بسم الله الرحمن الرحيم

عراق البعث ... أم عراق الإسلام !!


في التاريخ المعاصر ، شهدت الأمة انحرافا عقديا وفكريا ظاهرا ، فقد صادف الانحطاط الذي أصيبت به الأمة الإسلامية في كل جوانب حياتها من فقدانها للمنظومة الجامعة التي تلم شعثها تحت حكومة واحدة ، إلى تأخرها عن ركب الحضارة والمدنية إلى انتشار البدع والانحرافات في أوصالها ، صادف هذا كله قوة في الحضارة الغازية المتجبرة المتكبرة ، المفتخرة بقيمها ومدنيتها وفكرها ، مما جعل كثيرا من أبناء الأمة الإسلامية يفتنون بهذه الحضارة القادمة ....

ولا شك ان المغلوب مولع بتقليد الغالب ، وهو الأمر الذي أشار إليه ابن خلدون رحمه الله في مقدمته الماتعة النافعة حيث أشار إلى نوع الاستلاب الذي يصيب الإنسان المنكسر المهزوم لمن غلبه وتفوق عليه ، وهذا ما يفسر لنا الكثير من شغف أهل الإسلام في هذا العصر بمشابهة الكفار في سلوكهم ، بينما تقرا في التاريخ البعيد ان الافرنجة كانوا يفتخرون لما ينطق الإنسان منهم كلمة عربية ، فيقولها ثم ينتفش فرحا بها !!

وكان من ابرز ما نكأ في الأمة وفتّ في عضدها هو نشوء التيارات الفكرية والقومية العلمانية في العالم الإسلامي ، حيث حكمت دول في العالم الإسلامي بحكم القوميين البعثيين الفاسدي العقائد والسلوك ، وأذاقوا المسلمين الويلات في تلك الدول التي كانت في يوم من الايام من حواضر العالم الإسلامي ، وخاصة دمشق وبغداد .

اما الأولى فقد حكمت من أناس يشكلون ظلمات بعضها فوق بعض ، فهم على قوميتهم واشتراكيتهم فهم مع ذلك نصيرية حاقدين على الملة والأمة ، حيث فتكوا بالمسلمين وأذاقوهم الويلات ، وما أحداث عام اثنين وثمانين الا شاهد على الحقد الدفين لأهل السنة والإسلام في بلاد الشام موئل الطائفة المنصورة ، ومدينة فضائل اخر الزمان .

ولا تسلني عن حماة وحمص وحلب ، وما جرى فيها من سفك الدماء وقتل الأبرياء ، وإهدار الكرامة والحرمات ،
فقد كنت في ذلك الزمن صغيرا ، ومع هذا فقد كان قلبي يتقطع حين اسمع خطبة الشيخ احمد القطان ، تلك الخطبة التي عرض فيها رسالة لاحدى الحرائر الشريفات القابعات في سجون الطاغوت في الشام ، وكيف انها تريد فتوى لتقتل نفسها حيث لا تطيق ابن السفاح من السجانين العتاة يتحرك بين أحشائها !

في ذلك الوقت اسمع صوت المنشد المترنم يصدح بصوته العذب ويقول :

روحي فداؤك طال البعد يا وطني ** دمي حماة ونوح الجسر اغنيـــتي
مالي اصطبار فراق الشام اتعبني ** ارجوك ارجوك هذا بعض امنيتي
سورية اليوم بركان ســــــيول دم ** شام الرسول منار نار ملحمــــتي

فهو يقول هذا .. حيث الم الفراق والبعاد يقطع نياط قلوب المشردين من المؤمنين من الشام .. لا لشي الا انهم يقولوا ربنا الله !

وفي الشرق ، حيث العفلقيون يحكمون بلاد دجلة والفرات ، منارة الإسلام ، ومنبع العلم ، حيث درست معالم الديانة من تلك الأرض الحرة الأبية ، وعقول أبنائها العظام ، فاختفت في جنباتها أصوات المآذن ، واخذ الجيل ينشأ على محددات فكر حزب البعث القومي العربي ....ويترنم بــ

آمنت بالبعث ربا لا شريك له ** وبالعروبة دينا ماله ثاني

قال لي احدهم مرة : زرت العراق ، وكنت اتمشى في ميدانها الكبير في قلب بغداد ، فحانت الصلاة ، فسالت العشرات من الناس عن القبلة ، وخاصة ثكنات الجيش البعثي في الميدان الكبير ، فشرقوا بي وغربوا .. ولم يعرف القبلة منهم احد ، ويبدو انه لم يكن في الجوار مسجد !

يقول : فركبت سيارة احدهم وهو الذي قصدته في المدينة ، فلما صعدت السيارة فاذا شريط أغاني ملصق عليه صورة الفنان العراقي سعدون جابر ، فادخله في المسجل ، فاذا هو شريط للشيخ الداعية عائض القرني ، فقال لي : هذا الرجل كلما سمعته بكيت ، ووالله لا ادري من أي بلاد الله هو ، وكان صاحبنا هذا زميلا للشيخ عائض وفقه الله ، فاخبره بمكانه ، ودعوته في تلك الأيام الخوالي ، قبل أزمة الخليج الثانية ! ، فسر الرجل وسعد لما سمع أخبار الشيخ .

يقول صاحبنا .. فبدأ الرجل يتحدث عن النظام الاستحباراتي العاتي في نظام البعث العراقي ، والتوجس الشديد والرهبة الشنيعة التي خلقها النظام في قلوب الناس ، وخاصة ما يتعلق بالتجمعات التي تاخذ الطابع الديني .

قال صاحبي : فقلت له : الا يوجد لكم أي نشاط دعوي او علمي ، فقال : انا وصاحبي قد اتفقنا على ان يمرني في البيت ونخرج نمشي إلى السوق ، وفي اثناء الطريق اسمّع له سورة من القران او آيات منه في الذهاب وهو يفعل هذا في الإياب موهمين الناس باننا نتحدث حتى نفترق عند بيتي !!

هذه صورة بسيطة من وضع العراق ، والا فان المآسي كثيرة ، والتضييق على أهل الإسلام وقتل العلماء ، وانتهاك الكرامة ، والتضييق على الناس في أديانهم وأموالهم ومعاشهم يطول الحديث عنه !

كان العراق والدول العربية قبل أزمة الخليج يتمحورون في فكرهم وسياستهم حول القومية العربية ، ويجتمعون في مظلة الجامعة العربية التي هي في الأصل صنيعة الاستعمار لمهمهة الأمة عن إعادة دولة الخلافة التي فقدتها ، ولتمرير القرارات التي تراد من قوى الاستعمار الغربي من خلال هذه المنظمة !

وفي صبيحة ذلك اليوم دخل صدام الكويت ، وكان دخوله نقطة تحول في فكر العرب ، حيث سقطت القومية العربية ، وسقطت مبادئها ، فمن جهة فقد خان عراب القومية قوميته بانتهاك حرمة جيرانه ، ومن جهة اخرى تجمعت ( العربان ) لقتال عرابهم في معركة تحرير الكويت ، ومنذ ذلك الوقت والفكر القومي العربي يعيش أزمة في الهوية والوجود ، وأصيب كذلك بصدمة قوية في وجدانه وشعوره ، فارتد عن هذه القومية أقوام مؤممين وجوههم إلى الغرب الديمقراطي ، بعد إن فشلت قوميتهم ، وخابت مشروعاتهم !

بعد عام واحد وتسعين ، واندحار صدام حسين وجيشه إلى العراق وطرده من الكويت ، وضرب الحصار الآثم على شعب العراق المسلم ، اختلف الوضع في العراق ، حيث تغير نمط التعامل من قبل النظام العراقي مع الشعب ، وخفت حدة الدكتاتورية ، واتيت فرص كبيرة للتدين في الواقع ، وبدأ الناس يتوافدون إلى المساجد ، وبدأت حلقات العلم في المساجد ، مع توجس شديد وتضييق يختلف عن الوضع العام مما يسمى ( الوهابية ) أو ( السلفية ) في تلك الأرض ، فلم يتح للدعوة السلفية الفرص الكثيرة كما اتيح لغيرها ، مع رجوع عدد كبير من الرافضة إلى السنة وخاصة في جنوب العراق !

هذا الكلام ليس فيه تزكية مطلقة للنظام البعثي في العراق ، فلا شك إن ما يصيبه ألان هو لحاق السنة الكونية بالظالمين المستبدين الغاشمين ، الذين أذلوا الناس واستكبروا في الأرض ، ومآل الطواغيت إلى بواروكساد ، وهي سنة الله في الأرض ( الم تر كيف فعل ربك بعاد ، ارم ذات العماد ، التي لم يخلق مثلها في البلاد ، وثمود الذين جابوا الصخر بالواد ، وفرعون ذي الأوتاد ، الذين طغوا في البلاد ، فاكثروا فيها الفساد ، فصب عليهم ربك سوط عذاب ، إن ربك لبالمرصاد ! ) ، والنظام في العراق لا شك يدخل في هذا دخول أولي ، اذ لا ينسى المرء تلك الاشلاء والجثث لأهل السنة في حلبجة ، الذين قتلوا قتلا جماعيا بشعا ، يقرح افئدة وضمائر النفوس المؤمنة !

أقول هذا مع إيماني العميق بان القضية بالنسبة لأمريكا وإدارتها للحرب مع حلفائها ألان ليست قضية طاغية يزال ، اذ لو كان هذا الهدف بصدق فلربما وجد الإنسان المبرر الكافي لأولئك الذين وقفوا في صف أمريكا في عدوانها على العراق ، ولكن العراق حلقة صغيرة من حلقات ( استراتيجية ) أمريكية استعمارية جديدة في المنطقة الإسلامية ، وقد اتخذت من العراق منطلقا لهذه الاستراتيجية التدميرية ، وهي استراتيجية متنوعة الأهداف ، والمطامع ، ما بين أهداف دينية مرتبطة بالدولة الخبيثة اليهودية ، وما بين أهداف اقتصادية نفطية ، وقبل ذلك ( الحرب على الإرهاب ) والذي يستهدف المسلمين المقاتل منهم وغير المقاتل ، وإعادة صياغة النظام العالمي ، وخاصة غربلة نظام هيئة الأمم المتحدة ، ومجلس الامن الدولي ، وإقامة الديمقراطيات في الشرق الاوسط على غرار الديمقراطية الأمريكية الليبرالية ، وتنصيب حكومات تكون تابعة مباشرة للولايات المتحدة ، إلى غير ذلك من الأهداف التي ليس هذا مجال الحديث عنها !
اضف إلى ذلك ، فان المعركة ألان موجهة إلى أهل العراق المسلمين ، والمتضرر منها هم اولئك الشيوخ والأطفال الذين عاشوا سنوات من القهر والتضييق والأمراض والفقر ، وهم الان يواجهون الترسانة الامريكية والبريطانية الفتاكة ، والتي تمطرهم بوابل من الحمم والنار ، فوجب على المسلمين الوقوف في صف اخواننا اهل العراق لرفع المحنة عنهم وصد عدوان المعتدي عليهم !

إن كل صاروخ يدمر في العراق ، وكل قوة تدك فيه هي في المحصلة النهائية تقوية لدولة اسرائيل ، ومد ذراعها الاقتصادي والسياسي والعسكري في المنطقة ، وهذا لا شك امر خطير على مستقبل المنطقة كلها .
ولذا فاني ادعو إلى عدم النظر إلى هذه المعركة مع الغرب بنظرة مفككة ومجتزئة ، بل لا بد من النظر الترابطي بين كل الأحداث التي تجري في العالم الإسلامي ، وهذا يعطي الإنسان بعدا جيدا في تحليل الأحداث ، ومن ثم إعطاء الموقف الصحيح مما يجري في منطقة الخليج العربي وفي العالم الإسلامي كله .ولو أدرك الحكام خطورة إن تنجح أمريكا في غزوها العراق ، لوقفوا صفا واحدا لافشال المخطط الأمريكي في العراق ، اذ هي نقطة البداية لبيع هؤلاء في سوق النخاسة ، والتحكم بهم بشكل سافر وعلني ، هم وغيرهم من دول العالم ، فوجب اتخاذ ما يلزم من التحالفات الدولية ، والزج بالناس جميعا للوقوف أمام طغيان أمريكا وتجبرها !!

اسأل الله إن يعز جنده ، ويذل أعداءه ، وان يبرم لهذه الأمة الأمر الرشيد الذي يحمي حماها ، ويصاول أعداءها ، ويحيي دينها وعقيدتها .. والله تعالى اعلم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين !

Dr-estefham
شبكة أنا المسلم

الصفحة الرئيسة