صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







الترابط بين سيادة الدولة خارجيًا , وسيادة 
الشريعة والقضاء الشرعي

خالد بن عبدالله الغليقة

 
يذكر بعض الكتاب عن تشرشل أنه قيل له : إن بريطانيا ستنهار سياسياً وسيادياً , فطلب تقريراً عاجلاً عن حالة القضاء في بريطانيا ؛ فجاء الرد بأنه جيد جداً فقال : ( إذاً لا خوف على بريطانيا ).
فمثل هذه النظرة لدى تشرشل وغيره ممن استطاعوا بناء كيانات ودول قوية تظهر مكانة القضاء الإستراتيجية في عصب كيان أي دولة ، وأنه عنصر مهم في بقاء سيادتها على الصعيد الداخلي والخارجي.
ومما يدل على أهمية القضاء : حرص الدول القوية على اختراق القضاء في الدول المراد السيطرة عليها , وانتقاص سيادتها داخليًا، ومن ثم انتقاص سيادتها خارجياً ؛ لوجود الترابط القوي جداً بين السيادتين ، ومن خلال هذه المعادلة نعرف ونفهم أهمية دعم القضاء الشرعي في المملكة العربية السعودية لسيادة الدولة داخلياً ، وكما سبق وقلنا : إن هناك ترابطاً قوياً بين السيادة الخارجية والداخلية للدولة , وإن الأولى مبنية على الثانية , وإن قوة الأولى بقوة الثانية ، فالطريق لخلخلة وهز سيادة المملكة خارجياً هو خلخلة وهز سيادتها داخلياً ، ومن أدوات ذلك : خلخلة وهز القضاء الشرعي فيها .. وقبل أن نشرح هذه المعادلة ونبين الترابط بين أركانها , والنتيجة الحاصلة منها . للقارئ الحق أن يسأل عن مدى صحة وصدق وحماس وحرص المستعمر على محاولات خلخلة سيادة الدولة السعودية خارجياً؟
الجواب عن ذلك : أن سيادتها خارجياً كانت سبباً لإجهاض كثير من مشروعات الاستعمار السياسي والاقتصادي والثقافي ؛ وإن لم توقفها بالكامل في بعض الأحوال فإنها قامت بتحجيمها وتقليل الخسارة , وهذا نجاح كبير في زمن تضخم النفاق السياسي في المنطقة ، الذي سبق أن تنبأ به وأخبر عنه الملك عبد العزيز حينما قال : ( إنه لن يحاربني عدوي المخالف لي في الديانة مباشرة بل سيحاربني عن طريق أخي المسلم ) .

ولكي لا تغرب عن البال هذه النتيجة التي توصل إليها الملك في ربطها بالقضاء الشرعي نقول : إنه لم يحارب الأخ المسلم أخاه المسلم إلا لما سقط القضاء الشرعي في تلك البلدان الإسلامية , وصار البلد في مهب الريح تتخطفه مذاهب عقدية ومدارس فكرية قائمة على النظرة المادية , والتفسير المادي للحياة والسياسة والعلاقات ، لا على الدين الإسلامي , والأخوة الإسلامية , وصار البلد مبنيًا على الأفكار الوضعية التي تجرمها المحاكم الشرعية , ولم يعد يهمها موافقة الشريعة أو مخالفتها في قضايا مصيرية وإستراتيجية بالنسبة للمسلمين , ولها أثرها في استقرار بلدانهم وأمنها وسيادتها ، كالمفاهيم الإسلامية التي تمنع من سيطرة الكافر على المسلم سياسياً واقتصادياً وثقافياً , ومثلها المفاهيم التي تدعو إلى الولاء والبراء وإلى جهاد المستعمر بالسياسة والاقتصاد والثقافة ، وإقامة حكم الله وشرعه في بلدان المسلمين , والمفاهيم التي تنادي بالأخوة الإسلامية, والتعاون على البر والتقوى

نعود إلي سيادة المملكة خارجياً وأثرها في إجهاض وكبح جماح كثير من مشروعات العدو المستعمر وبرامجه ، فمن ذلك : رفضها التطبيع مع المحتل الإسرائيلي بلا شروط أو قيود تحفظ للإسلام حرمته , وتتيح له  التطبيق والممارسة على المستوى السياسي والدستوري ، وكذلك تحفظ حقوق المسلمين في أرضهم واقتصادهم , وكذلك تحمي الفكر الإسلامي من الاختراق والغزو الثقافي , وأيضاً تحمي المقدسات الإسلامية من المساس بها ؛ ومن تلك السياسات الحكيمة التي قامت بها المملكة مؤخرًا مبادرة الملك عبد الله (التي سميت فيما بعد المبادرة العربية) , والتي    - في نظري - أجهضت خطة استعمارية تُجبر الدول العربية على التطبيع دون شروط ولا قيود , وهذا ما حصل بعد أحداث 11 سبتمبر , وقد قرأتها السعودية من أول وهلة ، فنادت بهذه المبادرة لقطع الخط على تلك الخطة الاستعمارية التي تقوم على التفرد بكل دولة على حدة , تحت ذريعة الحرب على الإرهاب , وأن من لا يطبع مع إسرائيل فهو ضد أمريكا , وإذا كان ضد أمريكا فهو مع الإرهاب العالمي .

فمن خلال هذه المبادرة التزمت الدول العربية بتوقيع هذه الاتفاقية التي تقيد إسرائيل بشروط تحمي وتحفظ حقوق المسلمين في أرضهم وسيادتهم على أوطانهم , فكانت المبادرة بمثابة رمي الكرة في ملعب فريق المحتلين .

المهم أنها كانت سداً منيعاً من تفرد المستعمر غير المشروع , والخلوة المحرمة بأي دولة عربية .

ومن قصص عمليات الإجهاض السعودي للمشروع الاستعماري : (اتفاقية مكة بين حركتي فتح وحماس) ، فالخطة الاستعمارية في نظري تقضي بإيصال حركة حماس إلى سدة الحكم , وذلك لمعرفة قديمة      لدى بعض الدوائر الغربية بأن شعبية حماس أكثر من شعبية فتح والسلطة ([1]) ، وهنا طلب من بعض من في السلطة الفلسطينية أو حركة فتح أن تكون الانتخابات نزيهة وشفافة وبلا تزوير ، فإذا وصلت حماس للسلطة قوطعت وحوصرت دولياً , فهذا يساعد ويساهم في إسقاطها داخلياً , فلا رواتب للموظفين , ولا مواد غذائية , ثم تأتي المعضلة التي كانت القشة التي قصمت ظهر حكومة حماس , وهو اختلال الأمن , الذي ظهر عن طريق الاقتتال بين الفلسطينيين , وهنا تسقط حركة حماس داخلياً ، وتنزع من قلوب الناس ، وينفضون أيديهم منها , فما كان من المملكة إلا أن فَوَّتت الفرصة على سماسرة الحروب والمنفذين لمقاصد العدو , وإجهاض خطة إسقاط حماس وحدها , أو إسقاط القضية الفلسطينية برمتها , فكان (اتفاق مكة) , وقد صرح بعض الخبراء بالسياسة الإسرائيلية , والفلسطينيين وغيرهم من الساسة بأن اتفاق مكة أربك المشروع العدائي والخطة الجهنمية في إسقاط القضية الفلسطينية في الدرك الأسفل من خارطة السياسة العالمية والعربية وتمكين إسرائيل.

ومن ذلك أيضًا تفويت الفرصة على أعداء الأمة الإسلامية والعربية عندما راهنوا على شق الصف العربي من خلال هجومهم الشرس على غزة ، فقد كان من الأهداف الرئيسة هو أن تكون حرب غزة سببًا لشق الصف العربي ، وتفكيك وحدته ، وتفريق كلمته ([2]) ، فجاءت مبادرة المملكة العربية السعودية والملك عبد الله في قمة الكويت ؛ لإعادة الملحمة وجمع الكلمة ، فكانت دعوة للتصالح والتسامح ونسيان الخلافات السابقة ؛ وذلك لإفساد الفرصة على العدو وإجهاض خططه .

هذه بعض صور عمليات السعودية للإجهاض السياسي للمشروع الاستعماري ، فالقصد من ذكرها هو إظهار وإبراز قدرة وجرأة وقوة سيادة المملكة العربية السعودية في القيام بمثل هذه العمليات في مواجهة مخططات وبرامج أعتى وأقوى في السياسة والحرب والسيادة ، فهذه السيادة القوية والجريئة القادرة على المواجهة لم تأت من فراغ أو صدفة، بل هي قديمة قدم الدولة ، ومن أهم أسبابها وأعظمها سيادتها في الداخل, فلما أمنت في الداخل سادت في الخارج ، فالدول الضعيفة داخلياً والمخترقة شعبياً والمختلة قاعدتها الوطنية هي التي لا تستطيع المغامرة خارجياً ، ولا تقدر على المواجهة سياسياً وإن تورمت خطاباتها السياسية بسب الشيطان الأكبر وشتمه , ولعن الإمبريالية العالمية ومثلها أسطورة  (إحراق إسرائيل كلها أو نصفها أو ثلاثة أرباعها) ، أو رميها في البحر ، فما أن يُلعن الشيطان الأكبر عبر الهواء إلا وعلى الأرض يسير وسطاء أو سفراء لطمأنة الشيطان الأكبر ؛ بل وحتى الشيطان الأصغر بأن هذا اللعن وذاك السب للاستهلاك الداخلي أو الخارجي ، المهم أنه لا حقيقة له على أرض الواقع أو في العقل ، بل هو من اختصاص الهواء والصحف والإذاعات والقنوات .

مثال على ذلك : أن صدام حسين قد هدّد أيام أزمة الخليج بحرق نصف إسرائيل , وفي الوقت نفسه الذي كان صدام يطلق هذه التصريحات القوية كان يطلب من أحد السفراء العرب أن يبلغ الحكومة الأمريكية ألا تأخذ هذه التصريحات مأخذ الجد ؟! ([3]) .

فإذا عرفنا قوة سيادة المملكة في الخارج , وأن سبب ذلك هو قوة سيادتها في الداخل ، فعلى هذا يجب أن نعرف سبب هذه القوة , ونتعرف على معادلة السيادة الداخلية ، فنقول : إن سبب ذلك والعنصر الأساس في معادلة السيادة الداخلية هو أن الدولة خرجت من رحم الدعوة الدينية التي يدين بها غالبية الشعب السعودي , فلم تأت على رأس دبابة , ولم تقم على كتف انقلابي ، بل سندها لدى الشعب هو عقيدة وتاريخ يشهد لهذه الدولة بإعزازها لهذه العقيدة والدعوة إليها , وترسيخها وتكريسها . فإذا كانت الدولة خرجت من رحم الدعوة التي يدين بها غالبية الشعب السعودي فمعنى هذا أن رأس الهرم وهو الدولة قام على قاعدة قوية مرتبطة بروابط من أقوى الروابط في حياة أي أمة ، وهي الانسجام الديني , والتطابق في المعتقد بين القاعدة ورأس الهرم , وعلى رأس هذا الشعب المتدين قيادة دينية من أهم وظائفها حماية الشعب من اختراق الأديان , والأفكار المنحرفة عن العقيدة الصحيحة ، وبلا عناء كبير , وفي زمن قصير جداً يستطيع أي شخص الحصول على آلاف الصفحات الصادرة عن القيادة الدينية في التحذير من هذه الأديان والأفكار , وتوضيح مخالفتها للعقيدة الإسلامية , وكشف زيفها اجتماعياً , وإبراز خطورتها في تفكيك الأمة وتمزيق جسد الوطن الواحد ، وهذا يصدر تارة على شكل فتوى قصيرة , وتارة على شكل بيان مشترك , إلى مؤلفات في تلك الأفكار . مثال على ذلك : ما حصل زمن انبعاث الأفكار الباطلة في العالم الإسلامي والعربي كالشيوعية والاشتراكية والقومية والبعثية والعلمانية , وأخيراً الليبرالية ، وإلى هذا السطر نستطيع أن نكتب عن أهمية الفتوى والقضاء الشرعي في المملكة العربية السعودية في حماية سيادة الدولة داخلياً ، فنقول : من يقرأ – ولو قراءة سريعة - أحوال العالم الإسلامي والعربي بالأخص سيجد أن أفكاراً ظهرت منذ خمسين أو ستين سنة وبعدها بعدة سنوات فقط وصلت هذه الأفكار والمذاهب من شيوعية واشتراكية وقومية وبعثية وليبرالية إلى سدة الحكم, وزمام الدولة فأسقطت ملكيات وإمبراطوريات وإمارات وعروش كانت تتباهى يوماً ما بقوتها المادية والعسكرية ، لكن الأفكار كانت أقوى من الماديات وما ذاك إلا بسبب لا نقول إنه السبب الوحيد ؛ لكن نستطيع أن نقول ونجزم إنه من أهم الأسباب ، وأنه سبب أساس ، وهو أن تلك البلدان كانت فاقدة للقيادة الدينية القوية والحاضرة , والتي من مهامها إصدار فتوى أو بيان تحرم وتجرم من يدعو إلى تلك المذاهب أو من يعتنقها. وقد تولد الفتوى على ضعفها , لكن لا يوجد القضاء الشرعي الذي يحكم بهذه الفتوى ويقرر العقوبة , وقد توجد الفتوى والقضاء لكن لا توجد الجهة المنفذة لحكم القاضي . وقد توجد هذه الثلاثة ، ويبقى عنصر مهم في تكوين عملية سيادة الدول داخليًا وعلى أرضها وبين شعبها ، وهو شعب على قدر كاف من التدين , ويقر بالإفتاء الشرعي الذي يجعله يحكم على هذه الأفكار بالشذوذ عن الشريعة ، وأن من يدعو إلى هذه الأفكار يعتبر متجنياً على عقيدة الأمة وعقيدة المجتمع ، فأي خلل في هذه المنظومة الرباعية التي تتكون منها سيادة الدولة داخلياً تنفذ تلك الأفكار الهدامة والباطلة في مفاصل عملية تكوين السيادة ، فبقدر دخول هذه الأفكار تهتز وتختل سيادة الدولة داخلياً , وبقدر اهتزازها واختلالها داخلياً تهتز وتختل خارجياً ، واهتزازها خارجياً يصعب من عملية المواجهة , ومن ثم يشلها ..  وإلى هنا نستطيع أن نعرف ونفهم أهمية هذا الترابط العضوي بين الفتوى الشرعية والقضاء الشرعي, والجهة التنفيذية (الدولة) , وتدين الشعب وهذا الأخير هو الباعث على الاستجابة للفتوى الشرعية والخضوع للقضاء الشرعي , وبين هذه الركائز الثلاث وبين سيادة الدولة داخلياً ، ومن ثم سيادتها خارجياً .

وبهذا نعرف خطورة بعض الاجتهادات المحلية الخاطئة  والدعاوى الغافلة التي تَدَّعي أن ليس للشعب السعودي خصوصية قائمة على التدين والمحافظة , والتي كونت لديه ممانعة من تبني واعتناق الأفكار المنحرفة عن عقيدة الإسلام , وأن ليس لهذا الشعب خصوصية يجب أن تُحمى ويدافع عنها ؟ !
ومثل هذه الدعاوى والاجتهادات الخاطئة : التقليل من أهمية دار الفتوى الرسمية أو جبهة علماء الشريعة في المملكة ودورها في المحافظة على سيادة الدولة والاستقرار الأمني ، وأخطر من هذا القول بأنها كانت عقبة أمام التحديث والتطوير والتنظيم . وأخطر الثلاثة : وصف خطابها بأنه خطاب مفرق للأمة ، داع للفتنة بين أبناء الوطن الواحد ؟! ومثل هذه الدعاوى الخاطئة والاجتهادات الغافلة دعوى إصلاح القضاء الشرعي في السعودية ؛ وليس الكلام في انتقاد بعض الهفوات والمآخذ , فالقضاة بشر ليسوا ملائكة , وقضاؤهم ليس معصومًا كقضاء الأنبياء ؛ لكن مشكلتنا مع من يدعو إلى إصلاح القضاء بحيث لا تكون الفتوى الشرعية سقفاً له, ولا يكون بينه وبين العقيدة التي يدين بها غالبية الشعب السعودي أي ترابط . والقصد من ذلك أن لا يحاكم في القضاء من يتبنى الأفكار الباطلة الوافدة ؛ كالشيوعية والقومية والبعثية والليبرالية . وهذا ما ضمنه أحدهم ـ هداه الله ـ في كتاب ألفه تحت عنوان (استقلال القضاء السعودي ) ، حيث دعا إلى أن يكون  القضاء في السعودية  مدافعاً عن صاحب الفكر الإسلامي وغيره من الأفكار , وأن يكونوا لدى القضاء في منزلة واحدة , ويعيشوا تحت مظلته وحمايته !!

وبهذا نعرف سبب اللهجة العنيفة تجاه الخطاب الشرعي الرسمي والقضاء الشرعي في السعودية ، وكذلك النقد الحاد  لموضوع خصوصية المجتمع السعودي المتدينة والمحافظة .

------------------------------
([1]) وقد صرح بذلك أحد رؤساء تلك الدول في نصيحته لباراك للإبقاء على هيبة السلطة لدى الشعب الفلسطيني ؛ لأن سقوط مكانتها يبرز الحركات الراديكالية ـ كما يقول ـ كحركة حماس التي لا تؤمن بوجود إسرائيل .
([2]) وهذا ما صرحت به وزيرة خارجية إسرائيل عندما قالت بعد ثلاثة أيام من الحرب : "نجحنا في شق الصف العربي" ، بل إن هذه الهدف أهم من هدف احتلال غزة .
[3]))  أزمة الخليج محاولة للفهم , ص 66 .


 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
خالد الغليقة
  • مقالات
  • الصفحة الرئيسية