صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







النظرة الأولى والحكم الفطير

محمد بن إبراهيم الحمد


جاء في كتب السير أنه لما قُتل مسعود بن عمرو العتكي -كبير الأزد- هاجت الأزد، واتهمت بني تميم بقتل مسعود، وإنما قتله الخوارج.
وركبت بنت مسعود إلى مربد البصرة تطالب بدم أبيها، وتوالت رجال من بني تميم ونساء من نسائهم على الأحنف بن قيس تستفزه؛ للأهبة، ولدفع الهائجين من الأزد وأنصارهم من ربيعة حتى أقاموا عنده البينة الشرعية على اعتداء الأزد على بعض الضعفاء.
وحصلت مداولات بين الأزد والأحنف يطول تفصيلها، واتفقوا على الدية، حيث قال معشرُ الأزد للأحنف: أتدون صاحبنا عشر ديات؟ فقال الأحنف: هي لكم.
ثم ندب الأحنف ابن أخته إياس بن قتادة بن موألة العبشمي -أحد بني عبد شمس بن سعد بن زيد مُناة ابن تميم- ليحمل من أغنياء تميم حَمَالاتِ تلك الفتنة: ديةَ مسعود المضاعفة عشرة أضعاف، وديات غيره من عامة الناس الذين ذهبوا ضحايا الفتنة.
قال إياس: فَجِهِدْت أن يقوم لي بهذه الحمالات أهلُ الحضر؛ فلم يفعلوا، ولم يغنوا فيها شيئاً، فخرجت إلى البادية؛ فحملوا يرمونني بالبَكْر - أي بالبعير - وبالاثنين، حتى اجتمع لي من حمالتي سوادٌ صالح، وصِرْتُ بالرمل إلى رجلٍ ذُكِر لي، فلما دفعتُ إليه إذا هو رجل أسَيود، أفيحج، أعيسر، أكيشف [1]، فلما انتسبت له، وذكرت له حمالتي قال:
- قد بلغني شأنك؛ فانزل!
قال إياس: فو الله ما قَرَاني، ولا برَّ علي، فلما كان من الغد أقبلت إبله لوردها، فإذا الأرض مَسْوَدَّةٌ، وإذا هي لا تَرِدُ في يوم لكثرتها، وقد ملأ غِلْمَانُه حياضَه، فجعل كلما ورد رِسْلٌ من إبله جاء يعدو حتى ينظر في وجهي فيقول: أنت حويمل بني سعدْ؟
ثم يخرج يَرْقُصُ؛ فأقول في نفسي: أخزى الله هذا، وأخزى من دلني عليه!
حتى إذا رويت الأبل وضربت بعطن -أي بركت بأعطائها- نادى الرجل: أين حويمل بني سعد؟
قلت: قريب منك!
قال: هات حبالك!
فما ترك حبلاً إلا ملأه بقرنين من إبله، ثم يقول: هات حبالك!
فجئنا بمرائر محالبنا، وأرشية دلائنا، وأروية زمائلنا، وما زال يقول: هات حبالك!
حتى حَلَلْنا عُصَمَ قِرَبِنَا، وعُقُلِ إبلنا، وخُطمها؛ فملأها لنا، ثم قال: حبالك!
قلت: لا حبال.
فقال إياس: قد عرفت من دقة ساقيك أنه لا خير عندك -أي أن إياساً؛ لبخله يحسب الناس كلَّهم بخلاء؛ فلم يستعد الاستعداد الكافي لاستقبال الخير والكرم-.
وعاد إياس بن قتادة إلى خاله الأحنف في البصرة بما معه من الخيرات، فودَّى بنو تميم مسعود بن عمرو بعشر ديات، وباوءوا بين القتلى، وتم الصلح.
والشاهد من هذه الحادثة التاريخية أن إياس بن قتادة أساء الظن باديَ الرأي بالرجل الذي ذهب إليه، وحكم عليه من أول وهلة، ولكن ذلك الرجل أخلف ظنه -كما مر-.
وهذه الحادثة تُذَكِّر بحال كثيرٍ من الناس، فتراه يعطي حكمه بادئ الرأي جزافاً، فيقطع بأن هذا الرجل فيه وفيه من العيوب، وذلك بسبب موقف واحد، أو اجتهاد معين، أو كلمة سمعت عنه؛ فيجعل ذلك ذريعة لوصمه، والزهد به، والوقيعة فيه، وَوَصْمِه بتلك النقيصة.
وبعد ذلك لا يقبل منه عدلاً ولا صرفاً.
ولا ريب أن هذا الحكم الظالم والرأي الفطير لا يصدر من ذي عقل، وروية، وإنما هو دأب ذي العجلة، والتسرع، والنظر القاصر.
فالذي تقتضيه الحكمة أن يُبسط العذر لمن أخطأ، ويفتح الباب لمن أراد معالجة خطئه، وينظر إلى الإنسان من كافة الوجوه، ويُغَلِّب جانب إحسان الظن، والنظر إلى المحاسن.
وقد يعذر الإنسان إذا وقع في قلبه ما وقع عن إنسان بسبب تصرف معين، وقد يكون ذلك التصرف علامة رامزة على ما يتصف به ذلك الإنسان.
ولكن التثبت والتأني هو المتعين في مثل تلك الأحوال.
خصوصاً إذا كان الشأن مع الأفاضل والأكابر والعلماء.
وقد لا يلام الإنسان إذا أثنى خيراً، وصف بالفضل من رأى منه موقفاً حسناً.
بل إن ذلك يعد من مكارم الأخلاق، ولأنْ تخطئ بالعفو خير من أن تخطئ بالعقوبة.
 

-------------------------------------------
[1] الفحج: تباعد ما بين أوساط الساقين، والنعت منه "أفحج" والتصغير للتحقير، ولذلك قال: أسيود أي أسود، وأعيسر أي أعسر لا يستعمل يده اليمنى، والأكيشف تصغير الأكشف: وهو الذي له شعرات ثائرة في قصاص ناصيته، والعرب تتشاءم به.
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك

مقالات الفوائد

  • المقـالات
  • الصفحة الرئيسية