب.

وقد رأيتُ بعض يقولُ ذلك يستشهد بفتيا الشيخ ابن بازٍ –رحمه الله- بجواز مصالحة اليهود صلحاً مؤقتاً عند العجز عن مواجهتهم. وكلُّ من أدرك الشيخ أو قرأ له يعرف أنه إنما كان يتحدثُ عن (جواز)، وليس عن (وجوبٍ)، ثم هو –بعد ذلك- يترك تقدير الموقف لأهله، ولا يتخذ القرار نيابةً عنهم. وهذا مسلكٌ شرعيٌّ يخالف حال من يأتيك اليومَ، ليقرِّرَ ويحكم نيابةً عن الجميعِ، ثم يجعل رأيه الحق الذي ليس بعده إلا الباطل والضلال، ثم يزيدُ فيرفع يديه داعياً على المتاجرين بدماء الفلسطينيين!

حين أقرأ مثل هذا الكلام أظلُّ أتساءل ماذا يفعل قائله بمواقف أهل العلم الشهيرة طيلة فترة ضعف أهل الإسلام وانهيار قوتهم خلال القرون المتأخرة، وهم يواجهون عدواً يملك من القدرة والعتاد أضعاف ما يملكه الصهاينة اليومَ؟!

بل إني أعجب كيف غاب عن بعض هؤلاء موقف علماء دعوة التجديد السلفية التي ينتسبون إليها؟! ألم يدخل علماء تلك الدعوة المباركة –بتسليحهم المتواضع، وعددهم القليل- في مواجهة مع السلطنة العثمانية، حتى دكَّت بمدافعها عاصمتهم (الدرعية)، وهدمتها فوق رؤوس أهلها العاجزين عن الذبِّ عن أنفسهم!

لو قرأ هؤلاء عن تلك الأحداث هل سيتحدثون عن الحماقة والسفه؟! وهل سيرفعون أيديهم داعين على من تسبب في إراقة دماء المستضعفين؟!

الحديثُ النظريُّ عن ضرورة الإعدادِ حقٌّ لا إشكال فيه، ومثله الكلامُ عن جواز مهادنة العدوِّ عند العجز عن مناجزته. لكن مفهوم (الإعداد)، ومعنى (العجز عن المواجهة) بابٌ فيه سعةٌ للنظرِ والاجتهادِ. فإعداد العدة (المعنوية، والمادية) لمعركةٍ فاصلةٍ تجلي العدوَّ عن الأرضِ وتكسره، يختلف عن إعداد العدةِ لحرب استنزافٍ طويلةٍ تثخنُ العدوَّ وتمنعه من الاستقرارِ والتوسع والتقدُّمِ في بلاد الإسلامِ. وأهل الخبرة والمعرفة يدركون الفرق بين هذا وذاك. وبين الصورتينِ صورٌ أخرى تتباينُ ملابساتها، وتختلف أحوالها بطريقةٍ تمنع من مثل تلك الإطلاقات والتعميمات المتهوِّرة التي تنتهي عملياً إلى منع المسلمين من حماية أنفسهم وأرضيهم.

ولو قُدِّرَ أن بعضَ أهل الإسلام في أيِّ بلدٍ يحتله العدوُّ اتخذوا قرارهم بالمواجهة، ثم بدا لآخرين خطؤهم وتعجُّلهم، فإن هذا لا ينزع المشروعية عن جهادهم، فضلاً عن أن ترتفع الأيدي بالدعاء عليهم بصفتهم متاجرين بدماء المسلمين! 

اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في غزة، وفي كل أرضٍ، وتحت كل سماءٍ.

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
فلسطين والحل
  • مقالات ورسائل
  • حوارات ولقاءات
  • رثاء الشيخ
  • الصفحة الرئيسية
  • فلسطين والحل