بسم الله الرحمن الرحيم

لحوم العلماء مَسمُومَة

د. ناصر بن سليمان العُمــر


إن الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونستهديه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلّ له ، ومن يُضلل فلا هادي له ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تُقاته ولا تموتُنّ إلا وأنتم مسلمون }. [ سورة آل عمران ، الآية : 103 ]
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً
ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً }.[ سورة النساء ، الآية : 1]
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً ،يُصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يُطعِ
الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً }. [سورة الأحزاب ،الآية : 70]
أما بعد:

فإن ثمّة موضوعاً مُهمّا ً جديراً بالطرح ، حقيقاً بأن نتفقه فيه ؛ لشدة حاجتنا إليه ؛ والخطورة النتائج المترتبة عليه .
إن والصحوة اليوم بحاجة إلى ترشيد وتوجيه ؛ لكي لا تؤتي من داخلها :
فالنار تأكل بعضها ******* إن لم تجد ما تأكله.
إن لم تجد هذه الصحوة المباركة من يُوجهّها ويُرشدها فإنني أخشى عليها من نفسها ، قبل أن أخشى عليها من أعدائها.

* وقبل الشروع في الموضوع لا بد من التنبيه إلى أن له قصة لابد أن تروى: فقد بلغني في العام الماضي أن هناك بعض الطيبين المنتسبين إلى الصحوة ؛ يلتقون في مناسبات مختلفة ويكون جلُّ حديثهم عن العلماء، يقوّمون العلماء ، ويذمُّون ويمدحُون ، وهم شباب أحسن ما تصفهم به أنهم من طلاب العلم ، لا من العلماء ؛ فتأثرت بذلك الأمر ، وطفقت أقرأ في كتب السلف ، وأفتش في صفحاتها متسائلاً : هل كان شبابهم وعلماؤهم يفعلون مثلما نفعل؟؟
وجمعت من الموضوع مادة ، وألقيته في إحدى الجامعات . ولكني اعتذرت عن إخراجه ، ونشره في ذلك الحين ؛ لأنه لم يكن قد استوى على سوقه بعد.

ومرّت فترة من الزمن ..... وتمخّضت الأيام عن إيذاءٍ لأحد الدعاة العلماء في عرضه، فكان ذلك طعنة نجلاءَ موجَّهة إلى كل عالم ِ، وكلِّ طالب علم ، آلمتنا ،وأحزنتنا ، وأقضّت مضاجعنا.فطلب إلي بعض الإخوة الذين استمعوا إلى هذا الموضوع أن أخرجه ، فاعتذرت عن ذلك ؛ لأن مادته لم تكتمل عندي بعد .

وجاءت الأحداث الأخيرة المريرة، جاءت الفتن التي كقطع الليل المظلم ، التي نعيش فيها هذه الأيام ونتجرع غُصصها ، فماذا حدث؟ !
حدث ما يريده الأعداء، واستبيحت لحوم العلماء، ولم يقتصروا على نهش أعراض طلاب العلم والدعاة ، بل فُتح الباب على مصراعيه لكل من هب ّودبّ ؛ حتى تطاول العامة وتطاول المنافقون والعلمانيون على علمائنا.
وقلّما تدخل مجلساً فتجده منزَّهاً عن الوقيعة في عالم من العلماء ؛ وقلما تدخل مجلساً فتجده منزهاً عن الوقيعة في عالم من العلماء ؛ فقلت : إن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ؛ فكانت هذه السطور تذكيراً ، ونصحاً ، وتبياناً ، وتحذيراً من عاقبة الحديث في العلماء، والولوغ في أعراضهم وحرصت- قدر الإمكان – على توضيح السبيل الصحيح لمعالجة هذه القضية ، وفق منهج أهل السنة والجماعة.
* ورحم الله ابن عساكر حين قال : (( أعلم يا أخي - وفقني الله وإياك لمرضاته وجعلني وإيّاك ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته - أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب ، بلاه الله قبل موته بموت القلب )). { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تُصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}.[ سورة النور ، الآية : 63 ].
وموضوع (( لحوم العلماء مسمومة )) طويل وعناصره كثيرة، ولكنني سأحاول الاختصار- بقدر الإمكان - ، مكتفياً من القلادة بما أحاط بالعنق.

أسباب طرق هذا الموضوع :

يمكن تلخيص أسباب الحديث عن هذا الموضوع فيما يأتي :
1 - أن مكانة العلماء في الإسلام مكانة عظيمة، مما يوجب توقيرهم وإجلالهم .
2 - تساهل كثير من الناس في هذا الأمر .
3 - وقوع بعض طلاب العلم في علمائهم من حيث لا يشعرون.
4 - عدم فهم كثير من الدعاة للمنهج الصحيح في معالجة هذه القضية.
5 - الهجمة الشرسة المنظمة من المنافقين والعلمانيين على علمائنا تبعاً لأسيادهم من اليهود والنصارى.

مكانة العلماء وفضلهم :

قال الله تعالى : { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}.[ سورة الزمر ، الآية : 9 ]
ويقول – سبحانه -: {إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء}. [سورة فاطر ، الآية : 28 ]
ويقول - جل وعلا -: { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}.[ سورة النساء ، الآية : 59 ]
وأولو الأمر- كما يقول أهل العلم - :هم العلماء، وقال بعض المفسَّرين : أولو الأمر: الأمراء والعلماء.
ويقول الله - جل وعلا - : {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير}. [ سورة المجادلة، الآية : 11 ]
وروى البخاري عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (( من يرد الله به خيرا يفقه في الدين. )) .
قال ابن المنير - كما يذكر ابن حجر - : ( من لم يفقهه الله في الدين فلم يرد به خيراً ).
وروى أبو الدرداء رضي الله عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (( فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ليلة البدر. العلماء هم ورثة الأنبياء . إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ، وإنما ورثوا العلم ، فمن أخذ به ؛ فقد أخذ بحظ وافر )).
* ومن عقيدة أهل السنة والجماعة - كما يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله - : ( أنهم يدينون الله باحترام العلماء الهداة ) ، أي أن أهل السنة والجماعة ، يتقربون إلى الله – تعالى – بتوقير العلماء ، وتعظيم حُرمتهم .
قال الحسن: ( كانوا يقولون : موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار ).
وقال الأوزاعي: ( الناس عندنا أهل العلم . ومن سواهم فلا شيء ).
وقال سفيان الثوري: ( لو أن فقيها على رأس جبل ؛ لكان هو الجماعة ).
وحول هذه المعاني يقول الشاعر :
الناس من جهة التـمــثال أكفـاء ****** أبوهمُ آدم والأم حواء
فإن يكن لهم في أصلهـم نسـب ****** يفاخرون به فالطين والــماء
ما الفضــل إلا لأهل العلـم إنهـمُ ****** على الهدى لم استهدى أذلاء
وقــدر كل امرأ ما كـان يحسنـه ****** والجاهلون لأهل العلم أعـداء
من هذه النصوص الكريمة ، ثم من هذه الأقوال المحفوظة ؛ تتبين لنا المكانة العظيمة ، والدرجة العالية ، التي يتمتع بها علماء الأمة ؛ ومن هنا وجب أن يوفيهم الناس حقهم من التعظيم والتقدير والإجلال وحفظ الحرمات ، قال الله تعالى: { ومن يُعَظِّم حُرٌماتِ الله فهو خيرٌ له عند ربه }. [سورة الحج ، الآية : 30 ].
ويقول- جل وعلا- : { ومن يعظم شعائر الله فإنها من تَقْوَى القلوب }.[ سورة الحج ، الآية : 32 ]
والشعيرة- كما قال العلماء - : كلُّ ما أذِنَ اللهُ وأشعَرَ بفضله وتعظيمه. العلماء – بلا ريب – يدخلون دخولاً أولياً فيما أذِن اللهُ وأشعر الله بفضله وتعظيمه ، بدلالة النصوص الكريمة السالفة الإِيراد .
إذن ، فالنيل من العلماء وإيذاؤهم يُعدُّ إعراضاً أو تقصيراً في تعظيم شعير من شعائر الله ، وما أبلغ قول بعض العلماء : ( أعراض العلماء على حفرة من حفر جهنم ).
وإن مما يدل على خطورة إيذاء مصابيح الأمة ( العلماء ) ، ما رواه البخاري عن أي هريرة - رضي الله عنه- ، قال : قالَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (قال الله- عز وجل- في الحديث القدسي : (( من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب )). رواه البخاري .

* أخي القارئ الكريم : كلنا ندرك أن منْ أكل الربا فقد آذنه الله بالحرب، إن لم ينته ويتبْ عن ذلك الجرم العظيم ، كلنا يدرك هذا ؛ ولكن هل نحن ندرك – أيضاً – أن من آذى أولياء الله فقد حارب الله –جل وعلا - كما تبين من الحديث السابق !؟ هل نحن نستحضر هذا الوعيد الشديد ، عندما نهم بالحديث في عالم من العلماء ؟!
روى الخطيب البغدادي عن أبي حنيفة والشافعي - رحمهما الله - أنهما قالا: ( إن لم يكن الفقهاء أولياء الله فليس لله ولي ). قال الشافعي: ( الفقهاء العاملون ). أي أن المراد : هم العلماء العاملون .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ( من آذى فقيها فقد آذى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ومن آذى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقد آذى الله -عز وجل- ) .
لعل في هذه النصوص تبييناً لفضل العلماء ، وتذكيراً ببعض ما يجب لهم علينا من الحقوق .

مكانة اللسان وخطورته

ولْنقِفْ وقفة ً لا بد منها في هذا المقام ، للتنبيه إلى خطورة اللسان ؛ لأننا قد تمادينا في التساهل بأمره ، والغفلةِ عن صونه من الزّلل . وَلْنُوطَّئ لذلك بإشارة إلى فضل نعمة اللسان ، تلك الجارحة التي امتنَّ الله بها علينا ، وإنّ مما يدل على عِظم شأنها ما حكاه الله - تعالى- عن موسى - عليه السلام-: من قوله : { واحْـلُلْ عقدة من لساني يفقهوا قولي } . [ سورة طه ، الآية : 27]
ويقول { ولا ينطلق لساني }، [سورة الشعراء ، الآية : 13]
وقوله عن أخيه هارون: { هو أفصح مني لسانا } .[ سورة القصص ، الآية: 34 ]
ويقول- سبحانه - ممتنا على عبده: { ألم نجعل له عينين ، ولسانا وشفتين } . [سورة البلد ، الآية : 8 ]
وعندما نتأمل – مثلاً – حال المحروم من هذه النعمة ألا وهو ( الأبكم ) ؛ فإننا ندرك – عقلياً – عِظَمَ هذه المنة الإلهية : هل يستطيع الأبكم أن يُعبر عما في نفسه ؟!
إنه عندما يُريد التعبير عن شيء فإنه يستخدم كثيراً من أعضائه ، ومع ذلك لا يشفي نفسه، ولا يبلغ مراده ، وإنْ بلغه فبشق الأنفس .
إذن ، فنعمة اللسان من أجلَّ النعم،ومن أكبر المنن الإلهية علينا. فهل حافظنا عليها ؟هل استخدمناها في الخير وجنبناها الزور والواقعية في أعراض العلماء وغير العلماء ؟
إن النصوص تدل على خطورة أمر هذه الجارحة ، وفداحة الخسارة الناجمة عن التهاون في حفظها ، قال الله – تعالى – في شأن الإفك : { إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم } .[ سورة النور ، الآية :15 ]
وقال – تعالى – في المنافقين : {فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد } .[سورة الأحزاب ، الآية : 19 ]
وقال– تعالى - :{ يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم وتصِفُ ألْسِنَتُهم الكذب أنَّ لهم الحسنى } . [ سورة الفتح ،الآية :11]
ولذلك جاء الأمر بحفظ اللسان ، والتحذير من إطلاق العنان له :
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا } .[سورة الأحزاب ، الآية : 70 ]
{ ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } .[سورة ق ، الآية 18]
{ ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا } . [ سورة الإسراء ، الآية : 36 ]
وفي الحديث الذي رواه الترمذي:(( وهل يكبُّ الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم )).
ويقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) في الحديث المتفق على صحته : (( من يضمن لي ما بين لحييه وما بين فخذية ؛ أضمن له الجنة )). رواه البخاري
إن كثير من الناس - وبخاصة الطيبون المستقيمون - يضمنون ما بين الفخذين، وهذه نعمة عظيمة، وفّقهم الله- تعالى – إليها .
ولكن ... هل نحن نضمن ما بين اللحيين؟هل يمر علينا يوم بدون أن نقع في عرض مسلم ،عالماً كان أو غير عالم ؟! ليحاسب ْ كلُّ امرئ نفسه، وليناقشها في ذلك الأمر الخطير ؛ لكي نصحح أوضاعنا في هذا الجانب ؛ امتثالاً لقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): (( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)). متفق عليه ؛
وحذراً من الوعيد في مثل قوله عليه الصلاة والسلام : (( إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها، يزل بها إلى النار أبعد ما بين المشرق والمغرب )). متفق عليه
وما أحكم قول الشاعر :
يُصاب الفتى من عثرةٍ بلسانه ******* وليس يصاب المرء من عثرة الرجل
فعثرته في القول تذهب رأسه ******* وعثرته بالرجل تبــــرأ على مهـــــل

وقول الآخر :
احـفظ لسانـك أيهـا الإنـــسان ******** لا يـــلـدغــنـك إنه ثـعـبانُ
كم في المقابر من قتيل لسانه ******** كانت تهاب لقاءه الشجعانُ
وقول الآخر :
الصمت زين والسكوت شجاعة ****** فإذا نطقت فلا تكن مكثاراً
فـإذا نـدمـت على سكوتك مـــرة ****** فلتندمن على الكلام مراراً
قال حاتم الأصم:( لو أن صاحب خبر جلس إليك ليكتب كلامك ؛ لاحترزت منه،وكلامك يعرض على الله- جل وعلا- فلا تحترز).

* وههنا أمر لابد من إبرازه :
لئن كانت غيبة العلماء من أشد وأقبح أنواع الغيبة ، فإن هذا لا يعني أن لحوم غيرهم من الناس مباحة ، بل هي محرمة كذلك ؛ قال تعالى : { ولا يغتب بعضكم بعضاً أيُحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه }. [سورة الحجرات ، الآية : 12 ]
وقال– سبحانه -{ والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً }. [ سورة الأحزاب ، الآية : 58]
ويقول(صلى الله عليه وسلم) مبيناً ذلك:(( كل المسلم على المسلم حرام : دمه وعرضه وماله )) رواه مسلم.
وقال (صلى الله عليه وسلم) في حجة الوداع: (( إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم ، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا..ألا هل بلغت)). متفق عليه.
وقال عليه الصلاة والسلام : (( أتدرون ما الغيبة؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ! قال : ذكرك أخاك بما يكره !! قيل : أ رأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)). رواه مسلم.
وفي سنن أبي داوود عن أنس - رضي الله عنه – قال : قالَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم):(( لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس ، يخمشون وجوههم وصدورهم . فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم )) . فكيف بالذي يقع في أعراض العلماء؟ ! أنه انتهاك بشع
ولابن القيم - رحمه الله- كلام نفيس في هذا المعنى ، خليقٌ أن يكتب بماء العيون ؛ لأنه ينطبق بدقة على حال كثير من طلاب العلم ، يقول : ( وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات ولا يبالي ما يقول ).


بعد هذه المقدمات المهمة ندلف إلى صلب الموضوع، وأول قضية سنبحثها هي :

أسباب أكل لحوم العلماء

1- الغَيرَة والغِيرة :
أما الغَيرَة –بالفتح - فهي محمودة ، وهي أن يغار المرء وينفعل من أجل دين الله، وحرمات الله - جل وعلا- لكنها قد تجر صاحبها – إن لم يتحرز- شيئا فشيئاً حتى يقع في لحوم العلماء من حيث لا يشعر .
وأما الغِيرَة – بالكسر- فهي مذمومة وهي قرينة الحسد،والمقصود بها هو : كلام العلماء بعضهم في بعض من ( الأقران ) . قال سعيد بن جبير: ( استمعوا لعلم العلماء ، ولا تصدقوا بعضهم على بعض،فوالذي نفسي بيده لهم أشد تغايراً من التيوس في ضرابها ) . أي : استفيدوا من علم العلماء ،ولكن لا تصدقوا كلام العلماء بعضهم على بعض ، من الأقران.
ولذلك قال الذهبي:(كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به،لاسيما إذا كان لحسدٍ أو مذهب أو هوى)

2- الحسد :
والحسد يُعْمي ويُصمّ ، ومنه التنافس للحصول على جاه أو مال، فقد يطغى بعض الأقران على بعض ، ويطعن بعضهم في بعض ؛ من أجل القرب من سلطان ، أو الحصول على جاه أو مال.

3- الهوى:
إن بعض الذين يأكلون لحوم العلماء لم يتجردوا لله – تعالى –وإنما دفعهم الهوى، للوقوع في
أعراض علماء الأمة . و اتباع الهوى لا يؤدي إلى خير ، قال - تعالى- : { ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله } . [سورة ص ، الآية : 26 ]
وقال – سبحانه - :{ فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم }. [ سورة القصص ، الآية : 50 ] وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( صاحب الهوى يُعْميه الهوى ويُصمه ).
وكان السلف يقولون: ( احذروا من الناس صنفين، صاحب هوى قد فتنه هواه ، وصاحب دنيا أعمته دنياه ).

4 - التقليد:
لقد نعى الله – تعالى – على المشركين تقليدهم آباءهم على الضلال : { إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون }. [ سورة الزخرف ، الآية : 22 ]
والتقليد ليس كلُّه مذموماً ، بل فيه تفصيل ذكره العلماء . ولكنني في هذا المقام أُحذر من التقليد الذي يؤدي إلى نهش لحوم العلماء ، فإنك - أحياناً - تسمع بعض الناس يقع في عرض عالم، فتسأله: هل استمعت إلى هذا العالم؟فيقول : لا والله . فتقول : إذن كيف علمت من حاله وأقواله كذا وكذا؟! فيقول: قاله لي فلان. هكذا يطعن في العالم تقليداً لفلان ، بهذه السهولة ، غير مراعٍ حرمة العالم .
قال ابن مسعود:( ألا لا يقلدنا أحدكم دينه رجلاً إن آمنَ آمن ، وإن كفرَ كفر ، فإنه لا أسوة في الشر).
وقال أبو حنيفة: ( لا يحلُّ لمن يُفتي من كُتُبي أن يُفتي حتى يعلم من أين قلتُ ).
وقال الإمام أحمد: ( من قِلة علم الرجل أن يقلِّد دينه الرجال ).

5 - التعصب:
من خلال سبري لأقوال الذين يتحدثون في العلماء – و بخاصة طلاب العلم و الدعاة – تبين لي أن التعصب من أبرز أسباب ذلك . والباعث على التعصب هو الحزبية ، الحزبية لمذهب أو جماعة أو قبيلة أو بلد ، الحزبية الضيقة التي فرقت المسلمين شيعاً، حتى صدق على بعضهم قول الشاعر :
وهل أنا إلا من غُزية إن غوت ****** غويت إن ترشد غزيةُ أرشد
سمعت أن بعض طلاب العلم يتكلمون في بعض العلماء ، وفجأة تغير موقفهم، وصاروا يثنون عليه ؛ لأنهم سمعوا أن فلاناً يثني عليه ؛ فأثنوا عليه ، وسبحان الله مغير الأحوال .
إذا ضل من يتعصبون له ؛ ضلوا معه، وإذا اهتدى للصواب ؛ اهتدوا معه . لقد سلَّم بعض الطلاب والدعاة عقولهم لغيرهم ، وقلدوا في دينهم الرجال .
* ولقد رأينا قريباً من ينتصر لعلماء بلده ، ويقدح في علماء البلاد الأخرى، سبحان الله ! أليست بلاد المسلمين واحدة ! أليس هذا من التعصب المذموم ! أليس من الشطط أن يتعصب أهل الشرق لعلماء الشرق ، وأهل الغرب لعلماء الغرب ، وأهل الوسط لعلماء الوسط ! .
إن هذا التعصب مخالف للمنهج الصحيح، الذي يدعونا إلى أن نأخذ بالحق مهما كان قائله ، ولهذا قال أبو حامد الغزالي في ذم التعصب:( وهذه عادة ضعفاء العقول ؛ يعرفون الحق بالرجال،لا الرجال بالحق ).

6 – التعالم :
لقد كثر المتعالمون في عصرنا ، وأصبحت تجد شاباً حدثاً يتصدر لنقد العلماء، و لتفنيد آرائهم وتقوية قوله ، وهذا أمر خطير ؛ فإن منْ أجهل الناس منْ يجهل قدر نفسه ، ويتعدى حدوده .

7- النفاق وكره الحق :
قال الله – تعالى - عن المنافقين :{ في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا }. [سورة البقرة ، الآية : 10 ]
{ وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنُؤمِن كما آمن السفهاءُ ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون} [سورة البقرة ، الآية 13 ] .
{ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون }[سورة البقرة ،الآية : 14 ] . * إن المنافقين الكارهين للحق؛من العلمانيين ، والحداثيين، والقوميين، وأمثالهم من أقوى أسباب أكل لحوم العلماء؛ لما في قلوبهم من المرض والبغض للحق وأهله .
ومن المؤسف الممضّ أنني استمعت في مجلس من المجالس إلى أحد هؤلاء ، المنافقين يستطيل في أعراض العلماء، فقلده بعض الطيبين من حيث لا يشعر، ووافقه على ما يقول ، حتى رُد عليه في ذلك المجلس .
إن العلمانيين الآن يتحدثون في علمائنا بكلام بذيء ، يعفُّ القلم عن تسطيره ، مما يدُلّ على ما في قلوبهم من الدغل ، ومعاداة ورثة الأنبياء ؛ وما يحملونه من الحق .

8- تمرير مخططات الأعداء كالعلمنة ونحوها:
أدرك العلمانيون - أخزاهم الله – أنه لا يمكن أن تقوم لهم قائمة، والعلماء لهم وشأن هيئة وهيبة في
البلد فأخذوا في النيل من العلماء، وشرعوا في تشويه صورة العلماء، وتحطيم قيمتهم، بالدس واللمز، والافتراء والاختلاف . لا أقول هذا جزافاً ولا رجماً بالغيب ، ولكن هو ما نقله إلينا الثقات من العلمانيين ،من كلام في العلماء لا يقبله عقل العاميّ ، فضلاً عن طالب العلم .

وسيأتي مزيد بيان وتوضيح لهذه القضية قريباً .


الآثار المترتبة على الوقيعة في العلماء :

إنّ هناك عواقب وخيمة ، ونتائج خطيرة ، وآثاراً سلبية ، تترتب على أكل لحوم العلماء؛ والوقوع في أعراضهم . يدرك تلك الآثار من تأمل في الواقع ، ووسع أفقه ، وأبعد نظره ، وإليك أهمها :


1- إن جرح العالم سبب في رد ما يقوله من الحق :
إن جرح العالم ليس جرحا شخصياً، كأي جرح في رجل عامّي ، ولكنه جرح بليغ الأثر ، يتعدى الحدود الشخصية ، إلى رد ما يحمله العالم من الحق .
ولذلك استغل المشركون من قريش هذه الأمر ، فلم يطعنوا في الإسلام أولاً ، بل طعنوا في شخص الرسول (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأنهم يعلمون – يقيناً - أنهم إذا استطاعوا أن يشوهوا صورة الرسول (صلى الله عليه وسلم) في أذهان الناس ؛ فلن يقبلوا ما يقوله من الحق، قالوا : إنه ساحر، كاهن ، مجنون ........... ولكنهم فشلوا - ولله الحمد – في ذلك .
وقد كانوا قبل بعثته يصفونه بالأمين، الصادق ، الحكم ، الثقة. فما الذي تغير بعد بعثته ؟ ما الذي حوله إلى كاهن، مجنون ، ساحر؟ إنهم لا يقصدون شخص محمد بن عبد الله ، فهم يعلمون أنه هُو هُوَ، ولكنهم يقصدونه بصفته رسولاً يحمل منهجاً هم يحاربونه ، فيعلموا أنهم إن استطاعوا تشويه صورته في نفوس الناس ؛ فقد نجحوا في صدهم عنه، وعما معه من الحق . هذا هو أسلوب المنافقين اليوم .

2- أن جرح العالم جرح للعلم الذي معه وهو ميراث النبي (صلى الله عليه وسلم) ؛ إذ العلماء ورثةُ الأنبياء، فجرح العالم جرحٌ للنبي عليه الصلاة والسلام ، وهذا هو معنى قول ابن عباس : ( أن من آذى فقيها فقد آذى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ومن آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد آذى الله - جل وعلا - )
إذن ، فالذي يجرح العالم ؛ يجرح العلم الذي معه.
ومن جرح هذا العلم ؛ فقد جرح أرث النبي (صلى الله عليه وسلم) ؛ وعلى ذلك فهو يطعن في الإسلام من حيث لا يشعر.

3- أن جرح العلماء سيؤدي إلى بعد طلاب العلم عن علماء الأمة، وحينئذ يسير الطلاب في طريقهم بدون مرشدين ؛ فيتعرضون للأخطار والأخطاء ، ويقعون في الشطط والزلل ، وهذا ما نخشاه على شبابنا اليوم .

4 - أن تجريح العلماء تقليل لهم في نظر العامة، وذهاب لهيبتهم ، وقيمتهم في صدورهم ، وهذا يسُرُّ أعداء الله ، ويفرحهم . يقول أحد الزعماء الهالكين في دولة عربية بعد أن سلط إعلامه على العلماء مستهتراً مستهزئا بهم - : ( عالم .. شيخ .. أعطه فرختين ؛ فيفتي لك بالفتوى التي تريد ).
لقد سقطت قيمة العلماء عند العامة، في كثير من الدول الإسلامية . ذهبت إلى بعض تلك الدول وسألت عن العلماء ، فما وجدت الناس يعرفون العلماء ، ولا يأبهون للعلماء ؛ لأن العلمنة سلطت سهامها عليهم ، فشوهت صورتهم ، ولطخت سمعتهم ؛ فأصبحوا من سقط المتاع ، في نظر كثير من الناس .

5 - تمرير مخططات الأعداء :
ومن الأمثلة الواقعية لذلك : الطعن في رجال الحُسْبة ، والطعن في القضاة ، والطعن في الدعاة .

* أما رجال الحسبة فكثير منهم طلاب علم ، وقد أصبحت أعراضهم ودماؤهم مستباحة، فتجد العامة والمنافقين والعلمانيين،يستطيلون في أعراضهم بل ربما وقع ذلك من بعض طلاب العلم، تجلس في بعض المجالس فتسمع الكلام السيئ في هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : أخطأ رجال الهيئة..... فعل رجال الهيئة.... ترك رجال الهيئة ......، سبحان الله ! أما يخطئ إلا رجال الهيئات!لماذا لا تذكر أخطاء غيرهم ؟!
اطلعت قريباً على فتوى لسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - ينبه فيها إلى خطورة
التعرض لطلاب العلم . وقصتها أن مجموعة من طلاب العلم اشتكوا أحد المسئولين- ويبدو أنهم زادوا في الشكوى- فأهينوا وسُجنوا . لكن هل سمعتم أن أحداً سجن لأنه تكلم في أعراض رجال الحسبة !!
لقد جاءني بعض شباب الهيئات ، يشتكون من تطاول الناس عليهم ، وعدم وجود من يحميهم ، حتى أصبحوا هم المتهمين .
ومع ذلك نجد بعض المحسوبين على الدعاة وطلبة العلم ، يستمرئون ركوب الموجة الخبيثة ، التي تهدف إلى محاربة الهيئات والقضاء عليها ، من حيث لا يشعرون .
إننا لو ذهبنا نحصي أخطاء الآخرين من غير رجال الهيئات لوجدنا أخطاءهم أضعاف أخطاء رجال الهيئات ، ولكنها قالّةُ سوءٍ روج لها الحاقدون ، وساعدهم عليها المغفلون .
* أما القضاة فهم كذلك ، يتعرضون للطعن فيهم ، وأكل لحومهم ، فإنك تجد كثيراً من الناس ، يرددون أن القاضي الفلاني فيه كذا، القاضي الفلاني فعل كذا، القاضي الفلاني اشترى أرض كذا، والقاضي الفلاني اشترى السيارة الفاخرة ، القاضي الفلاني يؤخر المعاملة ، حتى قال قائلهم : نحن لسنا بحاجة إلى القضاة وتعقيداتهم ، القانون الفرنسي أرحم لنا منهم .
سبحان الله !! هل الخطاء خاص بالقضاة وغيرهم ملائكة !! إنها حملة مقصودة ، ينفخ فيها الضالون؛ من أجل تحطيم القضاء الشرعي.
وأنا حين أذكر ذلك لا ألقي بالقول على عواهنه ، وإنما أتكلم عن واقع ، فهناك من يُطالب بالقانون الفرنسي ، وما نظام المرافعات الذي ألغي - ولله الحمد- إلا مثال لذلك ، وقد كان على وشك التطبيق، ولا يسعنا إلا أن نشكر من كان سبباً في إلغائه .
إن نظام المرافعات مأخوذ من النظام المصري بحروفه ، والنظام المصري مأخوذ من القانون الفرنسي .
والحمد لله الذي وفق العلماء ، وطلاب العلم ، لتدارك هذا الأمر، ووفق ا المسئولين للاستجابة .
* وأما الحديث عن الدعاة فحدث ولا حرج ، لقد وصم الدعاة بألقاب لم نكن نعرفها، وصفوا بالمتطرفين ، ووصفوا بالمتزمتين، و... و... إلى آخر القاموس الظالم، الذي سلطه الحاقدون على الدعاة؛ تشويهاً لسمعتهم ؛ وتبشيعاً لواقعهم في عقول الناس .
كل تلك الحملات الشعواء على العلماء وطلاب العلم والقضاء والمحتسبين والدعاة ؛ تؤدي إلى تمرير مخططات الأعداء ، وتحقيق أهدافهم . فاليقظة اليقظة .


المنهج الصحيح والعلاج الناجح لهذه القضية

وبعد أن عرفنا الآثار المترتبة على أكل لحوم العلماء ، ننتقل إلى بيان المنهج الصحيح ،ووصف العلاج الناجح تجاه تلك القضية ، وذلك في نطاق آفاق ثلاثة :
1- ما يجب على العلماء في هذا المجال .
2- ما يجب علينا تجاه العلماء .
3- السبيل السليم لبيان الحق ، بدون الوقوع في العلماء .

أولاً : ما يجب على العلماء :
إن على العلماء أن يحُموا أنفسهم ، ويسدوا الذرائع المفضية إلى أكل لحومهم . وقدوتهم في ذلك محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال :(( على رسلكما . إنها صفية ))هكذا دافع المصطفى عليه الصلاة والسلام عن نفسه وحمى عرضه ، مع أن الموقف مع صحابته الأطهار الأخيار، حتى لقد استغربوا من قوله، فبين لهم أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم.
ويمكن بيان كيفية حماية العلماء لأنفسهم في الأمور التالية :
1- أن يكون العالم قدوة في علمه وعمله: ومن هنا جاء في القرآن التحذير من تخالف العلم والعمل، قال تعالى: { أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون}[سورة البقرة ، الآية : 44 ]
وقال – جل شأنه - : { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون . كبُر مقتاً عند الله أن تقولون مالا تفعلون } ،[سورة الصف ، الآية :2 ]
وحديث الذي يدور في النار كالحمار ، مشهور معروف وصدق الشاعر حيث يقول :
يـا أيها الرجل المعلم غيره ****** هلا لنفـسـك كـان ذا التعلـيم
لا تنه عن خلق وتأتي غيره ****** عار عليك إذا فعلت عـظـيم

2 - أن يتثبت العالم في الفتوى ويكمل شروطها :
فإذا طُلب من العالم أن يفتي في أمر ما ، فعليه أن يتأمل ويتأني ، ويتتبع أسباب الاستفتاء ، والآثار المترتبة على فتواه ، والمراد الحقيقي من هذه الفتوى، ثم يُفتي بعد أن يستكمل شروط الفتوى : من فقه الأصول ، وفقه الفروع ، وفقه الواقع.
ولا يصح أن يكتفي العالم بأن يُقال له : الأمر كيت وكيت . ثم يبني فتواه على ما قيل له ، بدون تثبيت وتأكُّدٍ وتتبع ؛ فيعرض نفسه للألسنة لتقع فيه ، وتنال منه ، بسبب تعجله وعدم تحريه .

3- أن يحذر العالم من الاستدراج، والاستغفال والتدليس :
هناك من يستدرج العلماء، وهناك من يستغفلهم ، هناك من يُلبّس عليهم، ولذلك يجب على العالم أن يكون فطناً متنبهاً ، كما قال عمر - رضي الله عنه- :( لست بالخب ولا الخب يخدعني ) . وهذا لا ينافي سلامة القلب ، والأخذ بالظاهر ، ولكنه يعني الحيطة والحذر .

4- أن يكون جريئا في الحق ، لا تأخذه في الله لومة لائم :
جرأة في الحق من أهم الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها العالم، بحيث ينكر المنكر ، ويأمر بالمعروف ، ويقول للمسيء : أسات . كائناً من كان ذلك المسيء . وللعلماء اليوم أسوةٌ فيمن سلف من علماء الأمة .
ولْنَسُقْ هنا ثلاثة أمثلة للجرأة في الحق ، من عصور مختلفة :

المثال الأول: موقف أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه – مع مروان بن الحكم ، عندما دخل مروان المصلي في يوم العيد ، واتجه إلى المنبر ليخطب قبل الصلاة ، فجذبه أبو سعيد ، وقال منكراً عليه : غيرتم والله . فقال مروان : قد تُرك ما هنالك .
هكذا أنكر عليه علانية ولم يقل : أكتُبُ له الإنكار في ورقة ، ليكون نصيحة سرية بيني وبينه

المثال الثاني : موقف العز بن عبد السلام ( سلطان العلماء ) مع الملك الصالح أيوب .
كان الملك الصالح أيوب يتولى الشام ، وبسبب خلاف بينه وبين أبناء عمه تنازل للنصارى عن بعض الحصون.
فلما خطب العز بن عبد السلام في جامع بني أمية بدمشق يوم الجمعة كان مما قال : ( اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشداً ، يُعز فيه أهل طاعتك ، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهي فيه عن المنكر ). وأفتي الناس بعدم جواز بيع الأسلحة للنصارى الذين أخذوا يشترونها من دمشق .
فغضب الملك ، سجن العز بن عبد السلام ، ومنْ قبله سُجن الإمام أحمد ، وكثير من العلماء: { أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون } . [سورة العنكبوت ، الآية : 2]
ثم أرسل الملك إلى العز في السجن أحد أعوانه وحاشيته ، فقال له: أنا سأتوسط لك عند الملك ليخرجك ، ولكني أريد منك شيئا واحداً فقط ، وهو أن تعتذر إلي الملك وتقّبل رأسه. فقال العز : دعك عني ،والله لا أرضي أن يقبل السلطان يدي ،عافاني الله مما ابتلاكم به ، يا قوم أنا في واد و أنتم في واد.
ذهب الملك لمقابلة قادة النصارى ، فأخذ معه العز بن عبد السلام ، وسجنه في خيمة ، وبينما كان الملك جالساً مع النصارى، إذا بالعز بن عبد السلام يقرأ القرآن ، ويصل صوته إليهم ،
فقال الملك : أتدرون من هذا الذي تسمعون ؟
قالوا : لا .
قال : هذا من أكبر قساوستنا – ولم يقل : علمائنا –
أتعلمون لماذا سجنته ؟ قالوا : لا .
قال : لأنه أفتى بعدم جواز بيع السلاح لكم .
فقال النصارى : والله لو كان هذا قسيسا عندنا لغسلنا رجليه وشربنا مرقتها.
فخجل الملك وأطرق ، وأمر بالإفراج عن العز بن عبد السلام.

المثال الثالث : موقف الشيخ الخضر حسين شيخ الأزهر مع محمد نجيب - إذ عندما قامت الثورة في مصر، قال محمد نجيب : سنساوي الرجل بالمرأة.
فاتصل به الشيخ الخضر حسين ، وقال له: إما أن تتراجع عن قولك ،أو لأخرجن غداً لابساً كفني - ومعي جميع الأزهريين – في الشوارع ، فإما الحياة ، وإما الموت.
فجاءه محمد نجيب وجاءته الوزارة مرددين: يا شيخنا،يا إمامنا ، نحن نعتذر منك،والكلام كان خطأ.
فقال الشيخ : لا تعتذروا لي ، وإنما أعلنوا الاعتذار للعامة.
فقالوا : صعب جداً أن نعتذر أمام العامة .
فقال: إما أن تعتذر يا محمد نجيب أمام الناس عن كلامك وتنفيه،أو سأخرج للشارع غداً لابساً كفني.
فأعلن محمد نجيب من الغد أن الصحافة كذبت عليه، وأنه لم أقل شيئا مما نشرت عنه .
هكذا يُملي العلم ُ والإيمان على العالم الجرأة في الحق ، فلا تأخذه في الله لومة لائم، فيبرئ ذمته، ويحمي عرضه من أن يجعله الناس هدفاً ، يصوبون إليه سهامهم .
وإقحام ( خوف الفتنة ) تبريراً لكل موقف تنقصه الشجاعة في الحق أمر فيه نظر .


ثانياً : ما الواجب علينا اتجاه علمائنا :

1- أن نحفظ للعلماء مكانتهم و فاعليتهم في قيادة الأمة وأن نتأدب معهم :
إن في معاملة السلف لعلمائهم لقدوةً لنا ، يجب الإقتداء بها ن وإن فيما سطّروه من بيان ٍ لآداب طالب لنوراً ، ينبغي لشُداةِ العلم أن يستنيروا به في طريق الطلب .
قال العراقي: (لا ينبغي للمحدث أن يحدث بحضرة من هو أولى منه بذلك، وكان إبراهيم والشعبي إذا اجتمعا لم يتكلم إبراهيم بشيء ).
وقال ابن الشافعي: ( ما سمعت أبي ناظر أحداً قط فرفع صوته ).
وقال يحيى بن معين: ( الذي يحدث في بالبلد وفيها من هو أولى منه بالتحديث فهو أحمق ).
وقال الصُّعلوكيّ: ( من قال لشيخه: لم - على سبيل الاستهزاء - لم يفلح أبدا ).
وتأدب ابن عباس – رضي الله عنه - مع عمر ابن الخطاب -رضي الله عنه - حيث مكث سنة يريد أن يسأله عن مسألة من مسائل العلم ، فلم يفعل .
وقال طاووس بن كيسان : ( من السُّنة أن يُوقر العالمُ ).
وقال الزهري : ( كان سلمةَ يماري ابن عباس ؛ فحُرم بذلك علماً كثيراً ).
وقال البخاري : ( ما رأيت أحدا أوقر للمحدثين من يحيى بن معين ).
وقال المغيرة: ( كنا نهاب إبراهيم كما نهاب الأمير ).
وقال عطاء بن أبي رباح : ( إن الرجل ليحدثني بالحديث، فأنُصت له كأني لم أسمعه أبداً . وقد سمعته قبل أن يولد ).
وقال الشافعي: ( ما ناظرت أحداً قط إلا وتمنيت أن يجري الله الحق على لسانه).
ذُكر أحد العلماء عند الإمام أحمد بن حنبل - وكان متكئاً من علة - فاستوى جالساً وقال لا ينبغي أن يذكر الصالحون فنتكئ .
وقال الجزري: ( ما خاصم ورع قط ) .
وبمثل هؤلاء يحسن الإقتداء { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } . [ سورة الأنعام ، الآية : 90 ]

2- أن نعلم أنه لا معصوم إلا من عصم الله ، وهم الأنبياء والملائكة.
وعلى ذلك فيجب أن ندرك أن العالم معرضٌ للخطأ ، فنعذره حين يجتهد فيخطئ ، ولا نذهب نتلمس أخطاء العلماء ونحصيها عليهم .
ولقد كان سلف الأمة – رحمهم الله – يستحضرون هذا الأمر ، ويفقهونه حقَّ الفقه .
قال الإمام سفيان الثوري: ( ليس يكاد يثْبُتُ من الغلط أحد ).
وقال الإمام أحمد: ( ومن يعرى من الخطأ والتصحيف !! ).
وقال الترمذي: ( لم يسلم من الخطأ والغلط كبيرُ أحدٍ من الأئمة مع حفظهم ).
وقال ابن حبان : ( وليس من الإنصاف ترك حديث شيخ ثبت صحة عدالته بأوهام يهم في روايته، ولو سلكنا هذا المسلك تُرك حديث الزهري، وابن جُريج، والثوري ، وشعبة ، لأنهم أهل حفظ وإتقان، ولم يكونوا معصومين حتى لا يهموا في رواياتهم ).

3 - أن ندرك أن الخلاف موجود منذ عهد الصحابة وإلى أن تقوم الساعة :
لذلك يجب أن تتسع صدورنا للخلاف بين العلماء ، فلكل واحد منهم فهمه ، ولكل واحد إطلاعه على الأدلة ، ولكل واحد نظرته في ملابسات الأمور ؛ فمن الطبيعي أن يوجد الخلاف بينهم ، وانظر ما ذكره كثير من العلماء في هذا الموضوع ، ككتاب (( رفع الملام عن الأئمة الأعلام )) ، لشيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - .

4- أن نفوت الفرصة على الأعداء، و ننتبه إلى مقاصدهم وأغراضهم، وأن ندافع عن علمائنا،لا أن نكون من وسائل تمرير مخططات الأعداء من حيث لا يشعرون

5 - أن نحمل أقوال علمائنا وآراءهم على المحمل الحسن، و ألا نسيء الظن فيهم ، وإن لم نأخذ بأقوالهم.
حقاً أننا لسنا ملزمين بالأخذ بكل أقوال العلماء،لكن ثمة فرقاً كبيراً بين عدم الأخذ بقول العالم- إذا كان هناك دليل يخالفه - الجرح فيه ، فلا يعني عدم اقتناعنا برأي العالم أن نستبيح عرضه ، ونأكل لحمه .
ولقد كان الإمام الشافعي – رحمه الله - يقول: ( إذا صح الحديث فهو مذهبي ) ونُقل ذلك عن غير واحد من الأئمة ؛ فقد كانوا يُدركون أنه ليس أحد متعبداً بقول عالم ، فقد يكون قوله مخالفاً للدليل ، لأنه لم يبلغه – مثلاً – لكن تبقى حرمةً العالم مصونة ً من الطعن والوقيعة .
قال عمر - رضي الله عنه- : ( لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المسلم سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً ).

6 - أن ننتبه إلى أخطائنا وعيوبنا نحن، وننشغل بها عن عيوب الناس عامة، وعن أخطاء العلماء خاصة.
يا واعظ الناس قد أصبحت متهما ****** إن عـبت منهـم أمورا أنت تأتـيها
وأعظـم الإثـم بعـد الـشرك نـعـلمه ****** في كل نفس ؛عماها عن مساويها
عـرفـتها بعـيوب الناس تــبـصرهـا ****** منـهم ولا تبصر العيب الذي فيها
وما مثل من يقع في أعراض العلماء وينسى نفسه إلا كما قال الشاعر :
كناطح صخرة يوما ليوهنها ******** فلم يضرها ، وأوهى قرنه الوعــــــل
أو كما قال الآخر :
يا ناطح الجبل العالي ليثلمه ******** أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل

قد يقتصر العالم، ولكن هل يعني تقصيره أن نترك علمه وعمله ؟!
أعمل بعلمي وإن قصرت في عملي ******* ينفعك علمي ، ولا يضررك تقصيري


ثالثاً : السبيل السليم لبيان الحق ، بدون الوقوع في العلماء .
بعض الناس اليوم وقعوا بين إفراط وتفريط، ففريق يطعنون في العلماء ويتهمونهم كلما قالوا شيئاً.
وفريق آخر ، إذا سمعوا عالماً أو طالب علم يُبين الحق بدليله قالوا : إنه يقع في أعراض العلماء ، ويُحدث فتنة .
وكلا الفريقين مجانب للمنهج الصحيح في هذا الباب .
فما المنهج الصحيح الذي نجمع فيه بين بيان الحق وحماية أعراض علمائنا , غير ملتزمين بقولٍ إلا إذا كان مقروناً بالدليل ؟
يمكن توضيح ذلك المنهج كما يلي :

1 - التثبت من صحة ما ينسب إلى العلماء .
فقد ُتشاع عن العلماء أقوال ؛ لأغراض لا تخفي . فيجب التأكيد مما يُنقل عن العلماء ،فقد يكون غير صحيح ، ولا أساس له ، وكم سمعنا من أقوالٍ نُسبت إلى كبار علمائنا، ولما سألناهم عنها تبين أنمهم بُراءُ منها . هناك غير قليل من الناس يجلس أحدهم في المجلس ويقول: الشيخ فلان - هداه الله- وفيه كَيْتَ وكيت . فتسأله : لماذا ؛ فيقول : إنه يقول : كذا وكذا . حتى إذا ذهبت إلى ذلك الشيخ وسألته عن صحة ما نُقل عنه ؛ قال : والله ما قلت شيء من هذا !
إذن، فالتحقيق من صحة ما يُعْزي إلى العالم يُعد خطوة أولى في المنهج الصحيح، الذي نحن بصدده.

2 – أن نعرف أن عدم الأخذ بقول العالم ، وأن مناقشته والصدع ببيان الحق، يختلف تماماً عن الطعن في العلماء
، فالفرق بين الأمرين عظيم جداً . يجوز لنا ألا نأخذ بالفتوى ، إن لم توافق الدليل، ولكن لا يجوز لنا الطعن في العلماء.

3 - أن يقصد المتحدث بكلامه وجه الله - جل وعلا -
فيستحضر الإخلاص،ويحذر من الأغراض الشخصية العارضة كالهوى، والتشفي،وحب الظهور،{ فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً }.[ سورة الكهف ، الآية : 110 ]
ولينتبه فإنه قد يكون ردُّه في الأصل بإخلاص وتجرد لله ، ثم تدخل عليه أعراض يوسوس إليه بها الشيطان ، من حب البروز وغيرها من الآفات المفسدة للنية .


4 - الإنصاف والعدل :
ا المتأمل في واقع بعض طلاب العلم يجدهم إما أن يأخذوا كل ما يقوله العالم، أو يردُّوا كل ما يقوله، وهذا خلاف ما أمر الله – تعالى – به من العدل والإنصاف ، قال تعالى : { ولا يَجْرمَنَّكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} [ سورة المائدة ، الآية : 8 ]
والعدل الإنصاف هو منهج أهل السنة والجماعة ،
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ( أهل السنة أعدل مع المبتدعة من المبتدعة بعضهم مع بعض ).
والعدل والإنصاف مع العلماء يتضمن أموراً :
أ- الثناء على العالم بما هو أهل له .
ب- عدم التجاوز في بيان الخطأ الذي وقع فيه , فإذا وقع أحد العلماء في خطأ، وأردت أن تبين خطأه، فلا تذهب تُحصي جميع أخطائه ، وتستطيل في عرضه ،وإنما احصر حديثك في القضية التي تريد بيان الحق فيها ، ولا تتجاوزها ، وإياك أن يستجرك أحد إلى تجاوزها .

5 - أن نسلك منهج رجال الحديث في تقويم الرجال :
إن على منْ يتصدى لبيان الحق في مسألة أخطاء فيها أحد العلماء ، أن يسلك المنهج الدقيق المنصف الذي رسمهُ رجال الحديث - رحمهم الله - وثمة رسالة جملية مختصرة ،صغيرة في حجمها، كبيرة في قيمتها ، تبين هذا المنهج ، وعنوانها :منهج أهل السنة والجماعة في تقويم الرجال ومؤلفاتهم/ للشيخ : أحمد الصويان . فأحيل القارئ الكريم إليها , ففي النهر ما يعني عن الوشل .

6- أن نعلم أن خطأ العالم على نوعين :
خطأ في الفروع ، وخطأ في الأصول .
* أما مسائل الفروع فهي مسائل اجتهادية ، يجوز فيها الخلاف ، فإذا أخطاء فيها العالم ؛ بيّناّ خطأه فيها ، بدون تعرض لشخصه .
* وأما مسائل الأصول ( العقيدة )، فيبيَّن القولُ الصحيح فيها ، ويحذر من أهل البدع في الجملة، وينبه إلى خطورة الداعي إلى بدعته ، بدون إفراط ولا تفريط.
يقول شيخ الإسلام : ( أهل السنة أعدل مع المبتدعة من المبتدعة بعضهم مع بعض ) ، فالمبتدعة يأكل بعضهم لحوم البعض، وكل فئة تغمط الأخرى حقَّها،وأما أهل السنة فينصفون ،حتى مع الكفار،فضلاً عمَّن كان مخطئاً خطأ ً دون الكفر .
إن بعض الناس اليوم يميلون ميلا ً عظيماً عن طريق أهل السنة والجماعة في هذا الباب،فقد
استمعت منذ فترة إلى قصة مؤلمة محزنة، أوهي أن نفراً اتهموا احد الدعاة بأخطاء في العقيدة، ولم يقتصروا على بيان أخطائه العقدية ، بل مضوا يذكرون عنه قصصاً شخصية في بيته : عن زوجته ، وعن بنته ، وعن أولاده . سبحان الله ! لماذا الحديث عن وزوجته ابنته وأولاده؟! ما الداعي للطعن في شخصه ؟! حقاً أننا لا نحث على السكوت عن الخطأ ، ولكننا ندعو إلى الأسلوب الصحيح ، لبيان الحق ، وتوضيح الخطأ .

7- أخيرا ، إذا أمكن الاتصال بمن وقع منه الخطأ- سواء في الأصول أو الفروع، لعله يرجع إلى الصواب ، فهذا أولى .
لأن الحق هو المقصود، وفي رجوع المخطئ بنفسه عن قوله وإعلانه ذلك للناس خير كثير؛ لأنك إن رددت عليه ، وبينت الحق ؛ فقد يقتنع نصف الناس، وإما إذا رجع هو بنفسه بعد مناصحتك له ، وتخويفك إياه بالله ؛ فسيقتنع كل الناس الذين أخذوا بقوله .
ومما يذكر في هذا المقام أن اثنين من العلماء اختلفا في مسألة ، فلم يذهب كل واحد منهما يخطئ صاحبه عند الناس ، بل اجتمعا وتناظرا ، فكانت نهاية المناظرة أن أخذ كل واحد منهما بقول الآخر ؛ لأن مرادهما هو الحق .


وفي الختام ...

هناك أمور لابد من بيانها :

أولاً - أننا لا ندعو إلى تقديس الأشخاص ، أو التغاضي عن الأخطاء ، أو السكوت عن الحق. بل ندعو إلى المنهج الصحيح في بيان الحق، بدون انتهاك لأعراض العلماء. فلا إفراط ولا تفريط ،ولا غلو ولا جفاء.

ثانياً - انطلقت في الأيام الماضية دعوى الإجماع ، ولقد وردتني أسئلة كثيرة تقول : فلان يخالف إجماع العلماء، فلان يخالف ما أجمع عليه العلماء ، يُريد أن يحدث فتنة.
وأقول لهؤلاء : إن الإجماع ليس بالأمر اليسير ، هناك فرق كبير جداً بين الإجماع والاجتماع.
ا لإجماع - كما بينه العلماء- : هو أن يُجمع علماء الأمة المعتدُّ بهم في عصر من العصور على مسألة من المسائل . ولو خالف واحد منهم ؛ لم ينعقد الإجماع.
ا ليس لإجماع إجماع علماء بلد فقط ، بل هو إجماع علماء الأمة المعتد بهم في مشارق الأرض أو مغاربها .
إذن ، فالإجماع له ضوابط و شروط، وليس أمراً هيناً . ولذلك قال بعض العلماء : أن الإجماع لم ينعقد بعد الصحابة .
فليتريث الذين يدعون الإجماع ، وليعلموا أن العبرة ليست بكثرة القائلين بقول ما وإنما العبرة بصحة القول المقرون بالدليل .

ثالثاً - قد يفتي بعض العلماء بفتوى لها أسبابُها، فيخالفهم فيها آخرون من العلماء أو طلبة العلم، فيُطْعن ُفي المخالف ، ويُتّهم بإثارة الفتنة ، وحب الظهور ، وسرقة الأضواء ، وقلة العلم ....إلخ .
وهذا تصرف غير سليم ، فعلينا أن ننتبه ، في هذا الأمر ، لما يأتي :
( أ ) أن كلا ًّيؤخذ من قوله ويُرد ، إلا الرسول (صلى الله عليه وسلم) وما جاء به.
(ب) أن المخالفيِن علماءُ، كما أن المخالَفين علماءُ، فيجب تقدير المخالفين، وحفظ أعراضهم، وعدم
أكل لحومهم .
( ج ) أن نعلم أن الرجال يعرفون بالحق ، وليس الحق يعرفُ بالرجال.
( د ) أن نتثبت من صحة الفتوى واكتمال شروطها عند كل فريق من الفريقين ، فالمهم هو صحة
الفتوى، واكتمال شروطها ، بغض النظر عن الفريق الذي صدرت منه من الفريقين .
( هـ ) أن مسائل الاجتهاد يسوغ فيها الخلاف،ولقد وقع الخلاف بين الصحابة في فهم قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (( لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قُريضة )) . رواه البخاري .
ووقع الخلاف بينهم بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، لكن ذلك لم يؤد بهم إلى الفتنة وطعن في الأعراض .
فيجب إذن ، ألا نضيق على أنفسنا ، وأن تتسع صدورنا للخلاف في المسائل الاجتهادية .
( و ) أن المخالفة ليس خطأ ، ولا عبرة هنا بصغر سنّ المخالف أو كبره ، بل العبرة بتوافر شروط
الفتوى ، ولم يزل العلماء قديماً وحديثاً يُخالف صغيرهم كبيرهم، وقد يكون الحق مع الصغير .
ومن أمثلة ذلك أن ابن تيمية- رحمه الله - خالف علماء بلده ممن هو أكبر منه سناً، وثبت أن الحق معه .

ومن الأمثلة – كذلك – أن سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز – حفظه الله - خالف سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله – في حياته في فتوى أفتى بها ، ولم يقل الشيخ محمد : من أنت حتى تخالفني ، وهذا دليل على رسوخ علم الشيخ محمد – رحمه الله - وما قال الناس ذلك . وكان الراجح هو قول الشيخ عبد العزيز .

رابعاً - لماذا تبرز أخطاء العلماء أكثر من غيرهم ؟
السبب في ذلك هو أن العلماء هم صفوة الأمة ، وخيارها وقدوتها ، وأحمدُها سيرةً ، فإذا وقع منهم خطأ كان واضحاً جلياً ؛ لأنه بمثابة النقطة السوداء في صفحتهم الناصعة البيضاء . ولذلك قيل: زلّةُ العالم مضرب بها الطبل.
وما مثلُ العالم إلا كمثل الثوب الأبيض، إذا أصابته نقطة - مهما كان صغرها- برزت فيه وظهرت.
ومن هنا وجب على العلماء أن ينتبهوا لذلك الأمر؛ بأن يتفقدوا أنفسهم ، ويتفطنوا لأعمالهم وتصرفاتهم وأقوالهم . كما وجب - كذلك - على الناس ألا يضخموا هفوات علمائهم ولا ينفخوا فيها .

خامساً - احذر من الذم الذي يشبه المدح :
بعض الناس يُسهب في الثناء على شيخ من المشايخ ، ويخلع عليه من نعوت الفضل وألقاب التوقير شيئاً كثيراً ، ثم يقول – مثلا ً- : ( لكن الشيخ حبيب ) أو طيب القلب ، وهو يقصد أنه قد يُستغفل ، أو غير ذلك من الأساليب المغلفة بغلاف المدح ، وهي للتَّنقُّص . وإن على هؤلاء الذين يستخدمون هذه الأساليب، أن يخافوا الله ويتقوه ، وأن يدركوا خطورة ما يقولون ، وأن يتوبوا إلى الله، ويستغفروه ، وإن يعتذروا ممن انتقصوه .

سادساً : أن من أساء الأدب مع العلماء فسيلقى جزاءه عاجلاً أو آجلاً .
قال الإمام الذهبي في ترجمة ابن حزم : ( وصنف كتباً كثيرة ، وناظر عليه ، وبسط لسانه وقلمه، ولم يتأدب مع الأئمة في الخطاب . بل فجج العبارة، وسب وجدع فكان جزاءه من جنس فعله، بحيث إنه أعرض عن تصانيفه جماعة من الأئمة، وهجروها ، ونفروا منها ، أحرقت في وقته ).
والواقع يشهد أن الذي يسب العلماء، ويتجرأ عليهم ، يسقط من أعين العامة والخاصة.
ويقول الحافظ ابن رجب: ( والواقع يشهد بذلك، فإن من سبر أخبار الناس ، وتواريخ العالم ؛ وقف على أخبار من مكر بأخيه ، فعاد مكره عليه، وكان ذلك سببا لنجاته وسلامته ) أي : سبباً لنجاة الممكور به وسلامته .

سابعاً : على العلماء وطلاب العلم الذين يبتلون بالتعريض للطعن ، وكلام الناس فيهم ؛ عليهم أن يصبروا ويتقوا الله ، وأن ليعلموا أنهم ليسوا أفضل من الأنبياء والمرسلين، فالرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يسلم من الكلام فيه ، وطعن حتى في أهله ؛ في حادثة الإفك .
فللعلماء أسوة في رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فليقتدوا به ، وليعلموا أن العاقبة للمتقين ، قال تعالى : { قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } [سورة يوسف ، الآية :90 ] .
وقال – جل وعلا - عن موسى : { قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين }. [سورة الأعراف ، الآية : 128 ]
وقال – سبحانه - : { ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله }. [سورة فاطر ، الآية : 43]
وصدق من قال:
ولـست بنـاج ٍ من مقــالــة طاعـن ****** ولو كنت في غار على جبل وعر
ومن ذا الذي ينجو من الناس سالما ****** ولو غاب عنهـم بين خافـيتي نـسر

ثامناً - احذر من التعميم : إن قضية التعميم في الأحكام قضية خطيرة جداً ، وقد وقع كثير من الناس في هذه الظاهرة التي تدل على قلة الوعي وعدم الإنصاف ، ترى أحدهم يقول : العلماء فعلوا ، والعلماء قالوا ، والعلماء قصروا ، والعلماء غلطوا – بهذا التعميم - . والتصرف السليم أن يُعمَّم في الخير ، ولا يُعمَّم في الشر ، ومن فضل الله تعالى أن الرحمة تعم كالمطر ، والعقاب يخص { وكلا أخذنا بذنبه } ومن كرمه سبحانه أن الرحمة تشمل خليط الأخيار – وإن لم يكن منهم - : (( هم القوم لا يشقى بهم جليسهم )) . ولقد اطلع الله على أهل بدر فقال : (( اذهبوا مغفوراً لكم )) متفق عليه . وأما العقاب: {ولا تزر وازرة وزر أخرى }. [ سورة الأنعام ، الآية : 164 ].

تاسعاً - أخيراً أقول للمتحدثين في العلماء: اتقوا الله، توبوا إلى الله، أنيبوا إلى الله ، واثنوا على العلماء بمقدار غيبتكم لهم، و إلا فأنتم الخاسرون ، العاقبة للمتقين . وما مثلكم إلا كما قال الأول :
كناطح صخرة يوما ليوهنها ****** فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل.
وقول الآخر :
يا ناطح الجبل العالي ليثلمه ****** أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل
فنتبهوا، وصححوا المنهج ، وانظروا في العواقب،واحفظوا حرمات الله ، يحفظكم الله، ويغفر لكم.

هذا ، أسال الله أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعيذنا من فتنة القول والعمل . والله أعلم ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .


هذا الكتاب

* إلى كل من ابتلي بالوقوع في العلماء فخط قلمه ُ ونطق لسانه .
* إلى الذين جعلوا الطعن في العلماء العاملين سبيلهم فاتهموهم في مقاصدهم وحملوا ألفاظهم مالا تحتمل واجلبوا عليهم بالخيل والرجْل ِ .
* إلى الذين صرفوا همتهم وأنفقوا طاقتهم في مواجهة أهل العلم والشغب عليم .
* إلى كل هؤلاء نقول : أولا:
اعلموا هداكم الله – أن لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك أستار منتقصهم معلومة .
ونقول ثانياً :
يا نطح الجبل العالي ليثلمه ******** أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل
ونقول ثالثاً وأخيراً :
إن الأمة تثق بعلمائها ولن تقبل الطعن فيهم من كل حاقد متربص .
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين . آمين

الناشر