صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







الاعتراضات العشرة .. على مؤسسة الحسبة
17/7/1437هــ

فهد العجلان
@alajlan_f


بسم الله الرحمن الرحيم

مدخل:

بعد صدور نظام الهيئة الجديد، لقي هذا النظام تأييداً من أناس وتحفظاً من آخرين،  والمؤيدون لهذا التنظيم يمكن النظر إليهم باعتبارهم فريقين:

الفريق الأول: يرى أن الواجبات الشرعية التي كانت تقوم بها الهيئة ستبقى كما هي عليه لكن عبر جهاز ضبطي آخر هو الشرطة، فعندهم أن هذه المنكرات ستبقى منكرات مجرَّمة، إنما اختلفت السلطة التي تقبض  وتمنع، فتحولت المهمة من جهاز اسمه (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) إلى جهاز آخر هو الشرطة ومكافحة المخدرات.

الفريق الثاني: يرى أن إلغاء هذا الجهاز يعني إضعاف ما كان يقوم به من وظائف ومهام سابقة، وأن تحويله لجهاز الشرطة يعني الإبقاء فقط على تجريم ما كان من قبيل الاعتداء الجسدي كالتحرش مثلاً، وأما بقية الوظائف فإنها ستضعف تدريجياً حتى تكون أمراً طبيعياً كبقية المجتمعات التي ليس فيها مؤسسات معنية بهذه المنكرات.

يقدم الفريق الثاني لرؤيته في عدم الحاجة لجهاز الهيئة، وفي التهوين من وظائفه، عدداً كبيراً من الاستدلالات والمقارنات والاحتجاجات الداعمة لهذا الموقف الفكري، فالقضية متعلقة عنده بطبيعة عمل هذا الجهاز والواجبات المنوطة به.

فالفريقان يتفقان على تأييد قرار إلغاء عمل الهيئة، لكنهما يختلفان في المنطلق الفكري، فالفريق الأول لا يحمل أي تصورات رافضة لعمل الجهاز السابق، وليس لديهم أي اعتراضات على مؤسسة الحسبة،  وإنما يرى أن هذه الوظائف ستكون أكثر فاعلية حين تنتقل إلى السلطة الجديدة، وأما الفريق الثاني فلديه تصورات فكرية مختلفة، فالفريق الأول تأييده فني تقني لدور الجهاز وليس متعلقاً بالمهام المنوطة، والثاني ينازع في أصل تجريم الأفعال التي تقوم الهيئة بضبطها، فالأول يرحب بنقل الصلاحيات بينما يريد الثاني إلغاءها.

هذه المقالة مخصصة لمناقشة علمية مع اعتراضات الفريق الثاني ودعائمه الفكرية، وأما الفريق الأول فليس ثم اختلاف في المفاهيم والتصورات معه، فالواجبات الشرعية التي كانت الهيئة تقوم بضبطها متعلقة –بحسب حاجتنا هنا في هذه المناقشة- إلى قسمين هما:

الجانب الأول: المنكرات المتعلقة بالعدوان على الغير، كالتحرش والاغتصاب والابتزاز ونحوها، ولو كانت مهمة جهاز الحسبة متعلقة فقط بهذا الجانب لكان موقف هذا الفريق على صواب، فالتحرش الجنسي مجرم قانونياً في كل دول العالم، والاجهزة الأمنية هي التي تباشر منعه والقبض على المعتدين وتقديمهم للتحقيق والقضاء لينالوا جزاءهم، فليس ثم قلق حقيقي من هذا الواجب، لأن الاعتداء أمر متفق عليه عند الجميع، وإن كان ثم إشكالات أخرى متعلقة بخبرة رجال الحسبة وثقة الناس بهم لكني لن آتي بها هنا، فالمهم أن هذا الجانب ليس هو محل الإشكال.

الجانب الثاني: المنكرات الشخصية المتعلقة بمخالفة النواهي الشرعية، وهي في الأصل ليس فيها اعتداء جسدي أو تحرش جنسي، كمنع الخمور ومقدمات الفواحش من خلوات وحفلات ماجنة وعلاقات وتبرج واختلاط محرم، وملاحقة السحرة والمشعوذين، ومظاهر الشذوذ، وكحث الناس على الجمعة والجماعة، ومنع الإفطار في رمضان،  وغيرها، فهذه منكرات لا تتضمن عدواناً على الغير، وإنما تتضمن عدواناً للإنسان على نفسه وتفريطه في ما ينفعه في دنياه وآخرته.

فهي تجريم لمنكرات بباعثٍ ديني محض، التزام بأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، هذه المنكرات لا تجرم عادة في أكثر البلدان، والثقافة الليبرالية المتسيدة في عالمنا المعاصر تراها حقوقاً وحريات شخصية لا يجوز التعرض لها، وتحميها بقوة القانون، وليس مع الفريق أي إشكالية مع تجريم هذه القضايا.

أما الفريق الثاني فهو يملك رؤية مختلفة، وتصورات جديدة عن مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الخلاف فيها ليس خلافاً في السلطة التي تتولى مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل في مفهومه وحدوده وضوابطه، ولديهم اعتراضات وإيرادات كثيرة، حصرتها بعد دمج بعضها في بعض فخرجت في (اعتراضاتٍ  عشرة).

ربما يتبادر في ذهنك حين تقرأ الكثير من الإشكالات والإيرادات على هذا المفهوم وحدود عمله أن هذا يعود إلى أن القضية معقدة فقهياً، وأن ثم اتجاهات متباينة في التراث الفقهي للنظر في الموضوع.

ما يتبادر إلى ذهنك يحرص البعض على إبرازه فيحشد كل ما يمكن من اعتراضات وإيرادات ليتوصل من خلالها إلى إثبات أن المفهوم معقد مشكل، وبناءً عليه فيجب احترام وجهات النظر المختلفة فيه لأنها تنطلق من رؤى اجتهادية تنطلق من مفهوم النص وحدوده.

وهذه مغالطة علمية ظاهرة، فكثرة الإشكالات والاعتراضات والإيرادات لا تعني أن الموضوع مشكل، ولا يلزم من كثرة الاعتراض خفاء الحكم، فالحكم على الموضوع بأنه مشكل أو معقد أو متفق عليه أو مختلف فيه يرجع للنظر في ذات الموضوع وليس متعلقاً بالضجيج المثار حوله، فالاعتراضات ليست دوماً منطلقة من دافع موضوعي علمي.

 خذ مثلاً: باب الأسماء والصفات، باب واضح وجلي ودلائله غير خافية يفهمها العامي والعالم والصغير والكبير، بل وأصلها فطري ضروري، ومع ذلك حفلت بإشكالات واعتراضات ومدارس ممتدة طولاً وعرضاً.

وكذلك مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مفهوم واضح وجلي، والحكم على الإشكالات المثارة التي سنفحصها هنا ليس بخافٍ على من له أدنى معرفة كافية بهذا الموضوع.

إذن، من أين جاءت أكثر هذه الإشكالات والاعتراضات ما دام أن الموضوع  لا يحتمل كل هذا النزاع والاختلاف؟

لا أريد أن استعجل الإجابة، فتفاصيل الحوار ستكون –بإذن الله- كاشفة له.

تتلخص هذه الاعتراضات في عشرة اعتراضات شائعة، تتلخص في:

 (اختزالية مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنه وظيفة المجتمع لا السلطة، وتشوه تطبيق المفهوم مع الدولة الحديثة، ومناقضته لحرية الاختيار، ولقاعدة: لا إنكار في مسائل الخلاف، ثم إن القناعات لا تفرض بالإكراه، والتحريم الشرعي لا يلزم منه التجريم القانوني،  وأن ثم تضخيماً ومبالغة في وظائفه، عدا ما فيه من انشغالٍ بالهوامش عن ما هو أهم، مع أهمية ضرورة تطوير الجهاز وتصحيح مساره).

 

1-(اختزالية المفهوم)

يقول هذا الاعتراض:

الأمر بالمعروف مفهوم شمولي واسع لا يجوز اختزاله في جهاز معين، فالشرطة والمرور والجمارك وبقية أجهزة الدولة كلها تقوم بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وهذا المعنى صحيح.

زاوية النظر الذي لم يُتَفطن لها هنا: أن الحديث ليس عن كل ما في الشريعة من أوامرٍ ونواهٍ، إنما عن بعض الواجبات الشرعية والمناهي الشرعية التي تختص بجهاز الحسبة، فكون الأجهزة الأخرى تقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذا مما يحمد لها ويجب شكرها عليه وتستحق من المدح على قيامها به بقدر ما تفعل.

سيقول آخر: لكن هذا الجهاز يحمل اسم (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وهو لا يقوم إلا بجزء من هذا الواجب، بل ويترك من الواجبات ما هو أكبر وأهم.

وهذا أيضاً صحيح، لكن زاوية النظر ما تزال لم تركز على محل البحث، ففي النهاية دور الجهاز هو القيام ببعض الواجب لا كله، والنهي عن بعض المنكر لا كله، وإذا كانت التسمية تسبب إزعاجاً فيمكن تغييره إلى ما تشاء من أسماء، فالعبرة بالحقائق لا بالأسماء.

والجهاز في النهاية مقيد بصلاحيات محددة لا يستطيع أن يتجاوزها، فمطالبته بإنكار أمور لا يملك سلطة عليها هو مثل مطالبتك لشخص عادي من عموم الناس بأن يقوم بمثل هذه الأمور، فإذا كنتَ حريصاً فعلاً على أن يقوم الجهاز بهذه الواجبات التي تريد فالموقف الصحيح أن تطالب بتوسيع صلاحياته حتى يستطيع أن يقوم بها لا أن تسعى لتهميشه.

بعض الظرفاء مثلاً يستنكر عدم قيام جهاز الحسبة بالقبض على المطلوبين أمنياً لأن هذا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وآخر يستنكر عدم قيامهم بالإنكار على الحكومة في قضايا الفساد الإداري والمالي، في نفس الوقت الذي يطالب بالتضييق على صلاحياتهم، فالمطلوب منهم أن يفعلوا ما لا يقدرون عليه وما ليس من صلاحيتهم، وأن يضيق عليهم ما هو من صلاحياتهم!

يتحمس آخر فيقول: لكن وضع جهاز معينٍ متخصصٍ بقضايا منكراتٍ معينة يعطيه قدراً من القداسة والعصمة، ويكون أي خطأ يرتكبه محسوباً على الشريعة بما يساهم في تشويه الشريعة.

حسناً، من الذي سيقوم إذن بهذه الواجبات المعينة؟

لو وضعته بيد الشرطة مثلاً، فأصبح ثم لجنة داخل جهاز الشرطة متخصصة بهذه القضايا فسيتعامل معها بنفس ما كان يتعامل مع الهيئة، ويأتي موضوع القداسة والعصمة نفسه، فهل الحل أن نلغي الواجب الشرعي حتى لا تحصل عصمة لمن يقوم به؟

 

2-(وظيفة المجتمع لا السلطة):

يقول المعترض:

 إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو واجب المجتمع، ودور أفراده، وليس وظيفة مختصة بالسلطة تمارس الإكراه والعقاب.

نعم، الامر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب الجميع، واجب على الرجل والمرأة، ويلزم جميع أفراد المجتمع، فمن رأى منهم منكراً فيجب أن يحتسب الأجر في إنكاره قدر طاقته.

السؤال: لماذا ينفى عن السلطة هذا الواجب؟

خاصة إذا قررنا أن التغيير باليد مختص بمن لديه سلطة، فالقول بأنه ليس واجب سلطة يعني إلغاء درجة التغيير باليد والتي تعني منع المنكر وتجريمه وعدم السماح له.

فهذا الكلام لا معنى له إلا على وجه واحد فقط، هو:

أن يكون المقصود بدور المجتمع هو النصح والتوعية والحوار، دون منع أو إلزام فيما يتعلق بالمنكرات.

وهذا طبعاً في غير المنكرات المتعلقة بالاعتداء الجسدي والتحرش.

وأما في غير الاعتداء فالواجب هو النصح فقط من دون تدخل أو منع.

إذن، فالمنكرات الشرعية نوعان:

 أ-ما فيه تعدٍ جسدي أو لفظي فيجب منعه وتدخل السلطة فيه.

ب-وما ليس فيه تعدٍ جسدي أو لفظي فلا يمنع ولا تدخل السلطة فيه، وإنما يكتفى فيه فقط بالنصح.

السؤال هنا: من أين جاء التفريق بين (الاعتداء الجسدي) و (عدم الاعتداء)؟

هل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الشريعة يقسم المنكرات التي تحرمها الشريعة إلى هذين القسمين؟

الجواب القطعي الذي لا يخفى على من لديه الحد الادنى من العلم بأحكام الشريعة ان هذا التقسيم أجنبي عن الشريعة، وأن الشريعة تجرم الاعتداء الجسدي واللفظي وتجرم غيره، فليس هو العامل الوحيد في التجريم.

الإشكال هنا دخل من محاولة تلفيقية رديئة بين الفلسفة الليبرالية والثقافة الحقوقية العلمانية المعاصرة، بالمنهج الفقهي الشرعي، فهو حين يجعل التجريم والمنع متعلقاً فقط بما فيه اعتداء جسدي وتحرش جنسي فقط فهو يقدم تصوراً شرعياً منسجماً مع الثقافة الليبرالية، وهذه الثقافة ليس لديها في الأصل إشكال مع مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حين يبقى في محيط النصح من دون تعدٍ أو إيذاء لأن هذا من قبيل حرية الرأي.

كما أن مفهوم الاعتداء في الشريعة يختلف عن مفهومه في الثقافة الليبرالية، فالاعتداء في ثقافتهم منحصر في الضرر المادي، بينما الخطاب الشرعي في القرآن يسمي المنكرات اعتداء ولو لم يكن فيها ضرر جسدي أو لفظي على أحد، كما قال تعالى (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت) مع أن فعلهم كان عصيان لأمر الله تعالى لهم، وقال سبحانه عن بني إسرائيل (ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) وقال سبحانه عمن قتل الصيد وهو محرم (فمن اعتدى بعد ذلك فلهم عذاب أليم).

فهذا التلفيق الرديء فسر العدوان بالضرر المادي تقليداً للمفهوم الليبرالي الشائع،  ثم أخرج من أحكام الشريعة ما لا ينسجم مع الذائقة العلمانية المعاصرة، وأدخل من الشريعة ما ينسجم معها، فما تقبله هذه الذائقة من الحريات أدخله عليك بأنه هو مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في النصح والوعظ!

بمنظار هذا التلفيق ستعيد النظر إلى الشريعة بحسب عدسة الثقافة الليبرالية المعاصرة، فنقدم المفهوم الشرعي بحسب المتاح في ظل هذه الثقافة المهيمنة، ونعيد ترتيب المشهد بما يضمن عدم نتوء شيء خارجاً عن مألوف هذه الثقافة.

لن نفهم الجدل الدائر حول فرضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من دون أن نسلط الإضاءة الكافية على هذه الجزئية، فمحل الخلاف هو في المنكرات الدينية المحضة، والتي تعتمد على أساس شرعي في حفظ الدين أو العقل أو العرض أو الأخلاق  مما تتقصده الشريعة وتحافظ عليه، ولا تلتفت له الثقافة الليبرالية المهيمنة أو تراه انتهاكاً للحقوق والحريات بحسب فلسفتها وتصورها.

إذن، فالوجوب المجتمعي لا يتعلق بإزالة المنكر أو منعه، لأن تدخل المجتمع في تغيير المنكر سيكون أكثر إشكالاً من تدخل السلطة، فمن لم يحتمل تدخل سلطة محددة في منع هذه المنكرات، فكيف يقبل المنع حين يكون من عموم الناس ومن حق أي أحد؟

ولهذا يقول الفقهاء بأن تغيير المنكر باليد من اختصاص السلطة دفعاً لهذه المفسدة، فكيف يريد مثل هذا أن يجعلها من صلاحية عموم الناس؟

طبعاً، الجواب واضح جداً، أن المقصود هو النصح اللفظي فقط، وأما المنكرات الدينية المحضة فتبقى حريات شخصية، ولا شك أن النصح مرتبة شرعية شريفة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولها أثر عظيم في الإصلاح والتقويم لكنه لوحده لن يكون كافياً لإزالة مثل هذا المنكر، بل واقع الحال وتجارب المجتمعات تثبت أن انتشار المنكرات وشيوعها يساهم في كثير من الاحيان في إزالة الإنكار القلبي فضلاً عن النصح، فكثرة رؤية المنكرات وتعود النفس على مشاهدتها في كل حين يميت في الإنسان بشاعة المنكر ورفضه.

 

3-(تغول الدولة الحديثة):

يأخذنا الاعتراض هنا إلى زاوية نظر أخرى، فطبيعة الدولة الحديثة المعاصرة  أنها متغولة ومطلقة الصلاحيات،  وتقبض بإحكام على كافة مفاصل حياة الأفراد، فإعطائها صلاحية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يزيد من فرص تضييقها على حياة الناس وحرياتهم، وستكون محاصرة لخصوصياتهم ومتسلطة على كافة شؤون حياتهم، وربما تحمس بعضهم فقال: إنها صورة من الحكم بالشريعة لم تكن موجودة في أي عصر سابق.

وقبل الجواب، أحب أن أسجل مفارقة تبدو ظريفة جداً، فالدولة الحديثة المتغولة البشعة هنا، هي التي كانت تقدم من قبل على أنها النظام الديمقراطي الذي نجح بفضل التجربة والمشاركة الشعبية نحو الوصول إلى أرقى النماذج البشرية في الحكم، هذا النظام الذي أبدع مؤسسات حكم راقية، النظام الذي فيه المجالس البرلمانية والانتخابات والرقابة المالية والتداول السلمي للسلطات والدستور والحقوق، إلى ما لا حصر له من المدائح والإطراء والتعظيم الذي كان يعلق على جبين هذا النظام، إنه ذلك النموذج الرائع في الحكم الذي شُتم تاريخنا الإسلامي بسبب "حكم التغلب الذي حرمنا من نعيم هذا النظام". النظام الديمقراطي الذي كان يقال عنه: "أفضل نموذج بشري للحكم" وهو "الفضاء الأمثل لتحكيم الشريعة" وأن الرشد في سيرة الخلفاء الراشدين لم يكتمل حتى يصل لمستوى هذا الحكم الرشيد .. لماذا انقلب الآن فأصبح بشعاً كريهاً مخيفاً؟!

ما علينا من هذه الجزئية، سنواصل النقاش على كل حال.

تغول الدولة الحديثة وطبيعة عمل مؤسساتها واختلافها الجذري عن عمل الدولة التراثية، أمر صحيح، وهو حاضر في كثيرٍ من الدراسات المعاصرة التي تعالج القضايا الشرعية المتعلقة بالنظام السياسي المعاصر، فليس في الأمر اكتشاف لمعطى جديد كان الناس في غفلةٍ عنه، فهذه الدولة الحديثة هي التي تحكمنا من عشرات السنين، ولم نعرف نحن ولا آباؤنا غيرها، فلا داعي للحماسة الشديدة في الاتكاء على هذا المفهوم للتشويه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنك لا تتحدث عن مكتشف أو معطى جديد.

الملاحظ هنا أن هذه اللغة تمرر حالة من التبشيع والتخويف من الحكم بالشريعة عن طريق لغة خطابية إنشائية متخففة من الصرامة العلمية.

فهي أولاً توهم القارئ أن الحكم بالشريعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعطي السلطة صلاحية أن تفعل ما تشاء فتتجسس على الناس وتتدخل في خصوصياتهم وتمنعهم من المباحات وتلاحق اتصالاتهم ورسائلهم، وتستغل المحرمات لفرض هيمنها، الخ ملامح هذه الصورة البشعة التي يراد بها التنفير من هذا المفهوم الشرعي.

 وكأنه لا وجود لضوابط شرعية ولا قيود فقهية ولا مراعاة للمصالح والمفاسد،  وإنما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعني أن تفعل السلطة ما تشاء، بل من الظريف أن بعضهم يقول إن من صلاحية السلطة تمتد إلى تحدد للناس الخير والشر، والمعروف والمنكر!

وإذا كان الشخص يفهم الشريعة بهذا النحو، فمن الطبيعي جداً أن يستدل بتغول الدولة الحديثة على نفي جملة من الواجبات الشرعية، فإذا كان الحاكم هو الذي يحدد ما هو محرم من الشرع وينتهك الخصوصيات ويفعل ما يشاء، فمن الطبيعي حينها أن يعادي هذه الشريعة التي قد استلها من الأفهام الاستشراقية.

فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقوم على ضوابط، منها: الظهور والمجاهرة، وهذا يعني حرمة التجسس أو التعدي على خصوصيات الناس ورسائلهم واتصالاتهم.

ودعونا هنا نضع معياراً لطيفاً يكشف لنا من أين تسربت حالة التشويش على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولنسمه بـ "المعيار الكاشف".

ما يقال عن بشاعة تغول الدولة الحديثة لإسقاط المفهوم الشرعي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، دعونا نسلطه على بقية الأمور التي تحترمها الثقافة الليبرالية وترى ضرورة القيام بها، وهي بطبيعة الحال ما يتضمن الاعتداء الجسدي واللفظي.

فإذا كانت الدولة الحديثة ستخنق الناس، فما الرأي في تغولها في سبيل منع التعدي والإضرار بالآخرين؟ هل سيقال حينئذ: يجب أن نبقي الدولة بعيدة عنا حتى لا تستغل مفهوم التعدي في الإضرار بنا، وحتى لا نعطي الدولة صلاحية تحديد مفهوم التعدي ثم تستغل ذلك في التسلط على حريات الناس وحقوقهم والتغول في خصوصياتهم بما لم يوجد في أي نظام سلطوي سابق.

طبعاً لن يقال هذا.

وما الفرق إذن بين موضوع الاعتداء المادي الذي تجرمه الليبرالية المعاصرة، وموضوع المنكرات الذي يجرمه الإسلام؟

سيقال هنا: لكن لديهم هناك  مؤسسات برلمانية وانتخابات ودستور ورقابة الخ

جميل، إذن طالب بهذه الأمور لضمان بقية الواجبات الدينية التي لا تقبلها الثقافة الليبرالية المعاصرة.

سيقول: ولكن هذا غير موجود مع جهاز الحسبة؟

جميل، وأيضاً ما يتعلق بموضوع الاعتداء وبقية ما تقبله هنا بسبب اتفاقه مع الثقافة الليبرالية غير موجود أيضاً.

فتغول الدولة الحديثة مقبول ومعتبر حين يكون وفق المعايير الليبرالية، لكنه مرفوض وبشع حين يراد منه صيانة بعض أحكام الشريعة، ولهذا لا تعجب أن تجد من البعض الدعم والتأييد لتدخل السلطات لفرض أمر معين كــ "قيادة المرأة للسيارة" مثلاً، لكنه يرى أن تدخل السلطة لمنع المنكرات والفواحش تغولاً وانتهاكاً للحريات، وورطة مع الدولة الحديثة!

وهي فعلاً ورطة، في أن تسمح للدولة الحديثة أن تتغول كما تشاء لأجل تحقيق مصالح دنيوية مهما كانت هامشية، وتمنعها من منع المفاسد والمحرمات الشرعية القطعية!

 

4-(التجريم الشرعي والتجريم القانوني):

فحوى هذا الاعتراض:

 أن التجريم القانوني يختلف عن التجريم الشرعي، فلا يلزم من تحريم الشيء شرعاً أن يكون القانون مانعاً له، وبناءً عليه فلا يصح الاستدلال على وجوب منع المنكرات لمجرد كونها محرمة شرعاً.

وهذا معنى شائع في كتابات بعض المعاصرين، ويتكرر في أحاديث بعض الناس من دون إدراك لحقيقة هذا الكلام.

ربما يربك مثل هذا الكلام بعض الشباب لطبيعة صياغته المضللة والتي توهم انها منطلقة من قراءة فقهية، بينما يغفل الشخص عن بدهيات شرعية تنقضه، من ذلك أن ما حرمته الشريعة فيجب إنكاره وتغييره، بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده) فمفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الشريعة يشمل إزالة المنكر، وليس معروفاً بتاتاً في التصور الشرعي أن تقول هو حرام لكن لا تتعرض له، فالقانون محكوم بالشريعة وليس نداً لها، ولهذا لو جاء القانون بما يخالف الشريعة فهو باطل للقاعدة الشرعية المتفق عليها (إنما الطاعة في المعروف).

فالظن أن ثم مساحة تجريم شرعية، ومساحة تجريم قانونية، هي منطلقة –شعر الشخص أم لم يشعر- من استحضار للمعنى العلماني الذي يجعل أحكام الدين مجرد علاقة فردية غير مرتبطة بنظام ولا إلزام، فيبحث هنا عن معنى خارجي ليعلق عليه المنع القانوني.

نعم، ثم مساحة من المحرمات الشرعية لا تتعلق بأحكام القضاء كالمحرمات القلبية أو ما يستتر به الشخص أو ما لم يثبت عليه شرعاً، فهي منكرات شرعية لكن لا ولاية للقضاء عليها  لأن الاعتبار قضاءً لما ظهر، والمستتر بالمنكر لا يعامل معاملة المرتكب للمنكر إلا إذا أظهره.

يأتي بعضهم عادة هنا بذكر مساحة من المنهيات الشرعية كالغيبة أو الكذب، يقول إنه لا يمكن تدخل القضاء في كل شيء من المعاصي.

وبغض النظر عن هذه الأمثلة –وسأرجع إليها ببحث مفصل بإذن الله- فلو سلمنا فعلاً أن هذه مساحة لا ولاية للقضاء عليها، فإن وجود أحكام معينة لا يشملها حكم القضاء لمصلحة شرعية أو خوفاً من مفسدة أو نظراً لكثرة ارتكاب الناس لها وابتلائهم بفعلها، لا يعني أن كل الأحكام الشرعية لا تجرم بمجرد تحريمها شرعاً، فوجود مساحة مشكلة عليك لا يبيح لك أن تمد بساط الإشكال على  الأحكام الشرعية كلها.

كما أن هذه المحرمات حين لا يشملها حكم القضاء في مكان أو زمان معين فهو متعلق بالمصلحة والمفسدة وليس متعلقاً بأن التحريم شرعاً غير كافٍ في التجريم.

خذ هذا المثال ليتضح الإشكال:

اختلف العلماء في الأسباب التي تبيح الجمع بين الصلوات، فيأتي بعض الناس فيستدل بوجود أحوالٍ يباح فيها الجمع على أن كل الأحوال تجيز الجمع، وأن الصلاة في وقتها أصلاً غير واجبة!

فخلل التفكير ظاهر هنا، فوجود أحوال معينة لا يعني أن تعديَه إلى جميع الأحوال، وهذه الأحوال مرتبطة بالمشقة ونحوها لا أن تجعلها دليلاً على أن وقت الصلاة غير واجب!

وفي مثال آخر يمكن أن يقول شخص: كما أن ثم أموالاً في الشريعة لا تجب فيها الزكاة، فهذا دليل على أن كل الاموال لا زكاة عليها إلا إذا أراد الشخص أن يزكي بمحض اختياره فيكون واجباً عليه!

فهذه حال صاحبنا تماماً، يستدل على صور معينة مشكلة من المنهيات الشرعية، قد يقال بعدم التعرض لها نظراً للمصلحة، فيعممها على جميع الصور، ويقدح من رأسه أصلاً منحرفاً أن التحريم غير كافٍ للتجريم!

وكما ذكرت سابقاً، فكثرة الاعتراضات لا تعني خفاء الحكم، فهذه القضية ظاهرة جداً لمن فتح أي كتاب فقهي من أي مذهب في أي عصر أراد، ستجد بوضوح أن ما حرم شرعاً يجب إنكاره علناً، ويمكن أن يعاقب صاحبه إذا كان ثم مصلحة، وهو الباب الفقهي الشهير: بالتعزير، الذي هو عقوبة على معصية لا كفارة فيها ولا تعزير، وهي محل إجماع كافة المذاهب في الجملة.

ومن الظريف أن يتوهم الشخص أنه حين ظفر بقاعدة (التحريم شرعاً لا يعني التجريم قانوناً) قد وقع يده على خلل كبير عند الدعاة إلى تحكيم الشريعة بأنهم سيطبقون من الشريعة ما لا يعرفه الفقهاء المتقدمون.

لو قرأ صاحب هذا الكلام باب التعزيز في كتب الفقهاء، ونظر في المحرمات الشرعية التي ينص الفقهاء على تجريمها وتعزير أصحابها لخجل على نفسه من مثل هذه الإطلاقات العقلية المحضة المرسلة على كتب الفقهاء من دون تجشم عناء معرفة ما فيها.

 

5-(القناعة الذاتية لا تفرض بالإكراه):

ينازع بعض الناس في جدوى الإلزام بأوامر الشريعة أو النهي عن محرماتها بأن: التدين قناعة ذاتية لا يمكن فرضها بالإكراه، وإن فرضها بالقوة سيعزز النفاق في مجتمعنا، وربما تحمس بعضهم فاستدل على ذلك بقول الله تعالى (لا إكراه في الدين) وكأنه ينطلق في هذه القناعة من استدلال في النصوص الشرعية.

هذه الطريقة في الاستدلال تقول إن منع المحرمات لا أثر له، فالمحرم الممنوع سيفعل سراً فلا أثر لمنع المجاهرة في فعل المنكر على تحجيمه والتضييق عليه.

ولا أدري هل من يقول مثل هذا الكلام مقتنع فعلاً أن المنع لا يؤثر على التضييق على الحرام!

فعنده مثلاً: أن بيع الخمر  حين يكون محرماً، لا يسمح لبيعه في مطار ولا فندق ولا سوقٍ، ولا تجده في أي محفل علني، ومن يشربه فلا خيار له من التواري عن أعين الناس هنا أو هناك ، فهذا عنده مثل ما لو كان الخمر متاحاً يباع في كل مكان، ويجاهر الناس بشربه بلا حياء!

وقل مثل ذلك في بقية المنكرات، كالعلاقات المحرمة والحفلات الماجنة.

لا يصدر هذا من عاقل يحترم نفسه، فالمنع سبب مؤثر جداً في التضييق على المحرم ومحاصرته  وتبشيعه في النفوس، والمجاهرة به سبب لانتشاره وشيوعه وتطبع النفوس عليه، ولهذا جاء التحذير الشديد من المجاهرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم (كل أمتي معافى إلا المجاهرين).

والملفت أن هذه المكابرة لا تأتي إلا على المنكرات الشرعية المحضة، ولا يمكن أن تجد أحداً يقول لا حاجة لمنع المخدرات أو ما يضر بالأمن لأن المهم هو القناعة الذاتية ولا أثر للمنع في ذلك! ولو سمعها من شخص لعد قوله من أسخف الأقوال، لكن هذا القول السخيف يتباهى به إذا كان الأمر متعلقاً بالمنكرات التي تحرمها الشريعة!

يأتي هنا اعتراض من شخص عاقل يقول: لكن السلطة ليست هي الطريق الوحيد لفرض القيم والأخلاق ومنع التجاوزات، فالمجتمع لديه أسس أخلاقية عميقة يتلقاها في البيت والمدرسة، وتنشأ عليها الأجيال، فلا يصح أن يربط موضوع الحفاظ على الأخلاق والقيم الشرعية بمؤسسة رسمية.

وهذا كلام صحيح،  والمطالبة بتعزيز وظيفة جهاز الحسبة ليس المقصود منها أنها هي الوسيلة الوحيدة لحفظ الأخلاق، وإنما هو سبب مهم، يتكامل مع بقية الأسباب التربوية والاجتماعية لتعزيز القيم الأخلاقية وتعميقها في الفرد والمجتمع.

لا حاجة لأن تفرض تناحراً بين النظام والتربية الذاتية، فهما متكاملان، القيم والواجبات والأحكام التي تربيت عليها ستزداد عمقاً في نفسك حين تجد النظام محافظاً عليها، وما يسعى النظام للمحافظة عليها سيكون مقبولاً عند الناس حين يكون لديهم قناعة ذاتية به.

إذن فالمقدمة العقلانية البدهية:  أن المنع السلطوي سبب رئيسي لحفظ الواجبات الشرعية ومنع المحرمات، وهو سبب مكمل لبقية الأسباب.

إذا تقرر هذا عرفتَ أن الكلام الذي يمر علينا كثيراً في الشبكات الاجتماعية من قبيل (الأخلاق لا تفرض، لسنا بحاجة لمن يعلمنا الأخلاق، المجتمع يعرف مصلحته ولا حاجة للوصاية عليها، .. الخ) كله كلام إنشائي فارغ لا معنى له.

وأما الاستدلال بمثل قول الله تعالى (لا إكراه في الدين) فقد كتبت مقالات وابحاث في المناقشة التفصيلية لغلط الاستدلال بهذه الآية في منع إنكار المنكرات، وكان المفترض بمن يريد أن يستدل بها أن يناقش هذه الأجوبة التفصيلية حتى يستقيم له استدلاله، لكن للأسف يعاد نفس الإشكال من دون أي التفات لما كتب من مناقشات علمية مفصلة عنه فنبقى ندور في حلقة مفرغة.

والجواب باختصار: أن الإكراه هنا متعلق بإكراه على الدخول في الإسلام، فهذا محرم، وأما الإلزام بأحكام الإسلام فليس هو من قبيل الإكراه على الدين، بل هو التزام بنظام وحكم الإسلام، فلا يمكن أن يقال لا تقم الحدود ولا تمنع المحرمات لأنها إكراه، لأن هذا يعني في النهاية أن تجعل الإسلام مجرد رسالة روحية فردية لا إلزام فيها، وهي ذات الرؤية العلمانية التي أنهكها الباحثون نقداً وتعريةً فلم يعد ثم حاجة لمزيد نقاش حولها.

 

6(-الإنكار في مسائل الخلاف):

يهمش بعض الناس من الوظائف الشرعية التي يتولاها هذا الجهاز بأنه من قبيل المسائل الخلافية، ويذكرون القاعدة الفقهية أن لا إنكار في مسائل الخلاف.

لا بأس، إذا سلمنا له ببعض هذه الوظائف أنها خلافية، فما موقفه من بقية الوظائف التي هي من القطعيات التي لا إشكال فيها؟

فإذا كان فعلاً يستند إلى هذه الجزئية في التهوين من عمل الهيئة فالنتيجة المنطقية أن يتحمس ويناصر هذا الجهاز في القضايا التي ليس فيها خلاف، لكن غالب من يثير هذه القضية يفشل عند الاختبار للأسف، فهو يثور غاضباً على من يراه ينكر في مسألة خلافية، وسرعان ما يذوب جلمود هذا الغضب حين يرى منكراً متفقاً على حرمته!

ما زلت أذكر ذلك النقاش الطريف، حين كتب أحدهم مرة في تويتر منكراً على بعض رجال الحسبة إنكاره في موضوع كشف وجه المرأة، قائلاً: من حق المرأة أن تفعل هذا لأن هذا فيه خلاف.

سأله أحدهم: فإن كشفت شعرها مثلاً، أو خلعت العباءة "الجلباب" فهل يكون لها حرية؟

قال: نعم، لا إكراه في الدين!

إذن، موضوع الخلاف الفقهي جيء به فقط لتنفيذ مهمة عاجلة ثم يتخلّص منه!

فحقيقة الاعتراض إذن ليس استناداً بشكل حقيقي إلى هذه القاعدة، وإلا فإن من يستند لها انطلاقاً من دافع فقهي حقيقي لن يتعامل مع الجهاز بطريقة التهميش والتهوين، بل سيقف معه في الواجبات الشرعية التي يراها قطعية، وقد يتحفظ على بعض الوظائف، وسيجد في النهاية أن أقل أحوالها أن يكون لها وجه فقهي سائغ.

 

7-(العناية بالمنكرات الأهم وترك الانشغال بالهوامش):

في بدايات دخولي في عالم "الفيسبوك"  ربما كان ذلك تقريباً في 1430هـ، كان ثم حملة مكثفة عنيفة تنتظر أي فاضل يتحدث عن أي قضية شرعية لا تروق لبعض الناس، فحين يتحدث بعض الفضلاء عن بعض المحرمات أو يطالب بمنع اختلاط، تنهال عليه عاصفة عنيفة "أين أنت عن القضايا الكبرى" و "لماذا التركيز على الهوامش وترك الأصول" ، ولا يقف الأمر عند هذا الحد،  بل يبنى على هذه الأوصاف حزمة من الأحكام القاسية على أولئك الفضلاء بأنهم من "أدوات للاستبداد" و "قاصرون في فهم الشريعة" و "لديهم صفقات سياسية" وقائمة طويلة يعرفها كل من كان قريباً من أجواء تلك الخصومة.

أصدقكم القول، كانت هذه اللغة الهجومية المعبأة بالتهم تضايقني كثيراً، وكنت أبدي انزعاجاً من  حالة الظلم والبغي والتشويه الذي تشحن به النفوس ضد كثير من الأفاضل، ربما لكوني كنت جديداً على هذه الساحة فلم أتعود على مثل هذه التهم التصعيدية المركبة.

الآن بعد 7 سنوات، لا أملك مدافعة الابتسامة حين أقرأ مثل هذه اللغة، حيث تكشفت مع الأيام، وذبل وهجها، وأصبحت أسمالاً بالية.

لا يتذكر صاحبنا هذا القضايا الكبرى، والهموم المصيرية إلا إذا رآك تتحدث في موضوعات شرعية لا تروق له، لكنك لو تكلمت في أي شان آخر فلن يتذكر هذه القضايا المصيرية،  لو تحدثت عن مقطوعة موسيقية وأنها جميلة ومبدعة لشاركك المشاعر والتعابير، ولو قلت إن الموسيقى محرمة في المذاهب الأربعة قال: أين القضايا المصيرية؟! وربما تراه مستغرقاً في  الحديث عن الروايات والأفلام والرياضة والسياحة و .. فإذا قلت لهم هذا منكر،  رمقتك أبصارهم شزراً: لماذا تنشغل بالهوامش؟! أين أنت القضايا الكبرى؟!

هي فقرة مخصصة فقط لإسكاتك عن بعض القضايا الشرعية، فهي باختصار توظيف للقضايا الكبرى لإسكاتك عن بعض القضايا التي لا يحب، ولو تركت الحديث عن هذه الأحكام الشرعية لما وجدت صاحبنا هذا يذكرك بالقضايا الكبرى.

ومن الطرائف الملتقطة هنا : أن الأجواء الملبدة بعواصف "أين أنت عن القضايا الكبرى" و "لماذا تنشغل دائماً بالهوامش" تأتيك حين تتحدث عن حرمة الموسيقى، ومفاسد الاختلاط، وأهمية الحجاب مثلاً.

لكنك لو عكست المسار: فتحدثت عن إباحة الموسيقى، وإباحة الاختلاط، وانتقدت الفقه المتشدد الذي يحرم على الناس كثيراً من المباحات ودخلت في تفاصيلها واحدة بعد أخرى، فلن تجد أحداً من هؤلاء يذكرك بالقضايا الكبرى، بل ربما رفعتَ على منصة التجديد والإبداع الذي على يده النهضة والتنمية والتقدم!

القضايا الكبرى مهمة، والقضايا التي أقل منها أهمية أيضاً مهمة، لا يجوز أن يستخف بمن يقوم بواجب لأن ثم واجباً اهم منه، بل وحتى لو فعل مستحباً لما ساغ أن يشنع عليه لتقصيره في واجب.

نعم، لو كنت تريد تذكيره  ونصحه بهذا الواجب ليقوم به مع قيام بالواجب الذي عليه فلا إشكال، لكن واقع من يقول "أين أنتم عن القضايا الكبرى" أنه لا يريد هذا المعنى.

يبقى أن تحديد ما هو أصل وهامش، وصغير وكبير، لا يعتمد  هنا على ميزان عقلي أو شرعي معتبر، فالمنكرات الشرعية التي لا ترتضيها الثقافة الليبرالية ستكون بداهة من قبيل الهامش، وما تعظمه الليبرالية هو من قبيل الأصل، وإلا فإنكار منكر الشرك بالله، هو في الميزان الشرعي من أعظم وألزم الواجبات، لكن هذه الموجه الغضبية ربما تنفجر في وجهك وتراك منشغلاً بالهوامش لأنك دعوت إلى إنكار بعض المنكرات المتعلقة بالشرك بالله، أو إنكار الفواحش والخمور، لأن ميزان الاعتبار ليس هو بحسب ميزانها في الشريعة.

 

8-(حرية الاختيار وقيود الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر):

ثامن هذه الاعتراضات يقول:

قد خلق الله الإنسان وأعطاه حرية الاختيار، فهو مسؤول عن اختياره، وسيحاسبه الله عليه، فالله خلق الإنسان حراً، فتقييد حريته مخالف لهذا الأصل الشرعي المقدس.

جميل، فإذا أعطاه الله الحرية فهل يعني أن لا حساب عليه في الدنيا؟

للإنسان حرية الاختيار قدراً، هذه معلومة صحيحة لا إشكال فيها، فهو قادر أن يفعل وقادر أن لا يفعل، لكن هذا لا يعني أن لا مسؤولية عليه في  اختياره الحر، فهو حر قدراً، ومحاسب على فعله شرعاً، فبإمكانه أن يقتل أو يسرق أو يزني  أو يفعل ما يشاء، لكنه حين يرتكبه سيكون عرضة للجزاء المترتب على فعله، وحرية الاختيار تجعله مستحقاً للعقاب لا أن يسقط عنه العقاب بسبب ذلك.

يأتي بعضهم فيسوق الأدلة الشرعية على الحرية من نصوص الكتاب والسنة.

جميل ورائع، أن تنطلق من دلائل الكتاب والسنة لتعرف حدود هذه الحرية، لكن الواقع أن النتيجة تكون بتقرير المفهوم الليبرالي للحرية، حرية مقيدة بما لا يضر الآخرين، لكنها غير مقيدة بما فيها محرم شرعاً أو ضرر شرعاً.

الملفت أن الحرية في كل الفلسفات والثقافات مقيدة بحدود لا يمكن تجاوزها، فبعض الناس يقبل بهذه الحدود الآتية من الفضاء الليبرالي، أما حين تطالبه بأن يحترم الحدود التي جاءت بها الشريعة يقوم ويقعد ويأتي ويذهب!

هل تصدقون، أنه قبل سنوات قليلة كان ثم نقاش ساخن تابعه الكثير حول سيادة الأمة وسيادة الشريعة، وهل حدود الشريعة قيد على سيادة الأمة بحيث لا يمكنها تجاوزه أم أنه يمكن لسيادة الأمة أن تتجاوزه؟

كتب في ذلك مقالات وحوارات، لأجل إثبات أن الأصول القطعية الشرعية ليست ضمن حدود سيادة الأمة بل هي حاكمة عليها وأعلى منها.

الملفت أن بعض المحاورين لم يتقبل هذا، وبدأ يجادل هنا وهناك، لما جاءت مسألة التصويت من أجل إعطاء المرأة حق قيادة السيارة، أو حق العمل بائعة في الأسواق، قال: لا، هذه حقوق لا يصوت عليها وليس للأكثرية حق منع الأقلية منها، فسبحان الله، أصبحت أصول الشريعة وقطعياتها أقل قدراً، ودون مستوى قيادة المرأة للسيارة وعملها بائعة!

يتحمس بعض المتأثرين بالرؤية الليبرالية للحريات فيقول: التدين الحقيقي هو الذي يكون في جو الحرية، وأما التدين في غير جو الحرية فهو تدين ضعفة،  وربما قال: ومنافقين.

لاحظ أولاً: أن الحرية هنا هي الحرية بمفهومها الليبرالي، حرية لا ترفع بقيود الشريعة رأساً، فالتدين حسب هذه النظرة في المجتمعات الليبرالية أفضل من التدين في المجتمعات التي تلتزم بمنع المحرمات.

كنت حين أمشي في شوارع بعض المدن الإسلامية أو الغربية تقفز في ذهني رؤيتان في موضوع الحرية:

الرؤية الأولى: رؤية من يقول إن الحرية تقوي التدين الحقيقي، والمنع يحاربه، وهي ما يشيع في كتابات كثير من المتأثرين بالثقافة الليبرالية المعاصرة.

الرؤية الثانية: أن الحرية التي لا تلتزم بأحكام الشريعة لا يمكن أن يقوم عليها بناء مجتمع متدين، فالتدين الحقيقي ينافي هذه الحرية، ولا يمكن أن تقيم مجتمعاً ملتزماً بأوامر الله منتهياً عن نواهيه وهو يفتح الحرية بلا ضوابط شرعية.

فكنت أحمد لأصحاب الرؤية الثانية عقلهم وفقههم الذي دلهم على أن إشاعة التبرج والتعري والعلاقات المحرمة هو حرية خانقة للتدين محاربة له، لا يمكن للمسلم أن يحافظ على تدينه فيها إلا بجهاد عظيم وصبر كبير لا يقوى عليه أكثر الناس، وأن من يريد التدين الحقيقي فلا بد أن يقيم مفهوم الامر بالمعروف والنهي عن المنكر كما جاءت به الشريعة، فهنا يكون الالتزام بأحكام الشريعة ميسوراً، أما أن تقول للشاب وللفتاة غضوا أبصاركم، والتزموا بالضوابط الشرعية، وواقع المجتمع يشيع بالمنكرات التي تحرض على انتهاكها فهما صورتان متناقضتان.

يعيدنا هذا مرة  اخرى لإشكالية التلفيق الرديء بين أحكام الشريعة والمفاهيم الحداثية المعاصرة، من خلال محاولة تفسير الحرية بما لا يتعارض مع الليبرالية، فتكون الشريعة كافلة لكل الحقوق والحريات التي تكفلها الليبرالية، وبطبيعة الحال أن الأحكام التي تبدو خارجة عن هذا السياق سيتخلص منها بشكل أو بآخر.

قلت تلفيق؟ يبدو أني ما أزال مرتهناً  بالتلفيق في صورته القديمة، وإلا فالحال أن الموضوع لم يعد تلفيقاً، بل تفسيراً للشريعة بحسب الليبرالية، من دون أن يتغير في الليبرالية شيئا، فالشريعة أصبحت مجرد قيد ذاتي لا يعارض الحرية من الأساس، لأن الشريعة مجرد قيم أخلاقية لا تملك أوامر سلطوية ملزمة للناس، وتجاوز الأمر هنا إلى النظر في وظيفة الدولة، فالدولة في نظرهم دورها فقط يتعلق بحفظ أمن الناس وتدبير معاشهم الدنيوي، وليس لها أي علاقة بإقامة شيء من الدين أو منع شيء عنه،  الملفت أن هذا كله يقدم على أنه مفهوم فقهي وقراءة شرعية.

فعلى ما قال الإعرابي الأول: إذا كان هذا طريق الجنة فأين طريق النار؟!

فإن كان هذا كله هو المفهوم الشرعي للدولة، دولة لا تقيم شيئاً من أحكام الدين، ودين لا يحمل أي نظام أو قانون، فما هو إذن المفهوم العلماني للدولة وللشريعة؟

في الحقيقة هذا سؤال محرج جداً لأصحاب هذه التصورات الملفقة، لأن العلمانية مشوهة في الواقع المعاصر، ولا يرغب أحدٌ أن يبقى منتسباً إليها، فحين تتقاطع رؤاهم وتأويلاتهم للشريعة ولنظام الحكم مع العلمانية يقع ثم حرج كبير.

والتصرف المعتاد هنا يأتي عادة بتحريك العلمانية عن مكانها الطبيعي حتى يكون المكان الجديد الذي وقف عليه الشخص موجوداً خارج محيط العلمانية.

فبعضهم يقول مثلاً: العلمانية هي التي تحارب الدين وتستئصله، وليست المسالمة الموادعة له.

وهي مغالطة،  لأن الخلاف مع العلمانية كان مع إزاحتهم للدين عن نظام الحكم والإلزام به في المجال العام، وليس عن حربهم للإسلام.

وبعضهم يجعل فكرة العلمانية مرفوضة لأنه لا يمكن عزل الدين عن الدولة، لأن الدولة في النهاية تُحكَم برجال متأثرين بروح مجتمعهم وثقافته، والدين مكون أساسي، فلا يمكن أن يحصل عزل حقيقي بين الدين والدولة.

وهذا أيضاً تحريك للعلمانية عن أرض معركتها الحقيقة، فالنزاع مع العلمانية لم يكن أنها تريد نزع كل ما يحمله الشخص  في رأيه من قيم حضارية وتربوية، فهذا مستحيل، إنما الخلاف معها كان في عزل الدين كمرجعية للحكم، وكقوانين ملزمة، بحيث يكون الإلزام متعلقاً بمرجعية أخرى ليست هي المرجعية الدينية، وحين تكون المرجعية مستندة إلى فضاء آخر فلا يعنيهم أن من سيلتزم بهذه المرجعية يحمل تصورات متأثرة بأي دين، لأنه في النهاية لا أثر لها في مرجعية القانون أو في فرض قوانين مستندة إلى بعدٍ ديني.

دعونا نقارن إذن بين الرؤية العلمانية المعروفة بعزل الدين عن الدولة، وأن الدولة تقيم نظامها خارج مرجعية الدين.

وبين الرؤية الجديدة التي يستدل بها بالشريعة، والمصلحة الشرعية، والقواعد الفقهية، وأقوال العلماء،  والتي تقول:

إن وظيفة الدولة متعلقة بالشأن الدنيوي المحض، وليس من صلاحيتها فرض أحكام دينية، وأن الشريعة في النهاية مجرد خيار ذاتي لا يملك أحكاماً ملزمة.

من استطاع أن يكتشف فرقاً موضوعياً بينهما فعندي له جائزة قيمة J

 

9-(التضخيم والمبالغة):

يقول المعترض:

ثم تضخيم ومبالغة في المفاسد والآثار التي سيحدثها عدم إنكار هذه المنكرات، فالحياة ستمضي، وأخلاق المجتمع لن تتدمر بين عشية وضحاها، والقيم الأخلاقية ليست مرهونة بجهاز ضبطي معين.

 وهذا الكلام فيه جانب صواب.

فثم مبالغة من بعض الغيورين في تخويف المجتمع من آثار سحب الصلاحيات عن الهيئة تتجاوز الحد المعقول، وللأسف أن المبالغة في الشيء تكون دوماً أداة توظيف للطرف المقابل للتهوين من أصل الشيء.

كما وظفت هذه المبالغة من جهة أخرى، فأصبح البعض يعلق على المشاهد التي حدثت من اعتداء وتحرش قائلاً: هذا دلالة فشل لخطابنا الدعوي والشرعي، فأين ذهبت آلاف المحاضرات والدروس والفتاوى، وما أثر الحلقات والمناهج، وما ثمرة المنع والتحريم؟

وهذه قراءة ساذجة وسطحية للمفاسد التي تحدث في المجتمع، فالسؤال يجب أن يكون: ما هو الواجب الذي يجب أن يفعله الخطاب الدعوي في مثل هذه القضايا وهل قصر فيه؟ لا أن يصرخ مع كل انحراف: أين الخطاب؟ وأين المناهج؟

فأهمية التربية في البيت والمدرسة، وتحفيظ القرآن، والمحاضرات، وإقامة الصلوات في المساجد، الخ لا تعني أن أي غلط تراه في المجتمع سيكون ناتجاً عن تقصيرها؟ فدورها ليس إزالة أي غلط، بل لها دور محدود، يأتي التصحيح والنقد في حدود هذا الدور.

يعلق بعض الناس على بعض حوادث التحرش بأن هذا يعني خللاً في الخطاب الدعوي؟

القضية عندي هنا ليس دفاعاً عن الخطاب الدعوي، بل هي تصحيحاً لطريقة التفكير، فالقضية بوضوح أن قضايا التحرش كانت من مسؤولية رجال الحسبة فلما سحبت منها حصل اختلال في الموضوع  نتيجة غياب السلطة، وهو أمر سينتهي قريباً بإذن الله، فموضوع التعدي والتحرش لا قلق عليه بإذن الله، فهو دور رجال الأمن، فطريقة التفكير التي تتجه لتحميل "الخطاب الشرعي" مغبة أي غلط ليست طريقة مستقيمة.

يقول آخر: سيمضي القرار ولن تحصل هذه المفاسد التي تتخوفون وسيبقى المجتمع كما هو.

يذكرني هذا بقصة ذاك الشاب الذي كان متديناً محافظاً على الصلاة، لكن حاله تغيرت مع الأيام بسبب موجة شكوك وشبهات مرت عليه، فقرر أخيراً أن يترك الصلاة، وبعد أسبوع من تركه للصلاة كتب: ها أنا تارك للصلاة من أسبوع، ولم أصب بأي شيء، وحياتي تمشي في أحسن ما يكون.

وما أدري ما الذي كان يتوقعه هذا الشاب فلم يجده؟ هل مفسدة ترك الصلاة ستجعل الأرض تبتلعه، أو تصيبه صاعقة من السماء، أو يهبط عليه طائر كبير فيقضم رأسه؟

هذه هي صورة المفاسد التي نتحدث عنها هنا، فحين نتحدث عن منكرات شرعية يجب الحفاظ على منعها، وواجبات شرعية يجب القيام بها فإن أول ما يجب أن نستحضره أنه قيام بأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا كافٍ في إدراك المصلحة في القيام به وضرر المفسدة في تركه.

ثم إن المفاسد المتعلقة بهذه المنكرات سيظهر أثرها تدريجياً، فترك القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب لتغير ثقافي عميق للمجتمع عاجلاً أو آجلاً، ومثل هذا مما لا ينبغي أن يسأل عنه، فالفساد الأخلاقي المنتشر في كثير من بلاد المسلمين لم ينشأ فيها إلا منذ عقود قليلة، وكانت في صيانة منه قبل ذلك، لكنه يبدأ تدريجياً حتى تعتاده النفوس، وربما تحول المنكر معروفاً والمعروف منكراً.

وهذه المفاسد التي نتحدث عنها هي مفاسد متعلقة بالدين، وليست مرتبطة بالمعاش الدنيوي المحض، فإدراك حجم المفسدة وخطورتها وضرورة مواجهتها مرتبط بمدى تعظيم الإنسان لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، يزيد ويضعف بحسب ذلك،  وأما المفاسد المتعلقة بالمصالح الدنيوية المحضة فكل الناس مدركون لدقائق الفساد المتسرب منها.

 

10-(ضرورة التطوير والتحسين لعمل الجهاز):

الكثير في هذا المجتمع يحترم التصورات الشرعية، فحين تبدو له وجاهة الدلائل الشرعية في القول الذي كان يرفضه فإنه يبدي تراجعاً او على الأقل توقفاً أو تفهماً، فهنا حين تتجلى هشاشة المستندات التي يتكئ عليها في تهميش واجبات هذا الجهاز، قد يقول قائل: لكن هذا الجهاز يعاني من ترهل إداري، وكثرة أخطاء، وتجاوزات مختلفة، وعدم وضوح للمنكرات التي يحاربها، الخ.

وحين نصل إلى هذه النقطة فنحن نصل لنقطة اتفاق، فالتطوير والتصحيح والتحسين واجب في كل جهاز حكومي، وفي جهاز الهيئة أوجب وألزم لارتباطه بواجبات شرعية محضة تحتم المزيد من العناية بالتطوير والتصحيح، واي مقترحات أو آراء تسعى لتطوير هذا الجهاز وتجويد أدائه فليس عندي معها أي إشكال، حتى ولو تحفظت على الاقتراح أو رأيته غير منتج أو كان بعيداً عن تصور الواقع خاضعاً للضغط الإعلامي، يبقى أن هذه مساحة ثرية للنقد والتقويم والتصحيح مفيدة للجهاز.

إنما الذي لا يسوغ هنا: أن يكون تصحيح الخطأ ذريعة لإلغاء مهمة الجهاز بالكلية، وأن يكون التطوير خطوة لسحب صلاحيات الجهاز، فالموضوع هنا لم يعد تصحيحاً ولا تطويراً، وليس متعلقاً بأخطاء ولا تجاوزات، توظيف للتطوير ولما يرى من تجاوزات للوصول إلى غايته المنطلقة من موقف فكري، وآل أمره من كونه مطالبة بتطوير جهاز إلى  تهميش واعتراض على الوظائف الشرعية التي يقوم بها.

تلك عشرة كاملة.

هي جمع لاعتراضات وإيرادات كثيرة تتردد في السجالات ويتكرر ذكرها في وسائل التواصل، وكما ترى فليس في مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما يثير كل هذه الإشكالات، إنما ثم دوافع كثيرة كانت سبباً لكثرة الإشكالات، وهي بالتأكيد ليست على مساق واحد ولا يجمعها دافع فكري موحد.

خاتمة المطاف:

المجتمع السعودي –بحمد الله- يتميز بنعمة عظيمة لا تكاد تجدها في كثيرٍ من بلدان العالم الإسلامي، وهي حالة ظاهرة لا ينكرها إلا مكابر، فالمجتمع محافظ على منع العلاقات المحرمة والاختلاط الفاحش والتبرج الفاضح، والخمور محرمة، فينشأ الصغير والكبير وهو يرى المحرمات والمنكرات الشائعة في كثيرٍ من البلدان هي جرائم يرفضها المجتمع ويمنعها القانون ويحاسب عليها القضاء ويعززها التعليم،  وهي نعمة عظيمة حرمت منها مجتمعات كثيرة فرض عليها بقوة القانون الخضوع لما يخالف الشريعة، ولا شك أن وجود سلطة تمنع من ظهور المنكرات، وتحاسب من يتجاوزها هو من أهم الأسباب لهذه النعمة، والتفريط فيها بذرائع شتى سيفقد هذا المجتمع هذه الميزة تدريجياً، فالقضية مكسب شرعي لنا جميعاً، ومصلحة شرعية للمجتمع جميعاً، هي في مصلحتنا جميعاً، ومصلحة أبناءنا وبناتناً ومصلحة الأجيال القادمة، ليست معركة تيار ولا خصومة جماعة معينة، بل هي مصالح شرعية عظيمة متحققة، ومفاسد مدفوعة، وبشكر النعم تدوم، والله المسؤول أن يحفظ بلادنا من كل سوء، والحمد لله رب العالمين.



 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
سفينة المجتمع
  • مسائل في الحسبة
  • شـبـهـات
  • فتاوى الحسبة
  • مكتبة الحسبة
  • حراس الفضيلة
  • الصفحة الرئيسية