صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







الإصلاح الفكري ضرورة لنجاح الإصلاح الاقتصادي

محمد حسن يوسف
مدير عام - بنك الاستثمار القومي


في المؤتمر الذي أقيم للاحتفال بإطلاق التقرير السنوي السادس عن التنافسية في مصر، ترأست الدكتورة / سميحة فوزي أستاذ الاقتصاد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، والتي تشغل الآن منصب مساعد وزير التجارة والصناعة، إحدى جلسات هذا المؤتمر. وقالت الدكتورة سميحة في أحد تعقيباتها على المناقشات: " إن التحدي الحقيقي أمام تحقيق الإصلاح في مصر هو وجود سجناء لأفكار الستينات بيننا ... ولا يكفي أن تقوم الحكومة بالإصلاح الاقتصادي والسياسي، بل عليها القيام أيضا بالإصلاح الفكري حتى نتحرر من هذه الأفكار ". ولكن يبدو أن هذه المقولة لم ترق لعدد من الصحفيين الحاضرين لهذا المؤتمر، ومنهم الأستاذة/ أميمة كمال، مندوب جريدة الشروق الجديد، التي كتبت في عمود خاص بالعدد رقم (154)، الصادر في الرابع من شهر يوليو الجاري، هجوما على هذه المقولة، وأنها تتعجب من " أحرار " التسعينات الذين قادوا البلاد إلى " مزيد من الفقر " على حد قولها.

وبداية فإنني اتفق تماما مع مقولة الدكتورة سميحة فوزي، وحين رجعت إلى تعليقاتي الخاصة بهذا المؤتمر، وجدت أنني علقت على هذه الكلمة بما يفيد إعجابي بها، ذلك أنها تأتي في وقت تعلن فيه الدولة أنها تتبنى فكر الاقتصاد الحر، إلا أن الممسكين بزمام الأمور في كثير من المصالح والهيئات والمؤسسات فيها ما زالوا يعتنقون أفكارا بعيدة تماما عن فلسفة السوق الحر، وهو ما جعل من الإصلاحات التي تبنت الحكومة العمل بها منذ منتصف الثمانينات، وبلغت ذروتها في أوائل التسعينات فيما كان يعرف باسم " برنامج الإصلاح الاقتصادي والتكييف الهيكلي "، لم تؤتِ الثمار المرجوة منها.
لا ندّعي أن الأفكار الليبرالية التي تم تنفيذها منذ تدشين العمل ببرامج الإصلاح قد كانت كلها على صواب، أو لم تشبها الشوائب. ولكن ما نريد قوله هو أن هذه الأفكار تمت جميعها على استحياء، ولم تلق الرواج المطلوب لها أو التأييد الواسع مثلما لاقت سابقتها من تأييد شعبي وحشد حكومي. لقد تم الحشد لأفكار الستينات من خلال أشعار كبار الشعراء أمثال صلاح جاهين في قصيدته التي كان يقول فيها: " يا عديم الاشتراكية يا خاين المسئولية ". أما الأفكار الليبرالية التي بُدئ العمل بها بعد ذلك، فلم تجد من يروج لها بين الناس، فظل الشعب ينظر إليها نظرة المتشكك، مثلها مثل أي شيء جديد غير مألوف، حتى ولو كان هو عين الصواب.

ليست الفلسفة الاقتصادية التي يجب إتباعها مجرد ميل قلبي، وإنما يجب أن تكون سياسات مدروسة قائمة على أسس علمية سليمة، بحيث تحقق صالح الوطن والمواطنين. كفانا شعارات جوفاء لم نجن منها إلا الهزائم والإخفاقات، ودعونا نعمل بمنهج علمي رصين يتحقق من خلاله صالح الجميع.

لا ندّعي أبدا أن سياسات الإصلاح لم ينتج عنها بعض الأخطاء، ولكن لم تكن سياسات الحقبة الاشتراكية هي السياسات المثالية التي حققت الرخاء والثراء الفاحش لأفراد الشعب. لم نجنِ من أفكار تلك الحقبة إلا إرثا من المثالب التي لا تستطيع البلد علاجها حتى الآن. ألم يكن نظام الدعم القائم حاليا بمساوئه الظاهرة إلا نتيجة لسياسات الستينات، والذي أصبح بمثابة غول اقتصادي لا يفيد الفقراء بل يخدم الأغنياء بتسربه إليهم، ويخشى جميع المسئولين الاقتراب منه لما لذلك من عواقب وخيمة يمكن أن تؤثر على استقرار البلاد؟! أليس نظام تعيين جميع الخريجين الذي انتهجته حقبة الستينات هو الذي أفضى إلى ما يعانيه الجهاز الحكومي من ترهل لم تفلح معه جميع محاولات الإصلاح، بل وأصاب جميع الموظفين من جراء نظام الرواتب والحوافز الرث الذي يعاني منه الجميع الآن؟!!

قديما قيل في المثل: " اللي إيده في الميه مش زي اللي إيده في النار "، فمن السهل لنا جميعا أن ننقد، ولكن أراهن أن هؤلاء الناقدين لو أصبحوا في موقع المسئولية، لم يجدوا أمامهم طريقا للإصلاح إلا إتباع نفس تلك السياسات التي يوجهون لها تلك الانتقادات الآن!!

إن ما تريده مصر، إذا أرادت للسياسات الإصلاحية التي تتبعها النجاح، هو حشد الرأي الشعبي حولها، بحيث يحدث قناعة في نفوس الناس باستحالة استمرار الوضع الراهن وضرورة التطلع لأوضاع جديدة تستقر فيها الأمور. لقد استنامت النفوس إلى الراحة، واستعذبت قيام الحكومة بحل مشكلاتها، وتفرغت الجماهير من ثم للكسل، ولم تعد تعبأ بمعايير العمل والتفوق والنبوغ. إذا أردنا أن نعرف لماذا نحتاج للإصلاح الفكري، وأن يتواكب ذلك مع الإصلاح الاقتصادي، دعونا نراجع ما حدث أثناء إتباع مصر سياسات الإصلاح الاقتصادي.

إن السياسة الاقتصادية لا تعمل في فراغ. إن البيئة البيروقراطية المسيطرة على مقاليد تنفيذ سياسات الإصلاح في مصر تلعب دورا حيويا في إنفاذ تلك السياسات أو عرقلتها، وليس ذلك إلا لما تعتنقه من أفكار. فحينما يكون الجهاز الإداري مسئولا عن مواصلة وتطبيق الإصلاحات المنشودة، يظل بيده صلاحية الإسراع بتلك الإصلاحات أو عرقلتها. وبالتطبيق على حالة مصر، فقد بذل الجهاز الإداري جميع جهوده للإبطاء من سرعة عملية الإصلاح. فحيث كان لكبار المسئولين في الجهاز البيروقراطي مصالحهم الخاصة التي قد تتعارض مع أهداف برنامج الإصلاح الاقتصادي والتكييف الهيكلي ويكون من شأنها حماية مواقعهم، فقد حاربوا من أجل عدم تطبيق سياسات الإصلاح، أو حتى لتأخيرها، على نحو ما بسطه دينيس سوليفان في بحثه عن " الاقتصاد السياسي للإصلاح في مصر ". كما أنهم لم يقوموا باتخاذ القرارات الهامة خوفا من تحمل مسئوليتها.

وكان العامل المثير الآخر في هذا الصدد هو غياب الرؤية الواضحة لعملية الإصلاح فيما بين الوزراء المعنيين في مصر، حيث كانت السياسات قصيرة الأمد هي العامل الحاسم في هذا الخصوص. لقد تزامن غياب الإرادة السياسية للإصلاح مع تلكؤ الجهاز البيروقراطي في إتمام هذه الإصلاحات، ليؤدي ذلك إلى تأخير عملية الإصلاح أو على الأقل إلى جعلها تتم على أساس تدريجي، بسبب ما أشاعوه من الطبيعة الخاصة للمجتمع المصري التي تستلزم ذلك. وأوضحت النزاعات التي تمت فيما بين الوزراء كيف حاولت كل وزارة الحفاظ على قوتها ومسئولياتها في مواجهة الوزارات الأخرى.
ومن ناحية أخرى، فقد أدت المشاكل الأخرى التي يعاني الجهاز البيروقراطي في مصر كثيرا منها، أدت لإعاقة الإصلاحات. لقد كانت حالات نقص الشفافية وانتشار الفساد فيما بين أعضاء هذا الجهاز البيروقراطي واضحة بل ومعلنة. وقد أدى هذا لممارسات سلبية وتداعيات خطيرة على نجاح برامج الاقتصادي. وكان الفكر النفعي هو العامل المسيطر على إرادة أولئك الذين قاموا بتلك الممارسات الخاطئة.

وكانت كل تلك العراقيل التي وُضعت أمام تطبيق برامج الإصلاح الاقتصادي هي السبب الرئيسي وراء النجاح الهزيل الذي تحقق من الأهداف المعلنة. وبالرغم من أن البرنامج كان يهدف بالأساس لتحقيق انتعاش في الصادرات، إلا أن النجاح الأساسي الذي تمخض عنه تمثل في فورة عقارية قوية. ولست هنا بصدد تقييم برامج الإصلاح الاقتصادي، ولكني حاولت فقط التدليل كيف أدى عدم الإصلاح الفكري لتقليل المكاسب المتحققة من جراء تلك البرامج أو لتحريف مسارها بحيث لم تستفد جماهير الشعب الاستفادة المرجوة منها، وضاع الوقت والجهد في بيان إثبات حسن النوايا بدلا من تكثيف الجهود لتحقيق الإصلاح المنشود.

أما عن كيف أدت السياسات المتبعة في التسعينات لعدم إفادة قطاعات عريضة من الشعب، فتلك قصة أخرى أرى أن من الأفضل أن نفرد لها مقالا آخر.

mohd_youssef@aucegypt.edu
12 من رجب عام 1430 من الهجرة ( الموافق 5 من يوليو عام 2009 ).
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
محمد حسن يوسف
  • كتب وبحوث
  • مقالات دعوية
  • مقالات اقتصادية
  • كيف تترجم
  • دورة في الترجمة
  • قرأت لك
  • لطائف الكتاب العزيز
  • الصفحة الرئيسية