صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







انحسار عصر الأيديولوجيات!

محمد حسن يوسف

 
شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر احتدام الصراع الفكري والأيديولوجي فيما بين أنصار المعسكرين الرأسمالي والشيوعي. فقد كانت الأمور مستقرة نسبيا للنظام الرأسمالي منذ أن وضع بذرته الاقتصادي الكبير آدم سميث بكتابه الشهير " ثروة الأمم " The Wealth of Nations في عام 1776. وقامت دعائم هذا النظام على فكرة ترك الأمور على أعنتها لكي تضبط نفسها بنفسها، وعدم تدخل الدولة على الإطلاق في النشاط الاقتصادي. ومن هنا سادت سياسة الحرية الاقتصادية التي تقوم على مبدأ " دعه يعمل، دعه يمر " Laissez faire, laissez passer، وازدهر مفهوم اليد الخفية invisible hand أو " الجهاز التلقائي " الذي يصحح آلية عمل الاقتصاد تلقائيا ويؤدي إلى حدوث التوازن وإلى القضاء على البطالة ( من خلال انخفاض الأجور، ثم زيادة طلب المنتجين على العمال ... وهكذا )!
وما يميز هذه النظرية أنها جاءت لتفسر واقعا كان موجودا أو قائما بالفعل، فلم تكن مجرد أفكار نظرية ليس لها أساس على أرض الواقع.
وظلت هذه الأفكار سائدة بلا منغص حقيقي يعترض انتشارها، إلى أن جاء كارل ماركس في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بكتابه الشهير " رأس المال " Das Capital. والذي بسط فيه نظريته عن الاشتراكية التي تتطور إلى الشيوعية، وفقا لقوانين التطور التاريخي العام. وقامت نظرية ماركس على تحليل علمي مفاده أن النظام الرأسمالي لابد أن ينتهي به الأمر إلى الفناء، لأن منطق هذا النظام يؤدي إلى وجود قوى وعوامل متناقضة تعمل داخله، ويؤدي تناقضها إلى القضاء عليه في النهاية، لينتهي الأمر بقيام الاشتراكية. وفي ظل النظام الاشتراكي – الذي يتحول فيما بعد إلى نظام شيوعي – يكون للدولة الدور الأساسي في النشاط الاقتصادية وفي إدارة الحياة الاقتصادية!
وظلت هذه الأفكار مجرد آراء نظرية بعيدة عن التطبيق، إلى أن قامت الثورة البلشفية في روسيا على يد لينين في عام 1917، لتبدأ ممارسة دورها في الحياة العملية منذ ذلك الوقت!
ثم حدث بعد ذلك الكساد الكبير، الذي ضرب النظام الرأسمالي في مقتل، وتوقع الجميع أن أفكار ماركس سوف تثبت صحتها، وأن هذا النظام سوف يختفي من الوجود بفعل عوامل الضعف الكامنة فيه والتي أدت إلى تصدعه بهذا الشكل!! وظلت الأمور على هذا المنوال، إلى أن برز إلى الصورة جون مينارد كينز بنظريته عن إصلاح النظام الرأسمالي، وذلك "بتطعيمه " ببعض مبادئ الاشتراكية في صورة تدخل الدولة في بعض أوجه النشاط الاقتصادي لتقويمه وتهذيبه.
وكان هذا الحل يعني الانحراف عن الأيديولوجية السائدة، لتصحيح وضع قائم، وبما يخدم هذه الأيديولوجية نفسها ويمنع سقوطها وزوالها. ولكن كان الحل في المقام الأول يوفر علاجا للدول التي تطبق هذا النظام، للخروج من الأزمة التي تمر بها.
وعلى الجانب الآخر، فقد شهد النظام الاشتراكي عيوبا كثيرة عند تطبيقه، إلى أن اعتلى ميخائيل جورباتشوف سُدة الحكم في الاتحاد السوفيتي، معقل النظام الاشتراكي، وبدأ في تطبيق سياساته الإصلاحية التي عُرفت باسم " البيريسترويكا "! ولكن ما أن بدأت خطوات الإصلاح تمضي قدما، حتى تهاوى الإطار النظري الذي يحكم هذا النظام، ليسقط النظام بأسره، وتنهار الاشتراكية في عام 1991، ويثبت خطأ أفكار ماركس التي ظلت سارية قرابة سبعين عام من الزمان.
على أن هناك بعض الدول التي رفضت أن تتخلى عن مبادئ النظام الاشتراكي، ورأت أن هذا النظام يمكن أن يعمل جيدا بعد إدخال بعض الإصلاحات عليه. فكان أن قامت الصين " بتطعيم " هذا النظام ببعض مبادئ نظام السوق، وذلك بتأكيد الدور الأساسي للسوق في تخصيص الموارد، على أن يتم ذلك بتوجيه من السياسات الاقتصادية الكلية ( المالية والنقدية )، وبتوجيه من جانب الدولة. وهكذا استمر هذا النظام الجديد في العمل، ليصعد بالصين من مجرد دولة نامية إلى قوة كبيرة تقف على أعتاب تولي زعامة العالم الاقتصادية!!
ومن ناحية أخرى، أدى انهيار النظام الاشتراكي كذلك إلى غلو أنصار النظام الرأسمالي في مذهبهم، وطالبوا بالعودة إلى " النقاوة " التي كان عليها من قبل حين وضع آدم سميث وغيره من أنصار المدرسة الكلاسيكية أسسه ومنهجه. ومن هنا فقد ظهرت مجموعة فكرية جديدة عُرفت باسم " الليبراليين الجدد " new liberals – وفي الواقع صحة هذا الاسم هو " الليبراليون المجددون "، لأنهم لم يأتوا بجديد، ولكنهم قاموا بالتجديد في الفكر القائم وعادوا به إلى أصوله السابقة – نادت بالتخلي تماما عن أفكار كينز، والرجوع إلى الاعتماد التام على قوى السوق، وتقليص دور الدولة إلى أضيق الحدود الممكنة ... وظل الحال على ما هو عليه، إلى أن حدثت الأزمة العالمية الكبرى التي ضربت النظام الرأسمالي في مقتل، وما زال العالم يعاني من آثارها حتى هذه اللحظة.
والدرس المستفاد مما سبق هو أن الأفكار النظرية – مهما كانت وجاهتها وقوة منطقها – لا تستطيع الصمود في عالم التطبيق الفعلي، بل لابد أن يضاف إليها من وقت لآخر، لتصحيح مسارها وبما يخدم الدولة التي تطبقها في نهاية الأمر ويؤدي لتحقيق مصالحها. فليس من المعقول أن نعمل على أن تظل النظرية صحيحة لتسقط الدولة!! هذا ما حدث في دول العالم الرأسمالي بعد أزمة الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، وهو ما حدث في الصين في الوقت الراهن.
وما نستخلصه من الأزمة المالية العالمية الحالية هو انتهاء عصر الأيديولوجيات! فلن تظل الولايات المتحدة ودول أوربا الغربية حبيسة الإطار الفكري للفكر الرأسمالي، بل سوف تقوم بإدخال الكثير والكثير من التعديلات عليه، بما يواكب مصالحها الخاصة ويؤدي في النهاية لإعادة النظام الرأسمالي نفسه إلى الحياة من جديد.
وهذا هو الدرس الذي يجب أن تتعلمه جميع الدول النامية! فليست العبرة بتطبيق منهج أيديولوجي معين والتمسك بقواعده، بل الأهم تطبيق النظام الاقتصادي الذي يكفل تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة، والذي يعمل على دخول هذه الدول إلى مصاف الدول المتقدمة!!

mohd_youssef@aucegypt.edu
9 من ذي القعدة عام 1429 من الهجرة ( الموافق 7 من نوفمبر عام 2008 ).

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
محمد حسن يوسف
  • كتب وبحوث
  • مقالات دعوية
  • مقالات اقتصادية
  • كيف تترجم
  • دورة في الترجمة
  • قرأت لك
  • لطائف الكتاب العزيز
  • الصفحة الرئيسية