صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







مسائل في الدعاء القرآني (13)
دعوات المؤمنين (أ)

إبراهيم بن محمد الحقيل


بسم الله الرحمن الرحيم

قسمت هذا العنوان على جزئين لطوله

زخر القرآن الكريم بالكثير من دعوات المؤمنين التي ذكرها الله تعالى في معرض الثناء عليهم، وهذه الدعوات كدعوات الرسل عليهم السلام في تنوعها، وفي أن منها ما هو خاص ومنها ما هو عام، ومنها ما هو لحظ الدنيا ومنها ما هو لحظ الآخرة..
وترتيبي لها هنا سيكون حسب ترتيب سور القرآن في المصحف، مع ذكر تحت كل موضع منها ما فيه من مهمات الفقه والفائدة:

الموضع الأول:
قول الله تعالى {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة: 200-202].
هذه الآيات جاءت في ختام آيات الحج، ونزولها كان قبل منع المشركين من الحج، فيدعون بأمور دنيوية، بينما يدعو المؤمنون بأمور الدنيا والآخرة كما هو مفصل في الآيات، والذين ليس لهم في الآخرة خلاق هم المشركون. [ينظر: تفسير ابن عاشور: 2/247].
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف، فيقولون: اللهم اجعله عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن. لا يذكرون من أمر الآخرة شيئا، فأنزل الله فيهم: {فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق} [رواه ابن أبي حاتم: 2/357]
وكان يجيء بعدهم آخرون من المؤمنين فيقولون:{ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} فأنزل الله: {أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب} ولهذا مدح من يسأله للدنيا والأخرى [تفسير ابن كثير: 1/558].
فسؤال المؤمنين ربهم سبحانه حسنة الدنيا والآخرة من أفضل الدعاء وأجمعه؛ ولذا أثنى الله تعالى على الداعين به، وكان هو أكثر دعاء النبي عليه الصلاة والسلام كما ذكر أنس رضي الله عنه [رواه البخاري: 6389].
قال السعدي رحمه الله تعالى: هذا الدعاء أجمع دعاء وأكمله، وأولاه بالإيثار، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء به، والحث عليه. [تفسيره: 93]

الموضع الثاني:
قول الله تعالى [رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ] {البقرة:250}. وهذا الدعاء جاء في مواجهة أهل الإيمان من بني إسرائيل بقيادة طالوت أهل الكفر منهم بقيادة جالوت. والإفراغ هو الصب، أي: اصبب علينا صبرا.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: لما واجه حزب الإيمان -وهم قليل- من أصحاب طالوت لعدوهم أصحاب جالوت -وهم عدد كثير- {قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا} أي: أنزل علينا صبرا من عندك {وثبت أقدامنا} أي: في لقاء الأعداء وجنبنا الفرار والعجز {وانصرنا على القوم الكافرين} [1/669].
وهذا من أعظم الدعاء الجالب للنصر؛ لأن فيه طلبا للصبر وللنصر، وإنما الظفر بالصبر على شدة الحرب، وبأس العدو، وفيه طلب ثبات الأقدام عن الفرار أو التزحزح عن المكان، وهذا من آثار الصبر، وهو مما يفزع العدو ويصيبهم بالفشل والهزيمة، ثم فيه طلب النصر على الكفار، وإذا تحقق الصبر تحقق الثبات، وإذا تحقق الصبر والثبات تحقق النصر، فكان جماع النصر الصبر.
وهذا الدعاء العظيم وإن تأكد في الحرب ومواجهة الأعداء، وهو سلاح المجاهدين في الميادين، فإن القاعدين ينبغي أن لا يغفلوا عنه؛ لأن من أكثر منه في الرخاء والسلم فحري أن يستجاب له إن دعا به في الشدة والحرب؛ لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالكَرْبِ فَلْيُكْثِرِ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ» [رواه الترمذي: 3382، وصححه الحاكم: 1997، وحسنه الألباني].
وسأل سحرة فرحون ربهم سبحانه وتعالى أن يفرغ عليهم صبر لما آمنوا وهُددوا بأشد العذاب، فقالوا في دعائهم {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف: 126] فسألوا الله تعالى الصبر على الفتنة والابتلاء فيه، والثبات على الإسلام إلى الممات.
وقريب من هذا الدعاء ما جاء في دعاء أتباع الرسل السابقين عليهم السلام حين قاتلوا أعداءهم، وهو الدعاء المذكور في قول الله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ] {آل عمران:146-147}.
و(الربيون) جمع رِبِيٌ وهو المتبع لشريعة الرب، مثل: الرباني، والمراد بهم هنا: أتباع الرسل وتلامذة الأنبياء...ومحل العبرة هو ثبات الربانيين على الدين مع موت أنبيائهم ودعاتهم. وقوله: فما وهنوا، أي: الربيون؛ إذ من المعلوم أن الأنبياء لا يَهِنون فالقدوة المقصودة هنا هي الاقتداء بأتباع الأنبياء، أي: لا ينبغي أن يكون أتباع من مضى من الأنبياء، أجدر بالعزم من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم. [التحرير والتنوير: 4/118].
وصيغة القصر في (وما كان قولهم إلا أن قالوا) قصر إضافي لرد اعتقاد من قد يتوهم أنهم قالوا أقوالا تنبئ عن الجزع، أو الهلع، أو الشك في النصر، أو الاستسلام للكفار. [التحرير والتنوير: 4/120]. وفي دعائهم طلب مغفرة الذنوب؛ لأن الذنوب مانع من موانع النصر، وهذا من حسن ظنهم بالله تعالى، واتهام أنفسهم، وهذا الإقرار بالذنوب وطلب مغفرتها سبب من أسباب النصر بإزالة مانعه، مع الدعاء بالثبات والنصر كالدعاء السابق.
فجمعوا بين الصبر وترك ضده، والتوبة والاستغفار، والاستنصار بربهم، فلا جرم أن الله نصرهم، وجعل لهم العاقبة في الدنيا والآخرة؛ ولهذا قال: {فآتاهم الله ثواب الدنيا} من النصر والظفر والغنيمة {وحُسن ثواب الآخرة}وهو الفوز برضا ربهم، والنعيم المقيم. [تفسير السعدي: 151]. وهذا الدعاء كسابقه ينبغي للمؤمن أن يحرص عليه في السلم وفي الحرب.

الموضع الثالث:
الدعاء المذكور في الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في قول الله تعالى حكاية عن المؤمنين [وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ] {البقرة:285}. فأثنى الله تعالى على المؤمنين بإيمانهم وطاعتهم ثم ذكر من دعائهم (غفرانك) قال القرطبي: وقوله (غفرانك) مصدر كالكفران والخسران، والعامل فيه فعل مقدر، تقديره: اغفر غفرانك، قال الزجاج وغيره: نطلب أو أسأل غفرانك. [3/429]. وقال ابن كثير: {غفرانك ربنا} سؤال للغفر والرحمة واللطف.[1/736].
وهذه الدعاء (غفرانك) هو من صيغ الاستغفار القرآني، وسأفرد الاستغفار القرآني بمقالة مستقلة إن شاء الله تعالى، وقلَّ من الناس من يستغفر بهذه الصيغة رغم ورودها في القرآن.

المسألة الثانية:
في قول الله تعالى [رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ] {البقرة:286}. وقد ورد في الحديث أن الله تعالى قد استجاب هذا الدعاء، وقال سبحانه: قَدْ فَعَلْتُ. [رواه مسلم: 126].
قال بعض الناس: إذا كان هذا الدعاء قد أجيب فطلب ما فيه من باب تحصيل الحاصل، وهذا لا فائدة فيه فيكون هذا الدعاء عبادة محضة ليس المقصود به السؤال، وهذا القول قد قاله طائفة في جميع الدعاء: أنه إن كان المطلوب مقدرا فلا حاجة إلى سؤاله وطلبه، وإن كان غير مقدر لم ينفع الدعاء -دعوت أو لم تدع- فجعلوا الدعاء تعبدا محضا كما قال ذلك طائفة أخرى في التوكل. [فتاوى ابن تيمية: 14/143].
قال الطبري رحمه الله تعالى: وقد زعم قوم أن مسألة العبد ربه أن لا يؤاخذه بما نسي أو أخطأ، إنما هو فعل منه لما أمره به ربه تبارك وتعالى، أو لما ندبه إليه من التذلل له والخضوع بالمسألة، فأما على وجه مسألته الصفح، فما لا وجه له عندهم. [6/135].

وقد رد ذلك الطبري وابن تيمية، وذكر ابن تيمية أوجها للإجابة عليه:

الأول: أن العمل الذي لا مصلحة للعبد فيه لا يأمر الله به، وهذا بناء على قول السلف: إن الله لم يخلق ولم يأمر إلا لحكمة كما لم يخلق ولم يأمر إلا لسبب. والذين ينكرون الأسباب والحِكم يقولون بل يأمر بما لا منفعة فيه للعباد البتة وإن أطاعوه وفعلوا ما أمرهم به. [الفتاوى: 14/144].
الثاني: أن الله تعالى إذا قدّر أمرا فإنه يقدر أسبابه، والدعاء من جملة أسبابه كما أنه لما قدر النصر يوم بدر وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم قبل وقوعه أصحابه بالنصر وبمصارع القوم كان من أسباب ذلك استغاثة النبي صلى الله عليه وسلم ودعاؤه. [الفتاوى: 14/148].
الثالث: أن ثبوت هذا الحكم في حق آحاد الأمة قد لا يحصل إلا بطاعة الله ورسوله، فإذا عصى الله ذلك الشخص العاصي عوقب عن ذلك بسلب هذه النعمة وإن كانت الشريعة لم تنسخ. يبين هذا: أن في هذا الدعاء سؤال الله بالعفو والمغفرة والرحمة والنصر على الكفار، ومعلوم أن هذا ليس حاصلا لكل واحد من أفراد الأمة بل منهم من يدخل النار، ومنهم من ينصر عليه الكفار، ومنهم من يسلب الرزق؛ لكونهم فرطوا في طاعة الله ورسوله فيسلبون ذلك بقدر ما فرطوا أو قصروا، وقول الله: "قد فعلت" يقال فيه شيئان:
أحدهما: أنه قد فعل ذلك بالمؤمنين المذكورين في الآية، والإيمان المطلق يتضمن طاعة الله ورسوله. فمن لم يكن كذلك نقص إيمانه الواجب فيستحق من سلب هذه النعم بقدر النقص، ويعوق الله عليه ملاذ ذلك، ولم يستحق من الجزاء ما يستحقه من قام بالإيمان الواجب.
الثاني: أن يقال: هذا الدعاء استجيب له في جملة الأمة، ولا يلزم من ذلك ثبوته لكل فرد، وكلا الأمرين صحيح؛ فإن ثبوت هذا المطلوب لجملة الأمة حاصل، ولولا ذلك لأهلكوا بعذاب الاستئصال كما أهلكت الأمم قبلهم... وأما حصول المطلوب للآحاد منها فلا يلزم حصوله لكل عاص؛ لأنه لم يقم بالواجب ولكن قد يحصل للعاصي من ذلك بحسب ما معه من طاعة الله تعالى. [الفتاوى: 14/148-151].

المسألة الثالثة:
ختم هذا الدعاء المبارك بسؤال أربع: العفو والمغفرة والرحمة والنصر، وهي من أعظم الدعوات التي يحتاجها العبد.
قال شيخ الإسلام: سألوه العفو والمغفرة والرحمة والنصر على الأعداء؛ فإن بهذه الأربعة تتم لهم النعمة المطلقة، ولا يصفو عيش في الدنيا والآخرة إلا بها، وعليها مدار السعادة والفلاح؛ فالعفو متضمن لإسقاط حقه قِبَلِهِم ومسامحتهم به، والمغفرة متضمنة لوقايتهم شر ذنوبهم وإقباله عليهم ورضاه عنهم؛ بخلاف العفو المجرد؛ فإن العافي قد يعفو، ولا يقبل على من عفا عنه، ولا يرضى عنه، فالعفو ترك محض، والمغفرة إحسان وفضل وجود، والرحمة متضمنة للأمرين مع زيادة الإحسان والعطف والبر، فالثلاثة تتضمن النجاة من الشر والفوز بالخير، والنصرة تتضمن التمكين من إعلان عبادته، وإظهار دينه، وإعلاء كلمته، وقهر أعدائه....[الفتاوى: 14/140].

الموضع الرابع:
سؤال الراسخين في العلم: قال الله تعالى [وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلْبَابِ * رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ * رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لَا يُخْلِفُ المِيعَادَ] {آل عمران:7-9}.
يُحتمل أن هذا الدعاء من قول الراسخين في العلم –وهو الأرجح- ويحتمل أن الله تعالى لما ذكر قولهم [آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا] أرشد نبيه عليه الصلاة والسلام إلى هذا الدعاء.
وفي هذا الدعاء المبارك مسائل:
المسألة الأولى: أنه إذا كان هذا دعاء الراسخين في العلم، وقد أثنى الله تعالى عليهم برسوخهم فيه وبدعائهم حين ذكره في كتابه في معرض الثناء عُلم أن هذا الدعاء من أنفع الدعاء وأفضله، وأنه ينبغي للمؤمن أن يحافظ عليه. سئل الإمام مالك رحمه الله تعالى عن الراسخين في العلم فقال: العالم العامل بما علم المتبع له. [تفسير البغوي: 2/11]. وورد تفسير الراسخين في العلم في حديث مرفوع عند الطبراني ولكنه ضعيف.
المسألة الثانية: أن هذا الدعاء [رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا...] يشبهه دعاء النبي عليه الصلاة والسلام «يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» [رواه الترمذي: 2140].
وزيغ القلب هو فساده وميله عن الدين. [تفسير القرطبي: 4/20] ففي الآية سؤال عدم الميل عن الدين، وفي الحديث سؤال الثبات عليه.
وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بهذا الدعاء القرآني إذا قام من الليل فيقول «لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، سُبْحَانَكَ، اللَّهُمَّ أَسْتَغْفِرُكَ لِذَنْبِي، وَأَسْأَلُكَ رَحْمَتَكَ، اللَّهُمَّ زِدْنِي عِلْمًا، وَلَا تُزِغْ قَلْبِي بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنِي، وَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ» [روه أبو داود: 5061، وصححه ابن حبان: 5531].
وورد أن أبا بكر رضي الله عنه قرأ هذا الدعاء في الركعة الثالثة من صلاة المغرب.[رواه مالك: 259]. ونقل ابن القاسم عن الإمام مالك قوله: وليس عليه العمل. [هامش الموطأ نسخة الأعظمي: 2/107].
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى: هو ضرب من القنوت والدعاء لما كان فيه من أمر أهل الردة. والقنوت جائز في المغرب عند جماعة من أهل العلم وفي كل صلاة أيضا وأوكد ذلك في الصبح [الاستذكار: 1/429، وتبعه القرطبي في تفسيره: 4/20].
ويستفاد من فعل أبي بكر ولو لم يكن العمل عليه في الركعة الثالثة من صلاة المغرب: المواظبة على هذا الدعاء وأمثاله في أحوال الفتن، وانقلاب القلوب، وتغير أحوال الناس، وكثرة السوء؛ لطلب النجاة من زيغ القلوب.
المسألة الثالثة: أنهم سألوا الله تعالى الرحمة [وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ] أي: من عندك فإن (لدن) تستعمل بمعنى (عند) وإن لم تكن مرادفة لها -بل هي أخص وأقرب مكانا- ولا لـ (لدى)... ولا تستعمل " لدن " إلا في الشيء الحاضر، فهي أدل على الاختصاص. [تفسير المنار: 3/189].
وفيها ختم الدعاء بالثناء على الله تعالى بأسماء الله تعالى المتضمنة صفات الجلال والجمال، ويختار من الأسماء ما يناسب مسألته، ولما كانت المسألة هنا هبة الرحمة ناسب أن يختم الدعاء باسم الوهاب [إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ].
المسألة الرابعة: قول الله تعالى [رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لَا يُخْلِفُ المِيعَادَ] ختم الدعاء بسؤال عدم زيغ القلب، ووهب الرحمة، هو لأجل إيمان الراسخين في العلم بالبعث والجزاء يوم القيامة فالغرض الأعظم من ذلك الدعاء هو ما يتعلق بالآخرة.

الموضع الخامس:
من دعاء المتقين، قال الله تعالى [رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] {آل عمران:16}.
لما ذكر الله تعالى ما زين للناس من شهوات الدنيا أعقبها بذكر ما هو خير منها وهو ما أعده للمؤمنين في الجنة، ثم ذكر سبحانه أنهم [الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] ثم ذكر جملة من أوصافهم [الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالقَانِتِينَ وَالمُنْفِقِينَ وَالمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ] {آل عمران:17}.
وفي هذا الدعاء العظيم التوسل إلى الله تعالى بالإيمان به في طلب المغفرة من الذنوب، والوقاية من النار، مما يدل على فضل الإيمان وفضل التوسل به، وقد جاء ذلك في القرآن كثيرا، مثل قول الحواريين {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 53].
بل إن الله تعالى نوه بالمؤمنين في مجادلة أهل النار بأنهم يسألونه المغفرة والرحمة متوسلين إليه سبحانه بإيمانهم به، فيقول سبحانه لأهل النار {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون: 109].

الموضع السادس:
دعاء امرأة عمران قال الله تعالى {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 35-36].
فنذرت امرأة عمران بأن تسخر حملها لطاعة الله تعالى وخدمة بيته، وسألت الله تعالى قبول هذه الطاعة، وذيلت دعاءها بالثناء عليه سبحانه بإثبات أنه سميع لدعائها، عليم بحالها وبما في قلبها.. ثم لما وضعت مريم عوذتها بالله تعالى وعوذت ذريتها من الشيطان الرجيم.
ففيه الدعاء بقبول النذور والقرابين والصدقات، وفيه تعويذ الذرية من الشيطان، وقد ورد أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يعوذ الحسن والحسين رضي الله عنهما من الشيطان. [رواه البخاري: 3371].

الموضع السابع:
دعاء حواريي عيسى عليه السلام، قال الله تعالى {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 52-53] فأعلنوا إيمانهم، وسألوا الله تعالى أن يجعلهم مع الذين شهدوا لرسل الله بالتبليغ، وبالصدق، وهذا مؤذن بأنهم تلقوا من عيسى- فيما علمهم إياه- فضائل من يشهد للرسل بالصدق. ونوه الله تعالى بدعائهم هذا في موضع آخر كما قال سبحانه {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة: 111].
ومن بقي منهم على إيمانه بعيسى وقت بعثة محمد صلى الله عليه وسلم آمنوا به كما آمنوا بعيسى، وسألوا الله تعالى أن يكتبهم شاهدين على صدق محمد عليه الصلاة والسلام {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 83].
وهذا الدعاء صالح أن يدعو به كل مؤمن، فيعلن إيمانه ويسأل الله تعالى أن يكتبه مع الشاهدين الذين يشهدون بصدق الرسل عليهم السلام.

الثلاثاء 18/11/1434

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
إبراهيم الحقيل
  • مقالات
  • كتب
  • خطب
  • الصفحة الرئيسية