صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







التلقي بوعي

مبارك عامر بقنه


مَصادر التلقِّي لدى المسلم اليوم أصبحَت مزيجًا من ثقافات متنوِّعة، لدرجة أنها زاحمت المصادِر الأساسية الصحيحة
- القرآن والسنَّة - وأصبحَت هذه المصادر الأساسية لا تَنال إلا مساحة صغيرة مِن الجهد الفِكريِّ، والقراءات المتنوِّعة للثقافات الأخرى بدون رصيد مَعرفي إسلامي رصين، فإنها - بقدر ما تُشكِّل بناءً معرفيًّا مُتنوِّعًا - قد تُشكِّل ضبابية في التفكير؛ مما يُعجِز المثقَّف الحصول على الصورة الإسلامية الصحيحة؛ حيث تتداخل لدَيه المفاهيم وتَتكافأ عنده المَوازيين.

التلقي المتنوِّع هو مصدَر ثراء معرفي يَحتاجه المرء اليوم؛ لكي يستطيع فَهم طبيعةِ الحياة المعاصرة، ولكن بشرط ألا يكون ذلك عائقًا ومانعًا من التلقي من الكتاب والسنَّة؛ فالقارئ للفِكر الغربي، والمطَّلع على الثقافة المغايرة دون شعوره بأنه يَملك المنهج الرباني الصحيح - يعيش في حالة انفصام، ويكون فقط مُستهلِكًا للمنتَج الغربي دون أن يكون مُنتِجًا ومصحِّحًا وراسمًا للطريق السليم
.

قد تكون إحدى مشاكل الفكر العرَبي هو الاستلاب الفكريَّ والانبهار لدرجَة الازدِراء بمُكوِّناته الثقافية،
والشعور بالنقص، وعدم القدرة على المساهَمة الفِكرية والثقافيَّة في إيجاد حلول وتوليد أفكار لما يَعيشه العالَم مِن مآسٍ اجتماعية ثقافية؛ فالقارئ المسلم إذا لم يكن يَشعُر بحسِّ الاستعلاء، أو على أقل الأحوال ألا يُخالطه شُعور النقص بثقافته، فإنه غير مؤهَّل للقراءة في الفِكر الغربي؛ لأنه لن يستطيع أن يقدِّم شيئًا سوى أن يكون عدَسة لاقطة وعاكِسة لفِكر الغرب، وهو بذلك يصنَع أزمة فِكريَّة؛ حيث لا يستطيع أن يُفرِّق بين الخير والشرِّ، وسيَجلب لنا مشاكل الغرب التي ليسَت في بيئتنا، وسيُخاطِبنا بخطاب لا يُناسِب المُكوِّنات البيئية والاجتماعية والثقافية التي يعيش فيها.

ولستُ في هذه العبارة أتَّجه إلى تعطيل الفِكر وتنميطه في صورة معيَّنة، كلا، وإنما أدعو إلى القراءة في فِكر الغرب بشخصية الواثق القادر على التحليل والتفكيك، ومعرفة ما يَصلُح جَلبُه وما لا يصلح دون الاستلاب الفِكريِّ المَقيت
.

الدعوة إلى الانكِفاء الذاتي والبُعد عن الفِكر الغربيِّ هي دعوة غير مُجديَة في هذا الزمَن، فالغرب بفِكره ووجدانه يعيش بيننا؛ فهو حاضر في صورته المادية وأشكاله الثقافية، ولكن هذه الهَيمنة لا تَعني بالضرورة أن نَفقِد هُويَّتنا وانتماءاتنا التاريخية والثقافية؛ بل هي قد تكون مُحفِّزةً لنا أن نَسعى بالاندماج؛ لكن دون الذوَبان، وأن نساهم في التأثير؛ فنحنُ نَملِك الإمكانات التاريخيَّة والمناهج الفِكريَّة التي تجعلنا مساهمين فاعلين في الحضارة المُعاصِرة
.

إن الأبعاد الفِكرية التي تُطرح في الفكر الغربي، جُلُّها وغالبها قد سبَق طرحه في الفكر الإسلامي، ولو بشكل جزئي؛ فقضايا الإله والكون والإنسان والمُجتمعات والأَخلاق - وهي القضايا الكُبرى التي لا زالت البشرية تُناقِش وتُجادل حولها - للإسلام فيها رؤية واضحة المعالم، فقراءة هذه القضايا دون استِصحاب الرؤية الإسلامية هو ما يجعل المرء يَعيش حالةَ الضبابيَّة الفِكرية، وقد يقوده ذلك إلى تبنِّي الرؤية المُغايِرة التي تَصطدِم مع المنهج الإسلامي دون إدراك منه
.

استِصحاب الرؤية الإسلامية يَعني أن تكون هناك أُطُر منهجيَّة واضِحة؛
فالقراءة دون هذه الأطر هو السَّير في جميع الاتِّجاهات، فتُصيبه الحيرة والضياع، فالاستِصحاب هو رسم الحدود التي يُسمَح للفِكر أن يَسير داخل إطارها، فهناك حدود لو تجاوَزَها المرء قد يَضلُّ ويَنحرِف، فوضْع الضوابط لا يعني بحالٍ تقييد الفِكر؛ وإنما يَعني السلامة من الوقوع في الخطأ، فإدراك التبايُن بين المنهج الغربي والمنهج الإسلامي هو نوع مِن الوعي الذي يَسلم المرء معه من الانزِلاق والسقوط في أوهام الفِكر الغربي، ويجعله قادرًا على ضبط التلقّي عن المصادر الأخرى المُغايِرة كمًّا ومِقدارًا.


 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك

مبارك عامر بقنه

  • مقالات شرعية
  • مقالات تربوية
  • مقالات فكرية
  • كتب
  • الصفحة الرئيسية