صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







رأيٌ في تزويج الصغيرة بدون رضاها

سلطان بن عثمان البصيري


تزويج البنات اللاتي لم يبلغن أو من يسميهنّ بعض الكتّاب القاصرات مما كثر فيه الكلام في هذا الوقت ، سواء عن مدى شرعيته أو عن مفاسده أو غير ذلك ، لكن مما يتفق عليه العقلاء أن أصحاب الجشع من الآباء الذين لا يرقبون ذمّة في بناتهم ربما يزوجونهن لا لهدف إلا لإرضاء نفوسهم الدنيئة التي لا تفكّر إلا في مصلحتها ، متناسين أن الفتاة بإرغامها بالزواج من غير كفء هي أول من يجني ثمار ذلك إن أترجّاً أو حنظلاً ، فهؤلاء الآباء لا يهمهم إلا مصالحهم الشخصية فحسب.
ولكن مع هذا فلن نتمكّن من معرفة موقف الشريعة الإسلامية في هذا الأمر إلا بالوقوف على أقوال المحققين من أهل العلم الراسخين فيه ، وليس بالنظر إلى أقوال صدرت عن عواطف عامة الناس ، لأن أقوال المحققين من أهل العلم جمعت بين النقل من الكتاب والسنة وكذلك العقل الصحيح السليم الذي ينظر للأمور نظرة شمولية للمصالح والمفاسد ، ولم يكن يوماً النقل معارضاً للعقل ، أما عواطف عامة الناس فهي لم تصدر إلا عن عقولهم التي ربما أغفلت التفكير إلا من زوايا معينة أو يشوبها ما يشوبها ، ولذا قال محمد بن سيرين – رحمه الله – : ( إن هذا العلم دين فانظروا عمّن تأخذون دينكم ).
فلبيان مسألة تزويج الصغيرة بدون رضاها وما يتعلّق بها أعرض بعضاً من الأمور كما يلي :
- بلوغ البنت في الغالب عند تسع سنين ، والشاذ لا حكم له يخصّه بل حكمه حكم الغالب ، ولذا قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : ( إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة ) رواه الإمام أحمد والترمذي. قال ابن قدامة في المغني ( 9 / 404 ) : ( ومعناه : في حكم المرأة. ولأنها بلغت سنّاً يُمكن فيه حيضها ، ويُحدث لها حاجة إلى النكاح ، فيُباح تزويجها كالبالغة ). انتهى.
- قد وصف بعض أهل العلم كالزركشي – رحمه الله – من بلغت تسع سنين أو فوقها بأنها في حكم البالغة لحديث عائشة. (شرح الزركشي ( 5 / 83).
- أصل تزويج الصغيرة يجوز ، وقد دلّ على ذلك قول الله تعالى في سورة الطلاق : ( واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن ) ، فقوله ( واللائي لم يحضن ) أي لصغرهن ، فعُلم من هذا أن أصل التزويج يجوز ولا مجال لتشكيك بعض من كتب فيه ولو نُسب إلى علم لأنه يُخالف حقيقة أقرّها القرآن الكريم .
- لم يكن في تاريخ السلف واقعة واحدة لتزويج الصغيرة فحسب – وهي تزويج أم المؤمنين عائشة وهي صغيرة – فيُقال إن هذه واقعة عينٍ لا يُقاس عليها ! – كما قاله غير واحد ممن كتب في هذه المسألة – ، فقد نُقل أن علياً – رضي الله عنه – زوّج بنته أم كلثوم لعمر بن الخطاب – رضي الله عنهما – وهي صغيرة ، وكذلك نُقل أن قدامة بن مظعون زوّج ابنة أخيه بعد وفاته – رضي الله عنهم – وهي صغيرة ، وغير ذلك من الوقائع.
- كتب بعض من كتب في هذه المسألة قائلاً : يُحتمل أن أبا بكر – رضي الله عنه – أخذ رأي عائشة – رضي الله عنها – في تزويجها ! ، والاستدلال بدليل احتمالي الثبوت استدلال خاطئ فمن المقرر في علم أصول الفقه أن الدليل إذا تطرّق إليه الاحتمال يبطل به الاستدلال.
- لا خلاف بين أهل العلم في أن تزويج البنت بزوج غير كفء لا يجوز ، سواء كانت البنت صغيرة دون تسع أو بالغة لمخالفة الأدلة والمقاصد الشرعيّة .
- القول الصحيح في تزويج البنت البالغة اشتراط رضاها ولو كان الزوج كفواً لقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم – : ( لا تُنكح الأيّم حتى تُستأمر ، ولا تُنكح البكر حتى تُستأذن .. ) متفق عليه ، أما التي لم تبلغ فقد كثر النقل عن أهل العلم في بيان حكم ذلك ، فمما ورد فيه ما قاله الإمام ابن قدامة في المغني ( 9 / 398) : ( قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن نكاح الأب ابنته الصغيرة جائز إذا زوّجها من كفء ويجوز له تزويجها مع كراهيتها وامتناعها ). انتهى. وقال ابن قاسم في حاشيته ( 6 / 256 ) : ( للأب أو وصيّه تزويج ابنته البكر التي لها دون تسع بغير إذنها ورضاها إذا وضعها في كفء بلا نزاع ، وحكاه ابن رشد والوزير – أي ابن هبيرة – اتفاقاً ).انتهى. وقال ابن بسام في نيل المآرب ( 4 / 21 ) : ( ليس هناك نزاع في أن البكر التي لها دون التسع ليس لها إذن ، فلأبيها تزويجها بلا إذنها ولا رضاها بكفئها ). انتهى.
- اتفق من يرى جواز تزويج الصغيرة إجباراً من أهل العلم على جوازه من الأب واختلفوا في غير الأب.
- يتّضح من النقل السابق عن أهل العلم أنهم أجازوا تزويج الصغيرة إجباراً بلا رضاها في حال كون الزوج كفواً ، وأما إذا لم يكن كفواً فلا يجوز.

وبعد :
فإنه مما لا شك فيه أنه كثُرَ من بعض الآباء في هذا الزمن المتاجرة بتزويج بناتهم الصغيرات لمصالحهم الشخصية ، في حين أن من الآباء من يحرص على تزويج ابنته الصغيرة بكفء لمصلحتها هي ، ككون الأب يخشى فوات زواجها بكفء معيّن ، أو أنه أي الأب في حال كبر سنّ وليس للبنت إلا إخوان لا يهمّهم إلا مصالحهم فيخشى أن يتاجروا بعرض بنته فيزوجوها بغير كفء ، أو كون البنت يتيمة عند وصيّ ليس محرماً لها فيريد بتزويجها أن يكون لها محرم.
فعُلِمَ من هذا أن من ينادي بمنع تزويج الصغيرات اللائي لم يبلغن قد أخطأ في رأيه وما وصل إليه ، ولكن من الأفضل أن يُصار إلى تنظيم الأمر ، حتى لا تزوّج الصغيرة بغير كفء ، لا سيّما مع وجود ذوي الطمع والجشع من الآباء الذين لا يفكّرون بمصالح بناتهم بل يُفكّرون ما يتقاضونه من وراء تزويجهن ، وهذا الرأي يأتي بتحصيل المصالح للجميع ، فهو لا يمنع من تزويج الصغيرة بكفء ويمنع من تزويجها بغير كفء.
ومراعاة هذا المسلك في الفتوى وهو حال الناس أمرٌ لابدّ منه ، ولذا يقول الإمام ابن القيّم – رحمه الله – كما في ( أعلام الموقعين 1 / 88 ) : ( ولا يتمكّن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم ، أحدهما : فهم الواقع والفقه فيه … ( أي حال الناس ) والنوع الثاني : فهم الواجب في الواقع … ( أي أحكام الشريعة ). انتهى.
هذا ومن أمثل الفتاوى التي رأيتُها تراعي هذا المسلك فتاوى الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله – ، ويشهد لهذا أن الشيخ – رحمه الله – يرى منع تزويج الصغيرة بدون رضاها إلا في بعض الحالات ، وهذا الرأي بيّنه – رحمه الله – في عدد من دروسه التي منها ما أُثبت في ( الشرح الممتع 12 / 53 ).

وفي الختام يجمُل التنبيه إلى أنه قد اختلف القائلون بجواز تزويج الصغيرة بلا رضاها من أهل العلم في تخييرها بعد بلوغها فبعضهم جعل لها الخيار إذا بلغت وآخرون لم يجعلوا لها الخيار.
وللمزيد لمن يرغب في اطلاع أوسع لكلام أهل العلم في هذه المسألة مراجعة بحث بعنوان : ( ولاية تزويج الصغيرة ) للشيخ الدكتور عبد الله بن عبد العزيز الجبرين ، نُشر ضمن المجلد الثالث والثلاثين من مجلة البحوث الإسلامية ، علماً بأن المجلة منشورة بموقع الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

 

سلطان بن عثمان البصيري

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
سلطان البصيري
  • مقالات ورسائل
  • الصفحة الرئيسية