صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







سياسة الملك عبدالعزيز والعلماء في تحقيق الأمن الفكري للسعودية

سليمان بن صالح الخراشي

 
يقول الله عزوجل مذكرًا عباده المؤمنين بنعمة عظيمة ؛ هي نعمة الوحدة الإيمانية والتآلف من بعد التشتت والتفرق : ( واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا) . تذكرت هذه الآية الكريمة وأنا أتأمل تاريخ بلاد التوحيد قبل توحدها على يد الملك عبدالعزيز رحمه الله ؛ حيث الفرقة ، وتنازع الآراء والأهواء ، والتباغض بين أهلها ؛ إلى أن أذن الله باجتماعهم على الدين القــويم . وأتأمل حـنكة وسياسة الملك عبدالعزيز ومن معه من العلماء الثقات الذين استطــاعوا - بفضل الله - أن يحافظوا على هذه الوحدة وهذا الانسجام بين أفراد الوطن الكبير ؛ رغم تعدد قبائله وتباين مناطقه ، وذلك عن طريق نشـر الخير بين أهله وربطهم به وبالدعوة إليه ، والتصدي بحزم لكل من يهدد الأمن الفكري فيه ؛ ممن جبلت نفسه على حب الشقاق والمراء ، والسعي لمزاحمة دعوة التوحيد الجامعة بمختلف الولاءات والطموحات المفرقة .

هذا الحزم في الحق الذي لمسنا - كما لمس أجدادنا وآباؤنا - آثاره ، ونعمنا بنتائجه سنين عددا ؛ حيث الولاء الواحد ، والأمن البدني والفكري ،والتآلف ، والطمأنينة والسكينة التي تميز هذا البلد عن غيره .

وتذكرت - أيضًا - مقولة الأستاذ محمود شاكرمتألمًا من الحال التي وصلت إليها بلاده ( مصر ) من حيث كثرة التنافر بين أهلها ؛ عندما قال : ( إن تعدد الثقافات في الشعب الواحد قد أفضى إلى شر آثاره ؛ حيث تنابذت العقول على المعنى الصحيح ، واختلفت المناهج المؤدية إلى الغايات ، وكذلك يبقى الشعب إلى النهاية وهو في بدء لا ينتهي ، وفي اختلاف لا ينفضّ ) . ( انظر جمهرة مقالات محمود شاكر ، جمع الدكتور عادل جمال ، ( 1 / 143 ).

لقد علم الملك عبدالعزيز ومن معه من العلماء رحمهم الله أن المسلمين من أهل هذه البلاد لا يصلحهم سوى الالتفاف على مبدأ واحد ؛ هو الدعوة السلفية التي أنعم الله بها عليهم ، والبعد عن كثرة القيل والقال ، والخوض فيما لا ينفع ، والانصراف والاشتغال بما يفيدهم ويفيد بلادهم .

ولهذا : قرر رحمه الله التصدي لكل من يريد العبث بمكتسبات هذه البلاد الدينية والدنيوية .

ومن ذلك : أنه في بداية توحيد المملكة نمى إلى علم علماء الدعوة أن البعض بدأ بالتشغيب والتعدي ؛ بنشر الآراء الشاذة و الفتاوى الفردية التي تبلبل أذهان العوام ، وتصرفهم عما ينفعهم ، وتوقعهم في التنازع والاختلاف . عندها قرر العلماء رحمهم الله رفع هذا الأمر الخطير للملك عبدالعزيز رحمه الله ، الذي أصدر لأجله خطابًا حازمًا صارمًا لإيقاف دعاة الفتنة عند حدهم .

يقول العلماء : حسن بن حسين ، وسعد بن عتيق ، وسليمان بن سحمان ، وصالح بن عبدالعزيز ، وعبدالرحمن بن عبداللطيف ، وعمر بن عبداللطيف ، وعبدالله بن حسن ، ومحمد بن إبراهيم بن عبداللطيف ، وكافة آل الشيخ في خطابهم :

( ... ولاينبغي لأحد من الناس العدول عن طريقة آل الشيخ رحمة الله عليهم ، ومخالفة ما استمروا عليه في أصول الدين ؛ فإنه الصراط المستقيم ، الذي من حاد عنه فقد سلك طريق أصحاب الجحيم .
وكذلك في مسائل الأحكام والفتوى ، لا ينبغي العدول عما استقاموا عليه ، واستمرت عليه الفتوى منهم . فمن خالف في شيئ من ذلك ، واتخذ سبيلا يخالف ما كان معلومًا عندهم ، ومفتىً به عندهم ، ومستقرة به الفتوى بينهم ، فهو أهل للإنكار عليه والرد لقوله .

ونحن نعلم : أن المسائل العلمية ، والأحكام التي يُحكم بها الناس ، والفتاوى التي يُفتَون بها لا تخلو من الخلاف ، وهذا أمر يعرفه من له أدنى معرفة ، لكن الاختلاف بين الناس خصوصًا في جهة نجد لابد أن يكون سبب شر وفساد وفتنة . وسد باب الشر والفتن والفساد أمر مطلوب في الشريعة ؛ بل هو أعظم مقاصدها ، كما لا يخفى ) . ( الدرر السنية : 14 / 375 – 376 ) .

أما الملك عبدالعزيز رحمه الله فقال في خطابه :

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل فيصل، إلى من يراه من علماء المسلمين وإخوانهم المنتسبين، وفقنا الله وإياهم لما يحبه ويرضاه، آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد ذلك: هذا كتاب إخوانكم المشايخ، تشرفون عليه، والعمل –إن شاء الله- على ما فيه، ثم بعد ذلك مهوب خافيكم أول منشأ هذا الأمر وتقويمه، أنه من الله ثم أسباب الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى، وأوائلنا رحمهم الله، وما جرى على المسلمين من اختلاف ولايتهم مراراً.

وكلما اختلف الأمر، وشارف الناس لنقض دين الله، وإطفاء نوره، أبى الله وأخرج من هالحمولتين من يقوم بذلك، حتى إن آخرهم والدنا، وشيخنا الشيخ: عبدالله بن عبداللطيف ، نرجو الله أن يجبرنا في مصيبتنا فيه، بعز الإسلام والمسلمين، وأن الله سبحانه يظهر في عقبهم من يقوم مقامهم، وأن الله سبحانه يعيضه بنا رضوانه والجنة.

ولهوب خافي أحداً مقامه في آخر هذا الزمان، والتزامه في أمر هذا الفصل، الذي لا حياة إلا به، وصار نوراً وقوة لكل عارف، عاقل في أمر دينه ودنياه، وردع أهل البدع والضلال، ولا نقول إلا: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرنا في مصيبتنا خيراً، واخلفنا خيراً منها.

ثم بعد ذلك تفهمون: أن أسباب الشر كثيرة، ولا بد أن يحصل من الناس بعض شوفات: أحدٍ يدوّر المخالفة، وأحدٍ يدوّر التروّس، وأحدٍ جاهل يريد الحق، ولكن خفي عليه سبيل الحق، فاتبع هواه، وهذا أمر كله مخالف للشرع. والحمدلله: ما حنا في شك من أمر ديننا.

وتفهمون : أنه من حين أظهر الله الشيخ محمد بن عبدالوهاب، في قرن أطيب من وقتنا، ورجال أطيب من رجالنا، وعلماء أطيب من علمائنا، فسدد الله به، وقام بهذه الكلمة، وجدد الله أمر هذا الأصل، وأنقذ الله بأسبابه الناس من الظلمات إلى النور.

فبان أمره لأولي الأبصار، وخفي ذلك على كثير من الناس، وعاند من أزاغ الله قلبه، وأعمى بصيرته . وقبل هذا الحق ورضيه آباؤنا، وأجدادنا، وعلماء المسلمين، فيما أتى به من الأصل والفرع، ويتعين علينا –إن شاء الله- أن نقتدي بما اقتدوا به.

ولهوب خافيكم: حال هذا الزمان، وكثرة الطالب والسائل، وقلة البصيرة والفهم. وأيضاً مهوب خافيكم: اختلاف العلماء في أمور الفروع؛ فلابد أن كل إنسان يدّعي المعرفة على جهل: إما أحدٍ يسمع حديثاً، أو قولاً من أقوال العلماء، لا يعرف حقيقته، فيفتي به، أو يكون أحدٍ له مقصد، يدوّر الأقوال المخالفة ؛ مقصوده الخلاف، إما مخالفة أحدٍ من علماء المسلمين، أو يبـي يقال: هذا فلان! يدوّر بذلك رياسة، أو شيئاً من أمور الدنيا، نعوذ بالله من ذلك.

فالآن يكون الأمر على ما ذكر المشايخ أعلاه،
فمن أفتى أو تكلم بكلام مخالف لما عليه الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وأولاده: عبدالله، وعبدالرحمن، وعبداللطيف، وعبدالله بن عبداللطيف، فهو متعرض للخطر ؛ لأننا نعرف أنه ما يخالفهم إلا إنسان مراوز للشر والفتنة بين المسلمين.

فأنتم –إن شاء الله- يا جميع علماء المسلمين التزموا بهذا الأمر، وقوموا على من خالفه، ومن سمعتم منه مخالفة في قليل أو كثير، ما قدرتم عليه نفذوه، وما لم تقدروا عليه ارفعوه إلينا، إلا إن كان هنا إنسان عنده في مخالفتهم دليل من الكتاب، أو من السنة، فلا يتكلم حتى يعرض أمره على علماء المسلمين، وتعرف حقيقته، فأما المتعرض بغير ذلك، أو قبل تبيين الأمر، فذمتنا وذمة المسلمين بريئة منه، ويكون عنده معلوماً أنه على خطر منا.

ثم أوصيكم، يا علماء المسلمين: بالقيام لله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتعليم الناس ؛ خصوصاً هذا الأصل، وأن تجتهدوا وتديموا الجلوس والمباشرة لإخوانكم المسلمين . ومن كان تعلمون منه سداداً، ومنشبته دنيا أو تكاسل، ترفعون أمره إلينا، حتى نلزمه بطلب العلم .

والأمر من ذمتي في ذمتكم، لا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا بتعليم الأصل، ولا بردع الجهل والقيام على صاحبه، فلا أنتم بحل مني إذا ما اجتهدتم وقمتم بهذا الأمر، كما أنه الواجب عليكم.

وتفهمون أني إن شاء الله: خادم للشرع، لا بنفسي ولا بما تحت يدي، فافطنوا لموقف بيوقفني الله أنا وأنتم، والعالمين؛ وهذا أمر برئت منه ذمتي وتعلق بذمتكم، نرجو الله أن يعيننا وإياكم على القيام بما يرضيه، وأن يعيذنا وإياكم من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، وأن الله سبحانه ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويجعلنا وإياكم من أنصاره.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

سنة 1339هـ

[
المصدر : " الدرر السنية في الأجوبة النجدية " ( 14 / 377-380) ، و كتاب " لسراة الليل هتف الصباح " ( ص 520 – 523) وقد نشر صورة الخطاب ] .

لقد علم العلماء والملك – رحمهم الله – أن حمل الناس على قول اجتهادي واحد تؤيده الأدلة الشرعية ؛ فيه من الحكمة الشيئ الكثير ؛ لأنه الأصلح للناس والأوفق بهم ، بدلا من ترك الأمر فوضى ، وكلأ مباحًا لكل أحد ، بدعوى ( في المسألة قولان ) !! أو ( حرية الرأي ) !! أو ( التعددية ) !! ... الخ الزخارف اللفظية التي لم يجن منها المسلمون سوى المزيد من التناحر والتشرذم .

نعم : بهذا الحزم ، وبأطر الناس على الحق الذي استبان وظهر : استقامت أمور أهل هذه البلاد ، وشغلوا بما فيه خير دينهم ودنياهم عن كثرة التهارج والخصومات ؛ فسعدوا وهنئت عيشتهم . بخلاف ما لو تساهل الملك والعلماء مع كل ناعق أو مدع للإصلاح ! فعندها ستدخل البلاد في متاهات لا يعلمها إلا الله ، وسيلتبس على أهلها الحق الظاهر بالباطل الذي يثيره دعاة الفتنة .

ولهذا قال شيخ الإسلام - رحمه الله - مؤكدًا على قيام ولاة الأمور بهذا الحزم مع مثيري الشغب والفساد ( بأنواعه ) ممن لا يرضيهم الحق الظاهر المستبين :

(
فإن الحق إذا كان ظاهرًا قد عرفه المسلمون ، وأراد بعض المبتدعة أن يدعو إلى بدعته ، فإنه يجب منعه من ذلك ، فإذا هُجر وعُزر كما فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بصبيغ بن عسل التميمي ، وكما كان المسلمون يفعلونه . أو قُتل كما قتل المسلمون الجعد بن درهم وغيلان القدري وغيرهما ؛ كان ذلك هو المصلحة ، بخلاف ما إذا تُرك داعيًا ، وهو لا يقبل الحق : إما لهواه ، وإما لفساد إدراكه . فإنه ليس في مخاطبته إلا مفسدة وضرر عليه وعلى المسلمين )

إلى أن قال : (
والمقصود أن الحق إذا ظهر وعُرف ، وكان مقصود الداعي إلى البدعة إضرار الناس ؛ قوبل بالعقوبة) . ) درء التعارض : 7 / 172 – 173 ) .

قلت : وقل مثل ذلك فيمن يريد جعل الأمر فوضى في مجال الفتاوى والأحكام ؛ لا سيما في المسائل العامة التي تتعلق بالمجتمع كله .

وقال الشيخ بكر أبوزيد - سلمه الله - متحدثًا عن قاعدة ( تغير الفتوى بتغير الزمان ) التي يدندن حولها أهل الفساد للتخلص من أحكام الشرع : ( وليُعلم هنا : أن هذه القاعدة مع مسألة البحث هذه " فتح باب الاجتهاد " يستغلهما فقهاء المدرسة العصرانية الذين اعتلت أذواقهم ، وساورتهم الأهواء ، ومجاراة الأغراض ؛ فهذا يشيد حججًا لإباحة الربا ، وذلك لوقف تنفيذ الحدود ... وهكذا . وكلها شبه على أساس هار متداع للسقوط ، وبأول معول .
فيجب على من ولاه الله أمر المسلمين : معالجة هذه الأذواق الفاسدة ؛ بتحجيمها ، والقضاء عليها ؛ لتسلم الأمة من أمراضها واعتلالها) . ( المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل , 1 / 84 – 85) .

هذا ما حصل في عهد الملك عبدالعزيز – رحمه الله – فكانت له العواقب الحميدة على أهل هذه البلاد .

فهل نرى مثيلا لهذا الحزم في أيامنا هذه التي تقاطر فيها علينا أصنافٌ من " الغلاة " و " محبي التفرد بالشواذ " و" الطامحين " و" مدعي الإصلاح " و " المتعصرنين " و " الليبراليين " ، واشرأب فيها أهل البدع القديمة " من صوفية و رافضة " برؤسهم ؟!

مع التذكير أخيرًا بقوله تعالى ( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن ) ، فبقدر تحقق التوحيد والطاعات يكون الأمن للعباد والبلاد ، وإن نقصوا نُقص من أمنهم . ولهذا مقال آخر إن شاء الله .

أسأل الله أن يوفق ولاة أمورنا وعلماءنا للأخذ على يدي كل سفيه يريد أن يخرق السفينة ، وأن يصرف عنا كيد المتربصين والحاقدين . والله أعلم ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .

تنبيه : اطلعت بعد كتابة ما سبق على رسالة للأخ عبدالعزيز الريس - وفقه الله - بعنوان " إجماع أهل التقوى على تحريم توحيد الفتوى " ، تعجل عفى الله عنه في إخراجها ، قبل أن يحررها ؛ ويبين فيها متى يسوغ للحاكم وأهل الحل والعقد إلزام الناس بما هو خير لهم في دينهم ودنياهم في المسائل الإجتهادية ، التي لا تدخل تحت قول شيخ الإسلام الذي نقله الأخ عبدالعزيز ؛ لأن الشيخ يقول : ( وإما إلزام السلطان في مسائل النزاع التزام قولٍ بلا حجة من الكتاب والسنة .. ) وما نحن فيه هو من إلزامهم بما فيه حجة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وهذا مما فعله الخلفاء الراشدون ، وتوضيح هذا له مقام آخر .

فليت الريس لم يتعجل بإخراج رسالته التي قد تفهم بفهم آخر قد لا يرتضيه !

فهل يعيد النظر فيها ويحرر مسائلها بما يزيل إشكالات عديدة ؟!

أتمنى ذلك .
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
سليمان الخراشي
  • كتب ورسائل
  • رسائل وردود
  • مطويات دعوية
  • مـقــالات
  • اعترافات
  • حوارات
  • مختارات
  • ثقافة التلبيس
  • نسائيات
  • نظرات شرعية
  • الصفحة الرئيسية