بسم الله الرحمن الرحيم

صور وعبر

الحمد لله المبدئ المعيد، الغني الحميد، ذي العفو الواسع، والعقاب الشديد، من هداه فهو السعيد السديد، ومن أضله فهو الطريد البعيد، ومن أرشده إلى سبل النجاة ووفَّقه فهو الرشيد، يعلم ما ظهر وما بطن، وما خفي وما عَلَن، وما هَجُن وما حَسُن، وهو أقرب إلى الكل من حبل الوريد. قسَّم الخلْق قسمين، وجعل لهم منزلتين، فريق في الجنة وفريق في السعير. إنَّ ربك فعال لما يريد (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ للْعَبِيدِ) أحمده وهو أهل الحمد والتحميد، وأشكره والشكر لديه من أسباب المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ذو العرش المجيد، والبطش الشديد، شهادة تكْفُل لي عنده أعلى درجات أهل التوحيد، في دار القرار والتأييد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله البشير النذير، أشرف من أظلَّت السَّماء، وأقلَّت البِيدُ، -صلى الله عليه وسلم -تسليمًا كثيرًا، وعلى آله وأصحابه أولي العون على الطاعة والتأييد، صلاةً دائمةً في كل حين تنمو وتزيد، ولا تنفد ما دامت الدنيا والآخرة ولا تبيد.
روحي الفداء لمن أخلاقه شهدت *** بأنَّه خير مبعوثٍ من البشرِ
عمَّت فضائله كل البلاد كما *** عمَّ البرية ضوء الشمس والقمرِ
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إلا وَأَنْتُم مسْلِمُونَ) (يا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وأسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجعل هذا الاجتماع ذخرًا لي ولكم يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار، وأن يجعله من صالحات الأعمال، وخالصات الآثار، وباقيات الحسنات إلى آخر الأعمار، اللهم اكتب لنا به أجرًا، وارفع به ذكرًا، واجعله لنا ذخرًا، اللهم اجعل سرائرنا خيرًا من علانيتنا، وأعمالنا خيرًا من أقوالنا، اللهم أنِرْ بصائرنا، وثبتنا على الحق حتى نلقاك، واجعل حديثنا حديث قلب لقلوب، أنت أكرم مسئول على الدوام، وأحق من يُرْتَجَى منه حسن الختام. صور وعبر الحلقة الثانية (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يفْتَرَى)

أحبتي في الله: إن الصحابة الأبرار كما تعلمون هم حملة الإسلام وحفظته بعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، اختارهم الله واصطفاهم لصحبة نبيه، ونشر رسالته من بعده، عدَّلهم وزكَّاهم، ووصفهم بأوصاف الكمال في غير ما آية من كتابه، رضي الله عنهم ورضوا عنه، نوعٌ فريد من الرجال،عدول ثقات صالحون، حازوا قَصبَ السبق في كل شيء، لم تعرف البشرية لهم نظيرًا، قمة في التقوى والورع، آية في التجرد والإخلاص، مِشْعَل في العلم والعمل، نِبْرَاس في الدعوة إلى الله.
تالله لقد وردوا الماء عذبًا زلالا وأيدوا قواعد الإسلام فلم يدعوا لأحدٍ مقالا فتحوا القلوب بالقرآن، وفتحوا القرى والمدائن به وبالسنان، هم أنصار الدين في مبتدأ نشأته، بذلوا المُهج يوم بخل أهل الدراهم بدراهمهم، رجال المغارم يوم يندس المغمورون في ثيابهم، هم لله -عز وجل- قلوبًا وأبدانًا ودماءً وأموالا، لم يجعلوا همَّهم حشو البطون، ولا لبس الحرير، ولا الإغراق في النعم، حفظوا الشرع من أهواء الزائغين، وحموا الملة من زحف المناوئين، شهدوا التنزيل، وعرفوا التأويل، حملوا الوحْيَين، وحضروا البيعتين، وصلَّوا -أو أغلبهم صلى- إلى القبلتين. كلهم له همٌّ، وهمهم رفعة لا إله الله، كلهم له قصد، وقصدهم الجليل في علاه، خرجوا من أموالهم لله ولرسوله، فما شفا ذلك لهم غليلا، فأبوا إلا أن يقدموا الجماجم، ويسيلوا الدماء، ويستعذبوا العذاب في ذات ربهم، فرضي الله عنهم وأرضاهم، وأكرم في جنات الخلد مثواهم.
بيضُ الوجوه ترى بطون أَكُفِّهِم *** تندى إذا اعتذر الزمانُ الممحلُ
من كان متأسيًا فليتأس بهم؛ فهم أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلُّفًا، وأقومها هَدْيًا، وأحسنها حالا.
همُ الرجال بأفياء الجهاد نَمَوْ *** وتحت سقفِ المعالي والنَّدى وُلِدُوا
جباهُهم ما انحنت إلا لخالقها *** وغير ملةِ أبدع الأكوان ما عبدوا
الخاطبون من الغايات أكرمها *** والسابقون وغير الله ما قَصَدُوا

ومن هنا: فإن الكلام عن هؤلاء العظماء، وكشف الستار عن الصفحات الناصعة التي سطروها، واجب محتم علينا في هذا العصر في هذا العصر الذي نعيش فيه معمعة الأفكار، واضطراب الموازين، وموالاة الكفار، والوقوع في الصحابة الأبرار. واجب؟ نعم لردع أهل الهوى من الزنادقة والملاحدة، وأهل الكفر والابتداع الذين انتقصوا وسبُّوا خير جيل وطائفة وُجِدَت على وجه الأرض، لا لشيءٍ إلا لأنهم حَمَلة الإسلام، ورواة الأحاديث التي تهدم بِدَعهم، وتُظهر ضلالهم، وتُبْرز خُبْث طوَّيتهم، قاتلهم الله، وقاتل كل من حادَ عن كتاب الله وسُنَّة مصطفاه، واتَّبع غير سبيل المؤمنين. فهَلُمَّ هلم، وحي هلا بكم –أيها الأحبة- لنعيش الليلة معكم في ظلال محطة صور، ومائدة عبر من حياة عَلَم آخر في سلسلة أعلام هذه الأمة المباركة. علم يجب على الأمة أن تجعله وصحبه حديث شيوخها في السمر، وقصص أطفالها الذين لطالما أشغلوا بالقصص الهابط، والرسوم المتحركة، وحديث شبابها في منتدياتهم ونواديهم التي لطالما شغلت بالحديث عن اللاعبين والفنانين والساقطين والساقطات، إنه من أظهر إسلامه يوم كانوا يخفونه، إنه من تقلَّد سيفه وتنكب قوسه، وأخرج أسهمه وأتى الكعبة وأشراف قريش في فنائها، فطاف سبعًا رغم أنوفهم، وصلى ركعتين، وأتى حلقهم واحدة واحدة يقول: شاهت الوجوه، من أراد أن تثكله أمه، وييتم ولده، وترمل زوجته، فليلقني وراء هذا الوادي، فما تبعه أحد. إنَّه مرقع القميص، وبين يديه الغالي والنفيس، إنَّه من يسلك الشيطان فجًا غير فجه، إنَّه الوقَّاف عند كتاب الله، المجاهد في سبيل الله، إنَّه القِيَم والمُثُل بعينها، وما أروع المثل يوم تكون رجالا فتكون الأخلاق فِعالا، إنَّه العادل إنْ ذكر العادلون، هو من سهر لينام الناس، وجاع ليشبع الناس، هو من جعل كبير المسلمين أبًا، وأوسطهم أخًا وأصغرهم ولدًا، هو من لا تأخذه في الله لومة لائم، هو قائل الحق ولو كان مرًّا، إنَّه من اشترى أعراض المسلمين من أحد الشعراء بثلاثة آلاف درهم، حتى قال ذلك الشاعر:
وأخذت أطراف الكلام فلم تدعْ *** شَتْمًا يضر ولا مديحًا ينفعُ
ومنعتني عِرض البخيل فلم يَخَفْ *** شتمي وأصبح آمنا لا يفزعُ
زلزل عروش الظالمين، ودكَّ قلاع الأكاسرة والقياصرة، وخضعت لعدالته الجبابرة والأباطرة، وهَوَت عناكب الظلم أمام رايات عدله الخفَّاقة وفتوحاته المظفرة، فَأَرْغَم أنوف الروم، وحطم كبرياء الفرس، وأخرج المغضوب عليهم –اليهود- من جزيرة العرب بغدرهم ونقضهم العهود، أخرجهم أذلةً صاغرين، إنَّه الزاهد العالم العابد الغيور الخائف من الله، وكفى أظنكم قد عرفتموه، إنَّه [عمر بن الخطاب] -رضي الله عنه وأرضاه-، ولعنة الله على من أبغضه وعاداه، نور أضاء سطور التاريخ، وغرة في جبين الزمان، أُمَّة في رجل، إمام همام، مميت الفتن، ومحيي السُّنَنَ. عمر الذي لا يجهله أحد، وفي نفس اللحظة قلَّ أن يعرفه أحد في هذا العصر. يعرف بعضهم بعض أخباره، ونتفًا من نسبه وأعماله ، أما روح تلك الأخبار فلا يدركها إلا من تأملها من الأخيار، وإني لأرجو الله أن نكون وإياكم من أولئك الأبرار.
مراكبُ أهل الهوى أتخمت *** نزولا ومركبنا صاعدُ
إذا عدد الناس أربابهم *** فنحن لنا ربنا الواحدُ
إلى صور ذات عبر من حياته، وعذرًا لن نفيه حقه في هذه العُجالة
فأعلامُه في كل أرض خوافقُ *** يدين بها شرقٌ ويخضع مغربُ
لكن حسبنا أن نقف عند بعض صور من حياته؛ وقفة عظة وتدبر واقتداء، ولأهل الهوى ردع وزجر، هاهي محطتنا الليلة محطة عُمَريَّة ، فهل أنتم نازلون؟ وهذه مائدتنا فهل أنتم إليها مائلون؟ أم أنكم لا ترغبون، معذرة لأصحاب البطون؛ أعني من لأجل رفع مستواهم المعيشي يكدون، ويقلقون في الكلام عن المسكن والسيارة والأثاث والراتب لا يملون، وعلى هامش الحياة بلا رسالة، يعيشون بهائم في مسالخ البشر وهم لا يشعرون، هتافهم دائمًا وأبدًا أين الصُحُون، مائدتنا تعتذرهم ثم تعتذرهم وتقول: إلىَّ إليَّ أيها المتيقظون العاملون المتدبرون، ومن بِسَلَف الأمة يقتدون، ومن عن التُرَّهات يترفَّعون، أنتم جميعًا مدعوون، وأنتم إن شاء الله رابحون. (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مما يَجْمَعُونَ)
يا ربُ أنت العليم بظاهري وبباطني *** بالسر بل أخفى وبالإعلانِ
أنت السميع لمنطقي وحروفه *** أنت الخبير بموقفي ومكاني
إن لم أكن أهلا لتوفيقٍ فمُن *** فلأنت أهل المَنِّ والإحسانِ
يا ربُ أنت المُرتجى والمُبتَغَى *** وأنا الفقير بذلتي وهواني
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا وأنت تجعل الحَزَنَ إذا شئت سهلا.

الصورة الأولى: علم عمر- رضي الله عنه- أنَّ الخلافة أمانة لا استعلاء، وتكليف لا تشريف، وغُرْمٌ لا غُنْم، فقام يمشي في الأسواق بلا مواكب ولا مراكب، يطوف الطرقات يقضي حاجات الناس ويقضي بينهم، يَخْلُفُ الغزاة في أهلهم، يتفقد أحوال رعيته، همُّهم همُّه، وحزنهم حزنه، لينٌ، قوي، حازم، رحيم، راعٍ أمين، يقول تحت وطأة المسئولية كما روى [مجاهد] عن [عبد الله بن عمر] يقول: لو مات جَدْيٌ بطرف الفرات لخشيتُ أن يحاسب الله به عمر يوم القيامة. وفي رواية: لو عثرت دابة بضفاف دجلة لخشيتُ أن يسألني الله عنها لِمَ لمْ تُمهِّد لها الطريقَ يا عمر؟ يا لله! كلمات تدعو للتأمل في شخصية ذلك الرجل الذي ضربت به الأمثال في العدل والزُّهد والحرص على رعاية الأمة بالليل والنهار. فلا عبقري يفري فريه في ذلك العهد وفي ذلك الزمن. وبالمناسبة يذكر المؤرخون أن حمامة باضت في فسطاط [عمرو بن العاص] والي مصر آنذاك، فلما عزم على الرحيل أمر عماله أن يخلعوا الفسطاط، فلفت أنظارهم عش حمامة فيه بيض لم يفرخ بعد، فلم يُزْعِجُوا الحمامة، ولم ينتهكوا حرمة جوارها، بل أوقفوا العمل، وذهبوا إلى عمرو –رضي الله عنه- يعرضون عليه الأمر، ويأخذون رأيه فيها، فقال: لا تُزْعِجُوا طائرًا نزل بجوارنا، وحلَّ آمنًا في رحالنا، أجِّلُوا العمل حتى تَفْرُخَ وتطير. فيا للعظمة! ويا للرحمة! حتى الطير ينعم في ظل الأمن والعدل! مع العدول- رضوان الله عليهم- أيها الأحبة: إن المسلم وهو يستعرض مثل هذه المواقف ليأسى ويحزن يوم يصبح المسلم في عالمنا الإسلامي يتمنى أن يحظى بالاهتمام الذي كان يحظى به الحيوان والطير، في زمن عمرو، وعمر- رضي الله عنهما وأرضاهما- وأعود فأقول وأكرر مرارًا وتكرارًا: كل ذلك بما كسبت أيدينا، ويعفو الله عن كثير، من هادن الأفعى تجرع سمها يومًا ما، ثم أثَنِّي فأقول: هنيئًا ثم هنيئًا لمن اكتحلت عيناه برؤية ذلك المجمع وذلك الجيل، الذي عمَّ عدله الطير والحيوان، اللهم وقد حرمنا رؤيتهم في الدنيا فلا تحرمنها في الآخرة؛ في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

صورة أخرى: كان يرى مسئوليته عن كل فرد في سربه وأيِّمًا في بيتها ورضيع في مهده هو القائل: ما مثلي ومثل هؤلاء إلا كقومٍ سافروا فدفعوا نفقاتهم إلى رجل منهم، فقالوا له: أنفق علينا، فهل له أن يستأثر منها بشيء؟ قالوا: لا يا أمير المؤمنين، قال: فكذلك مَثَلِي ومَثَلُكُم.
في عام الرَّمادة؛ وهو عام شديد القحط والجدب، ما قُدِمَت له لقمة طيبة فأكلها بل كان يؤثر بها الفقراء والمساكين، يوم زار الشام جِيء له بطعامٍ طيب، فنظر إليه وقال: يا لله! كل هذا لنا، وقد مات إخواننا لم يشبعوا من خبز الشعير؟! والله لا أطعمه.
إن جاع في شدةٍ قومٌ شَرَفْتَهُم *** في الجوع أو تنجلي عنهم غواشيها
جوع الخليفة والدنيا بقبضته *** في الزهد منزلة سبحان مُوليها
يتغير لونه في عام الرمادة من أبيض حتى يصبح مسودًّا من شدة الهمِّ بأمر المسلمين، يأكل الخبز بالزيت، ويمسح بطنه ويقول- كما رواه [ الإمام أحمد] بإسناد صحيح – :والله لتمرننَّ أيها البطن على الخبز والزيت مادام السمن يباع بالأسواق، والله لا تشبع حتى يحيى الناس. عجزت نساء الأرض أن يُنْجِبْنَّ مثلك يا عمر. يقول أسلم -كما في تاريخ عمر [لابن الجوزي]-: كان يقوم يصلي من الليل، فيذكر ما حلَّ بالمسلمين فلا يدري ماذا يصلي، يقول: إني لأفتتح السورة فما أدري أنا في أولها أم في آخرها، لما أعلم مما يلاقي المسلمون من الشدة. وحدث [الواقدي] قال: حدثنا [هشام] عن [سعد عن زيد بن أسلم] عن أبيه قال: لما كان عام الرَمَادَة جاءت وفود العرب من كل ناحية فقدموا المدينة، فأمر عمر رجالا يقومون بمصالحهم، فسمعته يقول ليلة من الليالي: أحصوا من يتعشى عندنا، فأحصوهم في القابلة فوجدوهم سبعة آلاف رجل، أما المرضى والعيال الذين لا يحضرون تلك المائدة فقد بلغوا أربعين ألفًا، فكان يرسل إليهم عشاءهم في بيوتهم. فما برحوا حتى أرسل الله السماء. فوكل عمر بهم من يخرجهم إلى البادية ويعطيهم قوتًا، وحملانًا، ومتاعًا، وكان قد وقع الموت فيهم فأراه قد مات ثلثاهم، وقد كانت قدور عمر -رضي الله عنه وأرضاه- يقوم لها العمال من وقت السحر ليعملون الطعام، ونفذ ما في بيت المال، فلم يبق منه قليل ولا كثير. يروي [ابن كثير] في تاريخه: أن عمر عس ذات ليلة في ذلك العام، وقد بلغ بالناس الجهد كل مبلغ فلم يسمع أحدًا يضحك، ولم يسمع متحدثًا في منزله كالعادة، ولم يرَ سائلا يسأل، فتعجب وسأل فقيل: يا أمير المؤمنين قد سألوا فلم يجدوا فقطعوا السؤال؛ فهم في همٍّ وضيق، لا يتحدثون ولا يضحكون، ولا يمزحون، فيا لله! ماذا يفعل عمر؟ قد نفد كل ما في بيت المال، فألزم نفسه ألا يأكل سمينًا؛ فكان يبث له في الخل بالزيت حتى اسودَّ لونه، وتغير جسمه، وخشي عليه خشية عظيمة – رضي الله عنه وأرضاه – وتبلغ الأمور ذروتها، وحينها يلجأ مضطرًا إلى الله عالمًا علم يقين أن رفع البلاء بالتوبة والاستغفار، لا بفصاحة المتشدقين، وتصدي المتبجحين، فعن [أبي وِجْزة السعدي] عن أبيه قال: رأيت عمر خرج بنا يوم الرمادة إلى المصلى يستسقي فكان أكثر دعائه الاستغفار حتى قلت: لا يزيد عليه، ثم دعا الله وأوصى الناس بتقوى الله- عز وجل- فقال: اتقوا الله في أنفسكم، وما غاب عن الناس من أمركم، فقد ابتليت بكم وابتليتم بي، فما أدري السَّخطة عليّ دونكم أو عليكم دوني، أو قد عمَّتكم وعمتني، فهلمُّوا فلندعُ الله أن يصلح قلوبنا، وأن يرحمنا، وأن يرفع عنا البلاء، فرُئِيَ يومها رافعًا يديه يدعو الله ويبكي، والناس يدعون وراءه ويبكون، ثم نزل فلم يزلْ هذا شأنه حتى جاءت الرحمة من الله، وأذن الله للناس بالغياث والفرج بعد الشدة، واليسر بعد العسر، فله الحمد أولا وآخر، وظاهرًا وباطنًا. أيها الأحبة: هذه مؤهلات الفرج، وهذه مؤهلات الغوث من رب العالمين؛ الجباه الساجدة لله، والعيون الدامعة من خشية الله، والأيدي المتوضئة المرتفعة يا رب يا رب ، ومطعمها حلال ومشربها حلال ، وتغذيتها حلال فأنى يرد من هذا حاله؟ يقول [أسلم]: فلو لم يرفع الله المحل عام الرمادة؛ لظننا أن عمر يموت همًا بأمر المسلمين رحم الله عمر ورضي عن ذلك النموذج. قد عرف مسئوليته تجاه رعيته، وراقب الله فيمن تحت ولايته، فأحبهم وأحبوه ورضي عنهم ورضوا عنه ، عفَّ فعفوا وصدق فصدقوا ولو رتع لرتعوا
ما كان إلا الشمس يسطع ضوؤها *** والخصب في أرض الضلال الماحلِ
قف أيها التاريخ سجل صفحةً *** غراء تنطق بالخلود الكاملِ
حَرِّك بسيرته القلوب وقد قست *** وعدت بقسوتها كصُمِّ جنادلِ

صورة أخرى: روى [الإمام أحمد] بإسناد حسن في الفضائل ، قال: عن [زيد بن أسلم] عن أبيه قال: خرجنا مع عمر بن الخطاب إلى <حرة واقم>، حتى إذا كنا بمرتفع إذ بنار بعيدة فقال عمر: يا أسلم إني لأرى هناك ركْبًا حبسهم الليل والبرد فانطلق بنا، قال: فخرجنا نُهَرْوِلُ حتى دنونا منهم، فإذا هي امرأة معها صبية صغار، وإذا بِقِدْر منصوبة على النار، وصبيانها يتضاغون، فقال: السلام عليكم يا أهل الضوء - وقد كره أن يقول: يا أهل النار- قالت: وعليكم السلام، قال عمر: أأدنو؟ قالت: ادْنُ بخير أو دع. فدنا فقال: ما بكم قالت: قصر بنا الليل والبرد، قال: فمالِ هؤلاء الصبية يتضاغون؟ قالت: الجوع، قال: فأي شيء في هذه القدر؟ قالت: ماء أُسْكِتَهُم به حتى يناموا، والله بيننا وبين عمر. كلمات يهتز لها قلب وجنان كل مؤمن، فما بالك بعمر؟ يقول: أي رحمك الله، وما يدري عمر بكم؟ قالت: يتولى أمرنا، ثم يغفل عنا، الله بيننا وبينه. قال [أسلم]: فأقبل عليَّ عمر به ما به، يقول: انطلق، فأتينا نهرول حتى أتينا دار الدقيق، فأخرج عدلا من دقيق، وكبَّة من شحم، ثم حملها عمر على ظهره، فقلت: أحملها عنك يا أمير المؤمنين، قال: لا أمَّ لك، أتحمل عني وزري يوم القيامة؟! قال: فانطلقنا حتى أتيناها، فألقى العدل عندها، وأخرج من الدقيق شيئًا، وجعل يقول: دُرِّي عليّ وأنا أُحرِك، وجعل ينفخ تحت القدر، والدخان يتخلل لحيته، فلو رأيته لرأيت عجبًا، ثم أنزل القدر فأتته بصحفة فأفرغ فيها الطعام، ثم جعل يقول لها: أطعميهم وأنا أسطح لهم، فلم يزل كذلك حتى شبعوا، ثم ترك عندها فضل ذلك الطعام، ثم قام وهي تقول: جزاك الله خيرًا. كنت أولى بهذا الأمر من عمر، قال: قولي خيرًا قولي خيرًا، ثم تنحى عنهم ناحية واستقبلهم وقد رَبَضَ مَرْبَضًا يراقبهم، يقول أسلم: فقلت إن له لشأنًا وهو لا يكلمني حتى رأى الصبية يصطرعون، ثم ناموا، فقال يا أسلم: ما أسهرهم إلا الجوع، فأحببت ألا أنصرف حتى أرى ما رأيت. يا لها من كلمة تكشف عن رهافة الحس ونقاء الضمير! كل ذلك قبل أن يعرف العالم حقوق الطفولة، وقبل أن تُنْشأ لها المنظمات العالمية، سبق الإسلام إلى تقري حقوق الطفولة والأسرة فرضي الله عن عمر وعن صحبه وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن قرر مثل هذه الحقوق.

أيها الأحبة: إن هذه الصورة لتذكرنا بصورة أخرى مضيئة في حياة عمر- رضي الله عنه وأرضاه- يذكر [الأوزاعي] أن عمر خرج في سواد الليل، فرآه طلحة فتبعه، فذهب عمر حتى دخل بيتًا، ثم خرج منه وطلحة يراقبه، فلما أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة، فقال لها: ما بال هذا الرجل الذي يأتيك؟ قالت: إنه يتعهدني منذ كذا وكذا يأتيني بما يصلحني ويخرج عني الأذى، فجزاه الله عني خيرًا. فيقول طلحة: ثكلتك أمك يا طلحة، أعثرات عمر تتتبع؟ يا لله! هل يفعل الواحد منا مع أهله ما يفعله عمر مع رعيته؟ لا، إنه الإيمان الذي وقر في القلب وصدقه العمل، فلا والله لا ينساه الأيامى والثكالى واليتامى مادام في الأرض أيْمٌ أو ثكلى أو يتيم، ولا والله ما تنساه البطون الجائعة والأكباد الظامئة ما دام في الأرض بطن جائع أو كبد ظمأى.
فمن يباري أبا حفصٍ وسيرتَه *** ومن يحاول للفاروقِ تشبيها
ومن رآه أمام القدر منبطحًا *** والنارُ تأخذ منه وهو يُزْكِيْهَا
وقد تخلل في أثناء لحيته *** منها الدخان وغاب فُوهُ فِي فِيهَا
رأى هناك أمير المؤمنين على *** حالٍ تروع لعَمْرِ الله رائِيْهَا
يستقبل النارَ خوف النارِ في غَدِه *** والعَيْنُ من خشيةٍ سالت مآقِيها

صورة أخرى: كان- رضي الله عنه- عظيم التواضع للخلق والحق، وكل الصور تدل على ذلك. رفعه الله بتواضعه درجات في الجنة. فعن [الفضل بن عميرة] أن [الأحنف بن قيس] قدم على عمر في وفد من العراق في يومٍ صائفٍ شديد الحر وهو محتجز بعباءة، يهنأ بعيرًا من إبل الصدقة، فقال: يا أحنف ضع ثيابك، وهلم فَأَعِنْ أمير المؤمنين على هذا البعير؛ فإنه من إبل الصدقة، فيه حق لليتيم والمسكين والأرملة، فقال رجل من القوم: يغفر الله لك يا أمير المؤمنين، هلا أمرت عبدًا من عبيد الصدقة يكفيك هذا، قال عمر: ثكلتك أمك، وأُيُ عبدٍ هو أعبد مني ومن الأحنف. إنه من ولي أمر المسلمين فهو عبد المسلمين، يجب عليه ما يجب على العبد لسيده من النصيحة وأداء الأمانة، فيا لله! ورب عمر إن مشهدًا كهذا خير من الدنيا وما فيها. يقول [عبد الله بن عمر بن حفص]: إن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- كان يحمل القِرْبَة على عنقه، فيقال له في ذلك. فيقول: إن نفسي أعجبتني فأردتُ أن أذلها. بل إنه لربما أخذ بيد الصبي يلقاه، فيقول: له ادْعُ لي؛ فإنك لم تذنب قط. بل إن [ابن عباس] –رضي الله عنه- دخل عليه يوم طُعِنَ فقال: أبشر يا أمير المؤمنين، أسلمت حين كفر الناس، وقاتلت مع رسول الله حين خذله الناس، وتوفيَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم- وهو عنك راضٍ، ولم يختلف في خلافتك رجلان. فقال عمر: أعد، أعد. فأعاد. فقال عمر: المغرور مَنْ غُرَّ. ولو أن لي ما على ظهرها من بيضاءَ وصفراءَ لافتديتُ به من هَوْلِ المطلع، وددتُ أني أنجو كَفافًا لا أجر لي ولا وزر. (تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) وكان متواضعًا للحق يقبله في السر والعلن، لقد كان بينه وبين رجل كلام في شيءٍ – كما أورد [ابن الجوزي] في تاريخه – فقال له الرجل: اتق الله يا أمير المؤمنين. فقال له رجل من القوم: أتقول لأمير المؤمنين اتق الله؟! فقال له عمر على الفور: دعه، فليقلها لي، نِعْمَ ما قال. لا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نقبلها منكم. يا ليت هذه الكلمة تكون عنوانا ولجامًا يلجم به نفسه كل من ولي من أمر المسلمين شيئًا صَغُر أو كَبُر إذًا لصلح الحال، وتغيرت الحال، وكسدت سوق النفاق. ولكن أشد عيوبنا أنَّا إذا ما نُصِحْنَا خَدَّرتْنَا الكبرياء.
كان خوفه من الله عظيمًا بل ما قاده وحاده لتلك الأعمال المُشْرِقَة الخالدة إلا خوفه من الله – عز وجل – كان يمر بالآية فيغلبه البكاء وهو يصلي بالناس، حتى يقول ابنه عبد الله: إني لأسمع حنينه من وراء ثلاثة صفوف، وإنَّه لينشج حتى أقول: اختلفت أضلاعه. بل ذُكِر أنَّه خرج يعس ليلة من الليالي فمر بدار رجل من الأنصار، فوافقه قائمًا يصلي، يوم كانت دور المسلمين تعمر بالقرآن لها دوي كدوي النحل، وقف يستمع لقراءته فقرأ (وَالطُّورِ*وَكِتَابٍ مسْطُورٍ) حتى بلغ (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ*مَا لَهُ مِن دَافِعٍ) فقال عمر: قسم حق ورب الكعبة، ثم نزل عن حماره، واستند إلى حائط فمكث مليًا به ما به، ثم رجع إلى منزله فعاده الناس، لا يدرون ما مرضه؟ هذه حاله مع آية من آيات القرآن. فما حالنا مع كتاب الله ؟
عُمْيٌ عن الذكر والآيات تَنْدُبُنَا *** لو كلَّم الذِّكْر جُلْمُودًا لأبكاهُ
كان شديد المحاسبة لنفسه، يقول أنس: خرجت مع عمر فدخل حائطًا، فسمعته يقول وبيني وبينه جدار: عمر أمير المؤمنين بخٍ بخٍ والله لتتقين الله أو ليعذبنك الله ، فهلا خلا أحدٌ منَّا بنفسه يعاتبها ويحاسبها، علها أن تذكر الله فتسبل دمعة يستحق بها أن يكون ممن يستظل بظل الله يوم لا ظل إلا ظله، نشكو إلى الله قسوة قلوبنا وغفلتنا، ونسأله بعزته وقدرته أن يلين قلوبنا فيه حتى تكون ألين من الزبَد. هو ولي ذلك والقادر عليه.

صورة أخرى أيها الأحبة: إن الزهد في الدنيا، والإعراض عن طلب زينتها، والعزوف عن شهواتها، من كمال الإيمان، ورجاحة العقول. إذ الدنيا حقيرة، وزينتها خداع وسراب، شهواتها آلام تدفع بآلام، عرف ذلك الفاروق فركلها وقد أناخت عند قدميه. وذلك –والله- هو الزهد بعينه. ذكر [السيوطي] في كتابه تاريخ الخلفاء الراشدين أن [ابن سعد] أخرج أن [حفصة] [وعبد الله] ابني عمر كلموا عمر فقالوا له: لو أكلت طعامًا طيبًا كان أقوى لك على الحق. قال: أكلكم على هذا الرأي؟ قالوا: نعم ، قال: قد علمت نصحكم لي، ولكني تركته، لقد تركني صاحباي على جادة؛ يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكرٍ فإن تركت جادتهما لم أدركهما في المنزل.
له أمنياتٌ قَدَّسَ الله سِرَّها *** لتحقيقها في الأرض يرسو ويبحرُ
يَكِلُّ جناح النسر دون بلوغها *** وفي دربها الخيل الأصيلة تعثرُ
يذكر [القرطبي] في تفسيره عن [قتادة] أنه قال : ذُكِرَ لنا أن عمر-رضي الله عنه-قال : لو شئتُ لكنتُ أطيبكم طعامًا وألينكم لباسًا ولكني أستبقى طيباتي للآخرة. قال: ولما قدم الشام صُنِعَ له طعامٌ لم يُرَ مثله، قال: هذا لنا! فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا ولم يشبعوا من خبز الشعير؟ فقال [خالد بن الوليد]: لهم الجنة، فاغرورقت عينا عمر بالدموع، وقال: لإن كان حظنا من هذه الدنيا هذا الحطام، وذهبوا هم في حظهم بالجنة، لقد باينونا بونًا بعيدًا، ثم أجهش بالبكاء
يهفو إليهم لعل العيش يهنأ له *** ما بين صحب وأرحام وإخوان.
لقد تلَقَّى الزهد دروسًا عملية تربوية من سيد الزاهدين محمد – صلى الله عليه وسلم – فاسمع يوم يروى [مسلم] فيقول: دخل عمر على النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو في مشربة له، فالتفت في بيت رسول الله – صلى الله عليه – وسلم فلم يجد شيئًا يَرُدُّ البصرَ إلا جلودًا قد سطع ريحها، ورسول الله مضطجع قد أثرت حبال السرير في جنبه الشريف – صلى الله عليه وسلم – فتدمع عينا عمر-رضي الله عنه –فيقول – صلى الله عليه وسلم -: ما بك يا [عمر]ٍ؟ فيقول: أنت رسول الله وخِيرته من خلقه على هذا، [وكسرى] [وقيصر] في الديباج والحرير وما تعلم؟! فاستوى – صلى الله عليه وسلم – جالسًا وقال: "أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟! أولئك أقوام عُجِلَت لهم طيباتهم في الدنيا. أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الأخرى"؟ أو كما قال: صلى الله عليه وسلم (وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآَخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ)
تموت الأُسْد في الغابات جوعًا *** ولحمُ الضأن تأكله الكلابُ
وعبد قد ينام على حرير *** وذو نسب مفارشه الترابُ
بمثل هذا الدرس النبوي الشريف تشبعت روح عمر بمعاني الكمال، وأصبح في ذلك نعم المثال. يدخل بيته ذات يوم وقد أصابه الجوع، فقال: أعندكم شيء؟ فقالت امرأته: نعم ما تحت السرير، فتناول وعاءً من تحت السرير فيه تمر فأكل ثم شرب من الماء ثم مسح على بطنه، وقال: الحمد لله، ويل لمن أدخله بطنه النار! ويل لمن أدخله بطنه النار! ونهدي هذه المقالة للذين لا يتورعون، أأكلوا من حلال أو حرام؟ ويل لمن أدخله بطنه النار! هاهو عمر والرهط المؤمنون معه أمام غنائم كسرى من الفرس؛ بساط كسرى وسواريه وجواهره وحلله وأمواله، وبينما هو كذلك إذ بعينه تذرف الدموع حَرَّى يكفكفها بطرف ثوبه. ويدهش الصحابة، ويقولون: ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ فينهد باكيًا، قائلا: فدت نفسي رسول الله وهو الأحب إلى الله منا، فدت نفسي أبا بكر وهو عند الله خير منا، والَهْفَ نفسي! مَضَوا إلى الله وخلفونا، ولم يَرَوا من زهرة الدنيا شيئًا، ثم فُتِحَ علينا من الدنيا ما ترون، وأخشى أن تكون طيبات عجلت لنا. فضج المسجد بالبكاء فما تسمع إلا النشيج والحنين. إيه يا عمر ! قد عشت عمرك زاهدًا في كل ما جمع البشر، أتعبت من سيجيء بعدك في الإمارة يا عمر.

صورة أخرى: أورد [ابن كثير] في تاريخه عن [قيس بن الحجاج] قال: لما فُتِحَت <مصر> أتى أهلها إلى [عمرو بن العاص] حين دخل بؤونة شهر من أشهر العجم فقالوا له: أيها الأمير؛ إن لنيلنا هذا سُنَّةٌ لا يجري إلا بها، فقال لهم: وما ذاك؟ فقالوا: إذا كانت اثنتي عشرة ليلة تخلوا من هذا الشهر، عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها فأرضينا أباها، وحملنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في النيل، فقال لهم عمرو –رضي الله عنه-: إن هذا لا يكون في الإسلام، وإن الإسلام يهدم ما كان قبله، ومنعهم فأقاموا ثلاثة أشهر والنيل لا يجري منه قليل ولا كثير فتنة وابتلاء من الله حتى هموا بالجلاء من مصر، فلما رأى عمرو بن العاص ذلك الأمر وما حل بهم، كتب إلى عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- بذلك فكتب إليه عمر: لقد أصبت بالذي فعلت والإسلام يهدم ما قبله، ثم كتب بطاقة داخل كتابه، وقال لعمرو: إني قد بعثت إليك ببطاقة في داخل كتابي فألقها في النيل إذا أتاك الكتاب، فلما قدم كتاب عمر أخذ البطاقة فإذا فيها: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر أما بعد، فإن كنت إنما تجري من قبلك فلا تجري، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك فنسأله أن يجريك. فألقى عمرو البطاقة في النيل، وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج منها؛ لأنها لا تقوم مصلحتهم فيها إلا بالنيل، فلما ألقى البطاقة أصبحوا وقد أجراه الله ستة عشر ذراعًا في ليلة واحدة فقطع الله عادة السوء تلك عن أهل مصر إلى اليوم. الله أكبر من أطاع الله وصدق وأخلص مع الله طَوَّعَ الله له كل شيءٍ طَوَّع له الجبال والأنهار والقلوب والأرواح وأتته الدنيا راغمة.
فتقوى الله خير الزاد زخرًا *** وعند الله للأتقى مزيدُ

صورة أخرى: لقد كان عمر -رضي الله عنه- فقيهًا متأدبًا بأدب الخلاف، وكذلك كان صحابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رضوان الله عليهم، فالخلاف عندهم لا يفسد الود. لِمَ ؟ لأن الهدف عندهم هو إحقاق حق وإبطال باطل، فليظهر الحق على أي لسان. يقول [ابن مسعود] –رضي الله عنه-: لقد اختلفت مع عمر- رضي الله عنه- في مسائل تربو على مائة مسألة ،والسؤال الذي يفرض نفسه، هل أنقص هذا من حب عمر عند ابن مسعود أو العكس؟ لا والله، والشواهد تشهد بذلك، يقبل ابن مسعود يومًا على عمر –رضي الله عنه- وهو جالس ، فلما رآه عمر هشَّ له وبشَّ وقال: كَنِيف مُلئ علمًا وفقهًا، هكذا كانت نظرة عمر- رضي الله عنه- لأخيه نظرة تجردت عن الهوى والشهوة، فالحق مقصدها والصدق غايتها، فما نظرة ابن مسعود لعمر الذي اختلف معه فيما يربو على مائة مسألة . اسمع أخي الكريم: يأتي ابن مسعود اثنان أحدهما قد قرأ على عمر والآخر على صحابي آخر فيقول ابن مسعود للأول: من أقرأك القرآن؟ قال: أقرأنيه عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- فيجهش ابن مسعود بالبكاء حتى ابتلت الحصى بدموعه، ويقول: اقرأ كما أقرأك عمر؛ فإنه كان للإسلام حصنًا حصينًا يدخل فيه الناس ولا يخرجون، فلما أُصِيْبَ عمر انْثلم الحصن. لا غرابة في هذا القول من ابن مسعود- رضي الله عنه-؛ فهو القائل بعد وفاة عمر -كما روى [الإمام أحمد] في فضائله بسند حسن-: لقد أحببتُ عمر حبًّا حتى لقد خفت الله، والله لو أني أعلم كلبًا يحبه عمر لأحببته، ولوددت أني كنت خادمًا لعمر حتى أموت، ولقد وَجَد فَقْده كل شئ حتى العِظَاه. إن إسلامه كان فتحًا، وهجرته نصرًا، وسلطانه رحمة، ثم يقول أخرى -كما أخرج الطبراني-: لمجلس واحد من عمر أوثق عندي من عمل سنة، لو أن علم عمر وضع في كفة ميزان ووضع علم أحياء الأرض في كفة لرجح علم عمر- رضي الله عنه- بعلمهم، ولقد ذهب بتسعة أعشار العلم.

أيها الأحبة: إن هذه الصور المضيئة من تاريخنا لتذكرنا بصفحات أخرى من صفحات سلفنا الكرام في أدب الخلاف فإليكُمُوها فَعُوها واسمعوها، يتناظر ذات يوم [يونس بن عبد الأعلى] [والشافعي] -عليهما رحمة الله- فاختلفا في مسألة، وانفضت المناظرة، ولم يتفقا. يقول يونس: فوالله -الذي لا إله إلا هو- ما رأيت أعقل من الشافعي، جاءني في بيتي، وطرق بابي ودخل وسلَّم عليَّ، ثم أمسك بيدي بحنان وتحنان، وقال: يا [أبا محمد] ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسألة؟ ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسألة؟ لا ريب أن يقول ذلك الشافعي -رحمه الله- وهو القائل: ما جادلت أحدًا إلا وتمنيت أن يكون الحق بجانبه. هذا الكلام المضيء نهديه إلى الذين تضج بهم الساحة الإسلامية هذه الأيام، ممن يخيل لأحدهم أنه أعلم العلماء وأحكم الحكماء، فلا يعرف توقيرًا لكبير، ولا يجلُّ عالمًا، ولا ينظر إلى أحد أنه يستحق الاحترام إلا نفسه، فيقع في عِرْض هذا، ويُعَجِّلُ هذا، ويَجْرَح هذا.
وليس جراحهم في الجسم لكن *** جراح النفس تفتك بالرجالِ
زيادة على أنْصِبَاء العلم *** كواو عمرو أو كنون الملحق
تجد الواحد منهم يفكر بعقل غيره، ويسمع بأذن غيره، ويرى بعين غيره، ما قاله فلان هو الحق وما عداه فهو الباطل.
فلو لبس الحمارُ ثياب خَزٍ *** لقال العمى يالك من حمارِ

ونقول لهم وللكل: ألا نكون إخوة إلا إذا اتفقنا تمامًا في كل مسألة؟ منذ متى اتفق الناس؟ هاهم صحابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قادة الناس، ومعادن العلم، وأولى الناس بكل فضيلة، يختلفون لكن انظر إلي اختلافهم وهم الأسوة والقدوة؛ تجده رفيعًا لا يفسد ودًا، ولا يكسر قلبًا، ولا يخدش عرضًا، إنما يحق حقًا ويبطل باطلا، يا طالب العلم، يا أخي الكريم: أتفرقني عنك مسألة؟ فترفع عقيرتك عليَّ، ولا تجمعني بك ألف مسألة اتفقنا عليها! هل هذا من العدل؟ هل هذا من الإحسان؟ (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ) هلا جمعتنا أخوة الإيمان؟ كل شيءٍ بعد ذلك يأتي، ستكون الأخوة أقوى فتطغى، وكلنا ينشد الحق والحق أحق أن يتبع، والتجرد عن الهوى مطلب، لكنه عزيز المنال صعب المدرك، وما يلقَّاه إلا الصابرون. هاهو الإمام [مالك بن أنس]- عليه رحمة الله- دخل المسجد ذات يوم وجلس، فغضب عليه أحد الغلمان قائلا له: قُم فَصَلِّ ركعتين، فقام وصلى ركعتين، فأنكر عليه بعض شياطين الإنس قائلا: أتسمع لغلام وأنت الإمام؟ فقال الإمام مالك: خشيت أن أكون ممن قال الله فيهم: (وَإذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لاَ يَرْكَعُونَ) الله أكبر، أين نحن -طلبة العلم -من هذا الفقه، وأولئك الفقهاء الذين بطريقتهم تلك استصغروا أنفسهم في الحق فاستعظمهم الناس، وتحركت بأعمالهم عوالم بأسرها وما زالت تتحرك؟ إن من طلبة العلم اليوم من يتسرب إلى نفسه الكمال الزائف، فيرى في نفسه العلم كله والحكمة كلها، ويحصد فيها الهداية الكاملة، ويستفقد كل ذلك في الآخرين.
أوردها سعد وسعد مشتمل *** ما هكذا تورد يا سعد الإبل
إن دعاة الأمة وعلماءها المخلصين الصادقين هم الذين يلتزمون منهج القرآن في كل شيء، يلتزمونه في الحوار، وفي الرد، ولا ينساقون وراء حب الظهور والانتصار للنفس والتشفي، ولا يفرون من مرارة الصبر على الاعتراف بالخطأ الذي يمثل عاملا مُهِمًّا في تأهيل أئمة يهدون بأمر الله. (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ)

صورة أخرى: أورد [ابن الجوزي] في مناقب عمر خطبة عظيمة، وأوردها [ابن سعد] في طبقاته، قال فيها: أيها الناس؛ ألا إنما كنا نعرفكم إذ بين أظهرنا النبي –صلى الله عليه وسلم- وينزل الوحي وينبئنا الله أخباركم، ألا وإن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قد انطلق وانقطع الوحي، وإنما نعرفكم بما تقولون، مَن أظهر خيرًا ظننا به خيرًا وأحببناه، ومن أظهر شرًا ظننا به شرًا وأبغضناه عليه، سرائركم بينكم وبين ربكم، ألا وإنه قد أتى عليَّ حين وإنما أنا أحسب أن مَن قرأ القرآن يريد الله وما عنده، ثم خُيِّل إليَّ بآخرة أن رجالا قد قرؤوه يريدون ما عند الناس، فأريدوا الله بقراءتكم، وأريدوه بأعمالكم، ألا وإني –والله- ما أرسل عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكني أرسلتهم ليعلِّموكم دينكم وسننكم، فمن فعل به سوى ذلك فليرفعه إليَّ، فوالذي نفسي بيده إذًا لأقصنَّه؛ أي لأجرين عليه حكم القصاص، فوثب [عمرو بن العاص] فقال: يا أمير المؤمنين؛ أفرأيت إن كان رجل من المسلمين على رعية، فأدب بعض رعيته، أكنت مقصَّه منه، قال: إي والذي نفسي بيده لأقصنه، كيف لا أقصه وقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقص من نفسه.
ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم، ولا تنزلوهم المهالك فتضيعوهم، فإن رجلا من المسلمين أحب إليَّ من مائة ألف دينار. يا للكلام!
كلام ذوي الألباب أهوى وأشتهي *** كما يشتهي الماءَ المبردَ شاربُه
الله أكبر، إنه الحق والسكينة ينطقان على لسان عمر -رضي الله عنه وأرضاه-. هذه رسالة من عمر موزَّعة إلى ثلاثة أصناف؛ أما الأولى فمَنْ وليَ من أمر المسلمين شيئًا صَغُر أو كَبُر تُبَيِّن أن مهمتهم تعليم الدين والسنن، لا إذلال المسلمين، ومنعهم حقوقهم، وضربهم، وإنزالهم المهالك. وهي كذلك رسالة إلى حملة كتاب الله أن يريدوا الله بقراءته. فليسائل حملة كتاب الله أنفسهم ماذا زرع القرآن في قلوبهم ونفوسهم؟ وهي أول الرسالة إلى من يحكم على النيَّات بالفساد، فيظن بكلمات المسلمين شرًا وهو يجد لها في الخير محملا .
تعمى بصائرهم عن كل منحرف *** ويرصدون ذوي التقوى بمرصاد

والرسالة الأخيرة: هذه تذكر برسالة أخرى، وبصفحة أخرى مضيئة في تاريخ هذه الأمة. يوم يدخل [الربيع بن سليمان] على [الشافعي] وهو مريض يعوده، فيقول من ضمن دعائه له: قوَّى الله ضعفك يا إمام، فقال الشافعي: يا ربيع لو قوى ضعفي لقتلني، قال الربيع على الفور: والله -الذي لا إله إلا هو- ما قصدت ذلك يا إمام، فقال الشافعي: يا ربيع؛ والذي لا إله إلا هو لو شتمتني صراحًا لعلمت وتيقنت أنك لم تقصد ذلك. يا لله ! نهدي هذا الكلام مع التحية لبعض الذين يقفون على عبارة لها في الخير ألف محمل وفي الشر محمل، ثم يحملونها على الشر. والله إن الحسرة والألم ليعتريان المسلم يوم يرى الفُرْقَة بين ما ينتسبون لعقيدة واحدة، ومنهج واحد إلى عقيدة أهل السنة والجماعة ومنهجهما. ويحزن أخرى يوم يرى الشيطان وحضور النفس تؤزُّ المسلم أزًّا للفرقة والتنازع والتباغض، وعدوهم واحد يحارب الإسلام وأهله أيًّا كانوا. أهل السنة لا ننكر أنهم لا يختلفوا، قد يقع بينهم الاختلاف حول بعض المسائل التي يجوز فيها الاختلاف، لكن هذا لا يؤدي إلى اختلاف القلوب أبدًا. يا طلاب العلم المخلصين، يا دعاة الحق المبين، ألا من رجعة صادقة إلى الله نرتفع بها على ذواتنا وأشخاصنا وأغراضنا الدنيوية، ألا من رجل رشيد يفكر بعمق المأساة وخطرها على الأمة الإسلامية بأسرها. والله إن لم نسعَ لرَأْبِ الصَّدْع، وبذل الولاء والمحبة لكل مؤمن فإن هناك فتنة وفسادًا كبيرًا سيحل بنا إن لم يتداركنا الله برحمة من عنده، يجمع الله بها شتات القلوب وتتوحد بها كلمات دعاته المخلصين (وَالَّذينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أولياء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) فأي خير إن صدر من أخيك ما لم يمكن حمله على الخير فليُتَعذَّر عنه. ولن يعدم قاصد الخير أن يجد لإخوانه ما يبقي صدره سليمًا، ونفسه رَضِيَّه، فإن لم يكن ولم تستطع ذلك فما كافأ عبد من عصى الله فيه بمثل أن يطيع الله فيه.
فوالله ما مال الفتى بذخيرة *** ولكن إخوانَ الثقات الذخائرُ

صورة أخرى أورد [ابن الجوزي] في مناقبه عن [سعيد بن أبي بردة] قال كتب عمر إلى [أبي موسى الأشعري] قائلا أما بعد فإن أسعد الرعاة من سعدت به رعيته وإن أشقى الرعاة من شقيت به رعيته إياك أن تزيغ فيزيغ عمالك فيكون مثلك في ذلك مثل البهيمة نظرت إلى خضرة الأرض فرعت فيها ترجو بذلك السمن وإنما حسبها في سمنها بمعنى أنها إذا سمنت ذبحت والسلام عليك يا للكلام المزين بالفعال قولوا لمن تشدق بالعدل أين العدل يا متشدق نصيحة توجه إلى من ولي ولاية صغيرة أو كبيرة فهو الناصح رضي الله عنه والمؤمنون من طبعهم النصح والمنافقون من طبعهم الغش وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته والمرأة راعية في بيتها ومسؤولة عن رعيتها والخادم مسؤول في مال سيده ومسؤول عن رعيته وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته وما من راع استرعاه الله رعية فبات غاش لهم إلا حرم الله عليه رائحة الجنة.

صورة أخرى: أتمَّ عمر الشوط الكبير الذي بدأه أبو بكر، فأخذ يعدُّ العدَّة لفتح العراق وبلاد فارس بعد أن اطمأن على سلامة الجيش الإسلامي في بلاد الشام، وعرف أن الروم ارتدوا على أعقابهم بعد <اليرموك>. والمسلمون في عهده من نصر إلى نصر. رغب عمر أن يقود الجيوش بنفسه، تَاقَت نفسه إلى الجهاد في سبيل الله، لكن جمهرة المسلمين أشاروا عليه بسعد ابن أبي وقاص -رضي الله عنه وأرضاه- فوافقهم على ذلك، فكانت وقعة القادسية التي ظهرت فيها عزة المسلمين، وذل وهزيمة الكافرين، وقتل عشرات الآلاف من عُبَّاد النار من المجوس، وأيَّد الله دينه ورفع كلمته، وهاب الكفرُ الإسلامَ، فانتشر الإسلام، وتقلَّص الظلام، وفُتِحت المدائن، وعُبِرت الأنهار بفضل الله الواحد القهار. أكرمهم الله بأن يسيروا على الأنهار كما نسير على البيداء، وحاز المسلمون كنوز كسري وقيصر، ولبس سراقة سواري كسري، وتحققت نبوءة الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- في ذلك.
كنا جبالا في الجبال وربما *** صرنا على البحار بحارا
أرواحنا يا رب فوق أكُفِّنا *** نبغي ثوابك مَغْنَمًا وجوارا
ندعو جهارًا لا إله سوى الذي *** خلق الوجود وقدَّر الأقدارا
ومن <القادسية> إلى <نهاوند>.
فتح الفتوح تعالى أن يحيط به *** نَظْمٌ من الشعر أو نثر من الخطب
وأُطْفئت نار المجوس، وتمزق مُلْك كسري، ولم تقم للمجوس قائمة، وفتحت الشام، وفتح مصر، وفتح بيت المقدس، وتسلم مفاتيحه عمر -رضي الله عنه وأرضاه- وهو يخوض مخاضة في الطين، ويقول: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله. وسلمها عمر أمانة لكل من يَخْلُفه، فأين الأمانة يا مسلمون؟ ما الخبر بعد عمر؟ إنه الذل والهوان المكتوب على الأمة متى حادت عن دينها. لقد ابتعد المسلمون عن مصادر عزهم فزلُّوا وحادوا عن رشدهم، فضلوا وألغوا عقولهم، فهانوا، عصوا الله وهم يعرفونه فسلط عليهم من لا يعرفه، فكان الهوان والضياع. وضاعت القدس، ضاعت يوم أميتت في القلوب آل عمران والأنفال وبراءة، ضاعت يوم أُصِمَّت الآذان، واسْتُغْشِيت الثياب عن أصوات الناصحين الصادقين، ضاعت يوم ذُلَّ الأتقياء، وعُزَّ الأشقياء، وأغمدت سيوف الحق، ورفعت سيوف الباطل، يومها فُجِعْنَا بضياعه؛ لأننا أمة لا تستحق أن تُنْصَر.
لكل فاجعة في الدهر سُلْوان *** وما لنكبة أرض القدس سلوان
هذى مآذنه خرساء ذاهلة *** فلا آذان ولا في الناس آذان
بيت مشى أمس في ساحاته عمر *** فكيف يمرح فيه اليوم شيطان
ورفع الله الأتقياء بعمر، وسقط المجرمون، وشرَّق الإسلام في عهده وغرَّب، وأُدِيلت دول، وفُتِحت بلاد، ومُصِّرت أمصار.
يا من يرى عمر تكسوه بردته *** والزيت أُدْمُ له والكوخ مأواه
يهتز كسري على كرسيه فَرَقًا *** من خوفه وملوك الروم تخشاه
أيها الأحبة إن السؤال الذي يطرح نفسه في ثنايا تلك الانتصارات ما التوجيه التي كانت تتلقاه الجيوش المؤمنة في ذلك العهد؟ إنه ولا شك قراءة سورة الأنفال تحت كل راية من رايات المسلمين، فتهشُّ لها القلوب والعيون المؤمنة، وتتنزل معها السكينة والطمأنينة، فيكون النصر. والسؤال الآخر: ما ليل جند الله في جيش عمر؟ يقول [سعد بن أبي وقاص]: لقد كانوا يدوُّون بالقرآن إذا جن الليل، كدويِّ النَّحل، وهم أساد في النهار لا تشبههم الأسود، ولم يفضل من مضى منهم من بقيَ إلا بالشهادة إذ لم تكتب لهم.
تحيا بهم كل أرض ينزلون بها *** كأنهم في بقاع الأرض أمطارُ
عُبَّاد ليل إذا جنَّ الظلام بهم *** كم عابدٍ دمعه في الخدِّ أجراهُ
وأُسْدُ غاب إذا نادى الجهاد بهم *** هبوا إلى الموت يستلقون لقياه
فاسألوا عن كل نصر خالدا *** واسألوا عن كل عدل عمرا
يا رجال الليل قد طال المدى *** بلغ السَّيل الرُّبا وانحدرا
اصبروا إن عظم الخطب *** فما يدرك النصر سوى من صبرا
وانصروا الله يهبكم نصره *** واشكروه يعطي من شكر

ونحن في ثنايا انتصارات عمر علينا أن ندرس بعض الصور فيها من داخلها. ففي القادسية صور مضيئة جديرة بأن نقف عندها وقفة تأمل واعتبار واقتداء، ومنها: أنها ضمت في صفوفها ما يربو على ثلاثمائة صحابي، منهم تسعون بدري، فهي تتميز بذلك عن غيرها من المعارك. ثم انظر بعين بصيرتك إلى عمر يوم يقول لسعد موصيًا ومودعًا -وتأمل الوصية وانظر وتفكر- يقول: يا سعد -[سعد بن وهيب]- لا يغرنَّك إن قيل: خال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنه ليس بين الله وأحد نسب إلا بالتقوى. وتأملوا الميزان والمعيار التي قد تختلف عليه الأشكال، لكن الحقيقة واحدة، الحقيقة واحدة في <اليرموك>، وفي بدر وأحد، وفي زمن [قتيبة]، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. النسب واحد؛ هو التقوى، والمعيار والميزان هي التقوى، عَضُّوا عليها. وإن كان سعد خال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وإن كان سعد مبشرًا بالجنة، وإن كان ممن جمع له الرسول –صلى الله عليه وسلم- أبويه، وإن كان من قيل فيه: هذا خالي فليرني امرؤ خاله. نعم حذار يا سعد من الاغترار، توجيه عمريٌ، لا تغتر بكلام الناس والتقوى فالزم فهي المؤهَّل (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) كيف لو أن عمر –يا أيها الأحبة- يرى وينظر إلى وسائلنا وسائل الأمة المسلمة هذه الأيام لرأى عجبًا وهي تدمر المسئولين في الأمة المسلمة، وتحوِّلهم من بشر يصيب ويخطئ ويُحاسَب إلى أناس لا يأتيهم الباطل من بين يديهم ولا خلفهم، بل لا يسألون عما يفعلون.
ويُرْفع شأن مختلس وغاوي *** ويُجْفى كل ذي عقل رزين
لرأى عجبًا والله. أيها الأحبة يوم يدخل المرء داخل معركة القادسية وغيرها يعرف ماذا كان يجري في جيش المسلمين، وفي جيش الكافرين، يعرف حينها عوامل النصر، ومؤهلات العز، وعوامل الهزيمة. فادخل معي إلى المعركة، واسمع. كما تعلمون تبدأ المعارك غالبًا بالمبارزة، وبدأت المبارزة بين الصفين؛ بين صف يقول: لا إله إلا الله، وبين صفٍّ يعبد النار من دون الله، فقام عَلَجٌ من الفرس ما عرف الله لحظة من اللحظات، ودخل الساحة، فخرج إليه رجل من المسلمين، فتجاولا وتصاولا، فلم يلبث العلج الفارسي أن قتل المسلم. والمبارزة كما تعلمون لها تأثير نفسي غالب على الجيش، وعلى مستقبل المعركة، فخرج إليه رجل آخر من المسلمين وبدأت المبارزة مرة أخرى، فلم يلبث العلج أن قتل المسلم، ففتَّ ذلك في عَضُد المسلمين، ثم خرج ثالث من المسلمين –يتهاوون على الموت، يريدون ما عند الله- وتجاولا، فلم يلبث العلج أن قتل المسلم، فوهن ذلك في عزم المسلمين وهنًا شديدًا، كافر يقتل ثلاثة من المسلمين في تلك اللحظة الحرجة. كان في جيش المسلمين شيخًا كبيرًا قد بلغ ما يربوا على ثمانين عامًا، لا يزال يجاهد والمؤمن في جهاد حتى يلقى الله ممتثلا قول الله تعالىوَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) خرج هذا الشيخ الكبير على فرسه لسان حاله:
أخي ظمئتْ للقتال السيوفُ *** فأورد شَبَاها الدمَ المُصْعَدَ
فإمَّا حياة تسرُّ الصديق *** وإمَّا مماتٌ يغيظ العدا
ويصاول هذا العلج الذي انتفخ ريشه وتكبر؛ لأنه قتل ثلاثة من المسلمين، فتطاول معه زمن طويل، لكن هذا الشيخ المسلم ما لبث أن قفز من خيله إلى خيل ذلك الفارسي فصارا على خيل واحدة، ثم حمل هذا الفارس بيده وهو مدجج بالسلاح والدروع فرفعه بيديه، ثم أنزله على ركبتيه فكسر ظهره نصفين، ثم رمى به، وقال: هذا علج خبيث، لا يستحق أن يضرب بالسيف. فكبر المسلمون ودارت المعركة فكان النصر لمن ينصرون الله.
هذا هو الإيمان درب نجاتنا *** فما بالنا عن دربنا نتنكَّب
ما بالنا نرنوا إلى أعدائنا *** وسهامهم نحو الصدور تُصَوَّب
ما بالنا نرنوا إلى أعدائنا *** والله للإنسان منهم أقرب
صعب طريق الموت مرٌّ طَعْمُه *** حقًا ولكن الدَّنيَّة أصعب
أين تربى ذلك الشيخ أيها الأحبة الذي عمره فوق ثمانين؟ إنه –ولا شك- في رياض كتاب الله، وسنة رسول الله –صلى الله عليه وسلم-. ومن تربى عليهما عرف مهمته في الحياة؛ وهي إعلاء كلمة الله، وابتغاء مرضاة الله. بذل كل شئ في حياته لتحقيق هذه المهمة، وهكذا كان الواحد من سلفنا، عنده بصيرة يتحرك بها على الأرض، ويعرف كيف ينصر دينه، ويفكر كيف ينصر دينه، وبالتالي نُصِرُوا.
من يتق الله وينصر دينه *** لابد في ساح المعارك يُنْصَرُ
هذه صفحة في ثنايا القادسية التي ما هي والله -الذي لا إله إلا هو- إلا جزء من جهاد في ثنايا جهاد عمر وصحبه -رضوان الله عليهم- الذين أرهبوا أعداء الله، ومكنوا لدين الله في الأرض، فما الحال، وما الواقع اليوم والأمة تدَّعى الصلة بذلك الجيل وتلك الطائفة؟ إن الواقع مرير، ويجب أن نعلم مرارته، لعلنا نرفع هذه المرارة، وإن الأمة ممزقة، وإن التكالب على المسلمين ورميهم عن قوس واحدة حاصل، وإن الغفلة عظيمة، وما أشبه ليلة القدس بأندلس البارحة.
أين اللواء وخيل الله يبعثها *** عمرو ويصرخ في آثارها عمر
هذا هو الأقصى يُهَوَّدُ جهرةً *** ولبؤسه تتحدث الأخبار
هذا هو الأقصى يهود جهرة *** وجموعنا يا مسلمون نِدَار
أليس لكم قلب يفيء لربه *** أليس لكم عين أليس لكم فم
المال مقتسم والعرض منتهك *** والقَدْرُ محتقر والدم طوفان
لا راية لبني الإسلام ظاهرة *** إذا تداعى خنازير وصُلْبَان
أين الجيوش التي تزهو بقوتها؟ *** كأنها في نهار العَرْضِ بركان
أين الملايين من أموال أمتنا؟ *** فما لها في مجال الفعل برهان
هل عندكم نبأ مما يُعَدُّ لكم *** أم خدَّر القومَ لعَّابٌ وفنَّانُ؟
هل عندكم نبأ من أهل أندلس *** فقد سرى بحديث القوم رُكْبَان؟
واليوم مسرى نبي الله ضجَّ وقد ***غشاه مرٌ من التنكيل ألوان
ذل وضعف وتمثيل ومَلْحَمَة *** ما ذاقها في مدار الدهر إنسان
الخمر تُشْرب والأوتار صاخِبَة *** وللرياضة فينا القَدْرُ والشَّان
أَمَا لنا في كتاب الله من عظة *** فقد دعانا لنصر الحق قرآنُ
أَمَا لنا في طلوع الفجر من أملٍ *** أما تبدد عنا الشك والرَّانُ
يا أمتي مزقي الأغلال وانتفضي *** فالمجدُ لا يمتطيه اليومَ وَسْنَانُ
عودي إلى الله فالأبواب مُشْرَعةٌ *** وعزَّة الله للأوَّابِ عُنْوانُ
واستبشري فشعاع الفجر منتشرٌ *** وإن تجاهل نورَ الفجرِ عُمْيَانُ
وإن تراكم غَيْمُ الظلم واحتجبت *** شمسُ النَّهار فللإشراق إبَّانُ
أيها الأحبة؛ ألا نملك مثل هذه الطاقات التي كانت في صفوف القادسية من أبناء العشرين إلى الثمانين إلى المائة ؟ بلى والله، إنَّا لنملك بعضًا منها، والقصور عن السلف أمر لابد منه، لكننا لا نحسن التعامل معه. تهينها الأمة وتمتهنها وتقتلها ولا تنتفع بها وهي أحوج ما تكون إليها.
كالعِيسُ في البيداء يقتلها الظما *** والماء فوق ظهورها مَحْمُولٌ
والله -الذي لا إله إلا هو- لا نُنْصر ما دام هذا دَيْدَن الأمة مع طاقاتها. إنه حين تُدمَّر النفوس، ويُهَان المخلصون، ويرفع المجرمون إلى مرتبة الأتقياء، ولا يُسمع الناصحون، والله لا تنفع عندها لا دبابات، ولا طائرات، ولا أساطيل، لأنه أمر الله بالتدمير، ولا عاصم من أمر الله إلا من رحم.
من أين يرعى الله أمتنا التي *** ذُلَّ التقي بها وعُزَّ المُذْنب
من أين يأتيها السلام وقلبها *** خاوٍ وفيها الغاشِم المستكلب
ومع ذلك فوالله -الذي لا إله إلا هو- إنَّا لمتفائلون كثيرًا، فلا يأس، ولا قنوط، ولا خشية من نصارى ولا مجوس ولا يهود، العهد من الله –تعالى- لنا بالنصر.
ديننا الحق، والكفر ذا دينهم *** كل دين سوى ديننا باطل
يا قدس مهما باعدوا بيننا *** ففي غدٍ جيش الهدى يزحف
لابد من يوم يزول الخَنَا *** عهد من الله لا يُخْلف
لابد من يومٍ لنطق الحجر *** وعْدٌ من الله لا يُكْذَب
ولو أن كل مسلم بصق بصقة فقذف اليهود بها لغرقوا، أو نفخ نفخة مؤمن حق لطاروا.
طريقنا واضح كالشمس تعرفه *** أجيالنا بابه عزم وإيمان
آمالنا لم تزل خضراء يانعة *** في القلب مُنْتَجَع منها وبستان
وللباطل مهما اشتدَّ وطغى ساعة، وللحق وأهله زمان آخر لا ينتهي إلى قيام الساعة شريعة الله رغم الكفر خالدة والزيف يفنى ويفنى من له عبد ولينا الله ولينا الله لا نرضى به بدلا وكيف ييأس من مولاه رحمن

صورة أخرى: روى [ابن سعد] في طبقاته أن عمر -رضي الله عنه- كان في سفر، فلما كان قريبًا من الروحاء سمع صوت راعٍ في جبل، فعدل إليه ونادى عمر: يا راعي الغنم، فقال له الراعي وقد عرفه: نعم يا راعيها؛ يعني يا راعي الأمة، قال عمر: لقد مررت بمكان هو أخصب من مكانك، هذا هو المكان الفلاني، وإن كل راع مسؤول عن رعيته، ثم مضى عمر في طريقه. الله أكبر يوم ترى خليفة المسلمين ينصح راعي غنم، ويدلَّه على مكان هو أخصب من المكان الذي هو فيه، ويذكِّره بأن كل راع مسؤول عن رعيته أن يختار لها ما هو أنفع، وأن يؤثر مصالحها في كل موقف. عمر ينادي الراعي: يا راعي الغنم، والراعي يجيبه بقوله: نعم يا راعيها؛ أي يا راعي الأمة، لا فرق في التزام المسؤولية بين هذا وذاك. مسلمون حقًا، ومؤمنون صدقًا، " يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم" إن سيرة عمر -رضي الله عنه- شاهدُ صدقٍ على أن الوالي المسلم راع مشفق، وناصح أمين، ورائد لا يكذب أهله. عمر هو الذي كان يعالج البعير الأجرب ويقول للبعير: إني لخائف أن أسأل عما بك، ما أروعها من كلمات يستضيء بها كل من ولي شيئًا من أمر المسلمين صغر الأمر أو كبر. فالمسئولية تحتِّم على كل من ائتمنه المسلمون على مصلحة من مصالحهم أن يتقي الله فيها، وأن يُحسن القيام بها؛ لينجو من العقاب غدًا. هكذا كان الراعي مشفقًا على الرعية، شديدًا على نفسه، لعله يلقى العيش الرَّضي في دار الخلود.
من لي بجيل مستجدٍّ لم يرث *** إلا عن الجد القديم الأبْعَدِ
يرث ابن حفص في أصالةِ رأيه *** أو خالدًا في عزمه المتوقِّد
جيل إذا سِيمَ الهوان أَبَى *** وإن يطلب إليه البذل لم يتردد
يهوى الحياة عقيدة، ويعافها *** فوضى ويُدْعى للفداء فيفتدي

صورة أخرى: أخرج [ابن أبي حاتم] من طرق عن [ابن عباس] -رضي الله عنهما- أن رجلا من المنافقين يقال له بشر خاصم يهوديًا، فدعاه اليهودي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ليحكم بينهما؛ لأن هذا اليهودي يعلم أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- صادق، وأن ما جاء به هو الحق، ولكنهم قوم يستكبرون، فقضى النبي –صلى الله عليه وسلم- لليهودي، فلم يرضَ المنافق وقال: تعال نتحاكم إلى عمر بن الخطاب، فذهبا إليه، وقال اليهودي لعمر: لقد قضى لنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فلم يرضَ هذا بقضائه، وجئنا لتقضي بيننا، فقال عمر لهذا المنافق: أكذلك؟ قال: نعم، قال عمر: مكانكما حتى أخرج إليكما، فدخل عمر، واشتمل على سيفه، ثم خرج إليهما، فضرب عنق المنافق بالسيف حتى برز، ثم قال: هكذا أقضي لمن لم يرضَ بقضاء الله ورسوله –صلى الله عليه وسلم-. ما أحوج الأمة إلى هذا السيف العمريُ ليضرب ضربته فيمن يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، وقد أمروا أن يكفروا به، ليضربها فيمن إذا قيل لهم: تعالوا إلى ما أنزل الله والرسول رأيتهم يصدون، ليضربها فيمن إذا ذكر الله اشمأزت قلوبهم، وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون، ليضربها في الذين يرفضون التحاكم إلى شرع الله إذا كان الحق عليهم، ويرضون بالتحاكم إليه إذا كان الحق لهم، إلى أولئك جميعًا (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مما قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)

الصورة الأخيرة: ويحج عمر –رضي الله عنه- فلم يضرب في طريقه فسطاطًا، وإنما كان يلقي الرداء على شجرة فيستظل بشجرتها، أو بظل تلك الشجرة، وينتهي من حجِّه ولما نفر من مِنَى رفع يديه قائلا: اللهم قد كبرت سني، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي، فأخذني إليك غير مفرِّط ولا مضيع. اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك أخرجه [البخاري]. ويتقبل الله من المتقين. ويرجع إلى المدينة النبوية، ويخطب يوم الجمعة، ويذكر نبي الله- صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر -رضي الله عنه- تعلوه الكآبة والحزن، ثم يقول: رأيت كأن ديكًا نقرني نقرة أو نقرتين، وإني لا أراه إلا حضور أجلي، وإن قومًا يأمرونني أن أستخلف، وإن الله لم يكن ليضيع دينه، فإن عجل بي أمر فالخلافة شورى بين الستة الذي توفى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو عنهم راض. يقول [ابن مسعود] -رضي الله عنه-: فلم أر يومًا أكثر باكيًا ولا حزينا من ذلك اليوم، وفي صباح يوم من أيام الله بعدها يصلي بالناس صلاة الفجر، ويكبر ويبدأ في القراءة يبكي، وبينما هو كذلك إذ تقدمت إليه يد من أيدي الأعداء التي لا تتسلل إلا في الظلام، يد آثمة، يد مجوسية ما سجدت لله سجدة، ولا عرفت الله، لتمزق الأديم الطاهر، فيهوي صريعًا والدماء تثعب منه، فما راع الناس إلا تكبير [عبد الرحمن بن عوف] -رضي الله عنه- إذ أخذه عمر -رضي الله عنه- بيده فقدمه، فصلوا صلاة الفجر صلاة خفيفة، وأما ذلك العلج فما كان منه إلا أن قتل نفسه، وحُمِل عمر إلى بيته وهو في دمه، لم يصل صلاة الفجر، فقيل: يا أمير المؤمنين الصلاة الصلاة، قال: ها ، لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، ثم وثب ليقوم، فانبعث جرحه دمًا، فقال: هاتوا لي عمامة، فعصب بها جرحه ثم صلَّى، لم يمنعه ما هو فيه من أداء الفريضة - فلا نامت أعين من يترك الصلاة- ولما سلَّم من صلاته قال: أيها الناس هل كان هذا على ملأ منكم؛ أي كان طعنه على ملأ منكم؟ قال [علي]: والله لا أدري من الطاعن من خلق الله، أنفسنا تفدي نفسك، ودماؤنا تفدي دمك، لوددنا لو أن الله زاد في عمرك من أعمارنا. ثم علم أن طاعنه عدو الله [أبو لؤلؤة المجوسي]؛ غلام المغيرة، فقال عمر: قاتله الله لقد أمرت به معروفًا، الحمد لله الذي لم يجعل قاتلي يحاجني عند الله بسجدة سجدها قط. كان على فخذ ابنه [عبد الله] فقال: يا بني ضع خدي على التراب؛ علَّ الله أن يرحمني، فلم يفعل عبد الله فأعادها قائلا: ضع خدي على التراب لا أمَّ لك يا عبد الله، يقول عبد الله: فوضعت خده إلى الأرض حتى نظرت إلى أطراف شعر لحيته خارجة من بين أضغاث التراب، وبكى حتى التصق الطين بعينيه، وأصغيت إليه لأسمع ما يقول، فإذا به يقول: ويل عمر إن لم يتجاوز الله عنه، ويل عمر إن لم يتجاوز الله عنه، ويدخل الصحابة يعودونه ومن بينهم عليّ يقول: هنيئًا لك الشهادة؛ لطالما سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: جئت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر، وذهبت أنا وأبو بكر وعمر، فأسأل الله أن يحشرك مع صاحبيك، فبكى وقال: ليتني أنجو كفافًا لا لي ولا عليّ، أو كما قال، ثم قال لابنه: انظر كم عليّ من الدين، قال: فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفًا، فقال: يا عبد الله، إن وَفَى لها مال آل عمر فأدِّها من أموالهم، وإن لم تفِ فاسأل فيها بني عدي، وإن لم تفِ فاسأل فيها قريشًا، ولا تعدهم إلى غيرهم. يا لله! خليفة المسلمين ميزانية الأمة تحت يديه ويموت ودينه يربو على ثمانين ألفًا! إن قدوته رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من لو أراد أن تجري الجبال له ذهبًا لكان، مات ودرعه مرهونة عند يهودي في أصوع من شعير، فلا ريب ولا غرابة.
أولئك أقوام ما إن ذكرتهم *** جرت عَبَرات الدمع حَرَّى تصبَّبُ
هاهو عمر على فراش الموت في حالة ارتحال من دار الفناء إلى دار البقاء ولا زال يعطي الدروس للأمة. يدخل عليه مسبلا من الشباب فيعوده ويدعو له ويخرج، ثم يقول أعيدوه عليَّ، فيرجع الشاب فيقول: ارفع إزارك فهو أتقى لربك، وأتقى وأبقى لثوبك. رضي الله عن عمر، لم يشغله ما هو فيه عن أن يقول، أو عن أن يأمر بمعروف، أو ينهى عن منكر -رضي الله عنه وأرضاه-ويختم حياته بأهم مالديه و هو أن يدفن بجوار قدوته الحبيب الكريم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجوار أخيه أبى بكر -رضي الله عنه وأرضاه-. يحدث الإمام [البخاري] عن [عمرو بن ميمون] أن عمر -رضي الله عنه- قال: يا عبد الله بن عمر انطلق إلى [عائشة] أم المؤمنين -رضي الله عنها- فقل: يقرأ عليك عمر السلام، ولا تقل: أمير المؤمنين؛ فإني لست اليوم للمؤمنين أميرًا، وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه. فسلم عبد الله على عائشة واستأذن ودخل عليها، فوجدها قاعدة تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر السلام، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فجهشت بالبكاء، وقالت: كنت أريد ذلك المكان لنفسي، ولأوثرنَّ به عمر اليوم على نفسي، ورجع عبد الله، فلما أقبل على عمر قيل له: هذا عبد الله قد جاء، قال: اسندوني، ارفعوني فأسنده رجل إليه فقال لعبد الله: ما لديك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين، قد أذنت لك، وتهلل وجهه، لسان حاله وافرحا واطربا.
الآن ألقى الأحبَّة *** محمدًا وحزبه
أما لسان مقاله فالحمد لله ما كان من شئ أهم إليّ من ذلك المضجع، ثم قال: يا عبد الله إذا أنا قضيت فاحملوني، ثم سلِّم على عائشة أخرى وقل: يستأذن عمر، فإن أذنت لي فأدخلوني، وإن لم تأذن فردني إلى مقابر المسلمين. وأسلم عمر الروح إلى بارئها. وحمل فكأن المسلمين لم تصبهم مصيبة إلا يومئذ، فما أصابهم حزن مثل حزنهم إلا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر. ودفن حيث أكرمه الله مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر -رضي الله عنه وأرضاه-. تقول عائشة- رضي الله عنها- بعد ذلك: كنت أدخل بيتي الذي فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي وأضع ثوبي وأقول: إنما هو زوجي وأبي، فلما دفن عمر معهم فوالله ما دخلته إلا وأنا مشدودة علي ثيابي؛ حياءً من عمر. فإلى السَّافرات، إلى الكاسيات العاريات نهدي هذا الكلام. دفن عمر ولم تدفن سيرته ولا أعماله، وإنما هي باقية بقاء هذا الدين لكل مقتد من المسلمين.
فلقاه ربي في الجنان تحية *** ومن كسوة الفردوس ما لم يمزق
نِلْتَ الشهادة فاهنأ أيها العمر *** بمثل عدلك تُبْنَى ما انتهت دول
أمامك الجنة الخضراء فاهنأ بها*** لا يُرْتَجَى العمر يومًا إن دنا الأجل
انْعَم بخلدك في أبهائها فرحًا *** إنَّ الخلود جزاء أيها البطل
فالآن تهنأ يا عمر بجوار من أهدى البشر
فسقى رفاتك وَابِلٌ من ماء غيث مُنْهَمِر
رحم الله عمر، وجمعنا به في دار كرامته؛ فقد عظم شخصه، وقوى خطره على أعداء الدين. كان شديدًا في سبيل إعزاز ورفعة العقيدة والدين، وفي ذات الوقت كان رقيق المشاعر، مرهف الحواس، تُشْجِيه أنَّات طفل صغير، أو نَشِيج فقير بائس، أو زفرات مهموم مغموم مكروب، لقد كان بدرًا يستضاء بنوره، فأضحى رهينًا في المقابر ثاويًا .
لقد كان بدرًا يستضاء بنوره *** فأضحى رهينًا في المقابر ثاويًا
تغمده الرب الكريم بفضله *** ولا زال هَطَّالا من العفو هاميًا
على قبره يهمي عشية وبكرة *** وبوَّأه قصر من الخلد عاليًا

أحبتي في الله؛ هذه بعض صور من حياة السلف وأخلاقهم ومناهجهم وتوجيهم وتربيتهم وثقافتهم وجهادهم، فما أحوالنا؟ وما أخلاقنا؟ وما ثقافتنا؟ وما توجيهنا؟ وما تربيتنا؟ أين نحن من هذه الأخلاق السامية الجليلة؟ إن المتأمل لأحوال المسلمين اليوم يجد البَونَ شاسع بيننا وبين أولئك الصَّحْب، ولكن المحب لهم بحق يسعى للتأسِّي بهم، ويجاهد نفسه ليقترب من خيامهم. وعندما يعلم الله -سبحانه- صدق التوجه في الوصول إلى هذه الأخلاق العظيمة، فإنه سبحانه يعين مَنْ هذه حَالُهُ، ويأخذ بيده ويهديه سبيله المستقيم (وَالذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) ومع أن القصور عن السلف الصالح ملازم لمن جاء بعدهم، ولكن حسبنا أننا نحبهم ونجلُّهم وإن قصرت أخلاقنا وأعمالنا عنهم، ونحتسب عند الله –جل وعلا الكريم- أن يجعلنا معهم، ويحشرنا في زمرتهم كما جاء هذا الوعد على لسان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه [البخاري] عن [أنس] –رضي الله عنه-: "أن رجلا سأل النبي –صلى الله عليه وسلم- عن الساعة، فقال: متى الساعة، قال: وماذا أعددت لها، قال: لا شئ إلا أني أحب الله ورسوله، فقال –صلى الله عليه وسلم-: أنت مع من أحببت، قال أنس: فما فرحنا بشيء فرحنا بذلك. " ثم قال: فإني أحب النبي –صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبي لهم، وإن لم أعمل بمثل أعمالهم. فاللهم إنَّا نشهدك على حبنا لنبيك محمد –صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام، والتابعين لهم بإحسان.

اللهم ألحقنا بهم، اللهم احشرنا في زمرتهم وإن قصرت آمالنا وأخلاقنا عنهم. ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم. اللهم ارحم هذه الأمة رحمة عامة، تعزُّ فيها أولياؤك، ويُذَلُّ فيها أعداؤك. اللهم اجعلنا أغنى خلقك بك، وأفقر عبادك إليك. اللهم أغننا عمن أغنيته عنا، اللهم لا تجعل بيننا وبينك في رزقنا أحدًا سواك. يا ذا الجلال والإكرام، لك الحمد أولا وآخر، وظاهرًا وباطنًا، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا. الحمد لله، ثم الحمد لله.
الحمد لله الذي من فضله *** ألقى علىَّ السِّتْر ثم كساني
وهدى فؤادي كي يصوغ حديثه *** بصور تفيد الشِّيب والشُّبَّان
يا رب فاجعلها لوجهك كلها *** متكرمًا ثقِّلْ بها ميزاني
واغفر لكل المسلمين وآلهم *** يوم النشور ودورة الأجفان
واشمل بفضلك والديَّ برحمة *** وأَجِرْهُمَا من حمأة النيران
ثم الصلاة على النبي وآله *** ما صاح صدَّاح على الأفنان
والصحب والأتباع من ساروا *** على سبل الهدى والخير في البلدان
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

فضيلة الشيخ / علي عبد الخالق القرني