صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







المعاصي والحياء من الله

يحيى بن موسى الزهراني

 
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الأعز الأكرم, حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه, كما يليق بجلاله الأعظم, وأتوب إليه وأستغفره, وأثني عليه بما هو أهله, وأشكره على جزيل ما وهب, وعظيم ما أنعم, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, صنع فأتقن, وشرع فأحكم, وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمدا عبد الله ورسوله, المبعوث رحمة للعالمين, دعا إلى دين الحق, وهدى بإذن ريه للتي هي أقوم, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسلم .

عباد الله : واعجباً لمن استمرأ المعاصي والآثام ، والذنوب العظام ، ولم يأبه بالملك العلام ، أنسي ذلك الإنسان أن الله الذي خلقه ؟ وهو قادر عليه ؟ وسوف يعود إليه للحساب والجزاء ، { وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى * وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى } ، يالله ألم يتأمل الإنسان أطوار خلقه ، وأنه ما بين نطفة مذرة ، وعظام نخرة ، وجيفة قذرة ، قال الله ومن أصدق منه قيلاً : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ* ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ* ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ* ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ } .
ألا فليتأمل كل مسلم ، بل كل إنسان إلى آثار رحمة الله عليه في رحم أمه ، في ظلمات ثلاث ، ظلمة البطن والرحم والمشيمة ، مَن الذي أوحى إلى الرحم أن يَتَضَايق عليك وأنت نُطْفة حتى لا تَفْسد هناك ؟ وأوحى إليه أن يَتَّسِع لك ويَنْفَسِح حتى تَخْرُج منه سليماً إلى أن خَرَجْتَ فَريدا وَحيدا ضَعيفا لا قِشْرة ولا لِباس ، ولا مَتاع ولا مَال ؟ فَصَرَف ذلك اللبن الذي كنت تَتَغَذَّى به في بَطن أمك إلى خِزَانتين مُعَلَّقَتين على صدرها ! تَحْمِل غذاءك على صدرها ، كما حَمَلَتْك في بَطنها ، ثم سَاقَه إليك، فهو بِئر لا تَنْقَطِع مادَّتها ، ولا تَنْسَدّ طُرُقها ، فمن رَقَّقَه لك وصَفَّاه ، إنه الله الرحيم ، ومن أطَاب طَعْمه ، وحَسَّن لَونه ، وأحْكم طَبْخَه أعْدَل إحْكَام ؟ إنه الله اللطيف ، جمع لك فيه بين الشراب والغذاء ، فتجد الثدي الْمُعَلَّق كالإدَاوَة قد تَدَلَّى إليك ، وأقبل بِدَرِّه عليك ، أمَا خَرَجْتَ مِن بَطْن أمك مَقْلُوبا لا تَرَى ولا تَعِي ؟ { وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا } ، أما وَهَبك الله عَينين ، لِتَرَى وتخضع ؟ ومَنَحَك أُذُنين ، لتعي وتَسْمَع ؟ وحَبَاك قَلْبًا وَاعِيًا لتُدْرِك وتخشع ، وحواساً أخرى لتذعن وتخضع ؟ فبهذه النعم والأعضاء أدْرَكْت ووعَيت ، وعَقَلْت وتعَلَّمْت ، { وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } .
أيها المسلمون : الله الذي هَداكم سُبُل السَّلام ، وبين لكم طريق الرشاد ، { أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } ، وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم :" كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ ، كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ تُنْتَجُ الْبَهِيمَةَ ، هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ " [ متفق عليه ] ، فكونوا على الفطرة السليمة التي فطركم الله عليها ، وإياكم واتباعُ خطوات الشيطان ، فقد نهاكم الله عنها فقال سبحانه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ } ، الله الذي خلقك فسواك فعدلك ، فهو أحق بالعبادة والطاعة والخوف والخشية من غيره ، { هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } ، فإن لم تتفكر في نفسك التي بين جنبيك ، ولم تَرَ دَقيق صُنع الله فيك ، فَدُونَك ما هو أعظم من ذلك ، خَلْق السَّماوات والأرض وما فيهما وما بينهما من الأفلاك والمجرات والمخلوقات ، وجعل فيهن ما تقوم به الحياة { أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا } ، فكيف لا يُوقَّر الخالق العظيم ، كيف لا يُرْجَى له وَقَار ، فلا إله لنا غيره ؟ ولا رب لنا سواه ؟ ولا خَالِق ولا رَازِق غَيره ؟ ولا مُدَبِّر للأمْر إلاَّ إياه ؟ لا كاشِف للبلوى إلاّ الله ، هو العلي القدير ، هو الحيي الستير ، علام الغيوب ، ستار العيوب ، اللهم استر عوراتنا ، وأمن روعاتنا ، واحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا ، وعن أيماننا وعن شمائلنا ، ومن فوقنا ، ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا ، أنت إلهَنا ومولانا .
عباد الله : إنه الله الرحيم ، إنه الله الكريم ، إنه الله العظيم ، سبحان الله ما أعظمه ، ما أكرمه ، ما أحلمه ، ما ألطفه ، ما أرأفه ، هو الْمَلِك لا شَريك له ، والفَرْد لا نِدّ لَه ، كُلّ شيء هالِك إلاَّ وَجْهه ، لن يُطاع إلاَّ بِإذنه ، ولن يُعْصَى إلاَّ بِعِلْمه ؛ يُطَاع فَيَشْكُر ، ويُعْصَي فَيَغْفِر ، كيف لا تحبه النفوس ، وهو السلام القدوس ، كيف لا تُحِبّ القلوب مَن لا يأتي بالحسنات إلاّ هو ؟ ولا يَذهب بِالسيئات إلاّ هو ؟ يُجيب الدعوات ، ويُقِيل العَثرات ، ويَغفر الخطيئات ، لا إله إلا هو ، يَستر العَورات ، ويَكشف الكُرُبات ، ويُغيث اللهفات ، ويُنِيل الطَّلَبَات ، فالحمد لله حمداً يليق بجلاله وعظمته ، وقوته وجبروته ؟ فهو أحقّ مَن ذُكِر ، وأعظم مَن شُكِر ، وأكرم مَن حُمِد ، وأحَقّ مَن عُبِد ، وَأنْصَر مَن ابْتُغِي ، وأرْأف مَن مَلَك ، وأجْود مَن سُئل ، وأوسع مَن أعْطَى ، وأرْحَم مَن اسْتُرْحِم ، وأكْرَم مَن قُصِد ، وأعَزّ مَن الْتُجِئ إليه ، وأكْفَى مَن تُوكِّل عليه ، إنه الله ! أرْحَم بِعَبْدِه مِن الوالِدَة بِوَلَدِها ، وأشَدّ فَرَحًا بِتَوبة عِباده التائبين مِن الفَاقِد لِرَاحِلته التي عليها طعامه وشَرَابه في الأرض الْمُهْلِكة إذا يَأس مِن الحياة فَوَجَدها .
أيها المسلمون : عظموا ربكم تبارك وتعالى ، واعرفوا قدره جل وعلا ، فهو القائل سبحانه : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } ، فهو أقرب شَهيد ، وأدْنَى حَفيظ ، وأوْفَى وَفِيّ بِالْعَهْد ، وأعْدَل قائم بِالقِسْط ، حال دون النفوس ، وأخذ بالنواصي ، وكَتَب الآثار ، ونَسَخ الآجال ، فالقُلُوب له مُفْضِية ، والسِّرّ عِنده علانية ، وكُلّ أحد إليه مَلْهُوف ، نحن المحتاجون إليه ، وهو الغني عنا ، لا تضره معصية ، ولا تنفعه طاعة ، { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ* إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ* وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ } ، هو الملك ، هو المعبود ، هو الكريم الرزاق ، هو العليم الخلاق ، لا إله إلا هو سبحانه بيده خزائن السموات والأرض ، لا إله إلا الله ما عبدناه حق عبادته ، خيره إلينا نازل ، وشرنا إليه صاعد ، يعطي الكثير ، ويرضى بالقليل ، هو الغني ونحن الفقراء ، هو القوي ونحن الضعفاء ، هو القادر علينا ، ونحن لا نعجزه ، بل كما قال سبحانه : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً } ، وقال القوي المتين : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ } .
أيها الأخوة في الله : إنه الله جل جلاله ، وتقدست أسماؤه ، وعظم كبرياؤه ، يرى ويسمع دبيب النملة السوداء ، على الصخرة الصماء ، في الليلة الظلماء ، لا يُهرب منه أبد ، ولا يختبئ منه أحد ، يمهل ولا يهمل ، يؤخر ولا يعجل ، { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً } ، { وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلاً } ، إنه الله الحليم الجبار ، العزيز الغفار ، يعفو ويصفح ، ويغفر ويسمح ، يتوب على من تاب ، ويقبل من ندم وأناب ، ومن تمادى وبغى ، وتمرد وطغى ، فالله شديد العقاب ، قوي العذاب ، قال الملك التواب : { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ } ، ويقول عز وجل : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ } ، إنه الله الرقيب المهيمن ، عَنَتِ الوُجُوه لِنُور وَجْهه ، وعجِزت القلوب عن إدراك كُنْهِه ، ودَلَّت الفِطْرة والأدِلّة كُلّها على امْتِنَاع مِثله وشِبهه ، { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } ، أشْرَقَت لِنُور وَجْهه الظلمات ، واسْتَنَارَت له الأرض والسماوات ، وصَلحت عليه جميع المخلوقات ، إنه الله الحي القيوم ، لا يَنام ولا يَنبغي له أن يَنام ، إنه الله عالم الغيب والشهادة ، الحكم العدل ، لا يظلم مثقال ذرة ، { إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } ، يَخفض القِسْط ويَرفعه ، يُرْفَع إليه عَمل الليل قَبل عَمل النهار ، وعَمَلُ النهار قبلَ عَمَلِ الليل ، حِجَابه النور ، لو كَشَفَه لأحْرَقَت سُبُحَات وَجْهه ما انتهى إليه بَصَره مِن خَلْقه ، فما لكم لا ترجون لله وقاراً ؟ إن مِن إجلال الله : تعظيم شعائر الله { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ } ، فالصلاة والزكاة ، والصوم والحج ، وبر الوالدين والصدق ، والوفاء بالعهد والوعد ، وصلة الأرحام وأداء الأمانة وغيرها من الواجبات ، من تعظيم شعائر الله ، ألا وإن تَعظيم حُرُمات الله ، مِن إجلال الله { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ } ، فاحذروا الزنا والربا ، واللواط والسرقة ، وإياكم والكذب والغش والرشوة ، واحذرن أيتها المسلمات من التبرج والسفور ، وتقليد نساء الكفرة والفجور ، واجتنبوا كل المحرمات والمنهيات والمكروهات ، فذلكم وأيم الله من تعظيم حرمات الله ، اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام ، اغفر لنا ذنوبنا كلها ، أولها وآخرها ، دقها وجلها ، ما علمنا منه وما لم نعلم ، وما أنت أعلم به منا ، فضلاً منك ومناً ، أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب ومعصية ، فتوبوا إلى الله ، إنه يغفر الذنوب جميعاً .

الخطبة الثانية
الحمد لله الملك العلام ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القدوس السلام ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير الأنام ، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين .
عباد الله : إنّ كُلّ خَير ، بل كُلّ حَرَكة وسَكَنة ، وكُلّ غَمْضَة عين وانتباهتها ، وكُلّ اخْتِلاجَة عرْق ، وكُلّ دَفْقَة دم ، وكلّ عافية وسِتْر ؛ هي مِن مِنَح الجليل تبارك وتعالى ، وإذا كان ذلك كذلك فما أعظم التأدب مع جناب الوهاب الْمُعْطِي الجبار ، ألا وإن الحياء مِنه سبحانه وتعالى ، من أجل الآداب وارفعها وأسماها ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :" اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ " ، قَالَ : قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ : إِنَّا لَنَسْتَحْيِى وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ، قَالَ : " لَيْسَ ذَاكَ ، وَلَكِنَّ الاِسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ : أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى ، وَتَحْفَظَ الْبَطْنَ وَمَا حَوَى ، وَتَتَذَكَّرَ الْمَوْتَ وَالْبِلَى ، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ " [ رواه أحمد والترمذي وحسنه الألباني ] ، وقال ابن القيم عن الحياء : هو أصْل كُلّ خَير ، وذَهابه ذَهَاب الْخَير أجْمَعه ، وصَدَق رحمه الله فقد قال عليه الصلاة والسلام : " الْحَياء والإيمان قُرِنا جَميعًا ، فإذا رُفِع أحدهما رُفِع الآخر " [ رواه الحاكم وقال : هذا حديث صحيح على شرطهما ، وصححه الألباني ] .
عباد الله : من دعته نفسه إلى معصية الله فلا ينس أموراً مهمة :
أولاً : إذا أراد أن يعصي الله فليختبئ في مكان لا يراه الله فيه ، وأنى له ذلك ، وهو سبحانه لا تخفى عليه خافية ، فسبحان الله كيف لا يستحي من يعصي الله وهو يراه ، قال تعالى : { يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً } .
ثانياً : من أراد أن يعصي الله ، فلا يعصه فوق أرضه ، لأن كل ما في الكون لله سبحانه وتعالى ، فكيف لا يستحي من يعصي الله ويسكن فوق أرضه ، { وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } .
ثالثاً : من ن أراد أن يعصي الله ، فلا يأكل من رزقه ، فكل الخيرات والنعم من عنده ، قال تعالى : { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } ، فيا أيها العاصي : أما تستحي أن تعصي الله ، وهو يطعمك ويسقيك .
رابعاً : يا من يعصي الله ويتجرأ على محارم الله ، إذا جاءتك الملائكة لتسوقك إلى النار فلا تذهب معهم ، وسبحان الله ! هل لك قوة عليهم ، إنما يسوقونك سوقاً، وإذا قرأت ذنوبك في صحيفتك ، فأنكر أن تكون فعلتها ، ولا تنس قبل أن تنكر ، أن هناك كراماً كاتبين ، وملائكة حافظين ، وشهوداً ناطقين ، وهؤلاء الشهود هم :
1- الله جل جلاله : وكفى بالله شهيداً ، ومن أصدق من الله قيلاً ، حيث يقول سبحانه : { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } ، ويقول عز وجل : { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ } .
2- الملائكة الكرام : يقول الله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } .
3- كتابك وصحائف أعمالك : { وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً * اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } .
4- الأرض التي تعصي الله عليها : { إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا{1} وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا{2} وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا{3} يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا{4} بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا{5} يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ{6} فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ{7} وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } .
5- أعضاؤك التي لا تفارقك : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ، { حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ } ، فلا نجاة من الله إلا إليه ، ولا مهرب منه إلا إليه ، فتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون .
أمة الإسلام : من زلت به قدمه ، فلا يتمادى في معصية الله ، بل يسارع إلى الندم والبكاء والتوبة ، ألم تسمعوا قول الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } ، فتوبوا إلى الله على عجل ، فالموت يأتي بغتة ، والقبر صندوق العمل ، { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } ، توبوا إلى الله قبل يغلق باب التوبة ، بغرغرة الروح ، أو بطلوع الشمس من مغربها ، ولقد اكتشف علماء الفلك اليوم أن تأخراً في طلوع الشمس من مشرقها ، وأنها تتهيأ لتطلع من مغربها ، مما يدل على قرب وقوع علامات الساعة الكبرى ، واقتراب يوم الحساب ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وهذه الأمة هي آخر الأمم وليس بعدها إلا القيامة ، ونحن في غفلة وإعراض وغرور ، ونسيان ولهو ولعب ، لا عبادة ولا طاعة ، منا من أمن مكر الله ، ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ، النوم أحب إلى أحدنا من الصلاة ، والزوجة أكرم من الأم ، والدنيا مبلغ العلم ، وجني المال هو الأهم ، والآخرة في طي النسيان ، والله تعالى يقول مذكراً لعباده : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } ، ويقول لهم ملفتاً نظرهم واهتمامهم : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ } ، إنها فطر انتكست ، وأوضاع انعكست ، وبعد أيها الأخوة في الله ، فليست هذه الخطبة وتلك الكلمات ، إلماحة للإعراض عن الطيبات ، والمباح من مباهج الحياة ، كلا .. ولكن هي ذكرى للتبصر في تقصيرنا الذي فات ، وعظة للاستعداد لما هو آت ، وأولها (هادم اللذات) ، وأن تكون الآخرة هي الهدف والغاية والمراد والنهاية ، من متاع الحياة ومباهجها ، امتثالا لقول الحق تبارك وتعالى : { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ } ،

وذلك هو المنهج الوسطي الحق الذي يُصلح من المسلمين بالهم ، ويُزَّكي أحوالهم ، اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، اللهم ثبتنا على دينك حتى نلقاك وأنت راض عنا غير غضبان ، وأسعدنا وأكرمنا بالنظر إلى وجهك الكريم ، ومجاورة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ، اللهم أحسن خاتمتنا ، وأدخلنا الجنة بغير حساب ولا عذاب ، اللهم اجمعنا بأهلينا وقراباتنا والمسلمين جميعاً في دار كرامتك ، ومستقر رحمتك ، في جنات النعيم ، يا رب العالمين ، عباد الله ، صلوا وسلموا على الرحمة المهداة ، والنعمة المسداة ، محمد بن عبد الله ، فقد أمركم بذلك ربكم جل في علاه ، فقال قولاً كريماً : { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } ، اللهم صلِّ وسلِّم على سيد الأولين والآخرين ، ورحمة الله للعالمين ، وإمام الدعاة والواعظين ، نبينا محمدٍ وعلى آله الطيبين الطاهرين ، وصحابته الغر الميامين ، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين ، اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، اللهم هب لنا قلوبا طاهرة ، وعيوناً في خشيتك ساهرة ، وآتنا كتبنا بأيماننا ، وكفر عنا سيئاتنا وزكِّ إيماننا ، اللهم أنت الهادي لمن استهداك فاهدنا اللهم لما تحبه وترضاه ، اللهم أيقظنا من سبات الغفلات ، ووفقنا لتدارك الهفوات قبل الفوات ، ياذا الفضل والمكرمات ، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان ، اللهم انصر إخواننا المضطهدين في دينهم في سائر الأوطان ، اللهم أنقذ المسجد الأقصى من عدوان المعتدين واحتلال المحتلين ياقوي ياعزيز ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ، اللهم آمنا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا ، اللهم وفقه لما تحب وترضى ، وخذ بناصيته للبر والتقوى ، اللهم وفقه وولي عهده والنائب الثاني وإخوانهم وأعوانهم إلى ما فيه عز الإسلام وصلاح المسلمين ،

وإلى ما فيه الخير للبلاد والعباد ، واشمل اللهم بالتوفيق جميع ولاة المسلمين ، اللهم اجعلهم لشرعك محكمين ، ولسنة نبيك صلى الله عليه وسلم متبعين ، ولأوليائك ناصرين ، ياحي ياقيوم ، ياذا الجلال والإكرام ، برحمتك نستغيث فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ، وأصلح لنا شأننا كله ياغفور ياودود ياذا العرش المجيد ، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك ياأرحم الراحمين ، اللهم هذا الدعاء ومنك الإجابة ، وهذا الجهد وعليك التكلان ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وأقم الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً .

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
يحيى الزهراني
  • رسائل ومقالات
  • مسائل فقهية
  • كتب ومحاضرات
  • الخطب المنبرية
  • بريد الشيخ
  • الصفحة الرئيسية