صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







فتوى أصحاب القنوات الفضائية

د. خالد بن عبد الله المزيني

 
لقد كتب الله للفتوى أن تبقى مالئة الدنيا وشاغلة الناس، هذا ما أكّدته وسائل الإعلام العالمية كال- (BBC) وَ ((CNN إذ تولت إعادة نشر الفتوى التي أصدرها الشيخ الفقيه صالح بن محمد اللحيدان، رئيس أعلى هيئة قضائية في المملكة العربية السعودية، الذي أمضى في المجال العدلي ما ينيف على نصف قرن، حول القنوات الفضائية التي تنشر الفسق والرذيلة، وقنوات الشعوذة والسحر، النفّاثات في العقد، المفسدات للبلد، ووالد وما ولد.
وقد انقدحت الشرارة الإعلامية للفتنة من موقع إيلاف الإلكتروني، ثم انعقد دخانها بعد أن تلقفت الخبر وسائل إعلامية عربية، لينتقل بعد ذلك صعداً إلى بؤرة الإعلام العالمي، ويحتل المرتبة الأولى في النشر على مواقع إعلامية عريقة على شبكات الاتصال العالمي، ويحوز درجة: أكثر الأخبار قراءة، ونشراً، وطباعة، وإعادة إرسال، مما يؤكد نجاح الفتوى في تحقيق مقصودها، وهو لَفْتُ نظر أصحاب هذه القنوات المتوالدة يوماً فيوماً، إلى خطورة العبث بالعقائد، وبث الشبه الخطافة، وتمريغ الأخلاق الفاضلة، وخلخلة التماسك الاجتماعي في الأمة.
والفتوى المقصودة جاءت جواباً لسؤال ورد إلى الشيخ عن أصحاب القنوات الفضائية الذين يجلبون بالبرامج السيئة في شهر رمضان، وبالأخص في وقتي المغرب والعشاء، وهما وقتان يكتنفان ذروة الارتقاء الإيماني عند المسلمين في هذا الشهر الكريم.
وقد بدت الفتوى واضحة، حملت لغةً وعظية مسترسلة سهلة، يفهمها كل أحد، لكن عندما بلغت موضع العقوبة القضائية المستحقة لهؤلاء، انتقلت إلى التعبير بأسلوب قضائي مكثّف، قد تنبو عنه أفهام البعض، فيفسرونه على غير مراد الشيخ، الذي عبّر بمهنية فقهية عالية، تقاصرت عنه أفهام غير المختصين، على أنه عبر باللغة التي يعقلها عامة المشتغلين بعلوم الشريعة؛ فبعد أن قرر العقوبة الأخروية لهؤلاء، أردف ببيان ما يمكن أن تصل إليه العقوبة الدنيوية، لو أُحيلت القضية بدعوى من جهة مختصة إلى القضاء.

وفي هذا الموضع تحدث الشيخ "تفقّهاً"، ولم يصدر حكماً باتّاً، ولهذا صدّر العبارة بقوله: " قد يحلُّ قتله"، ومثل هذه العبارة يفهم المختصون في الشأن الفقهي أنها ليست تقريراً نهائياً للحكم، وإنما هي تفقّه وتقليب لأوجه النظر في المسألة، من باب الاستئناس والاعتضاد، لا الاحتجاج والاعتماد، و"التفقّه" هو: أن يذكر الفقيه بعض أوجه المسألة، واحتمالات الرأي فيها، دون أن يُعدّ هذا مذهباً له، وكثيراً ما يُستند في هذه التفقّهات إلى مبدأ التخريج الفقهي، وهو استلهام مبدأ معتمد عند الفقهاء، وبناء رأي جديد في مسألة جديدة تأسيساً على ذلك المبدأ، وهي طريقة معتمدة عند عامة أصحاب المذاهب الفقهية، وتخريجاتهم مبثوثة في مدوّناتهم الفقهية، بل قد قال أبو عمرو بن الصلاح الشافعي عن هذه الطريقة: "عليه العمل، وإليه مفزع المفتين من مددٍ مديدة" (1) اه-.
هكذا ينبغي أن تُفهم الفتوى من حيث الصناعة الفقهية، وهكذا فهمها من يتابع هذا البرنامج الشعبي، كما فهم سائر الفتاوي المماثلة في القديم والحديث، لكنها كانت فرصة لمن يريد الاقتناص والاصطياد في مناسبة ساخنة كمناسبة شهر سبتمبر الحالي الذي بُثّت فيه الحلقة.
استفتح الشيخ فتواه بتذكير هؤلاء بأن وزرهم مضاعَف، ونصحهم بالابتعاد عن نشر التشكيك في العقائد والفِطَر، وبث الفحش والمجون والخلاعة.
ثم أردف بأن "من يدعو إلى الفتن إذا قُدِر على منعه ولم يمتنع قد يحلّ قتله؛ لأن دعاة الفساد في الاعتقاد أو في العمل إذا لم يندفع شرهم بعقوبات دون القتل؛ جاز قتلهم قضاءً"اه-، هذا كلامه نصّاً وفصّاً.
ثم أسند الشيخ رأيه بآية المائدة، وهي قوله تعالى: "أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا" . [سورة المائدة:32]، وأن الإنسان قد يُقتل بالنفس، أو بالفساد في الأرض.

هذه خلاصة الفتوى والحدث، وسوف أعلق بتعليقات مقتضبة، هي أربع نظرات: فقهية، وسياسية شرعية، وقانونية، وأخلاقية:

أ - النظرة الفقهية: من حيث الصناعة الفقهية فقد أجمع المسلمون على أن أحكام الشريعة دائرة على حفظ الكليات الخمس: الدين والنفس والعقل والعرض والمال، وأن الاعتداء على هذه الخمس أو التغرير بها، موجب لإيقاع العقوبة المناسبة، التي تتناسب مع الجرم؛ لأن هذا الإخلال من شأنه إيقاع الفوضى في البلد، والتوثّب على الحرمات، وحصول الاضطراب في الأمة، ثم يختلف الفقهاء بعد ذلك في تحديد العقوبة في كل واقعة بحسبها. هذا هو القدر الفقهي في المسألة.
ومعروف عندهم فقهًا: أن التعزير عقوبة غير مقدرة (عقوبة مفوّضة)، وأن تحديد العقوبة المناسبة متروك لنظر القضاء، الذي يتولى الفصل بالعقوبة المناسبة، التي تردع المجرم وتستصلحه، وتحمي الجماعة من الإجرام، ذلك أن في التعزير حقاً لله؛ لأن إخلاء البلاد من الفساد واجب مشروع، وفيه دفع للضرر عن الأمة، وتحقيق النفع العام.
وأما فيما يتعلق بتحديد نوع العقوبة التعزيرية وقدرها فهذا شأن علم السياسة الشرعية، وفي هذا الموضع يتحدثون عن: درجات العقوبة التعزيرية، وهل يمكن أن تصل إلى القتل، هذا بعد اتفاقهم على مشروعية التعزير، وأن الغرض منه الزجر، أي منع الفاعل من المعاودة، ومنع غيره منها؟
وبلوغ العقوبة التعزيرية إلى القتل مختلف فيه بين الفقهاء، والأصل عندهم: أنه لا يبلغ بالتعزير القتل، قال تعالى: "وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ" . [سورة الإسراء:33]، وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- مرفوعًا: "لا يحل دم امرئ مسلم إلاّ بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة" .
وقد ذهب طائفة من الفقهاء من الحنفية والمالكية والحنابلة إلى جواز القتل تعزيرًا في جرائم معينة، بشروط مخصوصة، منها: قتل الجاسوس المسلم إذا تجسس على المسلمين، ومن ذلك: قتل الداعية إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة كالجهمية، وهو مذهب الإمام مالك وطائفة من أصحاب الإمام أحمد، ومنعه آخرون.
وأجاز الإمام أبو حنيفة التعزير بالقتل فيما تكرر من الجرائم، إذا كان جنسه يوجب القتل، كما يُقتل من تكرر منه اللواط أو القتل (2).
وأجمع العلماء - كما قال القاضي عياض في الشفا -، أجمعوا على وجوب قتل المسلم إذا سب النبي صلّى الله عليه وسلم، لقوله تعالى: "إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً". [الأحزاب:57]، وألحقوا بهؤلاء كل من لا يندفع شره إلاّ بذلك، كالساحر والزنديق الداعي إلى زندقته.
وصرح أبو العباس ابن تيمية بأن "من لم يندفع فساده في الأرض إلاّ بالقتل قُتل، مثل المفرق لجماعة المسلمين، والداعي إلى البدع في الدين" (3) ، واستدل بقوله تعالى: "أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا" . [سورة المائدة:32]، وجعل هذا الحكم من باب دفع الصائل، الذي إذا لم يُكفّ شرّه إلاّ بالقتل قُتل.
قال أبو العباس ابن تيمية (4): وقد يُستدلّ على أن المفسد إذا لم ينقطع شره إلاّ بقتله فإنه يُقتل، بما رواه مسلم في صحيحه عن عرفجة الأشجعي –رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من أتاكم وأمرُكم جميعٌ على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم فاقتلوه" . (5) اه-.
على أن قول الفقهاء بأنه يمكن أن يبلغ التعزير القتل؛ لا يعنون أن القاضي يبدأ بقتل الجاني، بل يتدرج به من أخف العقوبات: كالتوبيخ مثلاً، ويتصاعد به إلى ما فوق ذلك إن عاد، وهكذا.

ب - النظرة السياسية الشرعية:

يتحدث الفقهاء عن الضوابط التي يجب أن تراعيها الفتوى، من حيث الفقه ومن حيث السياسة الشرعية، فالأصل أن يلتزم المفتي بالحدود الفقهية المنضبطة، وهي حدود تراعي التيسير ورفع الحرج عن المكلفين، لكن إن ظهرت للمفتي المصلحة في التشديد على المكلف كان له ذلك بمقدار ما يحصل الردع والزجر.
ومن أمثلة ذلك: ما ورد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - من الفتيا بعدم قبول توبة القاتل عمداً (6) ، فقد ورد عنه ما يقيِّد هذا الإطلاق، وأنّ المراد الزجر والتغليظ، بحيث يكون إطلاق القول بعدم القبول مطلقاً - ولو فيما بينه وبين الله تعالى - خطأً على هذا الحبر الجليل (7) ، فعن سعد بن عبيدة قال: "جاء رجلٌ إلى ابن عباس فقال: لِمَن قَتَلَ مؤمناً توبةٌ؟، قال: لا، إلاّ النار!، فلما ذهب قال له جلساؤه: ما هكذا كنتَ تفتينا، كنت تفتينا أنّ لمن قتل مؤمناً توبةً مقبولةً، فما بالُ اليوم؟، قال: إني أحسبه رجلاً مغضباً يريد أن يقتل مؤمناً، قال: فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك". (8) ، فهذا من جنس السياسة الشرعية، التي يتعاطاها المفتي، بحسب حال السائلين، لطفاً أو عنفاً (9) ، كما قال الصيمري:"إذا رأى المفتي المصلحة أن يفتيَ العامي بما فيه تغليظٌ، وهو مما لا يعتقد ظاهره، وله فيه تأويلٌ؛ جاز ذلك زجراً له، كما رُوي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه سئل عن توبة القاتل فقال: لا توبة له (10) ، وسأله آخر فقال: له توبة، ثم قال: أما الأول فرأيت في عينه إرادة القتل فمنعته، وأما الثاني فجاء مستكيناً، قد قتل فلم أقنطه" (11) اه-.
وقد استند الشيخ صالح في فتواه إلى هذا الأصل، وأسسه على آية المائدة، وقول البعض إن الآية نزلت على سبب، يمكن للشيخ أن يجيب عنه بأن: العبرة بعموم اللفظ.
فهذا ضربٌ من السياسة شرعي، وستظل مبادئ السياسة الشرعية أصولاً كليةً يفيءُ إليها الفقهاء والمفتون ليَطِبُّوا منها لأدواءِ الأمة ما شاء الله، ولن تتطرّق إليها عواملُ الغِيَرِ والتنسُّخ، وإن تغيَّرت بعض صورِها وتطبيقاتِها. فهي باقيةٌ ما بقيَ الفساد في الواقع أو في المتوقَّع، على ما قاله عمر بن عبد العزيز: "تحدث للناس أقضيةٌ؛ بقدر ما يحدثون من الفجور" (12) ، وقد استحسن الإمام مالكٌ منه هذه القاعدة، وكانَ بها حَفِيّاً (13).

فهذا الخليفة الراشد قد جوّزَ كما ترى إحداثَ الأقضية واختراعها؛ على قدر اختراع الفُجّار للفجور، وإن لم يكن لتلك المحدثاتِ أصلٌ (14) ، ولئن جازَ تصرُّف الفقيه على هذا النمط في القضاء والحكم؛ فإن جوازه في الفتيا من باب أولى، فإنهما يشتركان في أنهما إخبارٌ بالحكم الشرعي، وينفرد القضاء بكونه ملزماً، فإذا جاز الإحداثُ في القضاء، الذي هو متعلق بحقوق العباد فيما بينهم، مع ما هو معلومٌ من المشاحّة في هذا الباب، فإنّ هذ ا ينتج أنَّه في الفتيا أهون من هذا الوجه.
والفتاوي الزاجرة يعتبرها الفقهاء في كثيرٍ من فتاويهم وأقضيتهم وأبحاثهم، ولا يختلفون في أهميتها واستعمالها في محالّها، واختلافهم في تطبيقاتها إنما هو راجعٌ إلى اختلافِهم في تحقيق مناطاتِها، إما لتعارض الأدلة، أو تفاوتِ ما بينهم في الخبرة، وسبرِ الواقع المعيش، كما لو تفشّى المنكر في بلد ما، واطلع عليه بعضهم وخفي على آخرين.
وهل تُبتغى الشريعة إلاّ لسياسة الخلق بها:

وَلَيســــت أصـولُ الشرعِ إلا سياسة *** إِلهــيّةً تحـــذو من العـــلّة المجــرى

ج - النظرة القانونية:
هناك فتاوي لا يحسن أن تصدر إلاّ من أرباب الولاية الشرعية، ويمكن أن نسميها "فتاوي ولائية"، تعالج أوضاعاً عامة في الأمة والدولة، لا يُحسِن علاجها أفراد المفتين، وقد كان القرن الأول من هذه الأمة هم النموذج المحتذى لمن بعدهم، وكانوا في باب الفتيا أشدَّ تحرزاً من غيرهم، مع وفور العلم، وكثرة الفقهاء آنئذٍ، إلاّ أنه لم يكن يفتي - غالباً - في الشأن العام إلاّ ذوو الولاية من فقهائهم، حتى إن الفاروق عمر -رضي الله عنه- قال يوماً لأبي مسعود الأنصاري -رضي الله عنه-: "ألم أُنَبَّأ أنك تفتي ولست بأمير، وَلِّ حارَّها من تَوَلَّى قارَّها" . (15) ، أي: اترك شديدها لمن تولى هيّنها، فجعل الحرّ: كنايةً عن الشر والشدة، والبردَ كنايةً عن الخير والهين، والقارُّ فاعلٌ من القر: البرد، أراد: ولِّ شرها من تولى خيرها.
وبين أيدينا فتوى ولائية تولى حارها من يتولى قارها، وصدرت من أهلها الذين هم أهلها، ولو أن قائلها غير الرجل الأول في المؤسسة القضائية والعدلية والحقوقية في المملكة، الذي أمضى نصف قرن من الزمان في تدبيرها، لكان لقائل أن يقول شيئاً، لكن أما وقد صدرت من هذه القامة العلمية الولائية فلا تثريب من حيث الشكل والمضمون، قال محمود قابادو (الشاعر التونسي):

إِذا أحــكــم الإنســانُ ظـاهرَ منصبٍ *** وَباطِنــَه علمــاً مَضى فيــه عــزمــُهُ

وإن كان من حق الفقهاء الآخرين أن يبدوا أنظاراً مختلفة حول أصل المسألة بالعلم والعدل.
على أن الخلاف الفقهي في المسألة قد حُسم عملياً (لا علمياً)، أعني على سبيل القضاء والتنظيم العام، وذلك بالقرار الصادر من هيئة كبار العلماء عام 1401ه-، الخاص بموضوع إفساد الأخلاق والإخلال بالأمن، المبني على كتاب الملك خالد للشيخ عبد الله بن حميد - رئيس المجلس الأعلى للقضاء - آنذاك، والشيخ عبد العزيز بن باز - الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء - آنذاك، تغمّدهم الله جميعاً بواسع رحمته.
وكان نص القرار يتعلق بمفسدي الأخلاق من مروّجي الخمور والمخدرات، وفيه: أن المفسد في الأرض بترويج المخدرات بطريق التصنيع أو الاستيراد بيعا وشراء أو إهداء "إن كان ذلك للمرة الأولى فيُعزّر تعزيراً بليغاً بالحبس ..., حسبما يقتضيه النظر القضائي وإن تكرر منه ذلك فيُعزّر بما يقطع شره عن المجتمع ولو كان ذلك بالقتل؛ لأنه بفعله هذا يُعتبر من المفسدين في الأرض، وممن تأصل الإجرام في نفوسهم، وقد قرّر المحققون من أهل العلم أن القتل ضرب من التعزير..."، ونظراً إلى أن هذه الجرائم من القضايا الخطيرة التي "قد يُحكم فيها بالقتل تعزيراً، فإنه ينبغي أن تختص بنظرها المحاكم العامة، وأن تُنظر من ثلاثة قضاة كما هو الحال في قضايا القتل والرجم, وأن تُرفع للتمييز، ثم للمجلس الأعلى للقضاء لمراجعة الأحكام الصادرة بخصوصها؛ براءة للذمة واحتياطاً لسفك الدماء". (16) اه-.

د - النظرة الأخلاقية:

في كل مرة تظهر فتوى يستغربها بعض الناس تفزع وسائل الإعلام إلى الفقهاء والدعاة والوعاظ لالتقاط تعليقاتهم إزاءها، واستمزاج آرائهم حيالها، ويحصل أن ينقسم هؤلاء إلى مؤيد ومخالف ومتحفظ، ولا تثريب على أي من هؤلاء، ما التزموا حدود الأدب العلمي، فإن حق التعبير مصون شرعاً، وهو المعبّر عن مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، للمتأهلين له، لكنك واجدٌ أحيانًا ردودًا مجافية لحد الإنصاف، نائية عن اللياقة العلمية، كالنبز بالجهل والتعجل والهوى، أو الرمي بتسويغ الإرهاب مثلاً.

ولأن قضية النقد لفتاوي العلماء ذات حساسية بالغة، فمطلوب من المنتقد العناية بالألفاظ التي يعبر بها عن رأيه، باعتبار أنه يتحدث تعقيباً على قول سبقه، وللمعقب من الروية والأناة ما ليس للمبتدئ الذي صدرت منه الفتوى أولاً، ولذا فالمعقب المصرح لوسائل الإعلام معني بمراعاة أخلاقيات التعقيب العلمي وأهمها:

أ - التجرّد عن الهوى:
وذلك أن الكلام في الفتوى الدينية قربة يتقرب بها العبد إلى الله تعالى، فكان لازماً على العبد أن يُحضر فيها الإخلاص، ويكون نقده ابتغاء وجهه سبحانه، لا ابتغاء حظوظ النفس وأهوائها.
ب - التأدّب مع أهل العلم:
وهذا من تمام المروءة الإنسانية، فإن النصيحة إذا لم توضع في قالب التلطف والرفق، عُدَّت شغباً على متلقيها.
ومما يندرج تحت هذا الضابط أن يُنتقد القول، دون التعرض لقائلة بالعيب والذم، فإن هذا هو مقتضى العدل والإنصاف، فضلاً عن كونه أدعى إلى قبول النقد بين زملاء الفن الواحد.
وتذكير لإخواننا الإعلاميين - وفقهم الله -: أن يقدِّروا عقول الجمهور، الذي شبّ عن الطوق، وصار يمحص المقول والمنقول، ويفتش عن البدائل النقية، ويتمكن من الوصول إلى الحقيقة من مصدرها الأصلي، ويلمسها بيديه، دون أدنى كلفة، فالمواثيق الإعلامية العالمية تضع هذه الوسائل على المحك، بعد أن تنكبت المعايير الشرعية العالية، المتوَّجَة بقول ربنا تبارك وتعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ" . [الحجرات: 6].
لقد اختصم رجلان إلى الإمام مالك - رحمه الله -، وكان أحدهما شاعرًا، فحكم مالك على الشاعر لصاحبه، فغضب الشاعر وقال لمالك: والله لأقطعن ظهرك هجاءً، فقال له مالك: يا هذا؛ أتدري بم وصفتَ نفسك؟ بالسفه والدناءة، وهما اللذان لا يعجز عنهما أحد، ولكن عليك بما تنقطع الرقاب دونه، الكرم والمروءة (17).
فالمروءةَ المروءةَ أيها الناس.

والشكر والثناء لبعض وسائلنا الإعلامية، وبعض إعلاميينا الفضلاء، الذين نجحوا غير مرة في الاختبار، ولم يستخفَّهم جفاء الإعلام المادي، ولم يستفزَّهم أهل الأهواء والغلو والفساد، وكل ذي ناب من السباع، ومخلب من الطير، وتبّت يد الباغي وتبّ.
والله تعالى يهدينا إلى سواء السبيل.

--------------------------------------
(1) أدب الفتوى؛ لابن الصلاح (44)، وقارن بآداب الفتوى؛ للنووي (28)، بل إن المتأخرين من المصنفين في المذاهب أخذوا يخرّجون على تخريجات من سبقهم من أصحاب التخريج في المذهب، انظر مثلاً: القواعد والفوائد الأصولية (184).
(2) أحكام القرآن للجصاص 1 / 61 ، وابن عابدين 3 / 184 - 185 ، والقرطبي 6 / 151 - 152، وتبصرة الحكام ص 193 ، 206 ، والمهذب 2 / 268 ، والأحكام السلطانية للماوردي ص 212 - 213 ، وكشاف القناع 4 / 74 - 76 .
(3) السياسة الشرعية (99).
(4) السياسة الشرعية (99).
(5) أخرجه مسلم (3/1480).
(6) انظر في قبول توبة القاتل عمداً فيما بينه وبين الله تعالى: تفسير الطبري (5/221)، حاشية ابن عابدين (6/549)، مغني المحتاج؛ للشربيني (4/2)، كشاف القناع؛ للبهوتي (6/178)، ومجموع الفتاوي؛ لابن تيمية (34/173).
(7) انظر: شرح الزرقاني على موطأ مالك (3/46).
(8) أخرجه ابن أبي شيبة (5/435)، قال الحافظ ابن حجر: "رجاله ثقات"، ثم قال: "وروى سعيد بن منصور، نا سفيان قال: كان أهلُ العلم إذا سئلوا عن القاتل، قالوا: لا توبة له، وإذا ابتلي رجلٌ قالوا: له تُبْ، وفي المعنى: ما أخرجه أبو داود، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رجلاً سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن المباشرة للصائم، فرخَّصَ له، وأتاه آخر فسأله؛ فنهاه، فإذا الذي رخص له شيخٌ، وإذا الذي نهاه شابٌّ " اه- من تلخيص الحبير (4/187).
(9) انظر نحو هذا في توجيه النووي لقول من منع قبول توبة القاتل، في شرحه لصحيح مسلم (17/82).
(10) أخرجه الطبري في تفسيره (5/218).
(11) آداب الفتوى؛ للنووي (56)، وانظر نحو هذا في: شرح مسلم؛ للنووي (11/173).
(12) الرسالة؛ لابن أبي زيد القيرواني (131)، الذخيرة؛ للقرافي (8/206)، شرح الزرقاني على الموطأ (4/44)، وهذا لا يعارض النهي عن الإحداث في الدين؛ لأن النهي عن الإحداث في التعبدات، وقول عمر إنما هو فيما سواها من العاديات، كالمعاملات والخصومات، وانظر: الاعتصام؛ للشاطبي (3/4)،كفاية الطالب الرباني (1/56).
(13) الشرح الكبير؛ للدردير (4/174).
(14) الاعتصام؛ للشاطبي (1/181).
(15) سنن الدارمي (1/73)، وقوله رضي الله عنه: © وَلِّ حارَّها من تولى قارَّها ®، أي: وَلّ شديدَها من تولى هينها، قال ابن الأثير: "جعل الحرَّ كنايةً عن الشر والشدة، والبردَ كنايةً عن الخير والهين، والقارُّ فاعلٌ من القر: البرد، أراد: ولِّ شرها من تولى خيرها، وولِّ شديدها من تولى هينها "اه-، النهاية؛ لابن الأثير (4/38)، وانظر: لسان العرب؛ لابن منظور، مادة (قرر) (5/83)، عون المعبود؛ للعظيم آبادي (12/119).
(16) مجلة البحوث الإسلامية (12/78).
(17) قضاة قرطبة للخشني(134).

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
د. خالد المزيني
  • خواطر وتأملات في إصلاح البيوت
  • مقالات ورسائل
  • الصفحة الرئيسية