صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







بَصُرَتْ بما لم يبصُرْنَ به!

 أ.سحر المصري

 
قليلٌ من الناس من يستطيع الولوج إلى القلب دون سابق إنذار أو معرفة.. فتجد قانون الجاذبية قد تصرف تلقائياً ويحصل التوافق الروحي من قبل حتى السلام.. وهي الجنود المجنّدة إذا تآلفت.. هكذا كان حالي مع مريم منذ أول مرة تلاقينا.. تواجدت معها في نفس المكان حيث كانت تقدّم استمارة توظيف في المؤسسة التي أعمل فيها.. ولفتني إليها شيء ما عرفت ماهيته يومها.. ولكنني أحببتها في الله جل وعلا.. وأسررتُ هذا الشعور لرفيقة العمر في العمل.. حتى جاءتني يوماً تقول لي أنها رأت مريم تضع طفلها في نفس الحضانة التي اختارتها لابنها وقالت لي رأيتها هناك مع زوجها وتفاجأت أنه.. قلت لها ما به؟ فقالت: أعمى!!

أخذتني سِنة من صدمة ثم عدتُ إلى التفكير فيما قالت.. مريم مهندسة كمبيوتر، رقيقة، شفافة، خلوقة، وملتزمة جداً.. تتمتّع بمواصفات يطلبها كل شاب.. فلِم تتزوج بضرير؟ طبعاً هذه التساؤلات هي طبيعية في مجتمع اعتدنا فيه على معايير معيّنة قد تكون بعيدة أحياناً كثيرة عن الشرع ومُعَنوَنة بما يناسِب التقاليد والعُرف!


أسئلة كثيرة تزاحمت في رأسي وتمنيت لو استطعت مناقشتها كاملة مع مريم.. فمع أنني متفهمة تماماً لاختيارها إلا أنني أردت معرفة دوافعها في اختيار زوجها وهو على ما هو عليه وكيف كانت مواجهة أهلها وكيفية اقناعهم.. الأمر الذي لم أستطع القيام به أنا نفسي حين كنتُ في عمرها! فموقف الأهل الطبيعي في مثل هذه الحالة: “انت ايه اللي ناقصك؟ متعلمة وجميلة وملتزمة وألف مين يتمناكِ! مجنونة عشان تقبلي معاق؟ ايه اللي يجبرك على كده؟” وهنا قد تنازع الفتاة قوّتين: رغبتها بهذا الزواج وقبولها به، ورضا أهلها وطاعتها لهما.

وبالعودة إلى مريم، فقد قدَّر الله جل وعلا أن تُقبَل في المؤسسة التي أعمل فيها ثم جمعني بها عمل واحد مشترك فتعمقت علاقتنا بفضل ربي جلَّ وعلا حتى كان ذلك اليوم الذي تجرأت فيه وطلبت محادثتها عن حياتها الخاصة.. استأذنتها بطرح موضوع زواجها من عُمَر فأخبرتني قصتها كاملة لأجد نفسي أمام نموذج فريد من صحابية مؤمنة بربها جل وعلا باغية رضاه والجنّة، نابذةً وراءها دنيا عرفت حقيقتها فما ساوت عندها جناح بعوضة!

ابتدأت قصة مريم حين تخرَّجت من الجامعة وتسجّلت في إحدى دور القرآن الكريم لتتعلم التجويد وتحفظ كتاب ربنا جل وعلا.. أخبروها أنها عند الشيخ عُمَر فرفضت الالتحاق بدرسه لأنه رجل وهي تريد امرأة تعلّمها ولكنها تراجعت عن هذا الشرط حين علمت أنه ضرير.. وما هي إلا أسابيع حتى تميّزت مريم وتقدّمت على زميلاتها ولم تكن تتغيّب حتى في أحلك الظروف وكانت تشعر باحترام كبير لهذا الشيخ الذي اختزن في صدره كتاب الله جل وعلا وأمدّه الله تعالى بثقافة اسلامية واسعة واطّلاع في شتى العلوم الاسلامية خاصة في علوم القرآن والتفسير.. وسمعَت يوماً حديثاً يدور في الدار أن الشيخ تقدّم للعديد من الفتيات ولكنّ طلبه قوبِل بالرفض لأنه أعمى! حتى ذلك الحين لم يكن في داخل مريم تجاه هذا الشيخ الا كل احترام وتقدير حتى رأت في المنام أنها معه يدخلان سوياً إلى مبنى جديد للدار وإذ به يهمّ بالسقوط فتمسك به وتوصِله الى الغرفة.. استفاقت مريم يومها وهي تتساءل عن تفسير هذا المنام الذي تزامن مع منام آخر مشابه لأختها المقرّبة التي ترافقها إلى الدار.. ثم تتالَت أحداث جعلتها تربط بينها وبين الشيخ وتشعر أن هناك قدراً يوشك أن يتحقّق.. وقد كان.. ففي أحد الأيام كان كلام عن الارتباط وأبدت مريم الموافقة واتفقا على الاستخارة.. ولا زالت تذكر مريم رؤيا الاستخارة حيث سمعت منادٍ يتلو آياتٍ من سورة الفتح فازدادت يقيناً بصواب قرارها..

وبعد فترة من التفكير تقدّم لها فرفض أهلها.. وبقوا فترة من الزمن لا يستوعبون ما يجري ولكن مريم أصرّت على موقفها لأنها تعلم ماذا تريد تماماً وما كان لأحد أن يثنيها عن موقفها.. وبعد طول معاناة مع الأهل وافقت الأم وتقدّمت مريم بدعوى العضل لدى القاضي الذي استدعى أباها ولكنه أصرّ على الرفض فحدّد القاضي موعداً لعقد القران بعد أن رأى ما تتمتّع به مريم من عقل وإدراك وإصرار.. وتزوجت مريم ولم يكن والدها يسمح لها بدخول بيت العائلة الا بعد فترة نتيجة دعاء وابتهال إلى الله جل وعلا من مريم وعُمَر.. واليوم.. وبعد سنتين من الزواج رُزِقا بعبد الرحمن وأصبح الوالد يوصي مريم بزوجها لِما وجد فيه من خصال راقية وخُلُقٍ عال وميّزات يتمناها كل والد بصهره..

وبعد سرد القصة سألت مريم: لِم عُمَر؟

ولم يذهلني الجواب.. فقد تلمّست من خلال كلامها صفات قد تتخلّى الفتاة عن أحلام كثيرة مقابل الحصول عليها.. فقالت مريم: عرفتُ الكثير من الرجال في مجال الدراسة والعائلة والجيرة فلم أجد في أيٍّ منهم ما أريده في شريك العمر.. وحين التقيت بعُمَر ورغم فقدانه لبصره إلا أنني شعرتُ بتقارب كبير بيننا وكنتُ أُكبِره على حفظه للقرآن الكريم والعمل به وسعيه للعلم والخير.. كان يشدّني إليه بأخلاقه وذكائه وروحانيته العالية والتزامه الصادق وفكره.. وكان الحديث القدسي يتردّد في خاطري دائماً: “من أذهبت حبيبَتَيْه فصبر واحتسب لم أرْضَ له ثواباً دون الجنّة” وأنا أريد دخول الجنّة مع عُمَر وأسأل الله تعالى أن يتقبّل مني ويرزقني إياها مع من أحببت.. كنتُ أريد مشاركته البلاء لأخفِّف عنه وأكون له العينين اللتين يبصر بهما.. وتتابع: كنت لا أشعر أبداً أنه ضرير ولئن كان لا يرى بعينَي رأسه فإنه يبصِر بعيْنَي قلبه “فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ” وعُمَر مبصِر بقلبه وإيمانه بالله جلّ وعلا.. وبعد الزواج اكتشفت شخصيته أكثر وتعلقت به أكثر.. وهذا لا يعني أنه لا يوجد مشاكل وبعض هموم فهذه سُنّة الحياة ولكنني لم أندم وإن شاء الله تعالى لن يكون..

عاجلتها بتساؤل فقلت: يمرّ الإنسان في فترات يكون بَيْنَ بَيْن.. وقد يخفّ إيمانه نتيجة إعراض أو معصية فيبدأ بالنظر إلى الأمور بطريقة مختلفة وقد يوسوس له الشيطان إن لم يسبقه إلى ذلك شياطين الإنس.. أفلا تخشين أن تمرّي بفترة كهذه وتنظرين الى زواجك أنه خطأ أقدمتِ عليه حين كنتِ في سموٍّ إيماني خاصّة أن هناك أمورا كثيرة لا يستطيعها الشيخ عُمَر وقد تكونين بحاجة إليها كأنثى؟ فأخبرتني أن الإنسان قد يمرّ طبعاً بهذه الأحوال جميعاً وقد تتدنى درجة إيمانه في غفلة أو انشغال أو حتى ذنب ولكن هذا تعتبره ميزانا لقياس درجة إيمانها بالله تعالى فتتذكّر فتُبصِر وتعمل على إعادة إزكاء شعلة الإيمان في قلبها.. ويتعاونان على تزكية مشاعر الإيمان والإياب الى الله بهمّة أكبر مع بعضهما البعض.. وهذا ما تجده نِعمة تُضاف إلى باقي النِعَم التي حباها الله تعالى بها..

تركتُ يومها مريم في مكتبها لأعود إلى مكتبي وأتفكر بهذه الفتاة التي اختارت لها طريقاً مختلِفاً عن كلّ من عرفت.. وتشبّثَت بلجام حياتها التي وجدتها رخيصة إن لم تكن مرتبطة بمعانٍ راقية وأهدافٍ سامية وعطاءاتٍ تترى.. كم هي مختلفة عن مَن يفتش عن زوجٍ يؤمِّن له مستوى معيشة عال وزهرة دنيا فانية وكلماتٍ قد تتزيّن بكل معاني الحب في أول الزواج لتتمرّغ في وحول الاعتياد بعد بضع شهور..

مريم وعُمَر.. نموذج فريد يهفو للعُلا في زمن الماديّة والإدّعاء.. وظاهرة تستحق الوقوف عندها.. إن لم يكن للإمتثال والاقتداء فلا أقل من الوقوف عندها لإبداء الإعجاب والتقدير..

والآن فقط عرفت ماهية ذلك التجاذب الذي شعرته نحوها في أول لقاء.. فمن كانت بمثل سموّ مريم لا تمرّ في حياة المرء مجرّد مرور دون أن تترك آثاراً عميقة.. حتى من قبل الكلام!


 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
سحر المصري
  • اجتماعية
  • أُسرية
  • دعوية
  • بوح روح
  • جراح أُمّة
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط