صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







حين خذل الشيخ البوطي

إبراهيم بن محمد الحقيل


بسم الله الرحمن الرحيم


نماذج الخذلان التي تمر بنا كثيرة، وهي أكثر وأوضح وأعمّ بعد اندلاع الثورات العربية؛ إذ خُذل فيها رؤساء ووزراء وعلماء ودعاة ومثقفون وأعيان، فيسلط الله تعالى المخذول على نفسه فلا يقول قولاً ولا يفعل فعلاً إلا ارتد عليه. وكثيرا ما تكون مجريات الأحداث واضحة وضوح الشمس ولكن المخذول لا يبصرها ولو كان من أذكياء الناس ومن كبار الساسة والمفكرين والمثقفين، قد ظهر ذلك جلياً في ثورات مصر وليبيا واليمن واتضح أكثر في ثورة سوريا؛ فإن زعماء هذه الدول زعيما بعد زعيم رأوا أن الشعوب إذا غضبت لا يقف في وجهها شيء، ومع ذلك تمادوا في طغيانهم، ولم يتركوا طريقا للرجعة أمام شعوبهم، وهذا يذكرنا بقول الله عز وجل [وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ] {البقرة:15} ولا حيلة فيمن أصيب بالعمه فهو يبصر الأمور على غير حقيقتها، ويزين الشيطان له سوء عمله؛ حتى يرتد عليه مكره، ويُدمر بتدبيره، وتكون نهايته أليمة مهينة كالقذافي وحسني مبارك وأضرابهما.

والشيخ محمد سعيد رمضان البوطي شخصية فكرية علمية لها وزنها في المجتمع السوري، وثقلها الشعبي في سوريا يوازي ثقل الشيخ الشعراوي في مصر، وأتذكر أنني في بعض زياراتي لدمشق يأتي ذكر البوطي في بعض المجالس فلا يمل السوريون من الفخر به، ولا يقبلون النقد فيه، بسبب أسره لهم بأحاديثه في الإذاعة والتلفزة السورية، وهو صاحب بلاغة وفصاحة آسرة إذا تحدث، وصاحب قلم رشيق مؤثر إذا كتب، وكتابه (فقه السيرة النبويه) يدل على ذلك.

وكان الشيخ البوطي في مقدمة الشيوخ المقدمين عند النظام السوري أيام الهالك حافظ الأسد وحدثني أحد المشايخ السوريين بأن حافظ الأسد أعطى تعليماته للقصر الجمهوري بأن يدخل عليه البوطي في أي وقت دون استئذان، وكانوا يبلغون حافظ الأسد بقدومه فيفرش سجادته ويعلق سبحته في يده فلا يدخل عليه البوطي إلا وهو على السجادة؛ لينقل البوطي هذا المشهد إلى مشايخ السنة وأعيانهم.

ولما هلك باسل الأسد وشيعت جنازته اجتمع شيوخ النصيريه وشيوخ النظام من أهل السنة، وكانوا يتوقعون أن يقدم حافظ الأسد أحد علماء النصيريه للصلاة عليه، ولكنه قدم البوطي مما أغاظ أعيان النصيرية، وفي تأبينه ألقى البوطي كلمة تسابق عبراته كلماته يخبر الناس فيها أنه يرى منازل باسل في الجنة، نعوذ بالله من التملق والنفاق.

وكان بشار الأسد يكره في البوطي تملقه لوالده؛ ولذا فإنه لما تولى الرئاسة بعد هلاك أبيه ما عاد يحفل بالبوطي، ولا يأبه به؛ فيستأذن البوطي للدخول عليه مرات ولا يأذن له، ولا يقابله إلا في المناسبات التي تستدعي ذلك فأزال الخصوصية التي كانت للبوطي أيام حافظ الأسد.

كان من الأصلح للبوطي -والحال هكذا- والأحفظ لكرامته، وقد بلغ سن الهرم، أن يبتعد عن بشار لما لم يرده، ولكنه ظل يقف على بابه ذليلا مهينا، فلما اندلعت الثورة السورية كان من الأجدر للبوطي أن ينأ بنفسه عن تأييد النظام الذي أهانه، وأن يتربص فلا يسابق النظام إلى ما يريد، وهو يرى تهاوي الأنظمة التونسية والمصرية ثم الليبية واليمنية، ثم إن رأى بوادر نجاح الثورة السورية كان كما كان في عهد النظام السابق -شيخ الشعب وحبيبه- ولكنه الخذلان الذي أصابه فظل ينافح عن نظام كافر ظالم دموي ساقط إلى أن قُتل في سبيله، وبئس السبيل هذا.

لقد كان يكفيه واحدة من هذه الأربع لمعارضة النظام أو على الأقل اتخاذ الحياد سبيلا إن أراد السلامة والظفر الدنيوي؛ فكفر النصيرية مجتمع عليه بين علماء المسلمين، وظلم النظام السوري لا يتنازع فيه اثنان، ودمويته مشاهدة كل صباح ومساء، وسقوطه متأكدٌ بعد استمرار الثورة رغم شدة البطش، ولا سيما بعد سقوط النظام الليبي وهو يشبه إلى حد كبير النظام السوري، وهذه الثلاث مع وضوحها في النظام السوري فإن البوطي لم يرها مع انه الفقيه الفيلسوف المفكر، ولا أجد وصفاً يليق به إلا قول الله عز وجل [مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ] {الأعراف:186}
ولا أدل على عمهه وعمى بصيرته من تشبيهه جنود النظام السوري من البعثيين والنصيريين الكفرة الظلمة الدمويين بالصحابة الكرام رضي الله عنهم، وتشبيه جيش بشار ونظامه بدولة النبي عليه الصلاة والسلام، نعوذ بالله تعالى من الخذلان.

ومن خذلانه تمنيه أنه كان أصبعا في يد الباطني اللبناني حسن نصر الله، ولولا خذلانه لعلم أنه -رغم ما هو فيه من بدعة وانحراف- أكرم من حسن نصر الله، لكنه الخذلان الذي أحاط به فجعل نفسه أقل منه، وصدق الله العظيم حين قال [وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ] {الحج:18}.

وإني أوصي نفسي وإخواني وأخواتي قراء هذا المقال بكثرة التعوذ بالله تعالى من الخذلان، وسؤاله الهداية للحق، والبصيرة فيه، والثبات عليه، وخاصة في هذا الزمن الذي اختلط فيه الحابل بالنابل، وعظمت الفتن، واشتدت المحن، وكثر تبديل الدين، والانقلاب على المنهج، والتخبط والضياع في كثير من المواقف؛ فإنه لا حول للعبد ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.


السبت 11/5/1434


 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
إبراهيم الحقيل
  • مقالات
  • كتب
  • خطب
  • الصفحة الرئيسية