صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







بوحة الفكر: سبْر المعنى

عبد الله بن سُليمان العُتَيِّق


” اقرأ ما وراء السطور”  إتش جاكسون براون
 
المعاني جواهر الألفاظ، و مقاصد الحياة، و المباني قوالبُ حمَّالة، و رواحلُ نقَّالة. ينثر الإنسان معانيه في بُطونٍ من اللفظ، يبين منها كثيرٌ، وربما خفيَ منها أكثر، وما خفيَ ربما كان الجوهرُ المقصود. اهتمَّ الكاتبون بحرير المعاني، كما اهتمَّ الأكثرون منهم بعدم تمريرها من خلال ظاهر اللفظ، فتركوها في جوف الكلام، من أرادها نقَّبَ وبحثَ، ومن طلبَ حصَّل. فالخفياتُ ليس من السهل إظهارها. من الممكن أن يكون الكاتبُ تفنَّن في الإخفاء، فالصعوبة في إظهارها أشد، لأن “صاحب الدار أدرى بما فيها” و ” فاقد الشيء لا يُعطيه”. و تفنن الكُتابِ في إخفاء المعاني قد يكون ضرباً من التحدي للقارئ، يمتحنون ذكاءه و قوته، و قد يكون صيانة للعلم الموجود فيه، حتى لا يقع عليه من ليس أهلا لأن يناله، كما في تآليف ” المضنون به على غير أهله”، كما هو الحال في بعض مصطلحات العلوم. وقد يكون أيضاً حرماناً ومنعاً، و هذه أردأ المقاصد.

المعاني الخفية تُزيل إشكالات المعاني الظاهرة، فهي تصنع احتمالاً مراداً ينقضُ الاحتمال الظاهر، وهنا تأتي نفاسةٌ أخرى لتلك القراءة الخفية لما وراء الكلمة. المعاني الخفية في الألفاظ لا تُدرك بالسهولة، فهي بحاجة إلى عُمقِ نظرةٍ، و دقةِ فكرٍ، و تأمل فكر، وربما أسعف ذلك في استخراجها. فالقارئ الذكيُ يُدرك بعضا من المعاني حين يُعمل عقله في استخراجها، بعيدا عن مقاصد الكاتب، فيقرأ بأبعاد عقله، و سَعة رؤيته، فيدرك ما أراد الكاتب، و ربما زاد عليه، فالعقول و إن اتفقت نعمةً إلا أنها مختلفة قسمة. وكلما قَوي آلة الاستخراج كثر المُستخرَج. عندما تقرأ أعمِلْ ذهنك في توظيف قُدراتِ عقلك في استخراج ما خفي من المعاني، فأنت تكتسب مهارة في القراءة العميقة، و تُكسبُ عقلك قوة في استخراج المخفي. هناك طريقة لملاحظة ذلك، و هي التعرُّفُ على أصول الاستنباط و الفهم، فهي تعطيك مجالا للاستخراج، لأنها تفعيل لدور العقل.

ربما تُستخرج المعاني الخفية بمساندة مكتوبٍ آخرَ يكشف ما خفي في هذا المكتوب، وهذه طريقة لا تنُمُّ عن ذكاء عقلٍ بقدر ما تنُم عن سَعة ثقافة و اطلاع، فقد يكتب الكاتبُ كلاما يضع فيه مقاصده ظاهرة، أو بعضها، ثم يكتبه أخرى يُخفي تلك المقاصد بلفظٍ موهم، فمن قرأ المكتوب الأخير تاه في الإيهام، و لا يصل إلى البيان إلا بإعمال عقله في الاستخراج للمخفي أو بالوقوف على كاشف الخَفيِّ في مكتوبه الأول.

كذلك تُستخرج المعاني من خلال دلالات الألفاظ: الأولى: المطابقة. وهي أن يكون اللفظ و ما فُهم عنه متطابقان. و هذه لا تحتاج إلى إعمال فكر و عقل لاستخراجها. كأن يُقال: فلان شرب الماء. فاللفظ و المفهوم منها متطابقان.

الثانية: دلالة التضمن.و هي دلالة اللفظ على جزءٍ من المراد. فيبقى هناك أجزاء أُخرى. فالغُرفة جزءٌ من البيت، فحين يأتي ذكر البيت في كلام فيقينا أن يتضمن غُرَفا، و إلا لما سُمِّيَ بيتا.

الثالثة: دلالة الالتزام. وهي دلالةٌ على معنى خارجٍ عن المراد. و لم يخطر على الكاتب، أو المتكلم. فالمعنى المُستخرج من خلالها يلزم من وجوده العقل. كما لو قيل: إن فلانا تكلَّم في مجْمَعٍ كبير. نُدرك منه أمورا: أنه عاقل، جريء، خطيب، مُثقَّف.

وهذه أشياء لم تأتِ في اللفظ، و لكنها تلزم. تلك الدلالات ليس شرطا أن تُخرج المخفي، و لكنها حتما تكون مساعدة بشكل كبير.

أيضاً حين يُعمل دور بعض الفنون و العلوم في قراءة المكتوب نستطيع استخراج الكثير، كعلوم المنطق، و اللسان، و أصول الفقه. فهي علوم يُستخرج بها الكثير من المعاني الخفية. ربما لم تُدرك بهذه الرؤية، و لكنها تقوم بها حين يُؤتى بها على وجه صحيح.

إشارات الجسد، حين يُرى أو يُسمع المتكلم، لها دور كبير في استخراج تلك المعاني، فربما أدرك الحاضرُ الناظرُ ما لم يُدركه السامع عن بُعد أو قارئٌ من بعيد. فالإشارات لا تكذب.

المُدركُ للمعنى الخفيِّ مُدركٌ علماً غائباً عن آخر، فلا يُخطَّا فيما وصل إليه فهمه، لأن ” من علِم حُجةٌ على من لم يَعلم”، و الفهوم قِسَمُ النعم، و الفهوم بالعلوم و العقول، و لا تحجير على فهمٍ، و إنما يُحاجج فيه عندما يكون محلَّ خصام، و كلٌّ وما فَهِم، فلا تثريب، إلا أنه تثريبٌ حين يكون إلزام.

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
عبدالله العُتَيِّق
  • مقالات
  • كـتـب
  • خواطر
  • أدبيات
  • كَلِمَات طـَائِرَة
  • الصناعة البشرية
  • منتقيات
  • للتواصل مع الكاتب
  • الصفحة الرئيسية