صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







بطلان نسبة تبديع التعريف عشية عرفة في مساجد الأمصار لابن تيمية

عبد الرحمن بن صالح السديس

 
 بسم الرحمن الرحيم


الحمد لله حمدا كثيرا طبيا مباركا فيه، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وسلم تسليما، أما بعد:
فقد ذكر العلامة ابن مفلح في كتاب «الفروع » 3/216 ما يلي: «ولا بأس بالتعريف عشية عرفة بالأمصار، نص عليه (هـ م) وقال: إنما هو دعاء وذكر، قيل له: تفعله أنت؟ قال: لا. وأول من فعله ابن عباس وعمرو بن حريث، وعنه: يستحب، ذكره شيخنا (خ).
نقل عبد الكريم بن الهيثم أن أحمد قيل له: يكثر الناس؟ قال: وإن كثروا. قلت: ترى أن يذهب إلى المدينة يوم عرفة على فعل ابن عباس؟ قال: سبحان الله. ورخص في الذهاب.


ولم ير شيخنا زيارة القدس ليقف به، أو عند النحر، ولا للتعريف بغير عرفة، وأنه لا نزاع فيه بين العلماء، وأنه منكر، وفاعله ضال
». اهـ

ومعنى (هـ م) في اصطلاح ابن مفلح، يعني: خلافا لأبي حنيفة ومالك.
ومعنى: (خ)= خلافا لأبي حنيفة ومالك والشافعي.
والمراد بـ: شيخنا= ابن تيمية.

ثم جاء شيخ الحنابلة المرداوي في «الإنصاف» 5/383 فنقل عن صاحب «الفروع» لكنه اختصر كلامه، وهذا نصه: «لا بأس بالتعريف بالأمصار عشية عرفة نص عليه، وقال: إنما هو دعاء وذكر، وقيل له: تفعله أنت؟ قال: لا. وعنه يستحب، ذكرها الشيخ تقي الدين. وهي من المفردات. ولم ير الشيخ تقي الدين التعريف بغير عرفة، وأنه لا نزاع فيه بين العلماء، وأنه منكر، وفاعله ضال». اهـ

تقي الدين= ابن تيمية.

ثم جاء الشيخ ابن قاسم في «حاشية الروض المربع» 2/523، فنقل عنهما وغيّر في التعبير يسيرا فقال تعليقا على قول صاحب «الروض»: « ولا بأس... ولا بالتعريف عشية عرفة بالأمصار»: «وقال شيخ الإسلام: بدعة، لم يره أبو حنيفة ومالك وغيرهما بغير عرفة، ولا نزاع بين العلماء أنه منكر، وفاعله ضال».اهـ.

وعلق المشايخ محققو «الروض المربع» ط دار الوطن 3/468، قول صاحب «الروض» السابق ببعض كلام صاحب «الإنصاف»، فقالوا: في «الإنصاف»5/383: «ولم ير الشيخ تقي الدين التعريف بغير عرفة، وأنه لا نزاع فيه بين العلماء، وأنه منكر، وفاعله ضال». اهـ

وجاء في «الموسوعة الفقهية الكويتية» 45/335: «وقال ابن مفلح وتبعه المرداوي: لم ير الشيخ تقي الدين التعريف بغير عرفة، وأنه لا نزاع فيه بين العلماء، وأنه منكر، وفاعله ضال».

وربما وقع مثل هذا لغيرهم ..

وهذا التقرير لهذا الفرع غلط محض على ابن تيمية رحمه الله، سببه اختصار ابن مفلح لكلام ابن تيمية، وضيق تعبيره، حتى أصبح ظاهره يدل على هذا المعنى الغلط، ثم تصرف من بعده بكلام صاحب «الفروع» بحسب ما فهموه، وعدم تأملهم للنقل وترك الرجوع لكلام ابن تيمية نفسه.

فصاحب «الفروع» قال: «وعنه [الإمام أحمد]: يستحب، ذكره شيخنا»، وكذلك نقله صاحب «الإنصاف»، فكيف يقول ابن تيمية إنه يستحب في رواية عن أحمد ثم يقول: «لا نزاع فيه بين العلماء»؟!         

مع أن النزاع مشهور مذكور في كتب المذهب وغيرها، مما لا يخفى على ابن تيمية ولا من هو دونه.
فهذا لو تأمله من نقل عن «الفروع» و«الإنصاف»= لتبين له وجود إشكال في النقل.

أما تقرير ابن تيمية الذي اختصره صاحب «الفروع» فهو عدد من كتبه في:
«مسألة في المرابطة بالثغور أفضل أم المجاورة بمكة؟» ضمن« جامع المسائل» 5/364، وفي «اقتضاء الصراط المستقيم» 2/149، وفي «قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة» ضمن «مجموع الفتاوى» 1/282.

والآن سأنقل لك كلامه وتقريره للمسألة، وفيها مراده بالنهي الذي لا نزاع فيه بين العلماء وأن فاعله ضال مبتدع، وكلامع عن المسألة المشهورة المختلف فيها بين العلماء ..

قال في كتاب «مسألة في المرابطة بالثغور» : «وإذا تبين ما في الرباط من الفضل؛ فمن الضلال ما تجد عليه أقواما ممن غرضه التقرب إلى الله والعبادة له بما يحبه ويرضاه يكون في الشام أو ما يقاربها، فيسافر السفر الذي لا يشرع بل يكره، ويترك ما هو مأمور به واجب أو مستحب.

مثال ذلك: أن قوما يقصدون التعريف بالبيت المقدس، فيقصدون زيارته في وقت الحج ليعرفوا به، ويدعون المقام بالثغور التي تقاربه.

وهذا في غاية الضلال والجهل والحرمان من وجوه:
أحدها: أن التعريف بالبيت المقدس ليس مشروعا لا واجبا ولا مستحبا بإجماع المسلمين، ومن اعتقد السفر إليه للتعريف قربة= فهو ضال باتفاق المسلمين، بل يستتاب فإن تاب وإلا قتل، إذ ليس السفر مشروعا للتعريف إلا للتعريف بعرفات.
وأقبح من ذلك تعريف أقوام عند بعض قبور المشايخ والأنبياء وغير ذلك من المشاهد أو السفر لذلك، فهذا من أعظم المنكرات باتفاق المسلمين.

بل تنازع السلف في تعريف الإنسان في مصره من غير سفر، مثل أن يذهب عشية عرفة إلى مسجد بلده فيدعو الله ويذكره، فكره ذلك طوائف؛ منهم أبو حنيفة ومالك وغيرهما. ورخص فيه آخرون؛ منهم الإمام أحمد، قال: لأنه فعله ابن عباس بالبصرة وعمرو بن حريث بالكوفة. ومع هذا فلم يستحبه أحمد، وكان هو نفسه لا يعرف ولا ينهى من عرف.
وقد قيل عنه: إنه يستحب.

وأما السفر للتعريف بغير عرفة؛ فلا نزاع بين المسلمين أنه من الضلالات، لا سيما إذا كان بمشهدٍ مثل قبر نبي أو رجل صالح أو بعض أهل البيت؛ فإن السفر إلى ذلك لغير التعريف منهي عنه عند جمهور العلماء من الأئمة وأتباعهم».
اهـ

وقال في «قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة»: «وتعريف ابن عباس بالبصرة وعمرو بن حريث بالكوفة؛ فإن هذا لما لم يكن مما يفعله سائر الصحابة= ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم شرعه لأمته= لم يمكن أن يقال هذا سنة مستحبة؛ بل غايته أن يقال: هذا مما ساغ فيه اجتهاد الصحابة، أو مما لا ينكر على فاعله؛ لأنه مما يسوغ فيه الاجتهاد، لا لأنه سنة مستحبة سنها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، أو يقال في التعريف: إنه لا بأس به أحيانا لعارض إذا لم يجعل سنة راتبة.

وهكذا يقول أئمة العلم في هذا وأمثاله: تارة يكرهونه، وتارة يسوغون فيه الاجتهاد، وتارة يرخصون فيه، إذا لم يتخذ سنة..» اهـ.

وقال في «اقتضاء الصراط المستقيم»: «فصل: وقد يحدث في اليوم الفاضل، مع العيد العملي المحدث، العيد المكاني، فيغلظ قبح هذا، ويصير خروجا عن الشريعة. فمن ذلك: ما يفعل يوم عرفة، مما لا أعلم بين المسلمين خلافا في النهي عنه، وهو قصد قبر بعض من يحسن به الظن يوم عرفة، والاجتماع العظيم عند قبره، كما يفعل في بعض أرض المشرق والمغرب، والتعريف هناك، كما يفعل بعرفات فإن هذا نوع من الحج المبتدع الذي لم يشرعه الله، ومضاهاة للحج الذي شرعه الله، واتخاذ القبور أعيادا.

وكذلك السفر إلى بيت المقدس، للتعريف فيه، فإن هذا أيضا ضلال بين، فإن زيارة بيت المقدس مستحبة مشروعة للصلاة فيه والاعتكاف، وهو أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال، لكن قصد إتيانه في أيام الحج هو المكروه، فإن ذلك تخصيص وقت معين بزيارة بيت المقدس، ولا خصوص لزيارته في هذا الوقت على غيره.

ثم فيه أيضا مضاهاة للحج إلى المسجد الحرام، وتشبيه له بالكعبة، ولهذا قد أفضى إلى ما لا يشك مسلم في أنه شريعة أخرى، غير شريعة الإسلام، وهو ما قد يفعله بعض الضلال من الطواف بالصخرة، أو من حلق الرأس هناك، أو من قصد النسك هناك.

وكذلك ما يفعله بعض الضلال من الطواف بالقبة التي بجبل الرحمة بعرفة كما يطاف بالكعبة.

فأما الاجتماع في هذا الموسم لإنشاد الغناء أو الضرب بالدف بالمسجد الأقصى ونحوه، فمن أقبح المنكرات من جهات أخرى.

منها: فعل ذلك في المسجد؛ فإن ذلك فيه ما نهي عنه خارج المساجد؛ فكيف بالمسجد الأقصى؟! ومنها: اتخاذ الباطل دينا. ومنها فعله في الموسم.


فأما قصد الرجل  مسجد بلده يوم عرفة للدعاء والذكر فهذا هو التعريف في الأمصار الذي اختلف العلماء فيه
، ففعله ابن عباس، وعمرو بن حريث من الصحابة وطائفة من البصريين والمدنيين، ورخص فيه أحمد، وإن كان مع ذلك لا يستحبه، هذا هو المشهور عنه.

وكرهه طائفة من الكوفيين والمدنيين: كإبراهيم النخعي وأبي حنيفة ومالك، وغيرهم.
ومن كرهه قال: هو من البدع، فيندرج في العموم لفظا ومعنى.
ومن رخص فيه قال: فعله ابن عباس بالبصرة حين كان خليفة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، ولم ينكر عليه، وما يفعل في عهد الخلفاء الراشدين من غير إنكار لا يكون بدعة...


والفرق بين هذا التعريف المختلف فيه وتلك التعريفات التي لم يختلف فيها
: أن في تلك قصد بقعة بعينها للتعريف فيها: كقبر الصالح، أو كالمسجد الأقصى، وهذا تشبيه بعرفات، بخلاف مسجد المصر، فإنه قصد له بنوعه لا بعينه، ونوع المساجد مما شرع قصدها، فإن الآتي إلى المسجد ليس قصده مكانا معينا لا يتبدل اسمه وحكمه، وإنما الغرض بيت من بيوت الله، بحيث لو حول ذلك المسجد لتحول حكمه، ولهذا لا تتعلق القلوب إلا بنوع المسجد لا بخصوصه.

وأيضًا، فإن شد الرحال إلى مكان للتعريف فيه، مثل الحج، بخلاف المصر، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا». هذا مما لا أعلم فيه خلافا. فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن السفر إلى غير المساجد الثلاثة، ومعلوم أن إتيان الرجل مسجد مصره: إما واجب كالجمعة، وإما مستحب كالاعتكاف به.

وأيضا فإن التعريف عند القبر اتخاذ له عيدا، وهذا بنفسه محرم، سواء كان فيه شد للرحل، أو لم يكن، وسواء كان في يوم عرفة أو في غيره، وهو من الأعياد المكانية مع الزمانية».
اهـ.
فهذا تأصيل ابن تيمية لهذه المسألة وتفصيل قوله فيها.
وقد أعرض أكثر متأخري الحنابلة عن هذا الغلط على ابن تيمية ولم ينقلوه في كتبهم.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم تسليما.

ليلة 11 من ذي الحجة من عام 1435 للهجرة.

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
عبد الرحمن السديس
  • مقالات متنوعة
  • فوائد حديثية
  • مسائل فقهية
  • فوائد تاريخية
  • مسائل عقدية
  • الصفحة الرئيسية