صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







أسس السياسة الشرعية
(3)
الاستحسان

اضغط هنا لتحميل الكتاب على ملف وورد

د. سعد بن مطر العتيبي

 
الطريق الثانية : الاستـحســان
ومن أهم أسس السياسة الشرعية أيضا : الاستـحســان .
والاستحسان في اللغة : عدُّ الشيءِ حسناً ؛ قاله في القاموس ؛ والحَسَنُ : ضد القبيح ، وهو : عبارة عن كلِّ مُبْهِجٍ مرغوبٍ فيه .
وأمَّا في اصطلاح الأصوليين فقد عُرِّف الاستحسان بتعاريف عدَّة وفسِّر بتفاسير مختلفةٍ ، يوهم اختلافها الاختلاف في
صحة الاستدلال بالاستحسان ؛ غير أنها عند التأمل والتحقيق ، لا تُسَلَّمُ سبباً لما تُوهِمُهُ ؛ حيث يتضح أنَّ النزاع المُتَنَاقل فيها ، لا يعدو كونه لفظياً ، أدَّى إليه عدمُ تحرير المحلّ ، أو فهمه على غير ما قُصد به ، كما نبَّه إليه و نصَّ عليه غيرُ واحد من العلماء (1) ؛ يُجَلِّي ذلك تحرير المسألة ؛ وذلك أنَّ كلام العلماء في الاستحسان لا يكاد يخرج عن معنيين :
الأول : الاستحسان بمعنى : ما يستحسنه الإنسان بعقله ، أو تشتهيه نفسُه ، من غير مستند شرعي معتبر ؛ وهذا باطلُُ بالإجماع (2)
والثـاني : الاستحسان الأصولي ، المبنيُّ على مستند من الشرع معتبرٍ ؛ فهذا الذي يعنيه العلماءُ عند التعليل به .
وقد نصَّ غيرُ واحد من العلماءِ على أنَّ هذا مما لا ينكره أحد .
و من أجود ما عرف به الاستحسان الأصولي ، أنَّه : العدول بحكم المسألة عن حكم نظائرها ؛ لدليلٍ شرعيٍّ خاصٍّ بتلك المسألة .
وعرَّفه شيخنا يعقوب الباحسين مبينا حكمته ، بأنَّه : " العدول في مسألة عن مثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه ، لوجه يقتضي التخفيف ، ويكشف عن وجود حرج عند إلحاق تلك الجزئية بنظائرها في الحكم " (3) .

ومن هنا يتضح أن الاستحسان هو في حقيقة الأمر استثناء بوجه شرعيٍّ .

فالعدول ، هو : الاستثناء . والوجه المقتضي ، هو : الدليل الأقوى .
فالاستحسان ، يعني الاستثناء من أصل المنع غالباً ؛ فيقضي بالإباحة ، أو من الواجب يرفعه أو يرخِّص فيه (4) ؛ كلُّ ذلك بناءً على المستند الأقوى ؛ لا على الرأي المجرَّد ، ولا على أمر خفيٍّ لا يمكن التعبير عنه ؛ " لأنّ المجتهد ليس له الاستناد إلى مجرَّد عقله في تحسين شيءٍ ، وما لم يعبِّر عنه لا يمكن الحكم له بالقبول حتَّى يظهر" (5) ؛ والمستند الأقوى ينتظم أوجهاً متعدِّدة ، حرص الأصوليون على إبرازها ؛ دفعاً لتوهم قيام الاستحسان على غير مستند شرعي ؛ حيث يُعَدِّدُون هذه الأوجه ، ويُنَوِّعُون الاستحسان بالنَّظر إليها .

فإذا عرضت للمجتهد مسألة تندرج تحت قاعدة عامَّة أو يتناولها أصلٌ كليٌّ ، و وجد المجتهد دليلاً خاصَّاً يقتضي استثناء هذه الجزئية من الأصل الكلي ، والعدول بها عن الحكم الثابت لنظائرها إلى حكم آخر ؛ للدليل الخاص الذي ظهر له ؛ فإنَّ هذا العدول الاستثنائي يعبَّر عنه بـ " الاستحسان " ، والدليل الذي اقتضاه هو : وجه الاستحسان ، والحكم الثابت به هو : الحكم المستحسن ، أي : الثابت على خلاف القياس ، والقياس هنا يراد به الأصل الكلي أو القاعدة العامَّة (6)
ومن أمثلتهِ : الاستحسانُ بقاعدة الضرورة ، ويتحقق هذا النوع في كل جزئية يكون الأخذ بها وفق الأصل العام أو القواعد المقررة أو القياس أمرا متعذِّراً ، أو ممكناً لكنه يلحق بالمكلَّف مشقة وعسراً شديدين ؛ فيعدل بها عن مثل ما يحكم به في نظائرها استحساناً ؛ رفعاً لهذا الحرج ، ودفعاً لهذه الضرورة ؛ والضرورة هي : هي الحالة التي تطرأ على الإنسان بحيث لو لم تراع لجُزِم أو خِيْفَ أن تضيع مصالحه الضرورية ؛ التي لابد منها في حفظ الأمور الخمسة . ذكره شيخنا يعقوب الباحسين .

ومثّل له بعض أهل الأصول بقولهم : الأصل أنَّ المرأة كُلَّها عورة ؛ لكن أبيح للطبيب النظر إلى ما تدعو الضرورة إلى النَّظر إليه منها ، وذلك استحساناً ؛ لأجل الضرورة ؛ فيكون أرفق بالنَّاس .

قال السرخسي : " الحرج مدفوع بالنَّص ، وفي موضع الضَّرورة يتحقّق معنى الحرج لو أُخِذَ فيه بالقياس ؛ فكان متروكاً بالنَّص " (7) ، وقوله بالنص ، أي : النصوص الواردة في رفع الحرج عموماً .

وهذا أمر متقرِّر عند العلماء ، بل هو من مزايا الشريعة الإسلامية الظاهرة .
قال عزّ الدين ابن عبد السلام _رحمه الله_ في قواعد الأحكام : " اعلم أنَّ الله شرع لعباده السعي في تحصيل مصالح عاجلة و آجلة تجمع كل قاعدة منها علَّة واحدة ، ثم استثنى منها ما في ملابسته مشقَّة شديدة أو مفسدة تربى على تلك المصالح ؛ وكذلك شرع لهم السعي في درءِ مفاسد في الدَّارين أو في إحداهما تجمع كلّ قاعدة منها علَّة واحدة ، ثم استثنى منها ما في اجتنابه مشقَّة شديدة أو مصلحة تربى على تلك المفاسد ؛ وكلّ ذلك رحمة بعباده ونظر لهم ورفق بهم . ويعبَّر عن ذلك كلِّه بما خالف القياس ، وذلك جارٍ في العبادات و المعاوضات وسائر التصرُّفات " (8) .

فالاستحسان في حقيقته : منع إدراج بعض الفروع فيما يظنُّ اندراجها فيه من الكليات والقواعد العامّة ؛ لدلالة تترجّح
عند الموازنة بين الأدلة مع اعتبار مقاصد الشرع وعلله وجوداً وعدماً ؛ وهي علامة فقه الفقيه ، لذلك وصفه الإمام مالك بأنه تسعة أعشار العلم ؛ لخفائه على من لم يتأنَّ من الفقهاء ، ولأثره في بيان أحكام المسائل التطبيقية ، من حيث هو نتيجة من نتائج الاجتهاد في تحقيق المناط فيها .

وفي الحكمة من هذا الطريق الاستدلالي يقول الأستاذ محمد فتحي الدريني : " نظرية الاستحسان شرعت ؛ لدرء التعسف في الاجتهاد عن طريق الاستثناء ، والاستحسان ضرب من النظر في المآل ، جرياً على سنن الشارع في اعتبار المسببات عند تشريع الأسباب " .
 


أنـواع الاستحسان .

بالنظر في تعاريف الاستحسان ، وتتبع نماذج الوقائـع التي يُمَثَّل له بها العلماء ، واستقراءِ جملة الأحكام التي استنبطها الفقهاءُ عن طريقه مـع ذكر مستنده - لا تكاد تخرج أنواعه من جهة مستنده - أي : دليله أو ما يعبر عنه في كتب الفقه بـ: وجه الاستحسان - عن نوعين :

الأول : العدول عن موجب القياس إلى قياسٍ أقوى منه ، أو الاستحسان بالقياس.
وحقيقته : تردد الفرع - في نظر المجتهد - بين أصلين ، له شبه بكلٍ منهما ؛ وإلحاقه بأقربهما شبها له ، وهذا لا يدرك إلا بعد التأمُّـل .
ويتضح ذلك في المسألة التي تَعْرِض للمجتهد وتكون محلاً للقياس ، ويكون لها شبه بأصلين ثبت لكلٍ منهما حكم شرعيٌّ ؛ غير أنَّ أحد الشبهين أقرب في تبادره إلى ذهن المجتهد من الآخر، والآخر أدعى إلى الميل إليه ، لكونه أدنى إلى تحقيق المصلحة ؛ فَيَعْدِل المجتهدُ عن الشَّبَه في الأصل المتبادر، ويُرَجِّح إلحاقَ المسألة بالأصل الذي دَقَّت فيه العِلّة ؛ لقوته وتَحَقُّقِ المصلحة فيه ، وخُلُوِّ الأصل الذي تبادر شَبَهُه عن ذلك . فهذا العدول والإلحاق يُعَدَّ في عرف الأصوليين نوعاً من أنواع الاستحسان ؛ والدليلُ الذي اقتضى هذا العدول يسمَّى وجه الاستحسان ، أي : سنده ؛ والحكم الثابت بالاستحسان هو الحكم المُسْتَحْسَن ، أي : الثابت على خلاف القياس الجليّ .
ويُمثِّل له علماء الأصول : بإدخال حقوق الارتفاق (8) في الأرض الزراعية ، في حال وقفها ، ولو لم ينصّ الواقف على ذلك ؛ مع عدم إدخالها في عقد البيع ما لم يُنَصّ على إدخالها فيه . فقد جاء عند الحنفية في هذه المسألة قولهم : القياس عدم دخولها ، والاستحسان دخولها (9)

الثاني : استثناء مسألة جزئية من أصل كلي ، لدليل يقتضي ذلك الاستثناء (10)
بيانـه : إذا عرضت للمجتهد مسألة تندرج تحت قاعدة عامَّة أو يتناولها أصلٌ كليٌّ ، و وجد المجتهد دليلاً خاصَّاً يقتضي استثناء هذه الجزئية من الأصل الكلي ، والعدول بها عن الحكم الثابت لنظائرها إلى حكم آخر ؛ للدليل الخاص الذي ظهر له ؛ فإنَّ هذا العدول الاستثنائي يعبَّر عنه بـ " الاستحسان " ، والدليل الذي اقتضاه هو : وجه الاستحسان ، والحكم الثابت به هو : الحكم المستحسن ، أي : الثابت على خلاف القياس ، والقياس هنا يراد به الأصل الكلي أو القاعدة العامَّة .

ويندرج تحت هذا النوع عدَّة فـروع ، منها :


الفرع الأول : الاستحسان بالإجماع .
وعرِّف بأنَّه : " انعقاد الإجماع الصريح أو السكوتي على حكم في مسألة ، يخالف قياساً أو قاعدة عامَّة " ( الاستحسان بين النظرية والتطبيق ، للشيخ د.شعبان إسماعيل :78 ) .
ويتحقق هذا النَّوع بإفتاءِ المجتهدين في حادثة ما ، على خلاف القياس أو الأصل العام أو القاعدة المقرَّرة في أمثالها ، أو بسكوتهم وعدم إنكارهم ما يفعله النَّاس ، إذا كان فعلهم مخالفاً للقياس أو الأصل المقرَّر .
مثالـه : الإجماع على جواز عقد الاستصناع (11) ؛ مع أنَّ مقتضى القياس عدم جوازه ؛ فإنّ المعقود عليه معدوم حال العقد ؛ وبيع المعدوم ممنوع بنص الحديث السابق ؛ لكن استثنى الفقهاءُ هذا العقد من حكم نظائره ؛ لجريان التعامل به من غير نكير من أهل العلم ، وتقريرهم على ذلك إجماع عمليٌّ (ينظر : تيسير التحرير ، لأمير بادشاه : 4/78 ) .
قال السرخسي : " تركنا القياس ؛ للإجماع على التعامل به فيما بين الناس من لدن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ إلى يومنا هذا ، وهذا ؛ لأنَّ القياس فيه احتمال الخطأ والغلط ، فبالنَّص أو الإجماع يتعين فيه جهة الخطأ فيه ، فيكون [ أي: القياس ] واجب الترك لا جائز العمل به في الموضع الذي تعين جهة الخطأ فيه " ( أصول السرخسي : 2/203).

الفرع الثاني : الاستحسان بالضرورة .
ويتحقق هذا النوع في كل جزئية يكون الأخذ بها وفق الأصل العام أو القواعد المقررة أو القياس أمراً متعذِّراً ، أو ممكناً لكنه يلحق بالمكلَّف مشقة وعسراً شديدين ؛ فيعدل بها عن مثل ما يحكم به في نظائرها استحساناً ؛ رفعاً لهذا الحرج ، ودفعاً لهذه الضرورة (12)
مثالـه : ما سبق من أنَّ المرأة كُلَّها عورة ؛ لكن أبيح للطبيب النظر إلى ما تدعو الضرورة إلى النَّظر إليه منها ، وذلك استحساناً ؛ لأجل الضرورة ؛ فيكون أرفق بالنَّاس . ( المبسوط ، لشمس الدِّين السرخسي :10/ 145. ويراجع ما مر في الحلقة الثانية من بيان ) .
وهكذا بقية أقسام الاستحسان كالاستحسان بقاعدة الذرائع ، وسنة الخلفاء الراشدين ، وغيرها ، فإنَّها راجعة في التقسيم إلى ما يعتمده المجتهد من الأدلَّة(13) .
وأما ما يعرف عند الحنفية بالاستحسان بالنص ، فقد استبعد من التقسيم لأنه عند التحقيق عمل بمقتضى النص ذاته ، فالحجة فيه النصُّ دون حاجة إلى طريق الاستدلال ، وإنَّما اعتبره الحنفية لأنهم لمحوا في هذا النوع - عندهم – كون النصوص فيه جاءت على نحو يشبه الاستثناء من جملة النصوص في الباب ، مقصودا بها رفع الحرج .

وهذا النَّوع المعروف عند الحنفية بـ ( الاستحسان بالنص ) لا ينكره أحد ، وإنَّما نُوزع في تسميته استحساناً .
ومع أن هذا النوع من الاستحسان من مدلولات الاستحسان عند الحنفية دون غيرهم وهو اصطلاح خاص بهم ولا مشاحَّة في الاصطلاح إذا علم المراد ، إلا أن الجمهور أفادوا منه في بيان سنن الشارع في تشريع المستثنيات واستدلوا به على حجية الاستحسان ببقية الأدلة والاستدلالات ؛ ومن هنا أدرجه المنظِّرون للاستحسان في أنواعه ؛ تعزيزاً لصحة الاستدلال به طريقاً من طرق الاجتهاد ؛ من حيث جريانه على منهج تشريعي ، يقضي باستثناءِ بعض الفروع من أحكام نظائرها ؛ رفعاً للحرج ودفعاً للضرر ؛ وعليه فيكون محلُّه من البحث الأصولي في مسألة حجية الاستحسان ، لا في أنواعه ، ولا عند بيان المراد به .
 


حجية الاستحسان :

من خلال بيان العلماء لطريق الاستحسان على اختلافهم في تقسيمه، يتضح بجلاء أنَّ إثبات الأحكام واقع بوجوه الاستحسان لا بالاستحسان نفسه ؛ وهذا محل اتفاق كما سبق ذكره في تحرير المراد بالاستحسان ؛ فالحجيَّة إنَّما هي في ما هو معتبر من وجوهه أو أدلته .
فالاستحسان بالنَّص (14) عند الحنفية حجَّة ، وحُجيَّته حُجيَّة النَّص نفسه ، والاستحسان بالإجماع حجَّه ، وحُجِّيَّته حجيَّة الإجماع نفسه ؛ وكذلك الاستحسان بالمصلحة والعرف والضرورة وغيرها ، من أدلة الاستحسان ووجوهه التي يذكرها العلماء ؛ فالذي يقول بهذه الأدلة أو الوجوه ، حجته فيها حجيَّة هذه الأدلَّة أو الوجوه عنده .

قال القاضي أبو يعلى : " والحجَّة التي يُرجع إليهـا في الاستحسان ، فهي الكتاب تارة ، والسنَّة أُخرى ، والاستدلال بترجّح شَبَه بعض الأصول على بعض " ( العدة في أصول الفقه : 5/1607-1609 )
.
هذا إضافة إلى اعتبار الشارع له بما يعرف عند الحنفية بالاستحسان بالنص ؛ فيكون في ذلك إرشاد إلى طريق من طرق الاستدلال هو الاستحسان .

وكذلك حجيَّة الأصل العام المقرِّرِ للاستحسان ، وهو أصل رفع الحرج ، بسبب وجوهه أو بسبب الأدلة التي يعدل بها إليه . ( ينظر : رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ، لشيخنا يعقوب الباحسين : 333 ) .

وقد ذكر شيخنا يعقوب الباحسين وجهاً لدلالة أصل رفع الحرج على حجية الاستحسان ، بناه على استنتاج مفاده : أن القائلين بالاستحسان لاحظوا مجموعة من الأحكام المتشابهة ، في كونها مستثناة من قياسٍ أو أصلٍ مقررٍ عندهم أو عمومٍ ؛ فأطلقوا على كلٍّ منها اسم الاستحسان ، سواءٌ كان هذا الدليل نصَّاً ، أو إجماعاً ، أو مصلحةً ، أو عرفاً ، أو ضرورة ، أو غيرها ؛ فالاستحسان على هذا مفهوم كليّ لا وجود له إلا بوجود أفراده التي هي الأحكام المستحسَنة ، أيَّاً ما كان النوع الذي تنتمي إليه ، وهذا المفهوم الكلي عائد إلى التيسير ورفع الحرج ، وهذا المعنى مجمع عليه ، وهو ثابت في الشريعة قطعاً .
ثم بيَّن وجه الدلالة ؛ فقال : وعليه فإنَّ الاستحسان تكمن حجيته في كونه رافعاً للحرج ، وهذا لا يصح أن يكون موضع نزاع ؛ ولكن لمَّا كان الحرج غير منضبطٍ عند الفقهاءِ لم يعلقوا الأحكام به ؛ بل لجؤوا إلى وسائل معرِّفة للحرج وكاشفة عن وجوده ، وهذه الوسائل هي الأدلة التي يعدل بها عن الأقيسة والقواعد ، المسمَّاة عندهم وجوه الاستحسان ؛ فقولهم هذا استحسان بالإجماع ، يعني أنّ الإجمـاع كشف عن وجود حرجٍ كان من الممكن أن يقع لو لم يُؤخَذ بحكم المسألة المستثناة ، وهكذا ؛ فكأنَّهم جعلوا هذه الأمور التي يتحقق بها الاستحسان ضوابط له ، وإلا فهو عائد في الغالب إلى أصل رفع الحرج الذي لا نزاع في اعتباره شرعاً ( ينظر : رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ، د.يعقوب الباحسين : 332-333 ) ، عند توفُّر شروطه .

ومن أدلة حجيته من المعنى : أن غاية ما في الاستحسان انعدام حكم النظائر في مسألة جزئية ؛ لانعدام علته فيها ، وهذا لا نزاع فيه ، وليس هو تخصيصاً لنص شرعي حتى ينظر في المخصص .

قال السرخسي : " ومن حيث المعنى ، هو قولٌ بانعدام الحكم عند انعدام العلَّة ، وأحد لا يخالف هذا ؛ فإنَّا إذا جوزنا دخول الحمَّام (15) بأجرٍ بطريق الاستحسان ، فإنّما تركنا القول بالفساد الذي يوجبه القياس ؛ لانعدام علّة الفساد ، وهو أنَّ فساد العقد بسبب جهالة المعقود عليه ليس لعين الجهالة ، بل لأنَّها تفضي إلى منازعة مانعة عن التسليم والتسلم ، وهذا لا يوجد هنا ، وفي نظائره ؛ فكان انعدام الحكم لانعدام العلَّة ، لا أن يكون بتخصيص العلّة "( أصول السرخسي : 207-208) .

فالاستحسان في حقيقته : منع إدراج بعض الفروع فيما يظنُّ اندراجها فيـه من الكليات والقواعد العامّة ؛ لدلالة تترجّح عند الموازنة بين الأدلة مع اعتبار مقاصد الشرع وعلله وجوداً وعدماً ؛ وهي علامة فقه الفقيه ، لذلك وصفه الإمام مالك بأنه تسعة أعشار العلم ( ينظر : الاعتصام ، للشاطبي : 1/138 ) ؛ لخفائه على من لم يتأنَّ من الفقهاء ، ولأثره في بيان حكم المسائل التطبيقية ، من حيث هو نتيجة من نتائج الاجتهاد في تحقيق المناط فيها .

والخلاصة : أن حجية الاستحسان بالمفهوم الأصولي محلّ اتفاق بين العلماء .
وعلى هذا فما وقع من اختلاف معتبر ، ظنّه بعض أهل العلم في حجية الاستحسان ، إنَّما هو في صحة وجهة الاستحسان ، أو اعتبار مستنده ، لا في صحة الاستدلال به ؛ واعتبارُ المستند أو عدم اعتباره راجع إلى ما يعتمده المجتهد من الأصول وما لا يعتمده ؛ لا إلى اختلافٍ في اعتبار الاستحسان طريقاً من طرائق الاجتهاد والاستدلال . ومن هنا وقع الاختلاف بين تعاريف الاستحسان عند المُنَظِّرِين له .

تتمات :
من الأمور التي توضّح الاستحسان : التفريق بينه وبين القياس ، ويمكن تلخيص الفرق بينهما ، بأنَّ الاستحسان عكس القياس ؛ فالقياس إلحاق بالنظائر ، والاستحسان قطع عن النظائر . ينظر : الاجتهاد في الشريعة الإسلامية ، د. محمد فوزي فيض الله : 65، ط1-1404، مكتبة دار التراث : الكويت ؛ ونفائس الأصول في شرح المحصول ، للقرافي: 9/4279 .

وأمَّا الفرق بين تخصيص العلَّة والاستحسان ؛ فمن العلماء من فرَّق بينهما ، كالسرخسي ؛ حيث ذكر أنَّ الاستحسان ينعدم فيه الحكم في الفرع المستثنى ؛ لانعدام العلَّة فيه . أما في تخصيص العلّة فإنَّ العلَّة لا تنعدِم بل تبقى في الفرع المستثنى ، لكن يدعي المستدل وجود مانع يمنع من ثبوت الحكم في الفرع ، لأجلها . ( ينظر : أصول السرخسي : 2/204-207-208 ؛ ومن العلماء من لم يفرق بينهما ، وهو الذي يفهم من كلام أبي العباس ابن تيمية ، في رسالته : قاعدة في الاستحسان : 62 وما بعدها . و ينظر : تخصيص العلَّة الشرعية ، د. عياض بن نامي السلمي ، بحث منشور في مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، العدد (20) ، رمضان ، 1418: 34- 36 ) .

------------------------------------------------------
(1) منهم : ابن السمعاني في : قواطع الأدلة ، والإسمندي في : بذل النظر ، وابن الهمام في : التحرير ، مع شرحه ، لأميرباد شاه ، وأبو العباس ابن تيمية في : المسوَّدة ، لآل تيمية ، وابن عبد الشكور في : مسلم الثبوت ، مع شرحه : فواتح الرحموت ، لابن نظام الدين الأنصاري ، والزركشي في : البحر المحيط ، و الشاطبي في : الاعتصام ، و الشوكاني في : إرشاد الفحول .
(2) ينظر مثلاً : إحكام الأصول في أحكام الفصول ، لأبي الوليد الباجي : 688-689 ؛ وقواطع الأدلة ، لابن السمعاني :4/214 ؛ والمستصفى ، للغزّالي :1/410 ؛ والمصادر السابقة .
(3) رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ، لشيخنا يعقوب الباحسين : 288 ،293 . وقد أفاد الناحية الموضوعيَّة من بيان السرخسي لها في : المبسوط : 10/ 145.
وقد أفرد شيخنا حفظه الله كتابا في الاستحسان استقرأ فيه ما علل بالاستحسان استقراء فريدا ، كعادته في مؤلفاته ، وهو تحت الطبع .
(4) ينظر : المناهج الأصوليَّة في الاجتهاد بالرأي في التشريع الإسلامي ، د. محمد فتحي الدريني : 486 .
(5) مذكرة في أصول الفقه ، للشيخ / محمد الأمين الشنقيطي : 200 .
(6) تنبيه مهم : القياس في استعمالات العلماء في مواضع الاستحسان تشمل القياس الأصولي ، والقواعد العامَّة المأخوذة من مجموع الأدلة الواردة في نوع واحد ، أو ما يقتضيه الدليل العام ؛ خلافاً لما قد يتبادر من ظواهر عبارات بعضهم ؛ فإذا قيل القياس في هذه المسألة كذا ، والاستحسان فيها كذا فلا يتعين أنَّ المراد به القياس الأصولي ؛ بل قد يكون بمعنى مقتضى القاعدة ، أو الدليل العام الوارد في هذا النَّوع ، أو القياس الأصولي ( المعنى الخاص ) ، وفي كلٍّ أُخرجت الصورة المستحسنة من عموم ما يُشبهها لمقتضٍ آخر .
(7) أصول السرخسي : 2/ 203 .
(8) مرافق الأرض : ما يرتفق به : أي يُنْتَفَعُ به ؛ وهي : حق مقرَّر على عقار ؛ لمنفعة عقار آخر ، دون نظر إلى مالكه ؛ كحق المرور ، الذي هو : حق الإنسان في الوصول إلى ملكه بالمرور في طريق عام أو طريق خاص . وحق المسيل ، الذي هو : حق صرف الماء الزائد عن الحاجة أو غير الصالح ، بإرساله في مجرى على سطح الأرض أو في أنابيب حتى يصل مستقرّه (الصرف) . وحق الشِّرب - بالكسر- و هو : النصيب المستحق من الماء ، أو نوبة الانتفاع بالماء لسقي الشجر والزرع ؛ ويلحق به : حق الشُّرب ، بضم الشين أو حق الشَّفه ، الذي يراد به : حق الإنسان والدَّواب في الشرب من الماء ، والاستغلال المنزلي على وجه العموم .
فائدة : ذكر الشيخ عبد الكريم زيدان أنَّ تسمية هذه الحقوق بـ " حقوق الارتفاق " ، تسمية حادثة ، أطلقها صاحب مرشد الحيران قدري باشا .
(9) وبيان هذه ذلك : أنَّ لهذه المسألة شبهان :
- شبه بالبيع بجامع الخروج من الملك في كلٍ - من ملك البائع بالبيع ، ومن ملك الواقف بالوقف - وهو القياس الظاهر المتبادر ؛ ومقتضى ذلك عدم دخول الحقوق الارتفاقية ما لم ينصّ الواقف على ذلك ؛ كالبيع .
- وشبه بالإجارة بجامع ملك الانتفاع بالعين – إذ الوقف يفيد ملك الانتفاع بالعين الموقوفة بالنسبة للموقوف عليه ، و الإجارة تفيد ملك الانتفاع بالعين المؤجَّرة بالنسبة للمستأجر ، وذلك مع عدم ملكهما للعين المؤجَّرة أو الموقوفة - ؛ ومقتضى ذلك دخولها في الوقف ولو لم ينص الواقف عليه ؛ فقد رآى هؤلاء أنَّ هذا الشبه يصلح علَّة لإلحاق الوقف بالإجارة ، مع كونه قياساً خفيَّاً لا يتبادر إلى الذهن كسابقه ؛ بل يحتاج إلى مزيد تأمُّل وتعمُّق في تصور المسألة بجميع جوانبها ؛ ومع خفائه إلا أنَّهم رجحوه ؛ لقوته وتحقق المصلحة به ؛ لأنَّ الغرض من وقف الأرض الزراعية انتفاع الموقوف عليه بها ، وهذا لا يتحقق إلا بانضمام الحقوق الارتفاقية إلى الأرض في الوقف ، كما أنَّ المستأجر لا يتحقق غرضه من الاستئجار إلا بذلك .
فالاستحسان هنا ترجيح المجتهد للقياس الخفيّ على القياس الجلي ؛ ووجهه وسنده : أنَّ القياس الخفي هنا أقوى تأثيراً في الحكم من القياس الجلي ؛ لأنَّ المقصود بالوقف الانتفاع من الموقوف لا تَمَلّك عينه ، وحيث إنَّ الانتفاع لا يَتَأَتَّى بدون الحقوق الارتفاقية ؛ فيلزم دخولها في الوقف تبعاً ، كما هو الحكم في الإجارة .
(10) والقسم الأول داخل في القسم الثاني ؛ لأنه استثناء من القياس الظاهر ، وإنما أُفرد ؛ لأهميته بالنسبة للفقه الحنفي . ينظر : رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ، لشيخنا د. يعقوب الباحسين : 296 .
(11) الاستصناع : طلب الصنع وسؤالـه . وصورة المراد به : أن يقول شخص لآخر من أهل الصنائع : اعمل لي خفاً أو آنية من أديم أو نحاس – أو غيرها – من عندك ، بثمن كذا ، ويبين نوع ما يعمل ، وقدره وصفته ؛ فيجيبه الصانع بأن يفعل له ما طلب .
(12) الضرورة هي : هي الحالة التي تطرأ على الإنسان بحيث لو لم تراع لجُزِم أو خِيْفَ أن تضيع مصالحه الضرورية ؛ التي لابد منها في حفظ الأمور الخمسة . ينظر : رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ، ليعقوب الباحسين : 438 ففيه بحث قيم جدا في بيان معنى الضرورة.
(13) ينظر : المنخول ، للغزّالي : 478-479 ؛ وأصول السرخسي : 2/200 وما بعدها ؛ والاعتصام ، للشاطبي : 2/ 139 وما بعدها ؛ وتعليل الأحكام ، د.محمد شلبي :354 وما بعدها ؛ ورفع الحرج في الشريعة الإسلامية ، لشيخنا د. يعقوب الباحسين : 315 وما بعدها ؛ والاستحسان بين النظرية والتطبيق ، د. شعبان محمد إسماعيل : 75 وما بعدها ؛ والمصادر السابقة .
(14) الاستحسان بالنَّصِّ .
ويدخل تحته جميع الصور التي استثناها الشارع من عموم نظائرها ؛ بنصٍّ من الكتاب أو السنَّة ؛ وقد يكون بسبب الضرورة أو الحاجة أو غيرها من الأمور التي تعود إلى فروعٍ أُخر من الاستحسان ، لم تلحق بها ؛ لأنَّ ثبوتها هنا جاء عن طريق التنصيص الشرعي ، وفي تلك الفروع جاء عن طريق الاجتهاد .
مثاله من الكتاب : تشريع صلاة الخوف على الصفات التي وردت بها ؛ إذ القياس في الصلاة أن تؤدَّى الرباعيَّة في أوقاتها المحَّددة أربع ركعات ، في كلِّ ركعةٍ ركوعٌ و سجودان ، بشروطها وأركانها التي بيَّنها النبي _صلى الله عليه وسلم_ ؛ غير أنَّ حالة الخوف استثنيت من ذلك بقول الله _تعالى_ : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً * وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً } [النساء :101-102] ؛ حيث قُلِّلَ عددُ ركعاتِهـا ، وبُدِّلَتْ كيفيتُها ، إلى حالة تُمكِّنُ المسلمين من أدائها مع المحافظة على موقفهم من العدو ؛ تخفيفاً على المسلمين ، ورفعاً للضيق والحرج عنهم بالمحافظة على الدماءِ والأرواح مع مدافعة العدو ، ودرءاً لضرر انتصاره عليهم بانتهازه فرصة انشغالهم في صلاتهم .
ومثاله من السنَّة : بيع السَّلم ؛ فالقياس أو القاعدة العامة عدم جواز بيع المعدوم ؛ لقول النبي _صلى الله عليه وسلم_ : (( لا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ )) ؛ غير أنَّ السَّلَم وهو من بيع الإنسان لما ليس عنده ، قد رُخِّصَ فيه ؛ بقول النبي _صلى الله عليه وسلم_ : (( مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَفِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ )) ؛ وذلك لحـاجة الناس إليه .
وهذا النَّوع لا ينكره أحد ، وإنَّما نُوزع في تسميته استحساناً .
(15) (الحمّـام : بناء على هيئة خاصة ، يغتسل فيه بماء محمّى ؛ تنظيفاً وترفّهاً واستشفاءً . عربـي مذكّر باتفاق أهل اللغة ؛ ويسمى : الديمـاس ، والكن ؛ معروف عند السابقين ، ولهم به مزيد عناية ، ولا زال موجوداً في عدد من البلاد ، كالشام ، والعراق ، وغيرهـا . و يقـال : أصـل اشتقاقـه من الحميم ، وهو الماء الحارّ المستعمل فيه ؛ أو لأنَّه يُعرق ، و لذا يقال لمن يخرج من الحمّام : طاب حَمِيُمك وحِمَّتُك ، أي : طاب عرقك .
ينظر : تحرير التنبيه ، للنووي : 67 ؛ والوقوف على مهمات التعاريف ، للمناوي : باب الباء ، فصل الميم ؛ والكليـات ، للكفوي :404 ؛ وينظر في فوائده : النزهة الزهيَّـة في أحكام الحمام الشرعيـة والطبيَّة ، للمناوي : 17 ، ط1-1408، ت/د. عبد الحميد صالح حمدان ، الدار المصريـة اللبنانية : القاهرة . وهو شبيه في فوائده ومنكراته ، بما يعرف - اليوم - بـ( حمَّامات السونا ) .



نشر في موقع المسلم http://www.almoslim.net/

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
د.سعد العتيبي
  • مقالات فكرية
  • مقالات علمية
  • أجوبة شرعية
  • الصفحة الرئيسية