صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







إشكالية حقوق الإنسان في العالم العربي

الدكتور مسلم محمد جودت اليوسف

 
بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله رب العالمين ، حمدا كثيرا يوافي نعمه ، و يدفع عنا نقمه .
و الصلاة و السلام على إمام المرسلين ، محمد بن عبد الله – صلى الله عليه وسلم – بني الرحمة والملحمة ، وبعد :
بدأت فيما مضى دعوات كثيرة لنشر قيم ، و ثقافة حقوق الإنسان في العالم عموما ، و عالمنا العربي على وجه الخصوص ، بيد أن لهذه الدعوات ، و حتى القيم إشكالات عديدة يتعلق البعض منها بأصحاب تلك الدعوات و الأخرة بتلك القيم .
لذلك سوف أبحث أولا بإشكالات أصحاب دعوات حقوق الإنسان ، ثم أبحث بتلك بقيم حقوق الإنسان ، ومدى موافقتها لديننا الحنيف ، و ثقافتنا الإسلامية و العربية .

أولا – إشكالية أصحاب دعوات حقوق الإنسان :

تتزايد يوما بعد يوم في الولايات المتحدة الأمريكية ، و الغرب عموما لنشر قيم حقوق الإنسان في عالمنا العربي و الإسلامي ، بيد أن غالب تلك الدعوات يتم توظيفها ، و استخدامها بصورة انتقائية و نفعية ، خدمة لمصالح الغرب و أهدافه ، لذا لا نستغرب تراجع جدية تلك الدعوات نظرا لوجود و بروز أولويات مصالح أكثر أهمية للعالم الغربي من نشر قيم الحرية وحقوق الإنسان في العالم .
فمن هنا تمكن الإشكالية ، فعند تضارب المصالح مع قسم حقوق الإنسان يرجح الغرب مصالحه على قيم الحرية ، و العدالة و حقوق الإنسان ، و كأن تلك القيم هي من الحقوق الملاصقة الخاصة للشعوب الغربية ، و ليست  حق من حقوق جميع شعوب العالم بما فيهم الشعوب العربية والإسلامية .

ثانياً – إشكالية حقوق الإنسان في عالمنا العربي و الإسلامي :

أما عن إشكالية حقوق الإنسان في عالمنا فهي ذات شقين .
الشق الأول يتعلق بالأنظمة الحاكمة ، والشق الثاني يتعلق بشعوبنا عموما ، و نخبتهم على وجه الخصوص .
أما بالنسبة للأنظمة العربية : فهي في معظمها – إلا القليل النادر – لا ترى ، ولا تزن ، ولا حتى تهتم بحقوق الإنسان لا من ناحية الثقافة ، أومن ناحية التطبيق ، بل إنها تحاربه و تحارب من يدعوا إليه ، أو يدافع عنه بكل الحجج حتى بالعمالة للغرب ، و الصهيونية أو النيل من هيبة الدولة و الوحدة الوطنية بل و بكل تهمة و صفة للنيل من هؤلاء المدافعين عن حقوقهم الأساسية وحقوق الإنسان .
و عموما لا يمكن لأي حق من الحقوق أن يهب هبة إلا من الله سبحانه وتعالى ، أما من هؤلاء الأنظمة الظلمة ، فالحقوق لا تهب منهم ، هبة ولا تأخذ بطريقة سلمية ،  بل تنزع من أنيابهم انتزاعا .
 لذلك أقولها و بكل صراحة ، و بكل وضوح ، و تباهي أيضا أنني كنت و ما زلت أرى بالشعوب المسلمة كل الحياة و الحرية ، ولكن كثير من النخب تهملهم و تهمل ثقافتهم ، و التوجه إليهم و تلتجأ إلى مخاطبة ما يسمى بالرأي العام العالمي دون أن تتوجه إلى الشعوب الإسلامية بأي خطاب إلا من أجل التبرع ، و جمع المال و أمثالهما فحق على كل صاحب رسالة أن يتوجه إلى الشعب بكل احترام ، و ثقة فهو حي يريد الحرية والعدالة ، و الحياة الكريمة ، بيد أننا نقصر في دعوته ، و ثقافته  و توعيته .
لذلك كنت أخاطب و ما زلت أخاطب الشعوب العربية ، و الإسلامية و مثقفيها بكل أبحاثي و مقالاتي لأنني أعي أين مكمن القوة و مكان انطلاقها ، إنها الشعوب المظلومة ، و التي تريد الحرية و العدالة و العيش الكريم .
فحق علينا أن نهتم بمساعدة أنفسنا و شعوبنا لنيل حقوقنا ومطالبنا المشروعة ولعل معرفة الحصون المساعدة على ذلك هامة جدا ، و ربما أن من أهم تلك الحصون ما يطلق عليه مصطلح : حقوق الإنسان .

فما هي حقوق الإنسان في ديننا الحنيف ؟ .

و هل هناك شيء يمكن أن نطلق عليه اسم حقوق الإنسان ؟
و إن كان الجواب بنعم ، فهل أن يكون حصن من الحصون القوية التي تركن ، و تأوي إليها الشعوب للحفاظ على حقوقها أمام الظلم و ظلام الأنظمة الحاكمة ؟ .
في هذه السطور سوف أحاول الرد على هذه التساؤلات و غيرها عسى أن يوفقني الله سبحانه و تعالى بوضع لبنة متينة في بناء هذا الحصن الحصين ، و الله المستعان .
الحقيقة أن الإسلام ، بشريعته ، و عقيدته و فقهه ، و مصادره تؤكد أن ميزان التكريم يعتمد على الارتباط العقائدي للإنسان حيث جعل الله سبحانه و تعالى الإنسان خليفة في الأرض لعمارتها ، و إقامة العدل فيها لا استغلال ، و استعباد الإنسان لأخيه الإنسان .
 قال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [1].
فالإنسان موضع تكريم من الله تعالى عز وجل مهما كان لونه ، أو موطنه ، أو حتى عرقه ونسبه أو جنسه .
قال تعالى : ( ولقد كرمنا بني آدم وحمناهم في البر و البحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) [2].
فتكريم الإنسان في الشريعة الإسلامية يعتمد خوفه من الله تعالى ، وقبوله رسالة الرسل ، ومنهج الوحي .
قال تعالى : ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) [3].
و قال جل جلاله : ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى وجعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم )[4] .
عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم فتح مكة فقال يا أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وتعاظمها بآبائها فالناس رجلان رجل بر تقي كريم على الله وفاجر شقي هين على الله والناس بنو آدم وخلق الله آدم من التراب قال الله { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير }. [5]
ومن هذه الآيات ، و أمثالها من النصوص الكريمة ، و الشريفة تنطلق حقوق الإنسان الشرعية في الشريعة الإسلامية ، فالإسلام يرى أن الإنسان قد كرمه الله تعالى من كونه عبد لله وحده ، فلا عباده إلا لله تعالى و تجريم فعل أو تشرع عقوبة إلا من تشريع الله تعالى . ولا سلطان لإنسان على إنسان إلا ضمن حدود الله تعالى المرسومة بدقة في الفقه الإسلامي المعتبر .
لهذا أعتقد أن للشعوب الحق في إزالة الظلم ، والاستبداد ، و هذا الحق مشرع من خالقهم العظيم ، لعدم جواز العبودية لغير الله تعالى ، أو الخضوع لغير شرع الله المعتبر ، و عليه يكون لجميع المسلمين ، و من يعيشون بكنفهم الحق في الحياة حياة كريمة ، بتوفير ما يحتاجونه من نفقة للعيش الكريم من مال الأمة ، كما لهم حق التعبير ، وحق الاختلاف ضمن حدود الشرع الكريم .
وبهذا فإن حقوق الإنسان الشرعية المعتبرة عند المسلمين تشمل الجنس البشري كله ، و لا ترتبط بعرق أو لون أو عنصر ، فعندما يختار الإنسان وجهة عقائدية معينة بإرادته ، و يمارس أفعاله  وفقا لها ، فإنه يحدد لنفسه حقوقا وواجيات في مجتمعه المسلم .
و حقوق الإنسان الشرعية فصلت تفصيلا في غاية الوضوح و الدقة و البساطة لتكون في متناول جميع أفراد المجتمع المسلم بكافة طبقاته وثقافته :
فالنصوص الشرعية في القرآن الكريم ، والسنة النبوية الشريفة جاءت محددة للحقوق كما جاءت مانعة لأي تجواز ، أو انتهاك فيها ، فتحريم القتل جاء لحفظ الحياة الكريمة ، و وجوب القتال جاء لإزالة ظلم الإنسان للإنسان ، و تحريم النزى جاء حماية للأعراض ، و تحريم الغش و الربا و الاحتكار جاء ضمانا لممارسة حق التكسب ، و الحيلولة دون سيطرة القوي على الضعيف .
و فرضت الشريعة الإسلامية على الدولة رعاية شؤون أفرادها رعاية الرجل القوي الأمين ، لمنع الظلم عنهم ، و إقرار العدالة بينهم .
وبهذا نجد أن حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية ترتبط بالغاية الكبرى بمقوصود التشريع لتحقيق العبودية لله فقط ، و لحفظ مقاصد الإنسان في الوجود الكريم ، و التي بينّها و حددهاعلماء الأصول بما يعرف بالاصطلاح بـ حفظ الدين ، و النفس ، و العقل ، و المال ، والعرض . فضلا عن حفظ حاجيات هذا الوجود ، و ذلك بوضع أحكام العلاقات الإنسانية في سائر المعاملات ، وأخيرا حفظ الوجود الإنساني وحفظ مكارم الأخلاق و محاسن العادات .
أما بالنسبة لما اصطلح عليه في العصر الحديث بالحقوق السياسية : فقد أكدت الشريعة الإسلامية على ضمان حق المسلم ، و من يعيش بكفنه في إبداء رأيه ضمن ما أجازه الشرع الحنيف .
و الذي نصرح به ، بل و يجب أن يعرفه كل مسلم مؤمن غيور على دينه أن كل الحياة بتفريعاتها مقيدة بالشرع الحكيم فإن أحلت ذلك فهو حلال و إن حرمته فهو حرام و لا يجوز الاقتراب منه إلا ضمن الضوابط الشرعية المعتبرة ، بحيث يكون كل ما بالمجتمع ، و ثوابته و متحركه يدور مع أحكام الشرع الحكيم من الحل أو الحرمة ، و غيرهما .

و الجدير بالذكر في هذا المقام ، وخصوصا أن مسالة الحرية السياسة تثار كثير في هذا العصر ، فما هو حكم الشرع فيها ؟ .
الحقيقة أن الحريات السياسية ، و غيرها من الحريات محكومة بالشرع الحكيم كغيرها من الحقوق ، أو الالتزامات و الشرع الحنيف قد جعل الممارسة السياسية و هو ما يطلق عليه اصطلاحا بـ ( الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ) فرض على كل مسلم ، بل أوجب الشرع على الدولة ، و أركانها أن تضمن هذا الحق في حدود ما أجازه الشارع الحكيم ورسوله الكريم .
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله تعالى عنه - قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من رأى منكم منكرا فإن استطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، و ذلك أضعف الإيمان ) .[6]
حيث أن مقارعة المنكر واجب شرعي على كل مسلم ، و لو كان بالقلب ، لأننا خير أمة أخرجت للناس ، فلا يجوز السكوت على المنكر وأهله و أفعله و صوره ، و إلا أصابنا الله بعذاب أليم .
فهذا الواجب غير موجود إلا في ديننا الحنيف ، بيد أن بُعد المسلمين عن شرعهم و تعاليمه ورجاله هو الذي جعلهم كغثاء السيل ليس لهم وزن أمام المتسلطين عليهم من الحكام و رجالهم و ذيولهم ، و من الذين يدورون بفلكهم من أصحاب المصالح الضيقة الذين لا يهمهم شرع و لا حق و لا دين ، بل مصالحهم الشخصية ، ولو ظلموا من ظلموا ، و قتلوا من قتلوا .

والحقوق السياسية في الشريعة الإسلامية تتميز بميزات عديدة تميزها عن أي حقوق في أي فكر أو دين آخر ، و لعل أهمها :

أولا – جعل الإسلام حق ممارسة الحقوق السياسية وسيلة للتأكد من التزام الحاكم بالشرع الحنيف ، لذلك أرى أن ممارسة الحقوق السياسية ، و هو ما يسمى في الفقه الإسلامي بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر  ، هدفه القريب هو حفظ الحقوق الأفراد ، أما هدفه البعيد ، فهو التأكد من إقامة أحكام الشرع على الحكام ، و المحكومين .
ثانياً – إن الحقوق السياسية في الشريعة الإسلامية يعتبر واجبا شرعيا و فرضا على المسلمين بما يستطيع ، و لو بالقلب ، لأن ممارسة ذلك الحق يحقق العدل و الحياة الإسلامية السليمة ، ويحفظ هذا الدين .
قال تعالى  : { إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {111} التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ {112} . [7]

و أخيراً ،
و بعد كل ما أوردت ، و بسطت وبينت ، بما يلائم المقال ، و المقام أن الحقوق مهما كان عظيمة أو بسيطة ، و التي وهبها الله تعالى لعباده يجب الحفاظ عليها ، و الدفاع عنها وإلا سقط المتكاسل و المتقاعس و المتجاهل في سخط الله تعالى ، ومن هنا فإن كثير من حقوقنا قد اغتصبت ، و منها حقوق الإنسان الشرعية ، فحق على جميع المسلمين والأحرار في العالم السعي ، لإحقاق الحق ، و إزهاق الباطل بكل ما أوتينا من قوة مادية أو معنوية ، و غيرهما ، و الله الموفق .


مسلم اليوسف
ABOKOTAIBA@HOTMAIL.COM
 


-----------------------------------
[1] - سورة الأنعام ، الآية 165 .
[2] - سورة لإسراء ، الآية 70 .
[3] - سورة التين ، الآية 4-6.
[4] - سورة الحجرات ، الآية 13.
[5] - عارضة الأحوذي ، ج6/337. و هو حديث صحيح .
[6] - رواه مسلم في صحيحه.
[7] - سورة التوبة ، الآية 11- 112.

خاص بموقع
المركز العربي للدراسات و الأبحاث
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
مسلم اليوسف
  • بحوث علمية
  • بحوث نسائية
  • مقالات ورسائل
  • فتاوى واستشارات
  • الصفحة الرئيسية