صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







نظرة الإسلام إلى الإنسان والكون

إكرام الزيد

 
" تأملات "

حين كـلَّـفتُ بكتابة موضوع عن " نظرة الإسلام إلى الإنسان والكون "، شعرتُ حينها بوقوعي في ورطة حقيقية، فرغم أنّي أصنّف " قارئة "، إلا أني لم أتبحر بعد لأصل إلى موضوع شامل عميق كهذا، وقد حسبته كما يقال: "نشاطاً إضافياً"، فتساءلتُ كيف أكتبه وأنا لم أقرأ عنه من قبل؟! وبدا لي من عنوانه أنه صعب جداً، بل وجدتُ في الأمر تحدياً حقيقياً .. فالمطلوب أن أكتب عنه في صفحتين فقط، مع أنه شامل شائق، المجلدات لن تفيه حقيقته، ولن تشمله نظرتها، ولن تستوعبه صفحاتها، فما كان مني إلا أن أتيتُ بعدتي و"شيء من عدة صاحباتي" من كتب تحدثت عن هذا الموضوع، وأخذتُ أقرأ !
والآن .. أعتقد أنها كانت مصادفة جميلة، و(ورطة) رائعة، فرغم أن الموضوع كان في كتابنا المقرر بشكل مختصر وواضح، إلا أنني أحمد غفلتي عنه ورب غفلة تُحمد ! فلو كنتُ أعرف أنه فيه ربما ما بحثتُ عنه خارجه، وربما اكتفيتُ بتلخيص صفحتين .. وحينها سيكون قد فاتني شيء مبهر جداً ونادر المثيل، وربما مضى عليّ زمن قبل أن أقع على كنزٍ كالذي وقعتُ عليه .. إنني سعيدة جداً بهذه المصادفة التي جعلتني أقرا للشيخ " محمد قطب " !

لقد قرأتُ كتابه "منهج الفن الإسلامي"، ولن أسطع الإيجاز، فهل ستكون مقالتي هذه عرضاً للغة البديعة فيه؟ أم للفكر المستنير؟ أم للإشراق الروحي المتجليّ في ثنايا الكلمات؟ لقد كان الكتاب تحفة فاخرة باذخة الجمال من جميع النواحي، وأجزم بحاجة كل مسلم إلى قراءته، لما فيه من سبر الأغوار، واستخراج الروحانيات بسلاسة وعذوبة، تحلّق بقارئه في آفاق سامية مشرقة، فقد حوى الكتاب ما أعجز عن حصره، لكني سأتحدث بما خرجتُ منه جملة مع تلخيص جزئية المنهج المقرر، حتى لا يختل الأصل باتباع الفروع ..

وحيث أنّ لكل حكاية مبدأ ومنتهى، فإنّ ومض الابتداء لأجمل الروايات "الإسلام والإنسان والكون" تعني أن الحديث عن هذه الثلاثية ليست مجرد فلسفة مقولبة، أو نظرة جامدة متجردة من الروح، بل هي صداقة لا مثيل لها ولا نظير ولا شبيه بين كلّ الصداقات، صداقة تكافلية تكاملية ناضحة بالعطاء والحب والجمال من كلّ طرف، علاقة تجعل الكون ليس مجرد كواكب ونبات وماء وبهائم أوجدتها الطبيعة أو حكمَ على وجودها الأزل، بل هو آية الله الكبرى المبهرة للعقول، آية ناضحة بدلائل العظمة والقدرة والجلال، وإذ أنّ مبادئ الإنسان - المؤمن خاصة - تتفق وبنسق دقيق مع نظرته إلى الكون، فإنّ الإسلام يؤصل عند الإنسان المسلم مبدأ الإيمان بوجود خالق للكون وذلك من خلال التأمل: " قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ " [101- يونس]. وأيضاً: " أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ " [185 – الأعراف ]

ولا يقف الأمر عند الخلق، بل يتتابع الإبهار والإعجاز الذي يصوره الكون والقرآن للإنسان "أي لنا نحن"، حتى يرينا أنّ الصانع لم يصنع صنعته ثم يتركها هملاً، بل هي تتبع في دقتها نظاماً معجزاً في إتقانه: " فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ" [96 – الأنعام] أليسَ الإنسان هنا متعلماً للدقة والإتقان والنظام؟ أليس الإنسان يتعلم كل يوم ويتعلم .. حتى صار التدبير جزءاً من التسخير .. وصار التسخير جزءاً من التدبير .. وعجباً إذ اجتمعا ولا عجب من العظمة الربانية، وإنّ في الآية التالية لأعظم دلالة على التدبير للإنسان، والتسخير له، والعلاقة التكاملية بينه وبين الكون: " هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ" [ 5 – يونس ], وغيرها من الآيات كثير .. تكفينا منها ما ابتدأ بقوله: " وَسَخَّرَ " !
ثم يتجاوز الأمرُ الخلقَ والتدبيرَ الضروري إلى أن يسخّر هذا البهاء كلّه من أجل الإنسان .. وأي تكريم هو هذا؟ فهذه الكواكب، قد صارت جمالاً يتغنى به الإنسان ويستمتع جزءاً من التسخير الرباني: "وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ" [12–غافر] ، كما يسخّر لنا البهيمة، لكنه يجعل العلاقة بها ليست مجرد ركوب ونزول وارتحال: "وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ " [ 6 - النحل] وكذلك: "وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ" [8- النحل] .. لننظر ..كم مرة تكرر ذكر الحسن والزينة والجمال هنا ؟! بل حتى مع النبات، نراه لا يدعونا إلى أن نطعم منه فقط: "كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُم" بل يدعو إلى تأمل الصنعة، وبديع التكوين: "انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْم يُؤْمِنُونَ" [99- الأنعام] .. كلّ ذلك الجمال البهي .. أليس الإنسان وحده من بين سائر المخلوقات الأرضية هو الذي يدركه ويستوعبه؟!

بعد ذلك .. تأتي نظرة الإسلام للإنسان، لا تفصل فيه روح عن الجسد، ولا جسد عن الروح، بل هما مزيج من نفخة كريمة وطينة أرضية، ويجدر التنبيه هنا إلى أنّ الروح التي نُفخ في آدم عليه السلام منها "وَنَفَخْتُ فِيْهِ مِنْ رُوْحِيَ" مضافة إلى الله إضافة تشريف لا نسبة، إذ أنّ نسبتها إلى الله " جزءاً منه " يقتضي أن يكون جزء من الله سبحانه وتعالى حالاً في آدم، وهذا لا يكون، إنما هي روح مخلوقة، خلقها الله .. ونفخ في آدم منها .. فتمثل بشراً سوياً .. وكفى بذلك تشريفاً .. أن حمل روحاً تعلو بالإشراق والصفاء والسمو، مع مراعاة تامة للفطرة الأرضية، بضبط رشيد، ونصح تام، وتقنين فعال، يجمع بين الإنسانية والبشرية، دون أن يجعل لأحدهما تعارضاً مع الآخر، بموازنة ناجعة، وسلاسة مريحة، تشبع الإشراق الملائكي في داخله، وترضي النزعة الأرضية في سكناته ورغباته ..

إنه تأمل يمنح الإنسان " الذي يدين بالإسلام " نظرة عميقة، تشعره بأنه منتظم في هذه الصفوف البديعة السائرة بأرواحها نحو الله، بنسق نادر الجمال والانتظام، وسنة تذكره بأنه شيء صغير بالنسبة لملايين المسبّحات: "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ " [41– النور]، إنه تأمل يدفعه إلى استشعار العبودية، والتوغل في معانيها، فهو قد حاز التشريف والتكريم والفضل .. بأصل خلقه وبالاستخلاف والإسجاد، فكان لزاماً أن يسلك الصراط القويم بعد أن هُدي النجدين، وهو إلزام يوجبه العقل السوي والفطرة السليمة، ومن حاد عن ذلك فلا إكراه في الدين، لكنه سيلقى الجزاء حتماً .. عدلاً من الله، وحينها .. إما أن ينقلب مسروراً، وإما أن يدعو ثبوراً، وليس على أحد في أمره ملامة، فذلك بما قدمت يداه .. وأنّ الله ليس بظلام للعبيد..
لعلي أطلتُ .. لكنما عزّ على يراعي أن يحبس حديثه، ويمنع قطره، ويضيق عليه في جريانه، وكنتُ أخذتُ منه العهد ألاّ يطنب فيملّ، ولا يوجز فيخلّ، فعاهدني ثم نكث وأبى وما عهدته خواناً، لكني أحمد الله أن جُعل له مخرج في رحابة صدوركم، وسعة أفقكم، وسماحة نفوسكم، فبوركتم وبوركت مساعيكم، هذا والسلام!

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
إكرام الزيد
  • مـقـالات
  • قصص
  • قصائد
  • أفكار دعوية
  • ردود وتعقيبات
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط