صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







ربيع الثورات وخريف الثوابت

د.محمود عبد الجليل روزن


بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم


الخريف طاقةٌ رمزيةٌ كبيرة عند الأدباء والكُتَّاب، فهو فصلٌ عجيبٌ بما يحمله من صباحٍ هُلاميٍّ وغروبٍ غامضٍ، ونهار لا يكاد يستوي على ساقه، حتى تصفرَّ أوراقه وتتطايرَ ذَرًّا في مهبِّ الريح، وليلٍ يتَّسعُ كفضاءٍ على كوكبٍ خاوٍ، وهو يحمل لي ذكريات رائحة العشبِ المنبسط بغلالةٍ رقيقةٍ ، تُذكِّر بمواتِ زخارفِ الصيف ونباتاته الكثيرة، وتُبشِّرُ بميلادِ أزهار الشتاءِ، وطيوره الليلية الغريبة.
كانَ الفجرُ بعيدًا جدًّا، والعِشاءُ المنطويةُ على بيوتاتِ القرية المتناثرة قد أُذِّنَ بها منذ زمن لا بأس به، والأنوار القريبةُ قد أُطفِئت إلا من ذُبالة مصباحٍ تسلَّلت عبر ثقوبٍ ضيِّقةٍ لنافذةٍ ما، أو نارٍ تتماوجُ على الماءِ يحملها مركبٌ شاطحٌ يحمل أحلام الصيَّادينَ بصيدٍ وافرٍ هذه الليلة، يُنسيهم برد الليل وتَرامِي الجهات.
وهناكَ على الشطِّ جالسٌ بكآبةٍ معهودٍة؛ أُقلِّبُ الأوراق والمواقف في ذاكرتي فيرُدُّني أولها على آخرها، ويزدريني الفهمُ فلا يمنحُني إلا ما يمنحُ الكتابُ الأعجميُّ طفلَ الثانية.
تتقهقرُ بي الذاكرةُ للخلف؛ والفصل خريفٌ، وبطون الشوارع والحقول قد ألقت بتلك المخلوقات العجيبة المُسمَّاة بالأطفال إلى المدارس والمعاهد، ضباب (الصُبحية) يغلِّفنا، فنفرح بشَعَرِنا الذي كساه البرَدُ بلونٍ أبيضَ، فَصِرنا كهولًا صغارًا، يضحكُ كلُّ واحدٍ على منظر أنداده، وتعبقُ بأنوفنا رائحة الطابور المدرسيِّ، وهي رائحةٌ عقليةٌ غامضةُ التركيب محفورةٌ في كيان كلِّ طفل، فكأنها مَعلمٌ خاصٌّ بالطفولة، أضفْ للرائحة أحداث اليوم المدرسيِّ الأول، ها هو قد انقضى، وها أنا عائدٌ بعد العصر أقِفُ أمام الشيخِ قائلًا:
- يا سيِّدنا؛ اليوم أعلنوا عن انتخاباتِ اتحاد طلاب المدرسةِ، وقد طلب مني زملائي الترشُّحَ لأنني من وجهة نظرهم أقدرُهم على الوفاء بمطالبهم، وإبلاغ صوتهم للأساتذة والإدارة، وتنظيم الحفلات والرحلات والمسابقات، فما رأيُكَ يا شيخنا؟
بابتسامة المُربِّي القدير، ووقار العالم الجليل يقول:
- جميلٌ منكَ أن تكون إيجابيًّا، فإنَّ الإيجابية أهمُّ ما يميز الشِّرعةَ المُحمدية عن الشرائع الأخرى، جميلٌ منكَ أن تسعى بكلِّ ما أوتيتَ لقضاء حوائج الناس، وإدخال السرور عليهم، فإنَّ ذلك أحبُّ الأعمال إلى الله، جميلٌ منكَ ألَّا تخلوَ يداكَ من شمعةٍ أو قلمٍ أو فأسٍ...ولكن...
يتنهَّد شيخُنا، ويُطرقُ مليًّا، ثمَّ يرفع رأسه قليلًا ويقول:
- ولكن يا بُنيَّ لابُدَّ أن تعلمَ أنَّ تلكَ الوسيلة المُسمَّاة بالانتخاباتِ بصورتها الحالية دخيلةٌ علينا، ورُبَّما تتعارضُ في كثيرٍ من تفصيلاتها مع بعض الثوابت الشرعية.
يفاجئني الكلام الذي أسمعه لأوَّل مرةٍ، فأبادر قائلًا:
- كيف يا مولانا، وأنت علَّمتنا أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يستشير أصحابه في أمور الدين مما ليس فيه وحيٌّ؟
فتتسع ابتسامة الشيخ ويُشرقُ وجهه كعادته كلما أعجبه سؤالٌ من أحدنا، ويردُّ كأنَّه كان يتوقع السؤال وينتظره:
- يا بنيَّ؛ شتَّان من بين الشورى الإسلامية، وبين ما يتمُّ في هذه الانتخابات، ولن أُرهقكَ بتفاصيلَ عِدَّةٍ، ولكنِّي أذكرُ لكَ فرقًا واحدًا؛ هل تستوي القدرات العقلية والعلمية لزملائك؟ بالطبع لا. هل يستوي طالب الصف النهائي بالمرحلة الثانية وطالب الصف الأول بالمرحلة الأولى؟ بالطبع لا؛ ولكنَّ الحاصل أنَّ لِكُلٍّ منهم صوتًا كنظيره، وإن اختلفا في القدرات والمؤهلات، هذا أحد الأُسس التي قامت عليها عملية الانتخاب، وهو ما عالجته الشورى الإسلامية عند التطبيق بحصر التصويت فيمن يُسمَّوْن بأهل الحلِّ والعقدِ، وهم – إجمالًا – أهل العلم والمعرفة والدراية وأهل الاختصاص بالمسألة المطروحة للبحث. فهل هذا هو عين ما يحدث في الانتخاب؟
أردُّ قائلًا:
- لا، وأرجو أن تزيدني يا مولانا..
فيقول كلامًا كثيرًا، تنوء الذاكرة باستحضاره كاملًا؛ إلا أنَّ مؤداه كان أن تحفَّظتُ على المشاركة، وإن بقيتُ على عهدي خدومًا مُشاركًا فاعلًا في كل الأنشطة المدرسية -ومن بعدها الجامعية – العلمية والأدبية والثقافية والدينية في الحدود التي كان يُسمح لنا بها.
وتَحطُّ بيَ الذاكرةُ عند خريفٍ آخر، حيث موسمُ الانتخابات البرلمانية مشتعلٌ هذه الدورة، وقد وَعَدَ الساسةُ بمزيدٍ من النزاهةِ الانتخابية، وبإشرافٍ قضائيٍّ كاملٍ. واستبشر الجميع واستشرفوا التجربة الفريدة الجديدة التي لم يَعشها جُلُّنا من قبل. وإذ بالحديث السابق لشيخي عن الانتخابات يقفزُ إلى ذاكرتي قفزًا، وكأنَّ أحدًا كان يَتحيَّنُ تلك اللحظة ليُلقيَ به في وجهي بل في رأسي، ولا غروَ فقد كان الجزء الثاني منه متعلِّقًا بالانتخابات بمعناها الأخص، وهو الانتخابات البرلمانية والعملية التشريعية، فوجدتني لحظتئذٍ في شوقٍ إلى شيخي الذي لم أكن قد رأيتُه منذ سنين عدَّة، ولم يبق إلا اتصالات هاتفية على فتراتٍ، أو رسائل شفوية عن طريق الأصدقاء المشتركين. ويزيدُ من شوقي للقاء شيخي ذلك الجدل المُحتدِم بيننا – نحن الشباب الإسلامي الملتزم – عن الحكم الشرعيّ في دخول البرلمان، فما بين مؤيِّدٍ يُوجِبُ، وما بين مُعارِضٍ يُبدِّعُ.
ويشاء الله أن يكون اللقاء بِشيخي بعد صلاة العصر بنفس المسجد الذي تربينا به صغارًا في حجر شيخنا، وكأنِّي به ذلك اليوم الذي حدثني فيه عن الانتخابات، لم يختلفْ الشيخُ كثيرًا؛ فقط ازداد وجهُه نورًا وإشراقًا، وكُفَّ بصره، وازدادت الشعرات البيضاء في لحيته، فمنحتْه وقارًا إلى وقاره، وانحسرُ الشَّعَرُ عن مُقدمِّ جبهته؛ يلاحظُ ذلك كلُّ مُدقِّق رغم العمامة على رأسه.
يقولُ بعدَ مُقدِّماتٍ:
- أُراكَ لم تَعِ الدرس جيِّدًا..
فأقول:
- لا غنى بي عن مزيدِ علمكَ يا مولانا..
فيقول:
- يا بُنيَّ لا تعبأ بهذا الهراء المسمَّى بالديمقراطية، والحزبية والمشاركة السياسية، فما ذاك بالطريق الذي رسمه لنا ربُّنا. إنَّ الله  قد رسم لنا منهجًا واضحًا لا يَشكُّ فيه إلا مُتهوِّكٌ، وطالبنا بالسير فيه مُتبعين آثار نبيِّنا صلى الله عليه وسلم ، ولم يطالبنا بالنتائج، فليس علينا هداهم، وليس علينا إلا البلاغ، ويأتي بعض الأنبياء يوم القيامة وليس معه أحدٌ، أتظنُّه قد قصَّر؟ إنَّها الحكمة الربَّانية يا بُنيَّ.. حتَّى يتيقَّن من هو أقلُّ من نبيٍّ أنَّه غير مُطالبٍ بالنتائج، فإن كان نبيٌّ قد بلَّغ فَلَمْ يُستجَبْ له، فما بالكَ بمن هو أقلُّ منه؟ يا بُنيَّ.. إنَّ المشكلةَ أنَّك تلعب اللعبة بقواعد غيركَ، وهو ما لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم وكان يمكنه أن يفعل. إنَّك ضمنًا تُصحِّحُ بعض ما لا يُمكن تصحيحُه بحالٍ. دَعْكَ من أنَّ التطبيقَ العمليَّ سيأتي – لا محالة – بمزيدٍ من التنازلاتِ التي كانت تُعدُّ يومًا ما - في مُعتقدكَ – خطوطًا حمراءَ لا يصحُّ مُجرَّد طرحها للتباحُث. إنَّ كرة الثلجِ تنمو لتبتلعَ في طريقها قُرًى ومُدنًا ظاهرةً لتُحيلها ماضيًا أُحفوريًّا يتفاحصُهُ الآثاريون بعدُ ليستفيدوا منه تاريخًا ما لم تستفدهُ منهم أممُهم حاضرًا.
إنَّ هناكَ عِلمًا – ما أظنُّ أنَّك أنت بالذات تجهله بما أعلمه عنك من سَعة اطّلاع، يُسمُّونه المحاكاة الحاسوبية للتنبؤ بما سيكون عليه أمرٌ ما في المستقبل القريب، حيثُ يُغذُّون الحواسيب العملاقة بمعلومات عن الحاضر، ويُصمِّمون نماذج التنبؤ لترسم النتيجة، فماذا يكون؟ إن أخطأوا بيانًا صغيرًا تافهًا انقلب الأمر رأسًا على عقب وفشلت كلُّ تنبؤاتهم. أليس كذلك؟
- بلى شيخنا.
- فمهما فعلوا يا بُنيَّ، فهل سيُحيطون بكلِّ شيءٍ علمًا؟
- حاشَ لله.
- لذلكَ فالأولَى بكَ كمُسلمٍ، توقنُ أنَّ الذي خلقَ يعلم من خلقَ وهو اللطيف الخبير، وهو الحكيم الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة ولا أصغر؛ الأولى بكَ وقد علمتَ ذلكَ أن تسلِّم له، وتنشغل بما أُريدَ منكَ عما أريدَ بكَ.. وهو رأس الإيمان والتسليم، وجامع التصديقِ بأسماء الله وصفاته، وهو ذِروةُ سنام التوكل وإن ظنَّه البعض تواكُّلًا. وأزيدُكَ توضيحًا؛ لو أنَّ كل الدعاة لله على بصيرةٍ التزموا هذا المنهاجَ وكرَّسوا جهدهم له ليلَ نهارٍ فكيف تتوقعُ أن يكون الأمر؟
- أفضل مما نحنُ فيه بلا شكٍّ..
- وإن سِرنا في طريق الحزبية والانتخابات إلى آخره، فما أقصى ما يمكن أن تمنحنا؟
- كُرسيّ الرئاسة وسُدَّة الحكم.
- فهلْ نفعتْ (هرقل) وكان عظيمَ الروم، حين جاءه كتابُ النبي صلى الله عليه وسلم فجمع حاشيته، وشطرًا كبيرًا من عامة الناسِ، وعرض عليهم أن يُسلموا، فماذا كان؟ حاصوا حيصة الحُمُرِ، واعترضوا ، وكادوا يفتكون به. فما كان منه إلا أن قال لهم: لقد كنتُ أختبرُ صلابتكم في دينكم. أَوَهلْ نفعتِ الزعامةُ النجاشيَّ وكان مَلِكًا مُطاعًا، ثمَّ ها هو يموتُ وحيدًا في ديار ليس فيها مُسلمٌ واحدٌ؟ أَوَما كان من الممكن أن يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم الزعامة وقد عُرِضت عليه؟ أما كان حريًّا به – وأصحابه يُقتَّلون ويُسحبون طُرًّا على رمال الظهيرة – أن يقبلَ ليأتي بالدينِ من بطن العرشِ، ويُقيمَ المسجدَ بطرف الصولجان؟
- .........................
- إنَّ بعض الحكمة البشرية القاصرة، تُنبئكَ أنَّ المحنَ تصهر الرجال، وتسبكُ معادنهم، فيخرجونَ وقد افلولذت عزائمهم وصلدت هممهم، فلا يقوم في طريقهم شيءٌ من هباءِ الدنيا وباطلها. أمَّا المنحُ فتستجلبُ الغثائيين، كما تستجلبُ الوليمة الطُفيليين، أو قلْ كما تستتبعُ الفريسةُ في نَزْعها كواسرَ الطيرِ إذ عمَّا قريبٍ تُمسي جيفةً. وهكذا هو الكرسيُّ والصولجانُ، فكيف يخرجُ منه أوَّلًا فوارسُ يُطوِّفون به أربعَ جهاتِ العالم؟ وكيفَ يرضى مَنْ غُذِّي بالنعمة من أوَّل يومٍ أن يطوي على جوعٍ أو يرعوي عن قُنوع؟ إن كانت الحكمة القاصرة تنبئُكَ بذلك، فكيف بما خفيَ عنكَ من حكمة أحكم الحاكمين؟
- .....................
- يا بُنيَّ؛ المسألة أكبر من الصورة التي يُحاول البعض حصرها فيها... الأساس الذي بُنِيَ عليه الأمر باطلٌ، فهل يستقيم الظلُّ والعود أعوجُ، بل هل يُنبتُ العودُ أصلًا والأرض التي غُرس فيها صفوانٌ أجرد؟
في كلامٍ كثيرٍ آخرَ قاله شخنا، وما أزداد بعدَ كلِّ كلمةٍ له إلا يقينًا أنَّ الرجلَ على بصيرةٍ، وأنَّ ما كُفَّ من بصره زيدَ له به في بصيرته أضعافًا مُضاعفة. ويجاوبني من أغوار الذاكرة صدى دعاءٍ طالما كان يلهج به شيخنا الحبيب في كلِّ مرة يدعو فيها ..." اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرًا لي وتوفني إذا علمت الوفاة خيرًا لي، اللهم وأسألك خشيتك وأسألكَ خشيتكَ في الغيب والشهادة، وأسألكَ كلمة الإخلاص في الرضا والغضب، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيمًا لا ينفد وقرة عينٍ لا تنقطع، وأسألك الرضا بالقضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضرَّاء مُضرَّة، ولا فتنة مُضلَّة، اللهم زيِّنا بزينة الإيمان، واجعلنا هُداةً مهتدين". [ صحيح: رواه النسائي، والحاكم عن عمار بن ياسر]
بصوته الشجيِّ؛ أحببتُ هذا الدعاء وحفظته طفلًا كحفظي سورة (الإخلاص)، ولطالما انتظرتُه منه، وخصوصًا وهو يُكرِّر قوله:"... أحيني ما علمت الحياة خيرًا، وتوفني إذا علمتَ الحياة خيرًا لي..." ويلهج بها كثيرًا...
ويسير الأمر من سيِّئٍ إلى أسوأ، وتعمل الأَكَلةُ كل يوم عملَها في جسد الأمة المكدود المثخنِ بجراحاته، وإن بدا للبعض أنَّنا بصدد انفراجة، ولكنها انفراجاتٌ كاذبة، كانفراجة السحب الكثيفة في اليوم الشاتي عن شمس باهتة واهنة.
وبعد خمس سنواتٍ؛ والوقتُ خريفٌ يجرُّ أذياله، ويودِّعُ مُحبِّيه ببكاء المُزنِ؛ يُهاتفني صديقٌ عزيزٌ هو تلميذٌ أيضًا لشيخنا، يُخبرني أنَّ شيخنا في مرضه،رُبَّما الأخير، فنطيرُ ذرافاتٍ ووحدانًا من كلِّ أرجاء الوطن، والأوطان المجاورة نجتمعُ بالعشرات، بل بالمئات في الطابق العلوي للمسجد، وقد أصرَّ الشيخ أن يموتَ في محراب العلم الذي قضى فيه أكثر مما قضى في أيِّ مكان آخر، لم يستمع إلى تلاميذه وكثيرٌ منهم صاروا من الأطباء المرموقين – أن يُطبَّب في أرقى المستشفيات، لم ينزل على رأيهم بأن يمرَّض في بيته. ومن المرَّات النادرة التي يتَّفقُ لي أن أنفرد به مع عدد قليل من طُلَّاب الشيخ، وأحدهم من أولى بلدان (الربيع العربيّ) وكان الوقت في الحقيقة خريفًا، والشيخُ بصوته الواهنِ يقول:
- أرى باب فتنة؛ إن انكسرَ فلن يُغلقَ عمَّا قريبٍ، وربَّما لا يُغلقُ أبدًا.
فيعترضُ بعضنا بلهجةٍ مُهذَّبة، بأنَّ ما يحدث إيذانٌ بانتهاءِ سنينَ من البطش والطغيان، وأنَّه – على كلِّ حال – خيرٌ، وربَّما نحن بصدد العثور أخيرًا على سفينة النجاة.
فيقول الشيخ: إنَّ أكثر ما يُقلقني هو مواقف العلماءِ الغامضةُ التي لا تتفق مع الأصول التي كان يُقرِّرونها ليل نهار، وذلك إيذانٌ بما هو أخطر، لأنهم حائط الصدِّ الأول فإن انثلم فالحِمَى مكشوفةُ العورة. أين أقوالهم في أنَّ التظاهر حرامٌ والإضراب حرامٌ والاعتصام حرامٌ، وأنَّ ذلك مُقدمة للخروج، والخروج لا يجوز؟ وكان عليهم – كما يقول الإنجليز – الآن أو لا. يا أبنائي؛ ما الفائدة المُرجوَّةُ من سفينة النجاة وقد أخذت تسبحُ في طوفانٍ من الدمِ؟ ما الشطُّ الموعودُ وقد احتوشتك شياطين الأرض على كل الضفاف، وحاصروا عليكَ الشمس والرياحَ، فلا جهةً أبصرتَ، ولا شراعًا أطلقتَ؟ الأدهى أنَّ الرَّكْبَ لا يقفون حتى تنقشع الغُّمة فيستدركوا على أنفسهم خُطًى قليلةً أخطأُوها، ولكنَّهم يُمعنون في السير، فإن انقشعت الظلمةُ تبيَّنوا طريقهم فإذا هم قد أوغلوا فلم يَبقَ لهم ظَهرٌ، فما هو إلا اللجج في الضلال.
- سامحني يا شيخنا ، واغفر لي جرأتي، ولكني أراك تُبالغُ في تهويل الأمر.
- سامحني الله وإياكَ يا بنيَّ. ولكن هل تظنُّه مُبالِغًا حين قال صلى الله عليه وسلم : "لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مؤمنٍ بغير حقٍّ" بِمَ تقارنُ؟ بدمِ رجلٍ مسلمٍ واحدٍ ، فما بالُكَ بآلاف مؤلفة؟
- ولكن أينَ هي تلك الآلاف المؤلفة يا شيخنا؟
- يا بُنيَّ؛ لا تتعجَّلْ! الفتنة مُقبلةٌ فدقِّق النظرَ قليلًا ترَ.. ثمَّ مَنِ استهان بالواحد والاثنين والعشرة، لا يعبأ بالألوف المؤلفة، ومن يَعِشْ يَنظُرْ.
- وهبْ أنَّ الألوف ذهبوا يا مولانا؛ فلا يزال ذلك ثمنًا بخسًا في سبيل إصلاح حال الأوطان.
- كلَّا يا بنيَّ! لو هاتفكَ الآن مُهاتِفٌ بأنَّ وَلدَك أو أباك قد هلك في المظاهرات، ماذا لو كان الهالكُ هو العائلَ الوحيد لأسرةٍ ما؟ ماذا لو كان الابن الوحيد لعجوزين؟ أفلا ترى أنَّ الدنيا قد زالت بالنسبة لهم؟ لو كان قتيلًا في معركةٍ على الإيمان والكفر لرجونا له الشهادة، ولاحتسبه ذووه فَرَطًا لهم، ولكن في معركةٍ لا يدري فيها القاتل فيما قَتَل ولا المقتول فيما قُتِلَ، فالشهادة تبدو سرابًا. عَنِ أَبي مُوسى الأَشْعَرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ الْهَرْجَ. قَالُوا: وَمَا الْهَرْجُ؟ قَالَ: الْقَتْلُ. فقال بعضُ المُسلمين: يا رسولَ الله ؛ إنّا نقتلُ -الآنَ- في العامِ الواحدِ- مِنَ المُشْركين- كذا وكذا. قَالَ:إِنَّهُ لَيْسَ بِقَتْلِكُمُ الْمُشْرِكِينَ، وَلَكِنْ قَتْلُ بَعْضِكُمْ بَعْضًا. قَالُوا: وَمَعَنَا عُقُولُنَا يَوْمَئِذٍ؟! قَالَ: إِنَّهُ لَتُنْزَعُ عُقُولُ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَيُخَلَّفُ لَهُ هَبَاءٌ مِنَ النَّاسِ، يَحْسِبُ أَكْثَرُهُمْ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَلَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ . قَالَ أَبُو مُوسَى: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مِنْهَا مَخْرَجًاً - إِنْ أَدْرَكَتْنِي وَإِيَّاكُمْ- إِلا أَنْ نَخْرُجَ مِنْهَا كَمَا دَخَلْنَا فِيهَا ؛ لَمْ نُصِبْ مِنْهَا دَمًاً ، وَلا مَالاً .
يتنهَّد شيخنا، ويوجِّه وجهه تلقاءَ زميلنا التونسيِّ قائلًا: يا بنيَّ لا أراك تستخفُّ بالدم، فعن عابس الغفاري  أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:« بادروا بالموتِ ستًّا: إمرة السفهاء [ وفي رواية: إمارة الصبيان]، وكثرة الشُّرط، وبيع الحكم، واستخفافًا بالدَّمِ[ وفي رواية: إضاعة الدم]، ونشأً يتخذون القرآن مزامير، يقدِّمونه يُغنِّيهم؛ وإن كان أقلَّ منهم فقهًا».
فنحن في فُسحة من الأمر ما لم نصل إلى تلك المرحلة.
ويُنهي الشيخُ حديثًا مُتعبًا، وأَبيتُ على باب غرفته؛ فإذا هو كدأبه لا ينام من الليل إلا قليلًا، وأسمعه يلهج بدعائه المعهود، وقد ضمَّ إليه دعاءَ " وإن أردت بالناس فتنةً فاقبضنا إليك غير مفتونين ولا مُبدِّلين"
ونفضنا أيدينا من دفن شيخنا، وذهبتِ السكرةُ وجاءتِ الفكرة، ولكنَّ (الربيع العربيَّ) لم يُخلِّ بيننا وبينَ أن ندفنَ وجوهنا في الوسائد وننشجُ كاليتامى، كما لم يُخلِّ بيننا وبين أن نقوم بالليل فنُوفيَّ بعض ما يستحقُّه شيخنا من الدعاءِ. واتَّسع الربيعُ زمانًا ومكانًا، ولكنَّه ربيعٌ تنامت (خماسينُه) واستعرضت في الأفق حتى صارت فِتنًا عاصفةً لعوبًا، وغابت أزهاره، حتى لم نعُد نرَ خضرةً، ولم نعد نستنشقُ عبيرًا، ولم نعُد نطربُ لطيرٍ صدُوحٍ، ولا بهجةٍ جَموحٍ، وكأنَّ الربيعَ -وهو صغير في حجم غيره من الفصول- طفلٌ جميلٌ دقيق الأعضاءِ غضُّ الوجه، حُلوُ الملاعبة والمشاكسةِ، فلمَّا طال واستعرضَ - كالسنة الجدوب - صارَ غُولًا مُخيفًا لا يُتوقَّع أن يُنبتَ فوق كتفه نَوْرٌ، ولا أن ينبلجَ جبينه عن نُورٍ.
وانبثقت بركة الدماءِ في (تونس) لتتصل ببُحيرةٍ منه في اليمن، ومُستنقعٍ في مصرَ، ومخاضةٍ في ليبيا، وخِضَمٍّ في الشام، وانتظم كلَّ ذلك محيطٌ دمويٌّ لا قرار له ولا ساحل، والسفينة تهشَّمت إلى ألف قطعة لا تصلح أكبرها إلا ليتعلَّقَ بها مُتعلِّمٌ على سبيل نجاةٍ، وقد مات الربَّانيون، وكثر الهمج الرعاع أتباع كلِّ ناعقٍ.
تمرُّ المشاهِدُ كشريطٍ سريعٍ، لتعودَ بي إلى لحظتي الراهنة، واقفًا على شاطئ النهر؛ الذي بدأ الضباب يُغلِّفه، والأضواء البعيدةُ غابت في الأفق، وصرير الهوامِّ يتداخل في خلفية المشهد فيزيده رهبة ً ووحشةً، وأجد الفرصة سانحةً لأبكيَ شيخي الذي لم يُتحِ لي تتابع الأحداث السريع فرصة لأبكيَه بكاءً مُستغرِقًا، تبردُ به كبدي، ويسكن به فؤادي..
رحمك الله يا شيخي، كُنتُ أستأنسُ أن أرى المشايخَ يُقرِّرون ما تُقرِّره، ويأخذون من نفس المعين، ويقتبسون من المشكاة ذاتها، فأقول: لن يجمعهم الله على ضلالة. واليوم أراهم يضربون بأقوالهم السابقة عُرْضَ الحائط، ويتنكرون لها، بل؛ ويُجهِّلون مَن يقولُ بها. وهم لم يخرجوا لنا ليقولوها صراحةً: كُنَّا مخطئين بالأمس وتراجعنا اليوم إلى الصواب. كنَّا مخطئين في كذا، لأنَّ الدليل الفلانيَّ الذي بنينا عليه قولنا السابقَ قد اتَّضح أنَّه غير صحيح، أو اتَّضح لنا أنَّنا فهمناه على غير الوجه، واليوم اهتدينا إلى وجهه، وهو هكذا. كنا مخطئين لأنَّ دليل كذا لم يكن وَصَلَنا بعدُ، ولم نكن نحيطُ به علمًا، واليوم وَصَلَنا فجَبَّ ما كان قبلُ من أقوال. لم يخرجوا لنا ليقولوا: تغيَّرتِ الظروف... وها أنا أُجيل الأمر على أركانه وزواياه فلا يتَّضحُ لي فيمَ تغيَّرت.. ثم لنفرضْ أنَّها تغيَّرت، فماذا نصنعُ في ثوابتَ قلتم عنها: إنَّها خطوط حمراءُ، لا مساسَ بها البتة، ولا نكوص عنها، وإن تغيَّرت الظروف؟! ماذا نصنع بهذه الخطوط الحمراء؟ هل بَهتَ لونها الأحمر فصار أصفرَ فاقِعًا يسرُّ الناظرين؟ أم هل اختلطَ بلون الدم المسفوح في كلِّ مكانٍ فلم تعُدِ الأعينُ قادرًا على استبصار أيَّة أشياء حمراءَ؟
رحمكَ الله يا شيخي الحبيب، لقد تساقطتِ الثوابتُ، واستُهينَ بالدم، وصُحِّحت عقائد النصارى، وكُذِّب الصادق، وصُدِّق الكاذب، وحُوربَ من يأمر بالمعروف، ووُوليَ من يأمرُ بالمنكرِ، وتُبرِئَ ممن يقول قال الله قال محمد صلى الله عليه وسلم ، وتَقدَّم القومَ نشأٌ أحداث السنِّ، اتخذوا القرآن مزاميرَ ما تقدَّموا إلا لأنهم يُجيدون تذويقَ الكلام، وتمييع المفاهيم، وغُشِيَت نوادي أصحابِ البدعِ وأفراحُهم، وصار قتيل الكرة شهيدًا من يتوقَّف في الحكم له بالشهادةِ فهو من مُخلَّفات العهد البائد، وصارت كلُّ مُفتَّنةٍ تُجيد السبَّ والشتم ثوريةً، وخُدِّرَ جسد الأمة المُخدَّر أصلًا بحجة أنَّ الشرع سيُطبَّق بالتدريج، وها نحن ننتظر اللحظة الميمونة التي سيُقصُّ فيها الشريطُ، وسيُكشفُ فيها الستار عن أوَّل مراحل هذا التدريج المُنتظر. وكلُّ ما أتمنَّاه: إن لم يُيسر لي الله أن أرى هذه اللحظة الميمونة أن يراها ابني أو حفيدي. كلُّ ما أتمنَّاه ألا يصير انتظار تلك الخطوة الأولى ضربًا من انتظارِ المهدي.
رحمك الله يا شيخي الجليل؛ فقد علمتني ألا تخلوَ يداي من شمعةٍ أو قلمٍ أو فأسٍ، وألا أنشغل بما أُريد بي عما أُريدَ مني.
رحمكَ الله يا شيخي الجليل؛ فليس عليَّ هداهم ولكنَّ الله يهدي من يشاء.


 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك

مقالات الفوائد

  • المقـالات
  • الصفحة الرئيسية