صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







التصوف الصحيح عين التوحيد.. أم عين الوحدة ..؟!.

د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه

 
في ملحق جريدة المدينة "الرسالة" بتاريخ 2/3/1426هـ: نقل عن فضيلة الشيخ الدكتور عبد العزيز القاري وفقه الله وأعلى نزله قوله: "التصوف الصحيح هو عين التوحيد".!!..

وهذه فكرة جديرة بالمدارسة: الدارسون للتصوف على مذهبين:

الأول: مذهب يرى التصوف أجنبيا عن الإسلام في: أصله، ونشأته، وأفكاره.

وعليه: فهو فكر منحرف كله.

وهذا رأي فريق يرفض التصوف جملة وتفصيلا.

الثاني: مذهب يرى التصوف إسلاميا في: أصله، ونشأته، وأفكاره. دخل عليه الفلسفة لاحقا، فتلبس به. وعليه: فمنه الإسلامي (= المعتدل، السني)، ومنه الفلسفي (= الغالي، البدعي).

وهذا رأي فريقين:

- فريق من المتصوفة.

- وفريق من غير المتصوفة، يعلن قبوله بما يراه: إسلاميا، معتدلا، سنيا. ويدعو إليه.

فهل يوجد فريق يعلن أن: التصوف كله حسن: أوله، وآخره، بدايته، ونهايته، وكل المنتسبين له؟.

نعم، هذا الفريق موجود، وهم الفريق الثاني من المتصوفة، الذين يرون كل ما في التصوف حسن، ليس فيه أي شيء غير ذلك، وهم الذين لم يعرف عنهم أي نقد لأي مسلك من مسالك الصوفية، بل صوبوها كلها، وقالوا: "الطريق إلى الله عدد أنفاس الخلائق".

من ذلك يتبين: أن المتصوفة وغير المتصوفة منقسمون حيال التصوف نفسه..؟!.

فمن المتصوفة من يقر بوجود فكر منحرف، خارج عن الإسلام، داخل المذهب الصوفي، لكنه يتبرأ منه، ويقول: إنه دخيل، طرأ لاحقا، فتلبس بالتصوف. ويعلن تمسكه بالكتاب والسنة.

وآخرون لا يقرون بشيء من ذلك.

ومن غير المتصوفة من يعتقد أن في التصوف جانبا معتدلا، سنيا، إسلاميا، يجب أن يعتنى به، وينمى. وآخرون يرفضون هذا الرأي، ويعتقدون بطلانه.

فطائفتان متفقتان علما ونظرا، وإن كانتا مختلفتين عملا وتطبيقا.

وطائفتان مختلفتان علما ونظرا، وعملا وتطبيقا. لكن هل ثمة مستند عند الفريقين ؟.

من قال بالتصوف المعتدل، سواء من المتصوفة أو من غيرهم، فإنه استند إلى ما يلي:

1- نسبة التصوف إلى الصوف. والصوف لباس مشروع.
2- تعريف التصوف بأنه الزهد. والزهد مشروع.
3- تعريف التصوف بأنه خلق وسلوك. والخلق والسلوك مشروع.
4- الثناء على أئمة التصوف، وسلوكهم. بأنهم كانوا قمما في الزهد والسلوك.

وأما من قال بأن التصوف فلسفي، ليس فيه اعتدال، فإنه استند إلى ما يلي:

1- إنكار نسبة التصوف إلى الصوف.
2- إنكار أن يكون موضوع التصوف هو الزهد.
3- القول بأن التصوف خلق، لكنه طريق خاص في الخلق.
4- التفريق بين التصوف والمنتسبين إليه في الحكم على التصوف.

وهذا موضع التحرير..!.

فمن ثبت دليله فقوله هو الحق، لا من بطل دليله.. ؟. الدليل الأول: النسبة إلى الصوف.

قالوا: التصوف نسبة إلى الصوف، مشتق منه، وهذا ثابت من حيث اللغة، يقال: تصوف. إذا لبس الصوف. وتقمص، إذا لبس القميص. والصوف لباس الزهاد، والزهد موجود في الإسلام.

قيل: لا علاقة بين التصوف والصوف، والنسبة اللغوية وحدها لا تكفي لإثبات النسبة، والأدلة ما يلي:

1- لم يشتهر المتصوفة بلبس الصوف، وبهذا قال القشيري: "القوم لم يختصوا بلبس الصوف"، وأنكر أن يكون مشتقا من الصوف، فقال: "وليس يشهد لهذا الاسم من حيث العربية، قياس ولا اشتقاق، والأظهر فيه أنه كاللقب" [الرسالة القشيرية 2/55-551]، ومما يعطي هذا الرأي قيمة: أن أحدا من المتصوفة لم ينكره، ولم يرده، ولولا أنه يعبر عن الحقيقة ما سكتوا.

2- الهجويري كذلك أنكر النسبة إلى الصوف، ومنع أن يكون له اشتقاق لغوي.

3- المتتبع والدارس تعريفات المتصوفة الأولين، المؤسسين، منذ بداية التصوف، وحتى منتصف القرن الخامس (2-44هـ)، يلحظ خلوها من ذكر الصوف، إلا تعريفا يتيما أو تعريفين من بين حوالي ثمانين تعريفا، ذكرها القشيري في رسالته، ونيكلسون في بحث له، ينقلها من: تذكرة الأولياء للعطار، ونفحات الأنس للجامي، والرسالة للقشيري. [في التصوف الإسلامي وتاريخه ص28-41]، فلو كانت النسبة صحيحة، فلم أعرضوا عن ذكره في هذه التعريفات..؟!.

والحقيقة أنها كلمة يونانية، أصلها "سوفيا"، دليله توافق أصول الفكرتين "الصوفية" و "السوفية". الدليل الثاني: التصوف هو الزهد.

قالوا: التصوف هو الزهد؛ فإن الصوفية لما رأوا إقبال الناس على الدنيا: آثروا الزهد فيها. قيل: تفسير التصوف بالزهد، وتعريفه به، ليس له مستند، والأدلة تعارضه:

1- في تعريفات الأئمة المؤسسين للمذهب الصوفي: لا نجد ذكرا لكلمة "الزهد"، ومعلوم أن المعرّف لمصطلح ما، جديد غير معروف: يحرص كل الحرص، على أن يستل من اللغة الكلمة الأوفق، والأوضح، فإذا كان كذلك، فلم أعرضوا عن كلمة "الزهد"، واستعاضوا عنه بعبارات من قبيل: إيثار الله.. قلة الطعام.. الفقر..؟!.. هل غابت الكلمة عن قاموسهم ؟!، كلا، بل حاضرة، لكن لما لم يكن حقيقة التصوف هو الزهد: أعرضوا عنه.

2- ورد التصريح من الأئمة بأن التصوف ليس هو الزهد، قال السهروردي: "التصوف غير الفقر، والزهد غير الفقر، والتصوف غير الزهد، فالتصوف: اسم جامع لمعاني الفقر، ومعاني الزهد، مع مزيد أوصاف وإضافات، لا يكون بدونها الرجل صوفيا، وإن كان زاهدا فقيرا". [عوارف المعارف، ملحق بالإحياء 5/79]، فالتصوف لا يختص بالزهد، ولا الزهد هو التصوف، وهكذا قال: ابن الجوزي، نيكلسون، عبد الحليم محمود، سعاد الحكيم، محمد زكي إبراهيم.

فإذا لم يكن هو الزهد، فما هو إذن ؟.. الجواب سيأتي فيما يلي:

الدليل الثالث: التصوف خلق وسلوك.

قالوا: التصوف أخلاق وسلوك، لتهذيب النفس، وتصفية الروح، والتخلص من الأخلاق السيئة. قيل: نعم هو خلق وتخلق، لكن أي خلق، وأي تخلق..؟!.

هو خلق وتخلص خاص، كما فسره أئمة التصوف: النوري، والغزالي، وابن عربي، والجيلي، والقاشاني: "التخلق بأخلاق الله"، ليس هو التخلق المتبادر إلى الذهن، بل مشاكلة للصفات الإلهية.. وهل يمكن هذا.؟!.

قالوا: كلا، بل تخلق في حدود البشرية.

قيل: هذه دعوى، فكتب الصوفية طافحة، مليئة بإثبات أنه تخلق كامل، لا نقص فيه، حتى يضاهي الصفات الإلهية، سواء بسواء؛ ولذا قالوا: الفناء عن الصفات البشرية، والبقاء بالصفات الإلهية. أو الفناء عن البشرية، والبقاء بالإلهية. فالفناء هو لب الفكرة الصوفية، شهد بذلك الأئمة الأولون، ثم المصنفون منهم: الطوسي، والهجويري، وأبو المواهب الشاذلي.. ومن المعاصرين الدكتور أبو الوفا التفتازاني شيخ مشايخ الطرق الصوفية، والشيخ محمد زكي إبراهيم، شيخ العشيرة المحمدية.. فهل في الصحابة من يقول بالفناء ؟!.

وهل الفناء عن الأوصاف البشرية، أو البشرية: توحيد. أم توحّد مع الأوصاف الإلهية، والذات الإلهية، حتى تتحدا، فتكون شيئا واحدا.. ؟!.

فهذه الحقيقة من البروز والظهور بحيث يعسر سترها، كما قال المستشرق الباحث في التصوف نيكلسون: "وتحول معنى التوحيد إلى وحدة الوجود، فحلت محل صورة الله الواحد، المنزه عن صفات المحدثات، صورةُ الوجود الواحد المطلق (الحق)، الظاهر في كل مظهر من مظاهر الخلق، المتجلي في صورة الصوفي عند فنائه عن نفسه في حال وجده، وهذه العقيدة مهما حاول الصوفية سترها: أساس التصوف وجوهره". [في التصوف الإسلامي وتاريخه ص73]، والعبارات في هذا المعنى، المثبتة لهذه الحقيقة أكثر من أن تحصى، سواء عن الأئمة أنفسهم: أولين، وآخرين. أو عن الكتاب المتخصصين في التصوف.

الدليل الثالث: أئمة التصوف فيهم من له قدم صدق في الإسلام.

قالوا: أين أنتم من الأئمة، المتقيدين بالكتاب والسنة، والذين أثنى عليهم الأئمة كابن تيمية، أليس الثناء عليهم ثناء على التصوف؟.

قيل: هذا هو موضع البحث والنظر..

فإن أكثر النزاع من هذه الحيثية؛ فإن الذين صححوا التصوف بنوا قولهم نظرا منهم إلى المنتسبين إلى التصوف، وما جاء من الثناء عليهم، خصوصا عن ابن تيمية. لكنهم لم ينظروا من جهة الفكرة نفسها، وهذا خطأ.. ومثله كمن صحح النصرانية؛ لأن فيهم قسيسين ورهبانا، وأنهم لا يستكبرون ..!!.

والصواب: أن يفرق بين الفكرة والمنتسبين إليها. فليست كل أفعال المتصوفة صادرة عن الفكرة الصوفية، بل فيها ما هو صادر عن اتباع وتسنن، فهذا ينسب إلى الإسلام. وفيها ما هو صادر عن فكرة صوفية، معروفة من قديم، في الثقافات القديمة، فهذا ينسب إلى الصوفية..

أما نسبة كل ما يصدر عن الأئمة إلى التصوف، فمثل نسبة كل ما يصدر عن المسلمين إلى الإسلام ..!!.

فهذا ما سمح به المقام لمناقشة هذه الفكرة..

فهل يصح بعد هذا العرض أن يقال: إن التصوف الصحيح هو عين التوحيد ؟.

بعد ما تبين أنه يقوم على فكرة غريبة عن الإسلام، هي:الفناء. الفناء عن الأوصاف البشرية، والبقاء بالأوصاف الإلهية، أو الفناء عن البشرية، والبقاء بالإلهية ذاتا ؟.

بعد ما تبين أنه لا يقوم على الزهد، ولا على الفقر، ولا علاقة له بالصوف.. مع أن الزهد، والفقر، ولبس الصوف ليس دالا على التزام تعاليم الإسلام في كل حال ؟.

إن توثيق بعض الناس للتصوف يدفع إليه أحد أمرين:

- إما خطأ في فهم حقيقة التصوف. فيُعتقد لأجله صحته.. وهو خطأ يرده البحث العلمي.

- وإما مقصد دعوي محض. فيُعتقد بطلان التصوف، لكن يراد تصحيحه من الداخل، بقسمته إلى: سني، وفلسفي. وقبول الموصوف بالسني منه.

فأما الأول، فقد تقدم الكلام عنه، وأما الثاني: فهو من باب الحكمة في الدعوة والإصلاح.

ولا يخفى أن الحكمة هي التي يكون عنها الأثر الحسن، فإن كان الأثر سيئا، فحينئذ لا حكمة، بل فتنة.. فعلى أي أساس بنى أصحاب هذا الاتجاه رأيهم في أنه الحكمة ؟.

الواضح أنه بني على أساس منع الصدمة؛ فإن النفوس تضجر من صدمتها بالحق، فتعرض، فهي تحتاج إلى: ملاينة، ومداراة، وسياسة. حتى لا تكره، فتشرد. فالمنتسبون إلى التصوف يحسبون ما هم عليه هو الدين القويم، فليس من السهل تركه إذن.!.

وإذا كانت النقولات عن أئمتهم قد تضمنت: التنبيه على التقيد بالكتاب والسنة.. إذن، فلم لا نصحح التصوف من هذه الجهة ؟..

فيعلن أن ما قاله الأئمة من وجوب التقيد بالكتاب والسنة هو: التصوف الصحيح، وما عداه باطل.

وبذلك تستنقذ جموع من المتصوفة، بجذبهم إلى الحق، دونما اصطدام قد جُرّب، فاكتوت الأمة به.

وهذا تعليل وجيه، لو وقفنا عند الآثار الحسنة لهذا الرأي، دون النظر فيما قد يكون من أثر سيء عنه.

فالرافض لهذا الرأي له أن يقول: إن الآثار السيئة لهذه الطريقة بادية، فمنها:

1- إعطاء التصوف شهادة براءة من كل ما نسب إليه؛ ومشايخ الطرق لا يطمعون في أكثر من هذا، فإنه ما من انحراف إلا تبرءوا منه وقالوا: ليس هذا تصوفنا. فتبقى البراءة، ويبقى الانحراف..!!.

2- تشجيع عوام المتصوفة على البقاء في التصوف، فإذا كان منه الحسن والموافق للشريعة، فلم يخرجون منه ؟!، والمهم هنا: أن الحسن عندهم هو ما تلقوه عن مشايخهم، فحسب..؟!!.

3- تشجيع غير المتصوفة على اعتناق التصوف، فما دام منه الحسن والموافق للشريعة، وهو عين التوحيد، فلم لا يلتحق به الناس.. وكيف يتركون لب التوحيد وعينه وهم قادرون عليه ؟!.

4- التذبذب في المواقف: فبالأمس كان يُقرر بطلان التصوف، واليوم انقلب توثيقا، بمبالغة..!!. هكذا يقال.. وقد يتسبب هذا في فقدان الثقة، وعدم الاطمئنان مستقبلا لأصحاب هذا الرأي.

فإذا حصلت المقارنة بين آثار القولين، فأيهما الذي سيرجح حينئذ..؟.

يحصل الجواب لبعض الناس من أول نظرة، وآخرون في حاجة إلى تأمل.. والعقل الصحيح يهتدي. لكن قد يقول أصحاب الاتجاه الأول: إذا فرضنا أن الآثار السيئة أغلب، فكيف إذن لنا أن نوضح الحق للمتصوفة، مع ضمان عدم نفورهم ؟.

فجواب الفريق الثاني: الحق لا يقوم له شيء، وكل بعيد عنه، وهو يتمناه ويرجوه، فلا بد أن يقترب منه، ويأتي إليه يوما ما، كما يأتي الظمآن إلى الماء، ولو كان في المكان الوعر، يأتيه بكل رغبة ورضا. ومن أسباب حصول هذا الخير: ثبات أصحاب الحق عليه، وعدم التنازل عن شيء منه، ولو أحدث ذلك ألما، فإن العاقبة للحق، والأصل في الحق: أن يعلن كما هو، مع اللين، واللطف، والحسنى. فإن كان ثمة ضرورة فقد أذن الشرع في السكوت حينا، وإبلاغ بعض الحق، وتأخير بعضه، حتى يفهم الناس.

ولا بد أن نفرق بين مسلك يؤخر بيان الحق حينا، تدرجا في التعليم، ومسلك يتسبب في ضياع الحق، وعدم الاهتداء إليه، وذلك متوقع وحاصل عند تزكية كل فكر ثبت انحرافه؛ فإن في ذلك عونا على ترسيخه، وزيادة أنصاره، وضرر هذا أكبر من فائدة إصلاح ذلك الفكر من الداخل.

وبعد: فما سبق كانت مشاركة مني لما تفضل به الشيخ الدكتور عبد العزيز القارئ حفظه الله وأعلى نزله، ولم يكن القصد مناقشته، فالرأي الذي دعا إليه، لا يتمثّل فيه وحده، بل يشاركه فيه جمع من الفضلاء.

أسال الله تعالى أن يهب لنا قلوبا مطمئنة، ونفوسا راضية، وعلما نافعا، وعملا صالحا.. والله أعلم، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا، وعلى آله وصحبه. والحمد لله رب العالمين.

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
د.لطف الله خوجة
  • محمد صلى الله عليه وسلم
  • المرأة
  • التصوف
  • الرقاق
  • الآخر
  • معالجة
  • وصية
  • قطرة من الروح
  • الصفحة الرئيسية