صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







تداعيات فتاة متقلبة

هيا الرشيد

 
بسم الله الرحمن الرحيم


تمسك بأوراقها،وتعبث بأقلامها،تارة تكتب الخواطر،وتارة ترسم الطبيعة،تلقي بكل شيء في لحظة مفاجئة،وتمسك بكتاب لتقرأ عن ذات النطاقين،الصحابية الجليلة،تمعن في القراءة وتسرح في خيالها،تتخيلها تسير على الصخور الوعرة،وتتلفت يميناً ويساراً خوف متابعتها،تخيلتها أيضاً بنطاقها الذي تحمل فيه زاد سيد المرسلين،وصاحبه أبي بكر الصديق،أغلقت الكتاب،وافتر ثغرها عن ابتسامة إعجاب،دائماً تفكر بهذه القصة،وتتساءل عن سر إعجابها الشديد بها،لعل السبب هو المقارنة بين فتيات تلك الحقبة وفتيات الآن،أم لعله الارتباط بمرحلة واحدة من العمر.
وضعت الكتاب في مكانه،فالعودة إلى قراءة هذه القصة متوقعة في أي لحظة،يقطع رنين الهاتف عليها تلك الخيالات،زميلتها في المدرسة،كالعادة أحاديث لا نهاية لها،المعلمة،الواجب،الزميلات،
التلفاز،السوق،تمرّ الساعة دون أن تشعر،تطرق والدتها الباب،
تطالبها بإغلاق الهاتف،تعتذر على عجل،تغلق السمّاعة،تعود إلى عالمها،رسمت،قرأت،كتبت،وجدت المتعة هنا،ولكنها شعرت بالملل
هناك،اقتنعت بفائدة هذا،ولكنها وجدت عدم الفائدة من ذاك.

يرتفع صوت المؤذن ليشق السكون،تبادر لأداء الصلاة،تعود لتداعياتها النفسية مرّة أخرى،ترفع يدها لتعرف الوقت،لا زال الوقت مبكراً،تنتظر الحلقة التاسعة للمسلسل اليومي،يحين الموعد،تتابع بشغف،وفي الغد نقاش بينها وبين زميلاتها،أتوقع أن يحدث كذا،وأنا أتوقع كذا،تستمتع بالنقاش،ولكنها وفي قرارة نفسها تشعر بتفاهته،وفي نفس الوقت لا تعلم حقيقية سبب مسايرتها لهن في هذا الحديث الخاوي،الدرس الأخير،المعلمة متغيبة،خواء آخر في مجال آخر،تتحمس كعادتها،وتدير الجلسة،وتترأس النقاش،مسلسل،رواية،مجلة أزياء،سوق جديد،رنين الجرس يعلن نهاية اليوم الدراسي،تركب السيارة،وبداية حديث مع النفس.

تدخل المنزل،تلقي بالتحية على والدتها،ووجهها يبدو شاحباً،تبادرها الوالدة الحنون:-
هل هي المشكلة ذاتها؟؟
توميء برأسها،تدخل غرفتها،وتسارع دموعها الساخنة بالانحدار،ويحين بعدها موعد طعام الغداء،تكفكف دموعها،وتغالب همومها،وتخرج من حجرتها،يتراكض الصغار من حولها،يعلنون فرحتهم بها،تبتسم لهم،وتداعبهم،يبادلونها الابتسام،ويتمادون في مرحهم،تتناول طعامها،وأفكارها مختلطة،تخطط،تقارن،تقرر،وعند التنفيذ تختلط عليها الأمور،تعود إلى حجرتها،وكعادتها في كثير من الأيام،تمسك بالورقة والقلم،تترجم أفكارها على الورق،ولكن في المنتصف تتوقف الكلمات،وتستعصي العبارات،فتمسك بالورقة وتمزقها،وتتعهد بالمحاولة مرّة أخرى،تتذكر محاولاتها لصب مشكلتها على الورق،لا تتذكر عددها بالضبط،تحاول صياغتها لعرضها على من تثق به،وفي كل مرّة يخونها التعبير وتخفق،تفكر في والدتها، ومعلماتها،والمرشدة الطلابية،وبعض صديقاتها،تجد كثيرات قد يساعدنها في حل المشكلة،ولكن المشكلة الآن هي صعوبة توصيل المشكلة ذاتها،تحدّث نفسها بأنه لا بأس،وبأنها ستحاول مرّة أخرى.

الواقع الذي تعيشه ملئ بالتناقضات،ولكنها تجد الوضوح سمة لكل شيء،فهذا حسن وهذا قبيح،إذاً فالتناقضات التي تراها ليست غامضة،ولكن الغموض في التعامل معها،فهي تعرف موطن السوء وتقبل عليه،ومكان الحسن وتدبر عنه،وتجد نفسها في كثير من الأحيان منساقة نحو ما ترغبه صديقاتها وليس ما ترغبه نفسها،وتسير وفق ما يستحسنه غيرها ولو كان لا يتمشى مع ميولها،تريد فقط رضا الأخريات،ونظرات الاستحسان منهن،وعندما تخلو بنفسها تبدأ دوامة التفكير،لماذا فعلت؟ولماذا قلت؟وإلى متى؟وهكذا إلى آخر القائمة.

في نهاية الأسبوع يكون هناك اجتماع مع الأقارب،فتلتقي مع بنات الأعمام،ساعات طويلة حبلى بشتى الأخبار،أفلام،مسلسلات،موضة،أزياء،آخر صيحة في كل شيء،تعلوا الأصوات،ويشتد النقاش،وكالعادة هي في المقدمة،تترأس الجلسة،وأخبار طويلة عريضة أكثر وأكبر من أن تحتويها جلسة لبضعة ساعات،تشعر بنظرات الإعجاب من حولها،شخصيتها مميزة،وأحياناً ترى نظرات الغيرة،فثقافتها واسعة،وأحاديثها جذابة،ولديها براعة في شد الانتباه،ولكنها تحدث نفسها أيضاً بأن كل ذلك مظهر اجتماعي زائف،فهي تتحدث وتتصنع المرح،وتسترسل وتتصنع السعادة،تقنع الأخريات ولم تقتنع بما تقول،تساير الطريقة العصرية للتعامل لمجرد التقليد.

عادت إلى المنزل،إلى حجرتها الخاصة،مملكتها الغالية،تسترسل في خيالاتها،وحديثها النفسي،وتفكر في كلام والدتها عن المجتمع،والتغيرات التي حدثت في الآونة الأخيرة،وبعودة الناس إلى التفكير الجاد،واستغلال النساء والفتيات لأوقاتهن،ولكن في نفس الوقت تذكرت قولها بأنه لا زال هناك كثير من النساء والفتيات يغلّفن حياتهن بتلك الصورة المبالغة في التقليد،ومتابعة كل جديد،وجدت نفسها متأرجحة بين الرفض والقبول،تلك هي المشكلة،نفسها مقبلة على الخير،ولكن صديقاتها وقريباتها لها بالمرصاد،نظراتهن،همساتهن،تساؤلاتهن،كل ذلك يجعلها تتردد،وفي نفس الوقت تجد نفسها ترفض وبازدراء تصرفات كثيرة ومع ذلك تقوم بها،والسبب واحد لا يتغير،المحيطات بها وتأثيرهن عليها لا إرادياً،تتساءل عن نفسها ومتى ستستقر؟وعن رأيها ومتى سيثبت؟تشعر بالحيرة أكثر فأكثر،وتؤجل القرار إلى وقت آخر.

تشرق شمس يوم جديد،وتستعد للذهاب إلى المدرسة،أفكارها كثيرة،وخيالاتها واسعة،ورأيها متأرجح بين ذا وذاك،وقناعاتها لا زالت ثابتة،ولكن مشكلتها تكمن في التطبيق،تتذكر بعض أترابها من طالبات المدرسة أو أقاربها،وتقارن بينهن،تعجبها الفتاة المتوازنة،صاحبة الشخصية الواثقة،التي تتمتع بجرأة مقنعة ممزوجة بالحق،وتجد نفسها تنفر من كل فتاة عابثة جرأتها بالباطل،تشعر بأن المحيطات بها يعرفن طريقهن،هذه تسلك الطريق الصحيح مقتنعة بجدواه،وأخرى تسلك طريقاً مغايراً وتعرف نتيجته،وقد تكون هناك من تسير دون هدف ودون شخصية،ولكنها ترى نفسها فتاة مختلفة عن الجميع،فهي تعرف الحق والباطل وتفرق بينهما،ولكن للرفقة عليها أكبر الأثر،والتقليد وإن كان دون قناعة يسيطر على كثير من تصرفاتها،وأحاديثها،وحركاتها،وملابسها،وحتى الأماكن التي تذهب إليها.

تفكر في نفسها، وتجد شخصيتها الجذابة أمام الناس مهزوزة أمام نفسها،ضعيفة تحتاج إلى جرعة من الثقة،تتسائل بينها وبين نفسها عن سبب تأثرها الداخلي بالأخريات،وعن سر اهتمامها بآرائهن،وتعتقد في نفس الوقت بأنها لو حاولت السير وفق قناعاتها الحقيقية،فلن تسلم من نظرات التساؤل،ومن الهمز واللمز،تدرك بأن هذه هي طبيعة البشر،ولكنها أيضاً تعرف نفسها تماماً،فلن تطيق عبارات السخرية،أو بوادر الدهشة من المحيطات،ولن تستطيع أن تتغير وفق المطلوب بين ليلة وضحاها،والتدرج الذي تطمح إلية سيغتال نضارة التغير الذي تحاول الوصول إليه،تريد أن تنسلخ تماماً من شخصيتها الحالية،تحلم بالشخصية الجادة المثابرة،تريد أن تخوض معترك الحياة بخطى ثابتة لتحقيق أهداف سامية،تتمنى أن تنسلخ من ذلك العبث بالأوقات،وتستثمر الثواني واللحظات.

تتوارد عليها أفكارها،ويكون محورها فكرة أن تعيش قناعاتها الحقيقية،تريد أن تستبعد من حياتها ذلك الانسياق الإجباري خلف آراء محيطها،ترغب في أن تعيش شخصية تريدها هي لا أن تعيش شخصية يريدها الآخرون،تهب من مكانها واقفة،وكأنها تنفض ركاماً بالياً،تغادر حجرتها على عجل،تستحث الخطى في نزول سلالم المنزل،تقابلها والدتها مندهشة،سرعتها في الحركة تثير التساؤلات،ونظراتها الحماسية موضعاً مثيراً للدهشة،تبادر والدتها بالحديث،وتوحي إليها بالخبر الحاسم،كلمات كأنها المطر،لقد وجدت نفسها أخيراً،وجدت الحل لمعاناتها،ستعيش شخصية ترغبها،ستدير ظهرها لآراء الأخريات،ولا بأس من فظاظتهن معها،ولا بأس أيضاً من تركهن لها،ستجد من يوافقها في أفكارها،وسترافق من يناسب ميولها،تفكر في كثير من الأشخاص،ويدور في ذهنها كثير من الأماكن،تفرح والدتها لفرحها،وتبتسم لها معلنة رضاها،تبادل والدتها الابتسام،وتودع ماضيها المتقلب،وتعاهد نفسها المتعبة بجرعات مكثفة من التوازن والاستقرار.



 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
هيا الرشيد
  • الأسرة والمجتمع
  • الفكر والثقافة
  • القصص
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط