بسم الله الرحمن الرحيم

آفات الــقــراء


اشتهر عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي صاحب الكتاب العظيم : ( الجرح والتعديل ) بملازمته لوالده ، وكثرة أخذه عنه ، وكان يقول : " ربما كان يأكل وأقرأ عليه ، ويمشي وأقرأ عليه ، ويدخل الخلاء وأقرأ عليه ، ويدخل البيت في طلب شيء وأقرا عليه " ( سير أعلام النبلاء 13/251 )

إن القراءة هي إحدى الوسائل المهمة لاكتساب العلوم المختلفة ، والاستفادة من منجزات المتقدمين والمتأخرين وخبراتهم . وهي أمر حيوي يصعب الاستغناء عنه لمن يريد التعلم ، وحاجة ملحة لا تقل أهميتها عن أهمية الطعام والشراب ، ولا يتقدم الأفراد - فضلا عن الأمم والحضارات - بدون القراءة ، فبالقراءة تحيا العقول ، وتستنير الأفئدة ، ويستقيم الفكر .

والقراء المنهجيون هم - في الغالب - النخبة المتميزة ، والصفوة المؤثرة في التكوين الفكري والبناء الثقافي والمعرفي للأمة ، ولهذا كانت العناية بالقراءة عناية بروح الأمة وقلبها الحي النابض القادر على البناء والعطاء .

والقراءة ملكة وفن لا يجيده كل أحد ؛ فكم من القراء الذين يبذلون أوقاتا طويلة في القراءة ؛ ومع ذلك فإن حصيلتهم وإفادتهم منها قليل جدا ..!

وسأذكر - مستعينا بالله - بعض الآفات التي قد تعرض لبعض القراء خاصة في بداية سلوكهم لهذا السبيل :

الآفة الأولى : قلة الصبر على القراءة والمطالعة :

وهذه آفة قديمة ازدادت في عصرنا هذا خصوصا مع كثرة الصوارف والمشغلات الأخرى ؛ حيث أصبح كثير من القراء لا يقوى على مداومة القراءة ، ويفتقد الأناة وطول النفس ، ولا يملك الجلد على المطالعة والبحث والنظر في بطون الكتب وكنوز العلم والمعرفة ، وحينما يبدأ القارئ بالاطلاع على الكتاب سرعان ما يضعه جانبا وينشغل بأمر آخر .

إن الساحة الفكرية اليوم تعاني من خلل ظاهر في بناء ملكة القراءة ، وها أنت ترى كثيرا ممن يدخلون في ( زمرة المثقفين ! ) من أصحاب الشهادات الجامعية ، بل حتى أصحاب الشهادات العليا ، ومع ذلك تفاجأ بأن كثيرا منهم ربما يعجز عن إتمام كتاب واحد خارج تخصصه ..!

إننا نعاني من أزمة حادة في عزوف كثير من المثقفين - فضلا عن العامة - عن القراءة والبحث ، مما أدى إلى اضطراب في التفكير العام ، وسطحية مفرطة في كثير من الرؤى ، وضحالة عليمة حجبت منافذ البصيرة .

وترويض النفس وتربيتها وقسرها على القراءة من أنجح السبل لبناء تلك الخلة الكريمة ، خاصة عند نعومة الأظفار وبداية الطلب . وقد يعجز المرء في البداية أو يصيبه السآمة والملل ، ولكنه بطول النفس وسعة الصدر والعزيمة الجادة سوف يكتسب بإذن الله - تعالى - هذه الملكة حتى تصبح ملازمة له لا يقوى على فراقها ، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما العلم بالتعلم " السلسلة الصحيحة 1/605 ، وتكوين هذه العادة وغرسها في النفس من أولى ما يجب الاعتناء به لدى القراء والمربين .

ولست أدري كيف نروم - معاشر الدعاة - العزة والتمكين ، ونتطلع إلى تغيير مسار التاريخ ، وهممنا تتاقصر عن الانكباب على كتب العلم والمعرفة ، ونرضى بالقليل من المعلومات العائمة المفككة التي نحصل عليها من هنا وهناك ..؟!

وانظر إلى تلك المزية الجليلة التي تسنمها أسلافنا في هذا الباب ، فهذا هو مثلا الحسن اللؤلؤي يقول : " لقد غبرت لي أربعون عاما ما قمت ولا نمت إلا والكتاب على صدري " ( جامع بيان العلم وفضله 2/1231 ) ، وحدث ابن القيم فقال : " أعرف من أصابه مرض من صداع وحمى ، وكان الكتاب عند رأسه ، فإذا وجد إفاقة قرأ فيه ، فإذا غلب عليه وضعه " ( روضة المحبين ص 70 ) .

الآفة الثانية : ضعف التركيز :

كثير من القراء يقرأ بعينيه فقط ، ولا يقرأ بفكره ، ولا يستجمع قدراتها العقلية في التفهم والبحث . وربما جال القارئ بعقله يمينا ويسارا ، وطافت بخاطره ألوان من الهموم والمشاغل ، ثم يفاجأ بأنه قضى وقتا طويلا لم يخرج فيه بمادة علمية تستحق الذكر .

وبعض القراء يبدأ بهمة ونشاط وتركيز ، ولكنه بعد أن يقرأ قليلا من الصفحات يبدأ بالتململ التدريجي ، حتى ينفلت الزمام من يديه ، ويستيقظ فجأة بعد أن سبح في عالم رحب من الخواطر الشخصية البعيدة عن مادة الكتاب ، قال طه حسين : " كثيرا ما نقرأ لنقطع الوقت لا لنغذو العقل والذوق والقلب ، وكثيرا ما نقرأ لندعو النوم لا لنذوده عن أنفسنا " ( خصام ونقد ص6 ) .

وقد يؤدي ضعف التركيز أحيانا إلى اكتساب معلومات مضطربة أو مغلوطة أو ناقصة ، مما يقود إلى نتيجة عكسية تضر القارئ ولا تنفعه ، وقد يتعدى ضرره إلى غيره ..!

إن امتلاك القدرة على التركيز واستحضار الفكر امتلاك لزملم المادة العلمية ، وهي السبيل الرئيس للوصول إلى الفهم والاتقان . ويختلف مقدار التركيز المطلوب في القراءة حسب طبيعة الكتاب المقروء ؛ ومستواه . وحسب مستوى القارئ الثقافي أيضا ، وحسب الهدف من القراءة ؛ فمقدار التركيز الواجب لقراءة كتاب علمي متخصص يختلف عن التركيز المطلوب لقراءة قصة أدبية أو كتاب في الثقافة العامة .

وهذا يقودني إلى تقسيم القراءة إلى نوعين :

النوع الأول : القراءة التصفحية :

وهي القراءة التي يريد منها القارئ الاطلاع على مادة الكتاب وموضوعاته الرئيسة ، ويريد منها التعرف من حيث الجملة على أبوابه وفصوله ، ومنهج المؤلف وطريقة عرضه . وهذه الطريقة تصلح أن تكون مقدمة للقراءة ، وبعدها يقرر القارئ جدوى إعادة قراءة الكتاب بتركيز ، أو الاكتفاء بالتصفح السريع . والاكتفاء بذلك يصلح لتكوين معلومات عامة ، ولكنه لا يبني علما راسخا .

النوع الثاني : القراءة العلمية :

وهي القراءة المركزة التي يستجيب فيها القارئ لمادة الكتاب ، ويتفاعل معها ، ويرمي إلى تحليلها وبيان أفكارها وأهدافها ، وقد يدخل في حوار إيجابي معها . وهذا النوع من القراءة هو الطريق الصحيح للبناء العلمي والمعرفي . ولأهميتها في تثبيت المعلومات ، ولأهمية الكتاب المقروء قد يرى القارئ إعادة قراءته عدة مرات لترسيخ المكتسبات العلمية التي تحصل عليها ، ولاكتساب معلومات أخرى ربما لم تتيسر له في القراءة الأولى ، وها هو ذا المزني يقرأ كتاب ( الرسالة ) للإمام الشافعي خمسمائة مرة ! ( مقدمة الرسالة ص 4 )

وآفة كثير من القراء أن أحدهم قد يعمد إلى قراءة الكتاب العلمي العميق قراءة تصفحية كما يقرأ الجريدة ، ويكون همه الانتهاء من الكتاب ، ولك أن تتخيل ماذا يمكن أن تكون حصيلة القارئ حينما تكون هذه طريقته دائما في القراءة ..!!

وقد ذكر العلماء والتربويون أسبابا كثيرة تعين القارئ على التركيز ، مثل : اختيار الأوقات المناسبة ، والاماكن الملائمة الخالية من الصوارف ، وأن يكون خالي الذهن ، ولديه الاستعداد العقلي والنفسي الذي يعنيه على استجماع قدراته الفكرية .. ونحو ذلك مما يطول وصفه ، ولكن يجمعها وصف واحد وهو : أن يكون جادا حريصا ذا همة صادقة ؛ فمن امتلك هذا الوصف حرص على تذليل كافة العقبات التي قد تعرض له .

كتبه : عبد الرحمن الصويان
مجلة البيان العدد 148 ص74