صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







فن إضاعة الفرص

 عبدالوهاب بن ناصر الطريري


كثيرة هي الفرص التي نحسن إهدارها، والفرص سريعة المجيء بطيئة العود، فإذا فاتت فإن لدينا براعة فائقة في النواح والتحسر والتناد.
والحديث عن القنوات الفضائية والمشاركة فيها مثال لذلك صارخ ، فما إن يسمع بعض الخـيِّرين عن مشاركة عالم أو داعية في هذه الفضائيات حتى تسمع الاستغراب والاستنكار، وسؤال الثبات حتى الممات على وجهات النظر الآنية.
والمبررات عند إخواننا عقلية، أو دعونا نقول نفسية غالباً، منطلقها النفرة من هذا العفن المندلق من أحشاء هذه القنوات الفضائية، فيخشى أن تعطي مشاركة الأفاضل شرعية لهذه القنوات، فإن كان في النفوس فسحة للتأمل فدعونا نقف وقفات:
1. هذه القنوات منطلقة منذ سنين عدداً، لم تأخذ شرعيتها من مشاركة العلماء، وإنما فرضت نفسها مستغلة سآمة الإملال التي كانت وسائل الإعلام المحلية تغشيها لمستمعيها ومشاهديها.
2. إن مقاطعة هذه القنوات لن تقلل فضلاً عن أن توقف ما تبثه هذه القنوات من تماجن وتفحش ولهو غير بريء، وعلى العكس من ذلك فإن المشاركة سوف تزاحم هذا الإلهاء، وتوقظ بعض الغافلين.
3. ماذا كنا سنقول لو خرج في هذه الفضائيات صاحب بدعة يروج لبدعته، أو محرف للدين يزين انحرافه، أو ضال يدعو إلى ضلالته، ألسنا سنصيح صياح من تشتعل النار في ثيابه؛ لأن هناك من فتن الناس وأضلّهم، فما بالنا نرى الناس يقبلون الضلال ولا يقبلون الحق.
4. هل ستظل مشاريعنا ومشاركاتنا مؤجلة بانتظار الكمال الذي سيأتي لاحقاً، فنتوقف بانتظار قناة فضائية فيها كل ميزات القنوات الموجودة وتخلو في الوقت ذاته من سلبياتها. إنه انتظار-ولا شك- طويل.
5. من لهؤلاء اللاهين الذين استلبتهم هذه القنوات فخدرت مشاعرهم واستثارت شهواتهم، من لهم إذا لم نقتحم نحن عالمهم، ونحرك مشاعرهم ونُسمعهم الكلام الذي يجب أن يسمعوه؟
6. عندما كانت بعض هذه القنوات تقدم نماذج منفرة على أنهم يمثلون الإسلام كنا نشعر بمضاضة الألم لهذا الطرح المشوَّه، ونرى أن هذه القنوات قد كسبت من وجهين:
- تقديم صورة مشوهة عن الإسلام من خلال فكر هؤلاء وطرحهم المتوتر.
- الاستفادة من الإثارة الإعلامية التي يقدمها هؤلاء بالمجان لهذه القنوات.
وقد آن الأوان لتقديم البديل الصحيح من خلال الطرح العلمي المؤصل،
والدعوة الخيَّرة المؤثرة على علم وبصيرة.
7. رأينا أثر قلة من النصارى والطائفيين احتلوا مساحات شاسعة من هذه القنوات، واستطاعوا تسريب أنماط من السلوك ما كانت مألوفة ولا معروفة. فمنذ متى كنا نسمع داخل بيوتنا ومدارسنا عن عيد الـحُبّ؟!
8. لماذا نشعر –دائماً- بالضعف والقابلية للتأثر وعدم القدرة على التأثير؟ فلو خرج في قنواتنا صاحب طرح منحرف لأعلنا النفير بالتحذير بأنه سيُضِلّ ويُضِللّ، وإن خرج عالم على تلك القنوات قلنا ضل وفتن وخنقنا فرص تأثيره ونفعه، ألسنا على الحق والحق أغلب؟ فلماذا نفكر وكأن ديننا من زجاج؟
9. يقولون: إن هذه القنوات تستغل العلماء والدعاة وتحقق من خلالهم انتشارها، ونحن نقول: وهم –أيضاً- يستغلونها ويصلون من خلالها إلى قطاعات وشرائح اجتماعية لم يتم التواصل معها بعد.
10. رأينا الأثر الخيَر لمشاركة بعض الأفاضل، وتحقق -من خلال ذلك- وصول الكلمة الطيبة الهادية إلى من لم يتعود سماعها ولم يناد بها يوماً من الدهر، وكان للشيخ القرضاوي، والشيخ عائض القرني، والأستاذ طارق السويدان، وآخرين من ذلك البلاء الحسن.
11. الرفض يكون -في أحيان ليست قليلة- شعوراً نفسياً وليس استدلالا شرعياً مؤصّلاً بنصوص الوحي ومقاصد الشرع، والنفوس تحتاج إلى أن تُرَاض للانقياد لمدلولات النصوص ولو خالف ذلك رأيها المسبق، واجتهادها حيناً من الدهر.
12. إذا وردنا نصوص الكتاب ومنهاج النبوة فإننا أمام أدلة ناصعة الدلالة أكتفي بالإشارة إليها إلماحاً لا تفصيلاً:
أ- قوله -تعالى- :" وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره"، وقوله :" وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره" فنَهَت الآيتان عن الجلوس معهم حال إعلانهم بالكفر والاستهزاء، ولم تمنع من ذلك مطلقاً "حتى يخوضوا في حديث غيره" وكذلك المشارك في هذه القنوات هو بمشاركته يرفع الخوض واللهو واللغو ليُحِلَّ محله الدعوة للخير والحق . قال الشيخ ابن سعدي في تفسير آية الأنعام " أمر الله بالإعراض عنهم حال خوضهم بالباطل حتى يكون البحث والخوض في كلام غيره فإذا كان في كلام غيره زال النهي المذكور، وهذا النهي والتحريم لمن جلس معهم ولم يستعمل تقوى الله؛ لأنه كان يشاركهم في القول والعمل المحرم، أو يسكت عنهم، فإن استعمل تقوى الله بأن كان يأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر، ويترتب على ذلك زوال الشر أو تخفيفه فهذا ليس عليه حرج ولا إثم " انتهى مختصراً .
وما أروع قوله – رحمه الله – زوال الشر أو تخفيفه، فإن تخفيف الشر أو مكاثرته بقدر من الخير مكسب لا يستهان بالظفر به .
ب- وقال –تعالى- عن نوح –عليه السلام-:"رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً.....*ثم إني دعوتهم جهاراً، ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً". إن هذا الجهد الدؤوب الذي لا ينقطع، ولا يكل ولا يمل، ولا يفتر ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً لا يكون إلا بإصرار على المواجهة لهم، ومتابعتهم حيث ذهبوا، والجلوس إليهم حيث اجتمعوا، ولو كان ذلك عند آلهتهم ودّاً، وسواعاً، ويغوث، ويعوق، ونَسْراً.
جـ- أخرج الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح (16020-16027) عن ربيعة بن عباد الديلي قال:" رأيت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بصرعيني بسوق ذي المجاز يقول: " يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا" ويدخل فجاجها، والناس متقصفون عليه، فما رأيت أحداً يقول شيئاً، وهو لا يسكت، يقول:" أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا"...الحديث.
فها هو النبي –صلى الله عليه وسلم- يغشى أسواق الجاهلية التي كانت فيها الأصنام، وزقاق الخمور، وكان فيها الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب والاستقسام بالأزلام. ولم يجعل له –صلى الله عليه وسلم- سوقاً خاصاً ليأتيه الناس فيه، ولكن أتاهم حيث هم ودعاهم –صلى الله عليه وسلم-.
د- وأخرج أحمد (6/25)، وابن حبان (7162) بسند صحيح عن عوف ابن مالك الأشجعي قال: انطلق النبي –صلى الله عليه وسلم- وأنا معه حتى دخلنا كنيسة اليهود بالمدينة يوم عيدهم، وكرهوا دخولنا عليهم فقال – صلى الله عليه وسلم - " يا معشر اليهود أروني اثني عشر رجلاً يشهدون أن لا إله إلا الله يحبط الله عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي غضب عليهم"...الحديث.
فها هو –صلى الله عليه وسلم- يدخل على اليهود في كنيستهم ليدعوهم بدعوة الإسلام، وكما دخل –صلى الله عليه وسلم- كنيستهم التي يتعبدون فيها دخل عليهم بيت مدراسهم الذي يتعلمون فيه.
هـ . فقد أخرج البخاري في صحيحه (6944) عن أبي هريرة –رضي الله عنه-قال: بينما نحن في المسجد إذ خرج علينا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقال: انطلقوا إلى يهود فخرجنا معه حتى جئنا بيت المدراس فقام النبي –صلى الله عليه وسلم- فناداهم "يا معشر يهود أسلموا تسلموا، فقالوا: بلغت يا أبا القاسم، فقال: ذلك أريد، ثم قالها الثانية ثم الثالثة.."الحديث. (بيت المدراس: هو البيت الذي تقرأ فيه التوراة على الأحبار).
وما الذي يمكن أن يقال في كنيسة اليهود وفي بيت مدراسهم أليس قولهم: يد الله مغلولة، وعزير ابن الله، والله فقير ونحن أغنياء، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.
وإن هذه القنوات ليست شراً من كنيسة اليهود ولا بيت مدراسهم.
و-أخرج البخاري في صحيحه (4566) عن أسامة بن زيد –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- مر بمجلس فيه عبدالله بن أبي بن سلول، وذلك قبل أن يسلم، فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود والمسلمين، وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمَّر عبد الله بن أبي أنفه بردائه، ثم قال: لا تغبروا علينا، فسلم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عليهم، ثم وقف فنزل فدعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن، قال عبدالله بن أبي بن سلول: أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقاً، فلا تؤذنا به في مجلسنا، ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه.." الحديث.
لقد كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يغشى هذه المجالس التي يشوبها الأخلاط من المشركين واليهود ليبلغهم رسالة الله، مع أن هذه المجالس لن تخلو من لغوهم وخوضهم بالباطل، وكان هذا يكرب زعماء الشرك ورؤوس يهود ويبلغ بهم العنت.
ولذا فليس أشق ولا أعنت على أهل الضلال من أن تبلغهم كلمة الحق وتدخل في أسماعهم، ولذا قالوا " لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه".
ز- أخرج البخاري في قصة صلح الحديبية ( 2731-2732) أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال عن قريش وهم على الشرك: " والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها ". فهؤلاء المشركون على حالهم من الشرك، والصد عن البيت، وحرب المسلمين، ومع ذلك يقول النبي – صلى الله عليه وسلم- عن دعوتهم ما يقول، فحيث التقت مصالح المشركين والمسلمين على أمر فيه تعظيم لحرمات الله أجيبوا إليه، وأعينوا عليه، وليس ما هم عليه من الشرك بحائل عن هذه الإجابة وإعطائهم هذه الخطة .
قال ابن القيم – رحمه الله - في زاد المعاذ (3/303) تعليقاً على هذا الحديث: ( كل من التمس المعاونة على محبوب لله تعالى مرض له أجيب إلى ذلك كائناً من كان، ما لم يترتب على إعانته على ذلك المحبوب مبغوض لله أعظم منه، وهذا من أدق المواضع وأصعبها وأشقها على النفوس) .
13. وبعد، فليس المكروبون من المشاركة في الفضائيات هم الأخيار البررة الذين يتوقون إلى منابر إعلامية نقية لا لوثَ فيها، ولكن –أيضاً- هناك من كُرِب لذلك وهم الممتعضون من بلوغ دعوة العلماء والدعاة إلى فضاء الفضائيات، ومثالاً على ذلك ما يكتب في زاوية فضائيات في جريدة الشرق الأوسط، حيث شنّع الكاتب على المشايخ الذين يسميهم بالشباب، وينقم عليهم ما يتمتعون به من كاريزما مؤثره ، ولا ندري كيف نناقش من لم يجد ما يتهم به إلا هذه الكاريزما؟!.
 

المصدر شبكة الإسلام اليوم
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
الأفكار الدعوية
  • الأسرة
  • الأحياء والمساجد
  • الأفكار الموسمية
  • الانترنت
  • أفكار للمدارس
  • القرى والهجر
  • المستشفيات
  • المرأة المسلمة
  • دعوة الجاليات
  • أفكار متنوعة
  • الموظفين والتجار
  • دعوة الشباب
  • الشريط الإسلامي
  • الرئيسية