صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







آثار الرشوة على الفرد والمجتمع ( خطبة جمعة )

حسين بن سعيد الحسنية
@hos3030


بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين وبعد

مسؤول في دائرة حكومية تقف عنده أوراق معاملة لم تنتهي بعض إجراءاتها فيأتي صاحب تلك المعاملة لذلك المسؤول ليبني معه علاقةً سطحية تنتهي بعزيمة من أجل الصداقة .
مدير شركة خاصة يعقد مجموعة من المقابلات الشخصية لموظفين جدد فيرفض أحدهم لعدم استيفاء الشروط , فيأتي والد المتقدم المرفوض ليعرض على مدير الشركة خدماته لأنه يستحق الإكرام .
موظف مكلف باستلام العروض المالية المقدمة من رجال الأعمال لتنفيذ مشروع عام , فيبلغه أحدهم أن هدية ستصل إليه من باب " تهادوا تحابوا "
مواطن يحصل على منحة أرض ليقفز في الدور على آلاف الأشخاص قبله لأن له قريب في مركز منح الأراضي هيأ له الحصول عليها باسم الفزعة .
طالب يأتي بلوازم وأغراض بيت معلمه وينهي له أشغاله والتزاماته من باب الخدمية لا غير .

إلى غير تلك الصور التي نشاهدها أو نقرأ عنها أو نسمع بأحداثها , أبطالها يأكلون أموال الناس بالباطل بدعوى الإكرام أو الصداقة أو الهدية أو الفزعة أو الخدمة وهي ليست إلا سحت يملئون بطونهم منه – والعياذ بالله – وهم بذلك يتبّعون سنن من كان قبلهم من اليهود والنصارى وغيرهم , فمن يتأمل في أحوالهم وصفاتهم التي أخبرنا الله عنها يجد أنّ من أهمها أنهم كانوا أكّالون للسحت , قال تعالى : " سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ " المائدة 42 , ويقول جل وعلا : " وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَوْلا يَنْهَاهُمْ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمْ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ " المائدة 62 , 63 , والسحت هنا هو الرشوة , يقول ابن مسعود رضي الله عنه : السحت هو الرشا ، وقال عمر بن الخطاب : رشوة الحاكم من السحت ، وروى ابن جرير عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: " كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به " قيل : يا رسول الله ، وما السحت ؟ قال :" الرشوة في الحكم " وقال الحسن رحمه الله : كان الحاكم من بني إسرائيل إذا أتاه أحدهم برشوة جعلها في كمّه فأراها إياه وتكلم بحاجته ، فيسمع منه ولا ينظر إلى خصمه ، فيأكل الرشوة ، ويسمع الكذب ،" سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ " المائدة 42 .
والمال أيّاً كان هو من زينة الحياة الدنيا , وهو من الفتن التي تفتن بالقلوب وتأخذ بالعقول وتغيّر المفاهيم وتقلب القناعات وتحوّر التوجهات , يحبه الناس حباً جمّاً , ونتيجة لذلك الحب قام بعضهم بجمعه من أبواب الباطل وطرق الفساد غير معتبر بحلّه أو حرمته , ومن تلك الأبواب والطرق المحرّمة – الرشوة – قال تعالى : " وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ " البقرة 188 , فنهى الله تعالى عن الأكل الحرام عن طريق الرشوة وهي تقديم شي معيّن مادي كان أو عيني للحاكم , والحاكم هنا هو من تقضى على يديه حاجات الناس , فقد يكون عاملاً أو موظفاً صغيراً أو مشرفاً أو مديراً أو قاضياً أو والياً أو غيرهم لإمضاء أمر ما أو إنهاءه أو إنجازه لينال حق غيره ظلماً وعدواناً .
الرشوة – أيها المؤمنون – داء عظيم , ومرض عضال , ووباء فتّاك , وشر مستطير .
الرشوة سبيل لزرع المصائب والملمّات , وهدم المجتمعات , وبثّ النزاعات , وإشاعة الحقد والبغضاء والكراهية والعداءات .
الرشوة ماحقة للأرزاق , مفسدة للأخلاق , مهدرة للحقوق , معطّلة للمصالح , تقدّم البليد الخامل , وتؤخر العامل الفاضل .
الرشوة تعلّق الناس بحب الدنيا وتنسيهم الآخرة , وتسوق المجتمع إلى هاوية الخراب والدمار .
الرشوة خرم في المروءة , وخدش في الحياء , وعيب في الإنسانية , ونقص في الدين , واستهزاء بالله تعالى .
الرشوة تقلب الباطل حقاً , وتجعل الخيانة أمانة , وتصوّر الظلم عدلاً , فتكون النتيجة أن يصول الباطل ويجول , وتتفشى الخيانة وتنتشر , ويظهر في الأرض الظلم ويسير .
الرشوة ما خالطت قلبًا إلا أظلمته , ولا عملاً إلا أفسدته ، ولا مجتمعاً إلا فرّقته ، ولا كياناً إلا قلبته .
أيها المؤمنون : الرشوة كبيرة من كبائر الذنوب ملعون صاحبها على لسان رسول الله ، روى الترمذي وأحمد وابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : " لعن الله الراشي والمرتشي " وفي رواية عند أحمد : " والرائش " وهو الذي يمشي بينهما , وروى الطبراني بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " الرشوة في الحكم كفر، وهي بين الناس سحت " .
ولما بعث رسول الله معاذاً إلى اليمن أرسل في أثره ، فلما جاءه قال : " أتدري لِمَ بعثتُ إليك ؟ لا تصيبن شيئًا بغير إذني فإنه غلول ، ومن يغلل يأت بما غلّ يوم القيامة ، لهذا دعوتك فامض لعملك " رواه الترمذي.
وإن من الحيل التي يستخدمها أصحاب الرشوة ممن يقدمها أو يستقبلها تغيير مسمّاها إلى هدية , يسلّون أنفسهم بأنها أمر مباح وأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال " تهادوا تحابوا " وهي رشوة محرمة وأكل لأموال الناس بالباطل لأن معطيها أعطاها لتتقدم حاجته عن الآخرين ظلماً لهم وتعديّاً عليهم ولمصلحة له يريدها أن تنقضي دون النظر في حكم شرعي أو إجراء نظامي أما من أخذها – أي الرشوة – وهو في مكتبه أو عمله فليجلس في بيته فيرى هل ستقدم له تلك الهدية من ذاك الذي أعطاه إياها أم لا ؟ روى البخاري في صحيحه عن أبي حميد الساعدي قال : استعمل النبي رجلاً من بني أسد يقال له : ابن اللتبية على صدقة ، فلما قدم قال : هذا لكم وهذا أُهدي إليّ ، فقام النبي على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : " ما بال العامل نبعثه فيأتي فيقول : هذا لك وهذا أهدي إلي ؟! فهلاّ جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا ؟! والذي نفسي بيده ، لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة ، يحمله على رقبته ، إن كان بعيرًا له رغاء ، أو بقرة لها خوار ، أو شاة تعير " ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه ـ يعني بياضهما ـ وقال : " ألا هل بلغت ؟ " ثلاثًا , وعن بريدة رضي الله عنه أن النبي قال : " من استعملناه على عملٍ فرزقناه رزقًا ـ أي: منحناه مرتبًا ـ فما أخذ بعد ذلك فهو غلول " رواه أحمد وأبو داود , وفي سنن البيهقي قوله صلى الله عليه وسلم : " هدايا العُمَّال غُلول "
ذكر ابنُ كثيرٍ في "تأريخه" أن جيش المسلمين لما ظفَروا بالنصر على إقليم تركستان وغنِموا شيئًا عظيمًا ، أرسَلوا مع البُشرى بالفتح هدايا لعُمر رضي الله عنه , فأبَى أن يقبَلَها، وأمر ببيعها وجعلها في بيت مال المسلمين .
وفي قصة عبد الله بن رواحة لما بعثَه النبي - صلى الله عليه وسلم - خالصًا على يهود خيبر ، فجمعوا له حُليًّا من حُلِيِّ نسائهم ، فقال : إنّكم من أبغض خلق الله إليَّ ، وما ذاك بحاملي على أن أحيفَ عليكم ، أما ما عرضتُم من الرِّشوة فإنها سُحتٌ ، وإنَّا لا نأكلها ، فقالوا : بهذا قامت السماوات والأرض .
واشتهى عمر بن عبد العزيز - رحمه الله – تفاحاً ، فلم يجدوا في بيته ولا ما يشتري به ، فخرج وهو الخليفة آنذاك ، فتلقَّاه غلمانٌ بأطباق التفاح ، فتناول واحدةً فشمَّها ثم ردَّها إلى الأطباق ، فقيل له في ذلك ، فقال : لا حاجة لي فيها ، فقيل له : ألم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر يقبلون الهدية ، فقال : إنها لأولئك هدية ، وإنها للعُمَّال بعده رِشْوة .

عباد الله ..
اعلموا أن العبث بالأموال العامة والتصرف بها دون وجه حق وسلبها وإعطاءها لمن لا يستحقها وحجبها عن من يستحقها عن طريق الرشوة من أعظم الموبقات وأشنعها , وهي أمانة في عنق كل من تحمّل الإشراف والمحافظة عليها قال تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ " الأنفال 27 , ويقول حبيبكم عليه الصلاة والسلام محذراً كل من يتهاون في المال العام " إن أقواماً يتخوّضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة " رواه البخاري .
والله أعلم وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .

حسين بن سعيد الحسنية
الخميس 01/040/1438هـ


 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
حسين الحسنية
  • مقالات
  • كتب
  • الخطب المنبرية
  • الصفحة الرئيسية