صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







لماذا نجحت الصين فيما فشلنا نحن فيه؟!!

محمد حسن يوسف

 
إن الناظر لتجربة الصين صاحبة أعظم انجاز في مكافحة الفقر ليصيبه العجب مما تحقق هناك!! فوفقا لبيانات البنك الدولي،[1] نجد أن عدد الفقراء الذين يعيشون بأقل من دولار واحد للفرد يوميا قد انخفض في الصين من 634 مليون نسمة في عام 1981 إلى 374 مليون نسمة في عام 1990، ثم إلى 128 مليون نسمة فقط في عام 2004. أي أن نسبة الانخفاض قد بلغت 495.3% فيما بين عام 1981 و2004، ونحو 292.2% خلال الفترة 1990 – 2004. وهي نسب كبيرة، بل كبيرة جدا بالفعل. بل إنه عند مقارنة نسب الفقراء الذين يعيشون على أقل من دولار واحد للفرد في اليوم إلى إجمالي السكان، نجد أنها قد شهدت انخفاضا كبيرا كذلك، من 32% في عام 1990، إلى 9.9% فقط في عام 2004!!
إن هذه الأرقام لتدفعنا إلى التساؤل ... لماذا نجحت الصين في تخفيض أعداد الفقراء بها بهذا القدر الهائل، في الوقت الذي فشلنا نحن فيه في القيام بذلك؟! أو بعبارة أخرى: ما هي الأسباب التي دفعت الصين للنجاح في تخفيض أعداد الفقراء إلى هذه المستويات المنخفضة؟
في الواقع، لقد حاولت الصين الخروج من أزمة النمور الآسيوية التي عصفت باقتصادات الدول المصنعة حديثا في جنوب شرق آسيا، فتبنت العمل برؤية مخالفة للأجندة الغربية التي تحاول التركيز على واقعها الداخلي. فبدلا من التركيز الشديد على إعطاء الأولوية لإزالة العقبات أمام دخول رؤوس الأموال الأجنبية إلى البلاد، سعت الصين لبلورة إستراتيجية وطنية، كان من أهم محاورها:
 

§  تحقيق معدلات نمو مرتفعة:

بدأت الصين في تحقيق إنجازاتها الاقتصادية الهائلة منذ عام 1978، حيث وصل معدل النمو السنوي في هذه الفترة إلى 9%. وفي عام 1992، بلغت نسبة النمو في الناتج المحلي الإجمالي 12.8%. وفي المتوسط، بلغ النمو الذي حققه الاقتصاد الصيني نحو 9.8% سنويا خلال الفترة ( 1983 – 2004 ).[2]
لقد قامت الصين بمنافسة الدول الصناعية الكبرى في الإنتاج الصناعي، ومما زاد من سخونة هذه المنافسة إغراق المنتجات الصينية لأسواق العالم، بحيث باتت أرصفة الشانزلزيه في باريس مفروشة بالمنتجات الصينية ولعب الأطفال، مثل أرصفة ميدان العتبة في القاهرة.
وتعتبر الصين هي آخر فصل في قصة النمو التي لا يستطيع أحد تجاهلها منذ أن أصبحت البلد رابع أكبر اقتصاد في العالم في وقت مبكر من هذا العام. ولقد كان لمهارة الشركات الصينية في التصنيع تأثيرا مزدوجا، إذ أفادت سكان الدول الغنية بتوفير سلع تنخفض أسعارها باطراد، في حين أضرت بالمنافسين في الدول الصناعية.
ومع النمو المطلق السنوي في الواردات الصينية التي زادت عن مثيلتها المتحققة في كل أوربا، فإن الصين تزداد أهميتها بالنسبة للعالم كقاطرة نمو أكثر من كل دول أوربا. وإذا ما استمر اقتصادها بالنمو بتقديرات متحفظة تبلغ 8% سنويا، فسوف تكتسح وارداتها الواردات الأوربية بحلول عام 2010.
ولا يعود نجاح الصين إلى موقعها المتميز أو مواردها الطبيعية. بل يعزي صندوق النقد الدولي الاستثمار في رأس المال المادي والبشري، مع تزايد الكفاءة مؤخرا، إلى أنها السبب في تفوق الصين والدول الآسيوية لتقفز بعيدا عن أمريكا اللاتينية وأفريقيا من منظور التنمية.[3]
 

§  العدالة في توزيع الدخل:

لا يكفي قيام الدولة بتحقيق معدل كبير للنمو الاقتصادي لكي تحقق نجاحا كبيرا في قضية محاربة الفقر بها، بل يجب أن يصاحب ذلك ويدعمه انتهاج سياسات توزيعية جادة من شأنها ضبط العلاقة بين الأغنياء والفقراء في المجتمع في جني آثار ذلك النمو المتحقق.[4]
ولذلك يضع النظام الاقتصادي – الاجتماعي – السياسي في الصين قضية العدالة في توزيع الدخل ومكافحة الفقر في مكانة متقدمة في جدول أولوياته، ويعتمد في ذلك على تمكين السكان من الحصول على فرص للعمل وكسب العيش بكرامة وبصورة دائمة تضمن الحد الأدنى من حياة كريمة وبعيدة عن الفقر المدقع على الأقل. كما يعتمد النظام في تحقيق ذلك على سياسة دعم السلع والخدمات الاجتماعية، وسياسة التحويلات الاجتماعية.[5]
 

§ محاربة الفساد:

شن الحزب الحاكم خلال الفترة من 1995 وحتى 2002 حملة كبيرة على الفساد في الدولة، بل وشهدت هذه الفترة محاكمة أي مسئول أيا كان منصبه الحزبي أو السياسي أو التنفيذي. كما شهدت تلك الفترة أيضا حملة قومية لمحاربة الفساد الحكومي، طالت عددا من المسئولين رفيعي المستوى. فقد أسفرت هذه الحملة عن إقالة عدد كبير من كبار رجال الدولة، منهم وزير العدل وعدد من نواب المحافظين وبعض العمد في الأقاليم ومسئول أمني كبير.
وحرّمت تلك الحملة على كبار رجال الإدارة الحكومية والمؤسسات العسكرية القيام بأنشطة تجارية، لمنع التربح عن طريق استغلال المنصب، وسمحت لقوى وجماعات من خارج الحزب الحاكم بالتعبير عن نفسها من وقت لآخر.[6] وبذلك فقد نجحت الدولة في وقف تزاوج المصالح فيما بين رجال الأعمال ورجال البيروقراطية في الصين، وهو ما يعد أحد أهم انجازات الصين في محاربة الفساد.
وقد ساند الرئيس الصيني جيانج زيمين هذه الحملة بنفسه، كما لاقت دعما أيضا من رئيس الوزراء، وذلك في إطار سياسة تطوير البناء الحزبي وتحسين طبيعة عمله. ويمكن القول إن هذه السياسة حققت غرضها في بناء حكومة نظيفة، وهو الأمر الذي أسهم كثيرا في التقدم الكبير الذي حققته الصين.
وحققت وزارة الرقابة الصينية على مدى خمس سنوات من 1995 وحتى 1999 إنجازات كبيرة في مجال محاربة الفساد، حيث تعاملت مع أكثر من 80 ألف حالة اقتصادية، وقامت بفرض عقوبات تأديبية وإدارية على نحو 70 ألف حالة. وهو ما أدى إلى تعرض الدولة لخسارة قدرت بنحو 38.5 مليون يوان ( 4.8 مليار دولار ).
ويتم تطبيق مبدأ الثواب والعقاب بشكل جاد وفوري داخل المجتمع الصيني، فقد تمت محاكمة بعض المسئولين الحكوميين بتهم الفساد والرشوة، وحصلوا على أحكام بالسجن والإعدام في بعض الحالات. في حين تمنح الحوافز، ويتم تصعيد الأكفاء الذين يحققون معدلات مرتفعة في تنفيذ خطط الحكومة وأهدافها.[7] وبالطبع فإن هذه المحاكمات شكلت رادعا قويا أمام كل من تسول له نفسه القيام بأعمال فساد، فيتم بذلك ضرب الفساد في مقتل. كما أن سياسة تصعيد الأكفاء من شأنها توفير حوافز قوية أمام جميع أفراد المجتمع لبذل المزيد من الجهد في سبيل تنمية مجتمعهم وتطويره.
 

§ تحقيق اندفاعة قوية في مجال الإبداع والتطوير والتجريب:

تشير العديد من الدراسات إلى تنامي القدرات الصينية التكنولوجية، وذلك من خلال الالتزام بسياسة واضحة تشجع نقل وإنتاج التكنولوجيا. ففي عام 1992 تم إنشاء 32 منطقة لتنمية الاقتصاد والتكنولوجيا، و52 منطقة لصناعة التكنولوجيا المتطورة. كما توجد بالصين آلاف الشركات الأجنبية والمشتركة التي تقوم بنقل التكنولوجيا إلى البلاد.
وقد بدأ دخول الصين إلى مجال التكنولوجيا رفيعة المستوى في عام 1988 بإنشاء منطقة للتكنولوجيا المتطورة في بكين، وقد كان لها انجازا رائعا. ففي عام 1998 كان نصيبها من دخل تجارة الصناعة التكنولوجية 51.4 مليار يوان، وقدمت للناتج القومي الإجمالي 15.7 مليار يوان.
وفي عام 1997 تم إنشاء 53 منطقة للتكنولوجيا رفيعة المستوى. ويعد إنشاء هذه المناطق دليلا على اقتحام الصين للثورة التكنولوجية الكونية الجديدة. وقد تطورت هذه المناطق وفقا لنموذج وادي السليكون في الولايات المتحدة.
وفي نهاية عام 1998 بلغ عدد مؤسسات التكنولوجيا عالية المستوى المسجلة في هذه المناطق ما يزيد عن 1500 مؤسسة، يعمل فيها 1.5 مليون عامل.[8]

*****


هذا فضلا عن الحفاظ على الاستقلال القومي، وذلك برفض القولبة الغربية، ومحاولة الحفاظ على الهوية الوطنية قدر الإمكان طيلة فترة سنوات الإصلاح الاقتصادي التي شهدتها الصين.
وبعد ... فهناك الكثير مما يمكن لنا اقتباسه من التجربة الصينية ... حتى نستطيع تحقيق قدر معقول في مكافحة الفقر، الذي بدأ يستشري في أوصال مجتمعنا الآن بشكل لم يسبق له مثيل. إن الحكمة هي ضالة المؤمن، أينما وجدها فهو أولى بها. فليس معنى أننا فشلنا في تحقيق مكانة متميزة بين دول العالم ألا نستفيد من التجارب الناجحة لبعض الدول ... أو أن نظل نبكي على اللبن المسكوب ... بل علينا أن نشمر ونجتهد وندرس تلك التجارب الناجحة، للاستفادة منها ومحاولة محاكاتها وتطبيق أبعادها، بعد إخضاعها لكي تتلاءم مع ظروفنا وتتواكب مع هويتنا.
وإذا كانت الصين، البلد التي يعيش فيها ما يزيد عن المليار نسمة قد نجحت في محاربة الفقر، وتقليص أعداد الفقراء إلى هذه الدرجة، فلابد لنا من محاولة محاكاة هذه التجربة التنموية الرائدة، التي اعتمدت على الكثافة السكانية واتخذت منها سبيلا للنمو الاقتصادي، بدلا من البكاء والعويل على أن هذه الزيادة هي سبب كل المشكلات الاقتصادية التي تعاني البلد منها!!!
 
24 من ربيع الأول عام 1429 من الهجرة ( الموافق الأول من ابريل عام 2008 ).
 

--------------------------------------
[1] World Bank, World Development Indicator, 2007. P: 40, 60 and 63.
[2] انظر: د. هدى ميتكيس، إنجازات الصعود الصيني. في: الصعود الصيني، تحرير: هدى ميتكيس وخديجة عرفة محمد. القاهرة: مركز الدراسات الآسيوية بجامعة القاهرة، 2006. ص: 145. وكذلك: أحمد السيد النجار ( محرر )، الفقر في الوطن العربي. القاهرة: مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام، 2005. ص: 272.
[3] IMF, World Economic Outlook. October 2006. Chapter 3: Asia Rising: Patterns of Economic Development and Growth.
[4] راجع في ذلك: محمد حسن يوسف، لماذا لا يشعر المصريون بآثار النمو الحادث في اقتصادهم؟
[5] أحمد السيد النجار ( محرر )، مرجع سابق. ص: 272.
[6] د. إبراهيم عرفات، الصين وحواجز الصعود. في: الصعود الصيني، تحرير: هدى ميتكيس وخديجة عرفة محمد. القاهرة: مركز الدراسات الآسيوية بجامعة القاهرة، 2006. ص: 176.
[7] ياسر علي هاشم، مستقبل الصين في النظام الدولي الجديد. القاهرة: دار المعارف، 2004. ص: 74 - 75.
[8] د. محمد سعد أبو عامود، مقومات الصعود الصيني. في: الصعود الصيني، تحرير: هدى ميتكيس وخديجة عرفة محمد. القاهرة: مركز الدراسات الآسيوية بجامعة القاهرة، 2006. ص: 113 - 114.
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
محمد حسن يوسف
  • كتب وبحوث
  • مقالات دعوية
  • مقالات اقتصادية
  • كيف تترجم
  • دورة في الترجمة
  • قرأت لك
  • لطائف الكتاب العزيز
  • الصفحة الرئيسية