صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







إنه الله الجبار القهار

يحيى بن موسى الزهراني

 
الحمد لله رب العالمين ، قاهر الظالمين ، وقاصم المعتدين ، عدو الكافرين ، حبيب المؤمنين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحق المبين ، وأشهد أن نبيه محمد النبي الأمين ، أتى بالكتاب المستبين ، ودعا إليه بالموعظة الحسنة والحكمة واللين ، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين . . وبعد :
خلق الله الخلق وأوجدهم لعبادته وحده دون سواه ، قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات56 ] ، من أجل ذلك ، أنزل الله تعالى الكتب السماوية ، وأرسل الرسل الأرضية ، ليستبين للناس طريق الحق وطريق الهداية والنور ، من طرق الغواية والضلالة ، وهيأ لعبادة سبل ذلك في الحياة الدنيا ، كي يعبدوا ربهم لا يشركون به شيئاً ، ومن أشرك مع الله غيره أدخله النار ، ولم يغفر له ، قال تعالى : { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً } [ النساء116 ] .
ومن طغى وبغى ، وعصى ربه وتعدى حدوده ، وكفر بربه ، وزاغ عن أمره ، وأمر رسله ، فقد استحق العقاب والعذاب .
وما أمر الأمم من قبلنا إلا خير شاهد على أن معصية الله تعالى وتكذيب رسله ، وتكذيب كتبه ، والابتعاد عن طريق الحق إلى طريق الباطل إلا أعظم دليل على وقوع النكال والانتقام منهم .
فكم قرأنا قصص من قبلنا ، وما حل بهم من سخط الجبار سبحانه ، ولقد نوع الله جل جلاله أنواع العذاب بالأمم ، كل حسب جرمه ومقدار تعديه ، فقال الجبار القهار : { فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ العنكبوت40 ] .
فأخذ الله كلاً من أولئك المذكورين بعذاب بسبب ذنبه وجرمه وعناده وكفره ، وبعده عن خالقه ، وتكذيب رسله ، ونبذ كتبه تعالى : فمنهم الذين أُرسل عليهم حجارة من طين منضود , وهم قوم لوط , ومنهم مَن أخذته الصيحة , وهم قوم صالح وقوم شعيب , ومنهم مَن خُسف به في الأرض كقارون , ومنهم مَن أُغرق في البحر , وهم قومُ نوح ، وفرعونُ وقومُه , ولم يكن الله ليهلك هؤلاء بذنوب غيرهم , بل بما كسبت أيديهم ، وما كان الله ليظلمهم بإهلاكه إياهم بغير استحقاق , ولكنهم كانوا أنفسهم يظلمون ، بتنعمهم في نِعَم ربهم وعبادتهم غيره .
واليوم نشاهد ويشاهد المجتمع الدولي بأسره ، طغيان دولة أمريكا وإسرائيل وبريطانيا ، وتعسفها وتعديها على عباد الله ، بالقتل والتشريد والإبادة والتحريض ، وكأنهم قوة لا تُقهر ، والله تعالى وعد عباده المؤمنين بالنصر المبين ، لكن هذا الوعد مشروط بشرط عظيم ، ألا وهو نُصرة دين الله ، ونشره في أرضه ، فإن فعلوا ذلك فالله ناصرهم ، وإن لم يفعلوه فمن ذا الذي ينصرهم من دون الله ؟
قال الله الجبار : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } [ محمد7 ] .
الله جل جلاله يقول للمؤمنين : يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله ، وعملوا بشرعه , إن تنصروا دين الله بالجهاد في سبيله , والحكم بكتابه , وامتثال أوامره , واجتناب نواهيه , ينصركم الله على أعدائكم , ويثبت أقدامكم عند القتال .
فهل عمل المسلمون اليوم بهذه الشروط :
هل آمنوا بالله وحده ؟ أم أشركوا معه غيره ، ودعوا معه سواه ، الواقع يقول : إن الشرك تفشى في بلاد الإسلام ، قال تعالى : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ } [ يوسف106 ] .
فمن مظاهر الشرك اليوم في بلاد الإسلام ، الطواف حول القبور ، والله تعالى يقول : { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } [ الحج29 ] .
يقول الله تعالى : ثم ليكمل الحجاج ما بقي عليهم من النُّسُك ، بإحلالهم وخروجهم من إحرامهم ، وذلك بإزالة ما تراكم مِن وسخ في أبدانهم ، وقص أظفارهم ، وحلق شعورهم ، وليوفوا بما أوجبوه على أنفسهم من الحج والعمرة والهدايا ، وليطوفوا بالبيت العتيق القديم ، الذي أعتقه الله مِن تسلُّط الجبارين عليه ، وهو الكعبة .
فالله تعالى يأمر في كتابه بالطواف حول الكعبة المشرفة ، وأنه لا بيت يطوف حوله الناس إلا هو ، فمن طاف بغيره فقد اخترع في دين الله ما ليس فيه ، وشرع للناس شرعاً ليس عليه أمر ، ولا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم ، فمن طاف بغير الكعبة المشرفة فقد كفر بالله ورسله ، كيف لا ، والأنبياء جميعهم طافوا بها وأمر بالطواف بها .
ومن شركيات المسلمين اليوم ، ودليل وهنهم وضعفهم ، دعاء الصالحين والأنبياء في قبورهم ، والاستغاثة بهم من دون الله ، وهم أموات لا ينفعون أنفسهم فضلاً عن نفع غيرهم ، والله تعالى يقول : { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ الأعراف194 ] .
ويقول سبحانه : { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ } [ الأعراف197 ] .
ويقول تعالى : { يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ * إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } [ فاطر13-14 ] .
ومن الشركيات اليوم الحلف بغير الله تعالى ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بن عمر رضي الله عنهما ، عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِي رَكْبٍ ، وَعُمَرُ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ ، فَنَادَاهُمْ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فقال : " أَلاَ إنَّ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَنْهاَكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ ، مَنْ كَانَ حَالِفاً فَلْيَحْلِفْ بِاللّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ " [ متفق عليه ] .
ومن الشركيات اليوم ، الذبح لغير الله عز وجل ، والتقرب للأموات من دون الله ، والله تعالى يقول : { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الأنعام162 ] .
ومن وسائل التعدي على الله تعالى ، قتل أولياء الله عز وجل ، وإظهار العداء لهم ، لأنهم تمسكوا بشرع الله ، واتبعوا هدي نبيه صلى الله عليه وسلم ، فكيف تنتصر أمة تعادي دين الله عز وجل ، وكيف تقوم لها قائمة ، وهي تسب الله ورسوله ، وتلعن دينه وأنبياءه ؟
إن ما نشاهده اليوم على أرض الواقع لهو عقوبة من الله تعالى لنا ، لعلنا أن نتدارك أنفسنا ونعود إلى ديننا الحق ، دين الإسلام القويم ، والصراط المستقيم ، وإلا لحق بنا الأذى ، وأصبحنا صفحات تطوى ، وأثراً بعد عين ، وأمسينا جملة لا محل لها من الإعراب ، ذلكم نتيجة التخلي عن نُصرة دين الله .
وانظروا لما نصر المسلمون الأوائل دين ربهم ، وهم قلة ، وليس لديهم من العدد والعتاد ما يقاومون به عدو الله وعدوهم ، ولكن لما كان الأساس عندهم نشر دين الله تعالى ، ونصرته بالغالي والنفيس ، نصرهم الله عز وجل نصراً مؤزراً ، قال تعالى : { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ البقرة249 ] ، وقال سبحانه : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ الأنفال17 ] .
وانظروا إلى هذا العتاب من الله تعالى لأوليائه إذا هم تقاعسوا عن نصرة دينه ، والذب عن حياض نبيه صلى الله عليه وسلم ، تأملوا رحمكم الله هذه الآيات الباهرات التي يقول فيها المولى الجبار القهار : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ 38 إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 39 إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ 40 انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ 41 } [ التوبة ] .
من تأمل واقع المسلمين اليوم أدرك أنهم على شفا جرف هار ، فربما انهار بهم في مستنقعات الأعداء إذ لا خروج منها إلا بالتوبة النصوح والعودة إلى الله تعالى ، وتحكيم شرعه ، والتزام هدي الحبيب صلى الله عليه وسلم ، اليوم نرى مشاحنات بين دول الإسلام ، ومطاحنات بين دول العروبة ، كل يريد الفتك بالآخر والتخلص منه ، وربما الاستيلاء على ثرواته وخيراته ، وربما تعاون مع الكفار للإطاحة بدولة مسلمة أو عربية أخرى ، لنيل مطالب الدنيا ، وهذا ولا ريب خروج من دائرة الإسلام ، إلى معسكر الكفر والإجرام ، فهلا من عقلاء يديرون شؤون دول الإسلام ، يدافعون عن بعضهم ليكونوا وحدة واحدة ، ودولة واحدة ، أليس ربنا واحد ، ونبينا واحد ، وديننا واحد ، فلماذا لا تكون قلوبنا واحدة ، ومشاعرنا تجاه بعضنا واحدة ، يخاف الواحد منا على أخيه ، يغضب لغضبه ، ويحزن لحرنه ، ويفزع لفزعه ، ويفرح لفرحه ، ويسع لسعده ، ويسعى جاهداً لنصرته ، ولو كان العالم كله بعتاده وعدته ضده ، وقف مع أخيه فالموت واحد ، والموت قادم لا محالة ، فأهلاً به ، وليكن ذلك جهاداً في سبيل الله عز وجل .
متى نرى تحقق ذلك ؟ وليس ذلك على الله بعزيز .
فإذا ما اختلت موازين الدين في قلوب المسلمين ، فلا تسأل عن العقوبة الربانية ، ولا تلومنَّ دولة إلا نفسها ، فما فُعل بعاد وثمود ومن قبلهم ومن بعدهم ما هو إلا دليل كفرهم وعنادهم .
فالله جل وعلا يرخي على عباده ستره ويسره ، ويرفع عنهم عسره ، يمهدهم بالمال والبنين ، ويزيدهم من النعم والخيرات ، والأنهار والأشجار ، والأمن والأمان ، فإذا طغوا وعصوا وتجبروا ، أذاقهم سوط عذاب ، قال تعالى : { وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [ النحل112 ] .
لقد كنا في رغد من العيش ولا نزال ولله الحمد والمنة والفضل ، وله الشكر والعرفان ، ولكن دخلت علينا مداخل ، وفُتحت علينا الدنيا ، فتنافسها الناس فأهلكت البعض ، وأبقت آخرين ممن سلموا من شرها ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يَوْماً ، فَصَلَّىٰ علَىٰ أَهْلِ أُحُدٍ صَلاَتَهُ عَلَىٰ الْمَيِّتِ ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَىٰ الْمِنْبَرِ ، فَقَالَ : " إِنِّي فَرَطٌ لَكُمْ ، وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ ، وَإِنِّي وَاللّهِ لأَنْظُرُ إِلَىٰ حَوْضِيَ الآنَ ، وَإِنِّي قَدْ أُعْطِيتُ مَفَاتِيـحَ خَزَائِنِ الأَرْضِ ، أَوْ مَفَاتِيحَ الأَرْضِ ، وَإِنِّي وَاللّهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي ، وَلٰكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَتَنَافَسُوا فِيهَا " [ متفق عليه ] .
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الأنْصَارِيِّ رَضِيَ اللّهُ عَنهُ ، أَنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ إِلَى الْبَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزيَتِهَا ، فَقَدِمَ بِمَالٍ مِنْ الْبَحْرَيْنِ ، فَسَمِعَتِ الأنْصَارُ بِقُدُومِ أَبي عُبَيْدَةَ ، فَوَافَوْا صَلاَةَ الْفَجْرِ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم انْصَرَفَ ، فَتَعَرَّضُوا لَهُ ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ رَآهُمْ ثُمَّ قالَ : " أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدِمَ بِشَيْءٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ ؟ " قالُوا : أَجَلْ يَا رَسُولَ اللّهِ ، قَالَ : " أَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ ، فَوَاللّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشى عَلَيْكُمْ ، وَلكِنْ أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كما بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا ، فَتُهْلِكَكُمْ كَما أَهْلَكَتْهُمْ " [ رواه البخاري ومسلم ] .
وهذا الحديث وقع اليوم ، فقد كثر الخير بين الناس ، ولكن لم يعملوا فيه بمثل ما أُمروا من نفقة وصدقة وزكاة ، بل بخلوا به ، وأخذوه من طرق الحرام ، غير مبالين بأوامر الكتاب والسنة ، فقد وقعت المصائب ، وحدثت المعائب ، فهاهي الأسهم والشركات تعرض نفسها لأهل الغفلة والحسرة والندامة ، تنافسوها كما تنافسها الكفار من قبلهم ، والعلماء يحذرون ويحرمون ، ولا حياة لمن تنادي ، بل يتعلقون برقاب طلبة علم لا يفقهون في مثل هذه الأمور شيئاً ، فأحلوا ما حرم الله ، فرتع الناس في بؤر الحرام رجالاً وركباناً ، جماعات وزرافات ، حتى وقف المطر ، واكفهر وجه الأرض ، وأمسكت خيراتها ، وأجدبت بعد خضرتها _ ولا حول ولا قوة إلا بالله _ كل ذلك بسبب ضعف العقيدة والوازع الديني لدى الناس ، وعدم الفقه في التوحيد ، وما ينافيه ، فبدءوا يسددون فواتير البعد عن منهج الله تعالى ، وتركهم سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وعدم اكتراثهم بتحذير العلماء الأجلاء ، ووقعت الأمة فريسة سهلة للأعداء ، بسبب التخاذل الأحمق ، واتباع الرأي الأخرق .ٍ
ولقد فعلت الأمم السابقة مثلما فعل المسلمون اليوم ، فكيف كانت النتائج ، إليكها رحمكم الله وعفا عنا وعنك :
قال جبار سبحانه : { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ 15 فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ 16 ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ 17} [ سبأ ] .
كانت تلكم عاقبة الإعراض عن دين الله تعلماً وتعليماً ، أن أبدلهم الله بالخوف بدل الأمن ، والشقاء مكان الرخاء ، والهلع بدل الأمن ، والجفاف بدل الأمطار ، والفيضانات والغرق بدل الطمأنينة والأمان ، فليتق الله المسلمون في مكان وليرجعوا إلى دينهم ، ويعلموا أنه الله الجبار القهار .
وقال القهار سبحانه : { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ 13 إِذْ جَاءتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ 14 فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ 15 فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ 16 وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ 17} [ فصلت ] .
هذه عاقبة الظالمين والطغاة المعتدين الذين يبغون الفساد في الأرض ، أن دمر الله قوتهم ، وأصبحوا أذلة صاغرين ، فنسأل الله جلت قدرته أن يجعل ذلك مآل أمريكا ومن عونها وساندها ووقف معها وأعارها مطاراته وأراضيه لضرب إخوانه المسلمين ، ألا فليتقوا الله ، وليعلموا أنه الله الجبار القهار .
اليوم انهال الناس وراء الأسهم السندات ، وجمع الأموال وتكديسها آلافاً وملايين ، وإنفاقها في الحرام والعهر والزنا ومعاقرة الخمور ، وشرب الدخان ، وتعاطي المسكرات ، وتناول الحرام أكلاً وشرباً ، وإنفاقها في دول الكفر للفسحة والاستجمام ، كي تُستخدم لقصف وقتل إخوانهم المسلمين في بلاد الإسلام .
لقد ابتعد بعض المسلمين عن عقيدتهم ، وغفلوا أنه الله القهار الجبار ، فخلعوا الحجاب ، ورموا الجلباب ، ورضوا بالانحلال ، وطرق الغواية والضلال ، وعتوا عن أمر ربهم ، فبيعت الخمور في الفنادق والمحلات التجارية عياناً بياناً ، يحاربون الله جهاراً نهاراً ، وغفلوا أنه الله القهار الجبار .
فأعجب كل العجب عندما يتألم المسلمون من واقعهم المرير ، ووقوع الحروب في عقر دارهم ، من عدوهم ، وكأنهم لم يقرءوا قول الحق جل جلاله : { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ آل عمران165 ] .
أيها المسلمون في أصقاع المعمورة ، تدبروا تلكم الآية ففيها بشارة ونذارة ، وسعادة وشقاوة ، تدبروا قول الله لأوليائه يوم أحد ، وما أصابهم من ضر وقتل ، أولما أصابتكم - أيها المؤمنون – مصيبة , وهي ما أُصيب منكم يوم "أُحد" قد أصبتم مثليها من المشركين في يوم "بدْر" , قلتم متعجبين : كيف يكون هذا ونحن مسلمون ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فينا ، وهؤلاء مشركون ؟ فهذا الذي أصابكم هو من عند أنفسكم ، بسبب مخالفتكم أمْرَ رسولكم وإقبالكم على جمع الغنائم ، قبل أن تنتهي الحرب وتضع أوزارها ، إن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد , لا معقِّب لحكمه .
ذلكم ما أصاب المسلمون يوم أحد وهم صفوة خلق الله بعد أنبيائه ، أصابتهم المصيبة ، ووقعت بهم المحن والفتن ، بسبب مخالفة أمر رسول الله لهم ، بأن لا يترك الرماة مكانهم فوق الجبل ، فلما رأوا أن الحرب قد انتهت وانتصر المسلمون ، نزلوا إلا نفراً قليلاً منهم ، فخلفهم المشركون آنذاك ، فوقع ما وقع من هزيمة لولا لطف الله تعالى بعباده المؤمنين .
أفنحن اليوم بمعزل أن يقع بنا ما وقع من قتل للرجال والأطفال والنساء ، وتخريب للديار ، ونهب للخيرات ، ودمار للعمران ، واستيلاء على المقدرات ؟ كلا ، لسنا بمعزل عن ذلك ، وكثير منا يُحارب الله كل يوم وكل ساعة ولحظة ، إما بكفر صريح بواح ، بترك للصلوات ، وفعل المنكرات مع استحلال لها ، وسب لله تعالى ، وتعد عليه بألفاظ قبيحة وقحة من قبل بعض الرؤساء والممثلين والممثلات ، والفنانين والفنانات ، وغيرهم من الفسقة والمارقين من الدين .
إن ما أصابنا اليوم من مصائب وكوارث بسبب البعد عن العقيدة ، والغفلة عن أن الله هو الجبار القهار ، قال تعالى : { وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ } [ الشورى30 ] .
وما أصابكم أيها الناس من مصيبة في دينكم ودنياكم ، فبما كسبتم من الذنوب والآثام ، ويعفو لكم ربكم عن كثير من السيئات ، فلا يؤاخذكم بها ، ولو أخذكم بها لما بقي على وجه الأرض أحد من الناس ، وما ظلمهم الله ولكن كانوا هم الظالمين ، فليعلموا أنه الله الجبار القهار .
وقال تعالى : { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ الروم41 ] .
ظهر الفساد في البر والبحر , كالجدب وقلة الأمطار ، وكثرة الأمراض والأوبئة ; والقتل والتشريد ، وذلك بسبب المعاصي التي يقترفها البشر ; ليصيبهم بعقوبة بعض أعمالهم التي عملوها في الدنيا ; كي يتوبوا إلى الله سبحانه وتعالى ، ويرجعوا عن المعاصي , فتصلح أحوالهم , وتستقيم أمورهم ، فلوا علموا أن الله هو الجبار القهار ، وأيقنوا بذلك ، لما تعدوا حدوده .
فإن كانت الأمة اليوم تروم النصر ، وترجو الفلاح ، فلابد وحسب أن يكون دينها الإسلام ، قلباً وقالباً ، وإلا فليسوا بمؤمنين ، قال تعالى : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } [ النساء65 ] .
أقسم الله تعالى بنفسه الكريمة ، أنه لا يكون الناس مسلمون ، ولا يكونوا مؤمنين حقيقة ، حتى يجعلوا النبي صلى الله عليه وسلم حكمًا فيما وقع بينهم من نزاع في حياته , ويتحاكموا إلى سنته بعد مماته , ثم لا يجدوا في أنفسهم ضيقًا ولا حرجاً فيما انتهى إليه حكمه , ويجب أن ينقادوا له مع ذلك انقيادًا تاماً , بدون تذمر أو تقاعس عن تنفيذ أمره ، فالحكم بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة في كل شأن من شؤون الحياة من صميم الإيمان مع الرضا والتسليم .
إن ما نشاهده اليوم في دول الإسلام من حرب ضروس ضد المتمسكين بشرع الله تعالى ، لهو أمر تندى له الجباه ، وتعتصر له الأفئدة ، مداهمات للمسلمين في بيوتهم مع بزوغ الفجر ، وترويع للآمنين منهم في سربهم ، وعندما تبحث عن سبب ذلك ، تجد أنه كافر تولى زمام أمر من أمور المسلمين أو ظالم أو علماني لا دين له ، لا يرضى بتحكيم شرع الله ، أو تنفيذاً لأمر بعض الدول الكافرة الفاجرة المتجرأة على الله بحرب أولياء الله ، ثم يُصدر الأوامر بالقبض على الملتحين ، ومرتادي المساجد ، والمحافظين على أعراضهم من التبرج والسفور ، وحبسهم وتعذيبهم ، وتلفيق التهم بهم ، حتى حصل العداء ، ووقعت الشحناء والبغضاء بين المسلمين أنفسهم ، ثم بعد ذلك يقولون متى نصر الله ؟
أين النصر وأنتم تحاربون من ينصركم ؟ أين الظهور وأنتم تمنعون عباد الله من طاعة ربهم وخالقهم ؟
إذا أردتم النصر فاعلموا أن الله هو الجبار القهار .
أسئلة كثيرة تدور في المخيلة إجابتها واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار ، ولكن لا حياة لمن تنادى والسبب كما قال الله تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ 15 أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ 16} [ هود ] ، وقال سبحانه : { وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } [ هود113 ] .
فلا تميلوا أيها القادة والرؤساء إلى هؤلاء الكفار الظلمة , فتصيبكم النار , وما لكم من دون الله من ناصر ينصركم , ويتولى أموركم .
نسأل الله الثبات على دينه ، والفقه فيه ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، وصلى الله وسلم وبارك على حبيبنا ونبينا محمد ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

كتبه
يحيى بن موسى الزهراني
إمام جامع البازعي بتبوك
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
يحيى الزهراني
  • رسائل ومقالات
  • مسائل فقهية
  • كتب ومحاضرات
  • الخطب المنبرية
  • بريد الشيخ
  • الصفحة الرئيسية