صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







رأس الحربة حرباءة (2)
الدعاية وحرب الثوابت

رحاب بنت محمد حسان


كانت مقالتي السابقة "رأس الحربة حرباءة" (ج1) عن ظاهرة التَّباين في رُدود الأفعال، التي وصلت عند البعض إلى السلبيَّة المطبقة، وأرجعت السبب إلى الدعاية السياسيَّة، وأستكمل في هذا الجزء؛ لأوضح العلاقة بينها وبين الإعلام، ومن ثَمَّ مدى تأثيره على توجيه العقول، وما كان من خطأ فمن نفسي أو الشيطان، وما كان من توفيق فمن الله وحدَه - عزَّ وجل.

أوَّلاً:


الدَّعْوى – لغةً -:


وفي الحديث: "كنا في غزاة - قال سفيان: يَرَوْن أنَّها غزوة بني المصطلق - فكَسَعَ رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال المهاجري: يا لَلْمهاجرين، وقال الأنصاري: يا لَلأنصار، فسمع ذلك النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: ((ما بالُ دعوى الجاهليَّة؟!))، قالوا: رجل من المهاجرين كَسَعَ رجلاً من الأنصار، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((دعوها؛ فإنَّها مُنْتِنَة))[2].

وفي الحديث الشريف قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((دعاة إلى أبواب جهنم، مَن أجابهم إليها قذفوه فيها))، قلت: يا رسول الله، صفهم لنا، فقال: ((هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا))، قلت: فما تأمرني إنْ أدركني ذلك؟ قال: ((تلزم جماعة المسلمين وإمامهم))، قلت: فإنْ لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: ((فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعضَّ بأصل شجرة، حتَّى يدركك الموت وأنت على ذلك))[3].

إذًا؛ فالدعاية والدعوة في المعني المطلق، إمَّا أنْ تكون لخير أو شرٍّ، وليس دومًا الدعوة تكون للخير.

الدعاية – اصطلاحًا -:
هي - من المنطلق الغربي - عمليَّات نشر معلومات - حقائق أو مبادئ، أو مُجادلات أو إشاعات، أو أنصاف حقائق أو أكاذيب - وَفْقَ اتِّجاه معين من جانب فرد أو جماعة، في مُحاولة منظمة للتَّأثير في الرأي العام، وتغيير اتجاه الأفراد والجماعات، باستخدام وسائل الإعلام والاتصال بالجماهير[4].

وأرجئ تعريف الدَّعوة من منظور إسلامي لوقتها - إن شاء الله.

أمَّا الإعلام – لغة -:
الإخبارُ، وأعلمَ بالشيءِ: أي: أبلَغَ عنه وأخبرَ به، ومنه التعليمُ؛ أي: تبليغُ المعلومات.

- اصطلاحًا:
هو الإخبارُ بالأحداثِ، ونشرُ المعلوماتِ والمعارفِ، وانتقاؤُها والتدقيقُ في صِحَّتِها؛ بناءً على وجهةِ النَّظر في الحياة[5].

والإعلام في أوضح تعريفاته المتعرية عن الزَّيف هو: فَن الانتصار بدون حرب[6].

وإذا كانت الدعاية هي عمليَّة ترويج إمَّا لفكر أو بضاعة فإن الوسيلة، في كلتا الحالتين هي الإعلام[7].

وللدعاية أنواع مُختلفة أبرزها: الدعاية البيضاء، والدِّعاية السوداء، والدعاية المضادة.

الدعاية البيضاء:

وتكون مكشوفة سافرة ظاهرة واضحة الهدف وبنَّاءة، ويُفصح فيها الداعية عن نفسه، ويوضح غرضه، ويدرك الناس أنَّها تؤثر فيهم[8].

الدعاية السوداء المقنعة:

وتكون مستترة خفيَّة الغرض، وتعمل على رفع الشِّعارات البَرَّاقة، والكلمات الرنانة، مثل: الديمقراطية، والحرية، والعدالة، وتفتعل التهويل والمبالغة، وتتعمد اختيار جانب من الحقائق يخدم غرضها دون ذكر باقي الحقائق، وتلجأ إلى الاختلاق، وتشويه وتغيير الحقائق والأرقام، وتستخدم التَّكرار حتَّى يؤمن الناس بالفكرة، حتَّى وإن كانت كذبًا[9].

أما الدعاية المضادة:

تقوم على أساس تمييز الدِّعاية الخاطئة وكشفها ومُهاجمتها بطريقة مُباشرة، وتهدف إلى تجنب الوقوع تحت تأثيرها؛ لكونها ضدَّ إرادة الأفراد والجماعات، ومن أساليبها: دراسة وتحليل الدِّعاية، ومعرفة أساليب الداعية وحيله المختلفة، والقيام بالدِّعاية المُضادة التي تقدم للنَّاس معتقدات واتجاهات مضادة لتلك التي يُريدها الدَّاعية، والتصرُّف وعمل شيء فيما يتصل بالحاجات والمطالب المسؤولة عن جعل الدِّعاية الخاطئة مقبولة[10].

وفي رأيي: أن الدَّعايا المضادة أحيانًا تتحول إلى سوداء، بدون أن يشعر الداعون إليها والمعلنون عنها؛ وذلك حين يتعمَّد مُروِّجو الدعايا السوداء إطلاق فكرة بطريقة مُعينة، تُثير استفزاز صاحب مبدأ الدِّعاية المضادة، والذي بدوره ينقل تلك الفكرة السَّوداء بطريقة غير صحيحة كأنَّه مُروج لها، وليس ضِدها؛ ولتقريب الفكرة هي تمامًا حينما يفشل ما يسمَّى في الطب بالمصل في القيام بدوره؛ وذلك لقلة مناعة الجسم، فقد يتحوَّل في لحظة من بكتريا كامنة تفيد الجسم إلى أخرى نشطة، ولكن ضِدَّ الجسم.

وأنا هنا لا أنفي أهمية تواجد تلك الدَّعايا المُضادة في الإعلام الإسلامي، ولكن - في رأيي- أعتقد أنَّها ينبغي استخدامها بشكل عِلمي وصحيح؛ حتَّى لا نصبح مُروِّجين لأعداء الدين.

عن أبى الطفيل قال: قلت لابن عباس: أرأيت هذا الرمَلَ بالبيت ثلاثةَ أطواف، ومَشْيَ أربعة أطواف، أسُنَّة هو؛ فإنَّ قومك يزعمون أنه سنة؟ قال: فقال: "صَدَقُوا وكَذَبوا"، قال: قلت: ما قولك: صَدَقُوا وكَذَبوا؟ قال: "إن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قدم مكة، فقال المشركون: إنَّ مُحمدًا وأصحابه لا يستطيعون أنْ يطوفوا بالبيت من الهزل، وكانوا يحسدونه، قال: فأمرهم رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنْ يرملوا ثلاثًا، ويمشوا أربعًا"[11].

من هنا نجد أنَّ مفهوم الدِّعاية عند الأعداء مفهوم أوسع وأشمل مما نحن عليه في الإسلام، ولكن وسعه للأسف في استيعابه لمكامن الشر والشائعات، ولكن ما وراء هذه الدعاية؟ وهل هناك فِكْرٌ وتوجيه مُحدد يبغيه مثيرو تلك الدعاية السياسية؟ هل هناك أهداف يريدون الوصول إليها؟

مُجددًا أحب أن أوضح فكرتي في إيماني بحديث النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((توشك أن تتداعى إليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها))، جعلني أرجئ بَحثي عن المتهم مَن يكون؛ لنركز هذه المرَّة على الجريمة ذاتِها، وما الهدف منها وكيفية مواجهتها؟

وحينما يكون الهدف ثمينًا لا بُدَّ أن نتأكد أن الوسائل والأساليب التي يستخدمونها ستكون أيضًا غالية، وحينما يكون الهدف هو الوصول إلى هُويتنا وعقيدتنا، فإنَّنا ينبغي أن ننتبه لتلك الأفكار التي يريدون إيصالها إلينا كأنَّها مُسلَّمات ينبغي حتمًا أن يسجد فكرُنا لها، وتنهار عقيدتنا تحت بلاطها؛ ليستسلم الوعي النقدي، والعمل العقلي لنا تحت تأثير تخديرهم الإعلامي.

قانون الإزاحة وحرب الثوابت:

إن من أهم هذه المسلمات التي استسلم لها الكثير من المسلمين كأنَّها أصبحت تشكل أصلاً من أصول ثقافتنا وعقيدتنا - ما أسميته بحرب الثوابت الإعلامية، والتي بدورها تؤثر في إزاحة الثوابت الإسلامية - إن صحَّ التعبير - تلك التي تعد أساسًا محوريًّا في تكوين شخصية الفرد المسلم، والتي تؤثر بدورها على انتمائه وولائه وسلوكه وحياته بشكل عام وخاص، وحينما تعلن الحرباءة انتصارها على هذا الثغر، فإنَّها تريد أن توصل لنا رسالة قويَّة بأنَّ عقولكم قد تحولت إلى كُتل من رمال في مهبِّ الريح؛ يقول الله - عزَّ وجل -: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة: 204-206].

وقال الله - عزَّ وجل -: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4].

وكما يقال: القلب هو الملك، وملك قوي وجيش ضعيف خيرٌ من جيش قوي وملك ضعيف؛ فتلك الحرباءة تلعب على القُلُوب التي نعقل بها في تأصيل الثَّوابت الإعلامية بقانون أشبه بما يسمَّى في الفيزياء بقانون الإزاحة؛ فلو أردنا أن نشاهد أكبر تجربة معمليَّة لهذا القانون على وجه البسيطة؛ فلنلاحظ جيِّدًا ما يحدث في وسائل الإعلام المختلفة بدءًا بالوسائل الأكثر انتشارًا - المرناة والشبكة العنكبوتية والوسائل المرئية بشكل عام - وحتَّى المواد الثَّقافية والتعليمية فنجدها مُلوثة بهذا الدَّاء أو القانون.

كذلك يمتد انتشاره إلى الفئات البسيطة من الأميين ذوي الجهل البسيط؛ ليتحولوا في لحظات إلى مرضى بالجهل المركب، بانقيادهم تحت ألوية لا علم لهم بها ولا طاقة؛ وذلك بوضع ثوابت وهميَّة أو مضللة لتزاح تلقائيًّا بسببها الثوابت الأصليَّة.

وأحيانًا تكون الثَّوابت المضللة مُناظرة لما تَمَّ حذفه وإزاحته, وأحيانًا أخرى تكون لا علاقة لها بها إلاَّ أنَّها في الأخير تتجه نحو الهدف.

وفي بحثي لن أفصل القول في شرح أمثلة هي معروفة للجميع، ولكن أكتفي بذكرها فقط، دون شرح لإثبات القانون.

أولاً:
إزاحة ثوابت بإلقاء شبهات: مثل: الحرب على السنّة، حتَّى أصبح الحديث عن حُجيَّة السنّة أمرًا ضروريًّا ومطلوبًا في هذا العصر، والحرب على القُدوة المتمثلة أولاً في الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ودوَّامة الاستهزاء المتواصلة، ثم الصحابة، ثم أعلام الحديث؛ كالبخاري ومسلم، وهذا غيض من فيض... إلخ.

ثانيًا:
إزاحة ثوابت واستعاضتها ببديل مناظر لها: محاولة إزاحة مَذهب أهل السنة والجماعة بشكل عام، باستخدام سياسة التَّقريب، تارة بين المذاهب، وتارة بين الأديان، والحرب على العقيدة بربطها بنظريات حديثة بدون مرجعية شرعيَّة، مثل: البرمجة اللُّغوية العصبية، وإزاحة ثوابت في العقيدة مُتعلقة بالإيمان بالله، وأنَّه الخالق القادر المقدر الواحد، ووضع بديل مثل قانون الجذب أو السر.

أمثلة أخرى مُتعلقة بطريقة غير مباشرة بعقيدة المسلم، يُمكننا تطبيق القانون عليها بسهولة؛ كشعارات تكرر يوميًّا بتعريفاتها أو بدون: ضَعْ سياسة التقريب، وزِحْ أهل السنة والجماعة، ضع تحرير المرأة وحواشيها ومشكلة السكان الوهمية... إلخ، وزِحْ "الحجاب + الضوابط بين الجنسين + الأسرة المسلمة"، ضع قوميَّة عربيَّة، وزِحْ خلافة إسلاميَّة؛ ثم ضع شرق أوسطيَّة، وزح قومية عربية... إلخ.

ثالثًا:
وضع ثوابت وهميَّة بدون بديل: وحينما يُصبح القلب فارغًا من النُّور، فإنَّك لن تجد فيه الظلام فحسب، ولكن قد تسكنه الأشباح والأساطير، -وكلامي لا يَمس الإعلام الإسلامي، ولا ينطبق في الغالب على من هَجَر الوسائل الإعلاميَّة وأذيالها، ولا من عرف النُّور طريقه – ومن اهم هذه الثوابت الوهمية

أهم الثوابت الوهميَّة المستوردة:

1- خرافة الحريَّة من منطلق النَّزعة الفردية.
حرية الفرد، حرية الإعلام، حرية الأديان، حرية المجتمعات: وأعتقد - في رأيي -: أنَّ هذا هو المفهومُ الذي يُؤصل مُعتقداتٍ جَبَّها الإسلام؛ فمفهوم الحرية الحقيقة تتمثل بَدءًا من خلال ارتباطها بعبوديتنا للخالق، ومن ثَمَّ الامتثال لأوامره - عزَّ وجل - فيما شرع؛ من هنا تتضح معالم الحريَّة للمرء وللمجتمع ككل، وليست الحريَّة المطلقة في قول وفعل ما نشاء تُسمَّى حرية.

ومن ثم؛ فإنَّ الحرية الإعلاميَّة والفكريَّة يُمكننا أن نعتبرها أحَدَ الأساطير التي تفرضها علينا سياسة التَّلاعُب بالعقول؛ يقول الشيخ سيد العربي عن حرية الأديان: "قال عزَّ من قائل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]، وهو سبحانه لا يرضى لعباده الكُفر أبدًا؛ قال عزَّ من قائل: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7]؛ وهذا قطع لكلِّ جدل حول حرِّية الأديان، وبيان أنَّها حرية لمن أراد الهلاك والخسران، وليست حُرِّية تعني الاختيار المقتضي للتنقل بين مُتساويين أو مُتماثلين، كلاَّ وألف كلا؛ فهو اختيار بين النجاة والهلاك، بين الإيمان والكفر، بين الجنَّة والنَّار"[12].

ويوضح هربرت شيلر هذا بقوله: "إنَّ هذا من أفضل الانتصارات التي أحرزها التضليل الإعلامي - السعي من أجل تكريس تعريف للحرِّيَّة تَمت صياغته في عبارات تتسم بالنَّزعة الفردية"[13].

2- خرافة الحياد "الرأي والرأي الآخر": فالإعلام يظهر دومًا نفسه كطرف ثالث مُحايد، بعيدٍ كل البعد عن عين الاتِّهام، وليس بوصفه آلة أساسيَّة من آلات التَّضليل والإفساد، بنقله للدعايا السَّوداء كما هي دون غربلة أو تقييم؛ مما يزيد أمراض الشبهات في الأمَّة، ويضعف هُويتها، ويظهر مُعلِّبو هذا الإعلام بوجه لا يوصف إلا بالجمود، أو كما قال - بأبي هو وأمي، صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا يعرفون معروفًا ولا يُنكرون مُنكرًا))؛ كالخُشُب المُسنَّدة علي كراسي من ذهب، ينقلون كلَّ أنواع التضليل والسباب والاستهزاء برُمُوز الإسلام وأعْلام الهُدى على أنَّها حتمًا الرأي الآخر؛ كأن لا دخل لهم فيما ينقلوه إلينا، وكأن هذا حتمًا من واجبهم نحونا؛ يقول هربرت شيلر في كتابه "المتلاعبون بالعقول": "لكي يؤدي الإعلام دوره بفعاليَّة أكبر لا بُدَّ من إخفاء شواهد وجوده؛ أي: إنَّ التضليل الإعلامي يكون ناجحًا حينما يشعر المضللون أنَّ الأشياء على ما هي عليه من الوجهة الطبيعية والحتمية؛ فالتضليل الإعلامي يقتضي واقعًا زائفًا هو الإنكار المستمر لوجوده أصلاً"[14].

3- وَهْم التعددية الإعلامية: وهو إيهامنا دومًا بأنَّنا حتمًا لن نجد مفتقدنا المعرفي إلاَّ في سوق الإعلام الممتلئ بشَتَّى العلوم، واختلاف الثَّقافات، وتعدد الأخبار، ولكن المدقق في الأمر يجد أنَّ الاختيار قد يصبح أحيانًا مستحيلاً، إذا ما اكتشفنا أنَّ المواد المخيّر بينها واحدة في مضمونها، مع اختلاف الأغلاف المزينة لها، ولا أشكُّ في أنَّ ذلك يكون عمدًا؛ لتتحول العقليَّة العربية[15] بصورة غير مُباشرة إلى عقليَّة مُبرمجة، لا تعرف سوى ما يقدم لها على المائدة الإعلاميَّة.

ومن أهم ما يُبْرِز ذلك: اشتراك طبقات المجتمع المُختلفة بشتَّى مستوياتها على لغة واحدة - وكأنَّك تتكلم مع شخص واحد - هي لُغة الإعلام، سواء في أسلوب التَّفكير، أو فيما يسمونه بالذَّوق الفني، الذي أصبحنا نُعاني من وَقَاحته وابتذاله، والذي لم يعد يُستحى منه حتَّى الأُسَر المحافظة؛ وكما قال النَّبي - صلَّى الله عليه وسلم -: ((حتى يقال للرجل: ما أجلده! ما أظرفه! ما أعقله! وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان)) [16].

وكما يقول هربرت تشيلر: "إنَّها إذًا إحدى الأساطير المركزية، التي يقوم عليها ازْدهار نشاط "توجيه العقول"، ورغم أنَّ حريتَيِ الاختيار والتَّنوع يُمثلان مفهومًا مُستقلاً، فإنَّهما لا تنفصلان في الواقع؛ فحرية الاختيار لا تتوافر بأيِّ معنى من المعاني دون التَّنوع، فإذا لم تُوجد خيارات واقعية، فإنَّ عمليَّة الاختيار، إمَّا أنْ تُصبح بلا معنى، وإمَّا أن تصبح مُنطوية على التضليل، ويصبح احتمال انطوائها على التضليل واقعًا فعليًّا، عندما يصاحبها الوهم بأنَّ الاختيار ذو معنى، ويتعزَّز هذا الوهم من خلال الميل الذي يعمد المسيطرون على الإعلام إلى المحافظة على استمراره، وإلى الخلط بين وفرة الكَمِّ الإعلامي وبين تنوُّع المضمون، وهذا الكلام يؤكد كيف يَفرض الإعلام نَفْسَه على عُقُول البشر، ويتحكَّم في توجيهها، ويُسيطر على جوانب من ثقافتنا وخلفياتنا الفكريَّة من دون أن ندري؛ ليضعها تحت أَسْر توجهاته المغرضة[17].

4- الحرب النفسية الوهميَّة: حينما نتشرب فِكْرًا سلبيًّا على أنَّه طبيعة إنسانيَّة ثابتة غير قابلة للتغيير، فإنَّ ذلك حتمًا يُؤثر على مدى كفاءة المسلم في مناحي أنشطته المُختلفة، بل قد يتغلْغل؛ ليؤثر سلبًا على معتقده ويقينه في قَدَر الله - عزَّ وجل – وقضائه، حينما يصاب باليأس نحو بصيص التقدم، ولعلَّ أهم هذه العبارات والمعاني التي شربنا منها حتَّى النخاع: محورُ الشر، الدول النامية، الدول الفقيرة، البقاء للأقوى، الانتصار بالعدد والعدة؛ ونشرات الأخبار الفوريَّة التي تنقل لأجيال الأمَّة يوميًّا ثوابتَ وهميةً، ينبغي أن يتشربوها، ورسائل انهزاميَّة ينبغي ألاَّ تتخطَّى آمالهم وأحلامهم في المستقبل حدود عتباتها المشؤومة، وكأنَّهم يريدون إيهامنا بقناعات ينبغي أن تكون، ولدينا فقط.

يُمكن القول: إنَّ الطموح الإنسانيَّ يسهم بشكل ملموس في شحذ التغيير الاجتماعي، وعندما تكون تلك التمنيات مُتواضعة فإنَّ السلبية تسود[18].

يتبع إن شاء الله.


-----------------------------
[1] "لسان العرب".
[2] الراوي: جابر بن عبدالله الأنصاري، المحدث: الترمذي، المصدر: "سنن الترمذي"، الرقم: 3315، خلاصة الدرجة: حسن صحيح.
[3] الراوي: حذيفة بن اليمان، المحدث: البخاري، المصدر: "الجامع الصحيح"، الرقم: 3606، خلاصة الدرجة: صحيح.
[4] جريدة الصباح الالكترونية.
[5] "الحرب الإعلامية والحرب الدعائية"، لجواد عبدالمحسن، الجزء الخامس، و"محاولة تشكيل الرأي العام".
[6] "إرشاد السؤول إلى حروب الرسول".
[7] "الدعاية والإعلام"، الشيخ جواد عبدالمحسن، ج 5.
[8] جريدة الصباح الالكترونية.
[9] جريدة الصباح الالكترونية.
[10] جريدة الصباح الالكترونية.
[11] الراوي: عبدالله بن عباس، المحدث: مسلم، المصدر: "المسند الصحيح"، الرقم: 1264، خلاصة الدرجة: صحيح.
[12] "قدسية حق الله وحرية الاعتقاد".
[13] "المتلاعبون بالعقول"، لهربرت تشيلر، ترجمة: عبد السلام رضوان.
[14] "المتلاعبون بالعقول".
[15][تعليق الألوكة] الأولى حين التَّحدث عن الهُوية النسبة إلى الإسلام فهو هُويتنا الحقيقية، وإنَّما قلنا هنا بالأولويَّة لا بالوجوب؛ لكون كثير من الإسلاميين يقصدون بالنسبة إلى العربية عربية الإسلام؛ باعتبار العرب هم مادة الإسلام، أو باعتبار أنَّ كل من تلفظ بالعربية فهو عربي، وإن لم يكن عربيَّ النسب والجنس، لا مطلق العربية وفقًا للمفهوم القومي الجاهلي، الذي يفضل العربي وإن كان غير مسلم، على الأعجمي وإن كان مسلمًا، ويجعل الولاء على ذلك المفهوم.
[16] الراوي: حذيفة بن اليمان، المحدث: مسلم، المصدر: المسند الصحيح، الرقم: 143، خلاصة الدرجة: صحيح.
[17] "المتلاعبون بالعقول".
[18] "المتلاعبون بالعقول".
اسمٌ لما يَدَّعيه، والدُّعاةُ: قومٌ يَدْعُون إلى بيعة هُدًى أو ضلالة، واحدُهم داعٍ، ورجل داعِيةٌ إذا كان يَدْعُو الناس إلى بِدْعة أَو دينٍ، أُدْخِلَت الهاءُ فيه للمبالغة؛ قال تعالى {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف: 31][1]، وأخبر عن نوح وكيف دعا قومه؛ فقال - عزَّ وجل -: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [نوح: 5-7]. العلاقة بين الدعاية والإعلام: لتوضيح العلاقة بين الدعاية والإعلام ينبغي أن نُعرِّف كلاً منهما.


رحاب بنت محمد حسان



 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
رحاب بنت محمد
  • مقالات
  • بحوث
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط