صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







شرح حديث: (الطهور شطر الإيمان)

خالد بن سعود البليهد
@binbulaihed


عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْحَارِثِ بْنِ عَاصِمٍ الْأَشْعَرِيِّ
t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r "الطَّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآنِ -أَوْ: تَمْلَأُ- مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَك أَوْ عَلَيْك، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

هذا الحديث في بيان فضائل الأعمال ومنزلتها في الدين.


وفيه مسائل:

الأولى :
دل الحديث على عظم فضل الطهارة من الأحداث والأخباث وأنه يعدل شطر الدين لأن الطهارة شرط لصحة الصلاة ولما فيها من تحصيل النظافة والنزاهة من القاذورات واستقبال الله في أكمل هيئة وتكريم الملائكة والمصلين وانشراح الصدر ونشاط البدن وزوال الهم والخاطر الخبيث وتكفير السيئات ورفعة الدرجات ولذلك ورد في السنة فضائل عظيمة للطهارة كما جاء في حديث عثمان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره). رواه مسلم. والطهارة سبب لدخول الجنة والله يحب المتطهرين قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ). يعني المتطهرين من الأذى الحسي والمعنوي قال مجاهد: (من أتى امرأته في دبرها فليس من المتطهرين). والوضوء من خصال الإيمان الخفية التي لا يحافظ عليها إلا مؤمن كما جاء في حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم) : لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن).رواه مالك.  وهذا يدل على أن المواظبة على الطهارة الشرعية من كمال الإيمان ولذلك كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء لكل صلاة كما ثبت في حديث عمر في صحيح مسلم وكان لا ينام جنبا من غير وضوء. والعناية بالطهارة من الحدث الأصغر والأكبر من أداء الأمانة كما ورد في الخبر. والمسلمون من أفضل الأمم وأشدهم عناية بطهارة الباطن والظاهر لكمال شريعتهم الطاهرة وهدي رسولهم المتطهر صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وسلم.

الثانية :
من الطهارة المحمودة شرعا العناية بالنظافة الشخصية من نظافة البدن والثوب وإصلاح الشعر وإزالة الشعث من البدن الذي يكون سببا في انبعاث الرائحة الكريهة وتطهير الفم والأسنان واستعمال الطيب والسواك ولذلك اعتنى الشارع بهذا الباب عناية شديدة فرغب في خصال الفطرة وأمر بأخذ الزينة ونهى عن تعاطي كل ما يؤذي المسلمين وشرع التجمل في الثياب والطيب وتسريح الشعر في أماكن اجتماع المسلمين قال تعالى: (يَا بَنِي آدَم خُذُوا زِينَتكُمْ عِنْد كُلّ مَسْجِد). ونهي المؤمن عن شهود الصلاة ورائحته كريهة كما ورد في صحيح مسلم: (من أكل الثوم والبصل فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم). وعناية المسلم بنظافته الشخصية تدل على كمال إيمانه ومروئته ورجاحة عقله وصيانته وإهماله لهذا يدل على قلة فقهه ونقص مروئته وعدم مراعاه للآخرين. وينبغي لأهل الفضل ممن يقتدى بهم أن يكونوا على أكمل طهارة وأحسن هيئة من غير تكلف ليقبل الحق منهم ويقتدي الناس بهم ومن المؤسف أن ترى رجلا صالحا من أهل الخير متسخ الثياب والبدن لا يعتني بنطافته الشخصية. ويخطأ من يظن أن إهمال النظافة من الزهد والبذاذة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الزهاد كان من أطيب الناس ريحا وأنظفهم ثوبا وبدنا وأطهرهم فما وكان شديد العناية بنظافته الشخصية والمراد بالبذاذة التي مدحها الشارع هي ترك جميل اللباس والتقشف أحيانا تواضعا لكسر النفس وتهذيب الروح وهذا يختلف على حسب اختلاف الأشخاص والأحوال وليس للبذاذة علاقة مطلقا بترك النظافة وإهمال الهيئة والتعرض للرائحة الكريهة.

الثالثة : في الحديث دليل على أن كلمة الحمد لله تملأ الميزان لعظم فضلها ووفرة معناها ودلالتها على ثناء العبد على الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى وأفعاله الجميلة وافتقاره للغني الحميد كما قال تعالى: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً). فهي كلمة جليلة لا يوفق لها في سائر الأحوال إلا من تأله قلبه لله واستكان له وشاهد جميل آلائه وحسن عادته بعباده وأدرك عجز نفسه وفقره إلى الله قال ابن القيم: (فالحمد إخبار عن محاسن المحمود مع حبه وإجلاله وتعظيمه). والحمد يتضمن إقرار العبد بغنى الله وكماله وافتقاره إلى هدايته ونعمه فقلبه موقن أن المنعم والمتفضل هو الله جل جلاله. والله سبحانه يحب المدح لما ثبت في مسلم: (ولا أحد أحب إليه المدح من الله). والحمد لله تعالى يكون بسبب حدوث النعمة وبدونها وهو خاص بآلة اللسان أما الشكر فمحله عند حدوث النعمة ويكون بالقلب واللسان والجوارح فبين الحمد والشكر عموم وخصوص .وكلمة الحمد مشروعة في جميع الأحوال وتتأكد عند الأكل وعند النوم والاستيقاظ منه وعند العطاس وعند لبس الثوب الجديد وعند ركوب الدابة وعند ابتداء الدعاء والموعظة وعند فقد الولد وعند رؤية المبتلى والمكروه وكل ذلك ورد في السنة. وقد ذهب طائفة من السلف إلى تفضيل كلمة الحمد على كلمة التهليل قال سفيان الثوري : (ليس يضاعف من الكلام مثل الحمد لله). وقال إبراهيم النخعي: (كانوا يرون أن الحمد أكثر الكلام تضعيفا).

الرابعة :
في قوله: (والحمد لله تملأ الميزان). دليل على أن أفعال بني آدم وأقوالهم يكون لها جرم يوم القيامة وتوزن بالميزان قال الله تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ). وثبت في السنة كما في حديث أبي الدرداء قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق). رواه الترمذي. وقد أجمع أهل السنة على ثبوت الميزان يوم القيامة قال سفيان بن عيينة: (السنة عشرة فمن كن فيه فقد استكمل السنة ومن ترك منها شيئا فقد ترك السنة إثبات القدر وتقديم أبي بكر وعمر والحوض والشفاعة والميزان والصراط). وقد خالف أهل البدع في هذا الباب فحرفوا النصوص وأولوا الميزان بالعدل. والأعمال يكون لها جرم يوم القيامة كما ثبت في صحيح مسلم: (اقرؤوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما). وثبت في السنة أيضا وزن الأشخاص كما ورد في البخاري في حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة وقال اقرأوا (فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا). والميزان له لسان وكفتان حسيتان يراهما الناس والميزان عظيم أوسع مما بين السماء والأرض كما صح عن سلمان رضي الله عنه. ولا يوزن بالميزان كل أحد لأن الله يدخل أقواما  الجنة بلا حساب ولا عذاب. والإيمان بالميزان يقتضي الإجتهاد في القربات والحذر من السيئات ويحث المؤمن على اغتنام الأوقات بما يثقل الميزان فمن استحضر السؤال أدمن التفكر وأطال العتاب وأحسن في العمل.

الخامسة :
وفي الحديث عظم فضل سبحان الله والحمد لله في كونهما يملآن ما بين السماء والأرض والمراد أنهما لو كانا أجساما لملآ المساحة الشائعة التي تكون ما بين السماء والأرض وذلك لما اشتملا عليه من معاني التأله والإفتقار والثناء والتنزيه والتعظيم للجليل والتبري من الحول والقوة وهما من أعظم كلمات الذكر وكثيرا ما ينبه الشارع الحكيم على فضل بعض الكلام بربط الأمر المعنوي بالحسي وهذا له نظائر متعددة في السنة الصحيحة ولا يمكن للعقل القاصر أن يدرك كيفية ذلك وإنما عليه التصديق والتسليم من غير اعتراض ولا نجاة وسلامة للمؤمن في هذا الباب إلا بالإيمان الجازم. وقد ورد في صحيح مسلم عن سمرة بن جندب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحب الكلام إلى الله تعالى أربع لا يضرك بأيهن بدأت سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر). وقد ورد للتسبيح والتحميد فضل عظيم قال صلى الله عيه وسلم: (من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر). متفق عليه. وقال صلى الله عليه وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان للرحمن سبحان الله بحمده سبحان الله العظيم). متفق عليه. وقد حث الله على التسبيح في قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة فسأله سائل من جلسائه كيف يكسب أحدنا ألف حسنة. قال: يسبح مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة ويحط عنه ألف خطيئة). رواه مسلم. ويكفيهما شرفا أنه ورد أن أهل الجنة يلهمون التحميد والتسبيح كما يلهمون النفس. والتحميد أفضل من التسبيح كما روي في الأحاديث لأن الحمد إثبات المحامد والتسبيح نفي النقائص والإثبات أكمل من النفي. والتسبيح هو تنزيه الله عن النقائص والعيوب والآفات والله جل جلاله وتقدست أسماؤه منزه عن الصاحبة والولد والشبيه والمثيل والآلهة والشركاء والأنداد والنوم والمرض والنسيان والجهل والعجز والفقر والموت والبخل والظلم وعن جميع العيوب والآفات وله الكمال المطلق والحمد التام في كل الصفات الحسنة قال ابن تيمية: (الأمر بتسبيحه يقتضي أيضا تنزيهه عن كل عيب وسوء وإثبات صفات الكمال له). والتسبيح يرد غالبا في نصوص الشرع مقرونا بغيره كالحمد والتهليل والاستغفار.  

السادسة :
دل الحديث على أن صلاة المؤمن الفريضة والنافلة نور لما فيها من إضائة قلب المؤمن وانشراح صدره وكفه ومنعه من المعاصي وحمايته من المنكرات والفواحش وهدايته في الدنيا لأطيب الأقوال وأزكى الأفعال وسلوك الطريق المستقيم وتربطه بالصالحين وفي الآخرة نور يستضيئ بها من الظلمات كما روي في تبشير المشائين في الظلم بالنور التام يوم القيامة وفي مسند أحمد: (من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة). وصلاة الليل نور للمؤمنين في قبورهم كما قال أبو الدرداء : (صلوا ركعتين في ظلم الليل لظلمة القبور) .والصلاة تغسل الخطايا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار غمر على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات). رواه مسلم. وتكفر السيئات لحديث: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات مابينهن إذا اجتنبت الكبائر). متفق عليه. ومن عظم شأن الصلاة أنها عون على كل مطلوب نافع سواء كان دينيا أو دنيويا كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ). ولذلك كان النبي صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى كما في سنن أبي داود ولما نعي لابن عباس رضي الله عنه أخوه وهو في سفر فاسترجع ثم تنحى عن الطريق فأناخ فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول: (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين). وكلما ازداد المؤمن من الصلاة ازداد نورا وتوفيقا وهداية في الدنيا والآخرة ومن داوم على الصلاة بخشوع حفظته من الشبهات والشهوات قال الله تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ). وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (لا تنفع الصلاة إلا من أطاعها). ثم قرأ هذه الآية.

السابعة :
فيه دليل على أن بذل الصدقة في سبيل الله دليل على صدق إيمان المنفق ومحبته لله لأن المال محبب للنفوس والنفوس مجبولة على إمساكه ومنعه فإذا أخرجه الإنسان طاعة لله كان ذلك دليلا ساطعا على كمال إيمانه وتعلق قلبه بربه واستخفافه بالدينا في سبيل مرضاة الله والفوز بجنته ومن أعظم ما يمتحن فيه إيمان العبد في المال ولذلك شرع الله النفقات الواجبة والزكوات وورد الوعيد الشديد في التفريط فيها وندب الله ورغب في الصدقات وأنواع التبرعات ورتب عليها الأجور العظيمة قال الله تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). وكلما تخلص المؤمن من رق المال وزخرف الدنيا وأنفقهما في سبيل الله تطهر قلبه من الشح والحسد والكبر التي تمنع نور الإيمان وبهذا ينشرح صدره ويطيب خاطره ويقبل على عبادة ربه والوقاية من الشح سبب للفلاح قال الله تعالى: (وَمَنْ يُوقَ شُحّ نَفْسه فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ). وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قدوة المتصدقين ينفق إنفاق من لا يخشى الفقر وكان أجود من الريح المرسلة وكان من أجود الناس وكان إذا سئل شيئا أعطى بلا تردد مهما كان السائل ومهما كانت المسألة ولو كانت من أعز ماله إليه أو كان على عوز وكانت الأنصار رضي الله عنهم يؤثرون غيرهم على أنفسهم ولو كان فيهم خصاصة وقد أثنى الله عليهم. والصدقة لها أثر عظيم في زيادة الإيمان وانشراح الصدر وطيب الخاطر وسلامة الصدر والإقبال على العبادة ودفع الشدائد وتطهير النفس من الرذائل وبركة المال وتورث الورع والزهد. ومن كان منفقا للمال على الدوام كان من أهل الكمال ومن كان ممسكا للمال بخيلا على الدوام كان ناقص الإيمان. وقد ورد فضل عظيم في الكتاب والسنة لصدقة السر فينبغي للمؤمن أن يبالغ في إخفاء الصدقة ويكتم عمله إلا إذا ترتب على إظهارها مصلحة متعدية للمسلمين.

الثامنة :
في الحديث وصف عمل الصبر بأنه ضياء لأنه يضيئ حياة المؤمن في شدائد الدنيا ويزيل مرارة البلاء عنه ويزيح عنه الهموم والأحزان ويهديه لصالح العمل عند نزول البلاء ويجعله سعيدا ثابتا واثقا بعطاء ربه وواثقا بالفرج واليسر بعد العسر واستعمل وصف الضياء وهو النور الذي يحرق كنور الشمس لأن الصبر فيه مشقة ويحتاج إلى مجاهدة وعناء. ومقام الصبر من أجل أعمال القلوب وهو نصف الدين قال ابن مسعود: (الصبر نصف الإيمان واليقين الإيمان كله). والصبر له منزلة عظيمة قال علي بن أبي طالب: (ألا إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد فإذا قطع الرأس باد الجسد ثم رفع صوته فقال ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له). والصبر ثلاثة أقسام قال أبو حاتم: (الصبر على ضروب ثلاثة فالصبر عن المعاصي والصبر على الطاعات والصبر عند الشدائد المصيبات فأفضلها الصبر عن المعاصي). والصبر خير عطاء للمؤمن كما جاء في الحديث: (وماأعطي أحد من عطاء خير وأوسع من الصبر). متفق عليه. والصبر يأتي بالتصبر كما ثبت في مسند أحمد. وقد بشر الله الصابرين على أقداره المؤلمة بثلاث بشارات في قوله تعالى: (وَبَشِّر الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ). وقال عمر بن عبد العزيز: (ما أنعم الله على عبد نعمة فانتزعها منه فعاض مكانها الصبر إلا كان ما عوضه خيرا مما انتزعه). ومن أفضل أنواع الصبر الصوم لأنه يجمع أقسام الصبر الثلاثة الصبر على الطاعة وعلى ترك المعصية فالصائم يترك شهواته لله ونفسه تنازعه إليها كما جاء في الخبر وفيه صبر على الأقدار المؤلمة بما يحصل للصائم من الجوع والعطش ولذلك سمي شهر الصوم شهر الصبر وجاء في الحديث: (الصوم نصف الصبر).   

التاسعة :
دل الحديث الشريف على أن القرآن كلام الله المنزل على رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام يكون يوم القيامة مع الإنسان له حالتان إما شاهد ودليل وبرهان على صدق الإنسان وصلاحه وهدايته وامتثاله بأوامر القرآن واجتنابه نواهي القرآن وتصديقه لأخباره وهذه حالة السعادة والفلاح والفوز أو يكون دليلا وشاهدا وبرهانا على غواية الإنسان وفساده وفجوره وإعراضه عن امتثال الأوامر واجتانب النواهي وتكذيبه لأخبار القرآن وهذه حالة الشقاوة والخسارة والهلاك فمن أطاع ربه وعمل بالقرآن كان سعيدا في الآخرة ومن عصى ربه وأعرض عن القرآن كان شقيا في الآخرة قال الله تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا). وروي في مصنف ابن أبي شيبة: (يمثل القرآن يوم القيامة رجلا فيؤتى بالرجل قد حمله فخالف أمره فيتمثل خصما له فيقول يا رب حملته إياي فشر حامل تعدى حدودي وضيع فرائضي وركب معصيتي وترك طاعتي فما يزال يقذف عليه بالحجج حتى يقال فشأنك به فيأخذ بيده فما يرسله حتى يكبه على صخرة في النار ويؤتى برجل صالح قد كان حمله وحفظ أمره فيتمثل خصما له دونه فيقول يا رب حملته إياي فخير حامل حفظ حدودي وعمل بفرائضي واجتنب معصيتي واتبع طاعتي فما يزال يقذف له بالحجج حتى يقال شأنك به فيأخذ بيده فما يرسله حتى يلبسه حلة الاستبرق ويعقد عليه تاج الملك ويسقيه كأس الخمر). قال ابن مسعود : (القرآن شافع مشفع وماحل مصدق فمن جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلف ظهره قاده إلى النار). وقال أبو موسى الأشعري: إن هذا القرآن كائن لكم أجرا وكائن عليكم وزرا فاتبعوا القرآن ولا يتبعكم القرآن فإنه من اتبع القرآن هبط به على رياض الجنة ومن اتبعه القرآن زج في قفاه فقذفه في النار) .

العاشرة :
قوله: (كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها). هذا الكلام مع اختصاره من أجمل جوامع الكلم الذي أوتيه نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم ويدل على كمال فصاحته ونصحه. وفيه بيان لحال الإنسان وسعيه وكدحه في الدنيا وهو على حالتين إما أن يبيع نفسه لطاعة الله ومرضاته بالتزام العمل الصالح ويؤثر عمل الآخرة على عمل الدنيا ويقدم محبة الله على محبوبات نفسه وإذا انحرف عن الطريق تاب وأناب فهذا باع نفسه بثمن الجنة وأعتق نفسه من النار يوم القيامة وهذا هو السعيد قال الله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ). وإما أن يبيع نفسه للشيطان وهوى النفس بالتزام الشهوات وركوب المحرمات والبعد عن الطاعات ويؤثر عمل الدنيا على عمل الاخرة ويقدم رغبات النفس على محبة الله ويغرق في بحر السيئات فهذا باع نفسه بثمن بخس وغمس نفسه في النار يوم القيامة وهذا هو الشقي قال تعالى: (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ). وورد في الصحيحين قول النبي صلى الله عليه وسلم: حين أنزل عليه: (وأنذر عشيرتك الأقربين). يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئا). وقد اشترى كثير من السلف أنفسهم من الله واستنقذوها من النار فبذلوا أموالهم وأنفسهم وعلمهم وأوقاتهم في سبيل الله كل فتح عليه في باب من أبواب الخير وأما الخلف فكثير منهم باع نفسه بعرض من الدنيا وركن إلى الشهوات وضيع الفرائض واستولى عليه الشيطان ونسي الآخرة وصار همه تحصيل الملذات. فينبغي للمؤمن أن يسعى في فكاك نفسه من النار قال الحسن البصري: (المؤمن في الدنيا كالأسير يسعى في فكاك رقبته لا يأمن شيئا حتى يلقى الله عز وجل).

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
خالد البليهد
  • النصيحة
  • فقه المنهج
  • شرح السنة
  • عمدة الأحكام
  • فقه العبادات
  • تزكية النفس
  • فقه الأسرة
  • كشف الشبهات
  • بوح الخاطر
  • شروح الكتب العلمية
  • الفتاوى
  • كتب
  • الصفحة الرئيسية