صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







بين الجهاد في سبيل الله تعالى وبين الحرب الاستباقية

محمد بن شاكر الشريف

 
كثير من المعاني الفاسدة والتي تحتوي مضامين لا تقبلها الفطرة التي فطر الله الناس عليها، هناك من يكسوها بمصطلحات تستر ولو ظاهريا ما فيها من عوار، ومن تلك المعاني غير المقبولة مفهوم البغي والاستطالة والعدوان على الناس بغير حق، الذي ألبسه أهل الظلم والطغيان في عصرنا الحاضر مصطلحا موهما قد تخفى حقيقته على كثير من الناس،فسموه بالحرب الاستباقية.

والمراد بالاستباق هنا سبق دولة أو عدة دول والمبادرة بشن الحرب ضد دولة أخرى، أو جماعة أو منظمة تجاه أي خطر محتمل منها بزعم تهديده الأمن القومي للدولة أو الدول المبادرة بالعدوان ومصالحها مستقبلاً، دون انتظار صدور أعمال عدائية منها، وتحجيم وإعاقة نمو أية قوة من الممكن أن تكون منافسة ولو بعد حين، بما يجعل القوة والتفوق والنفوذ محصورا في الدولة المستبقة بالعدوان، وربما نعتوها بالحرب الوقائية، وذلك كله من التلاعب بالألفاظ وتسويغ العدوان على الآخرين.

ولا شك أن الحديث عما يهدد الأمن القومي، والحديث عن الخطر المحتمل حديث فضفاض لا ينضبط بمعايير محددة، ويمكن للدول الظالمة الباغية أن تدعي-وفقا لأطماعها التوسعية-سلسلة من الأمور التي تهدد أمنها القومي أو تمثل لها أخطارا محتملة، تمارس بسببها حربا وضغوطا على الآخرين، بينما هي في حقيقتها مجرد منافسة ومسابقة.

ومن طبيعة هذا الاستباق العدواني أنه لا يستند إلى أسباب حقيقية، بل تكون الظنون والتخمينات والدعاوى والتصورات هي المستند الأكبر فيه ، وتلعب الاستخبارات في ذلك دورا كبيرا، وقد تلفق التقارير لتسويغ الحرب على دولة أو جماعة أو منظمة كما حدث مع العراق، فإن التقارير والتوصيات إذا لم تكن قائمة على أسباب واضحة وملموسة، وكانت قائمة على الظنون والتصورات فإنه من الممكن التلاعب بها وتوجيهها الوجهة المطلوبة، وهو ما يخفي في حناياه ألوانا من الظلم والطمع والحسد والرغبة في العلو على الآخرين بالباطل، وهذا يعني المبادرة بالسبق بالعدوان على الآخرين وفق المطامع والمصالح التي ترجوها الدولة المستبقة بالعدوان، تحت مظلة وهمية من القيم الزائفة التي لا رصيد لها في واقع المعتدين الباغين.

فالحرب الاستباقية لا يراد منها تحقيق عدالة، أو تفادي خطر داهم، وإنما يراد منها ما يحفظ المصالح الخاصة بالدولة البادئة بالعدوان ويمنع من تهديد تفردها واحتكارها للساحة الدولية، في أنانية مفرطة تفوق التصور وفق منظورها الأحادي النظرة بعيدا عن الالتزام بأية قيمة أخلاقية..

في أعقاب حادث الحادي عشر من سبتمبر 2001م ظهر في السياسة الأمريكية بقوة تداول مصطلح الحرب الاستباقية؛ ليكون مسوغا ومظلة لشن حرب صليبية على المسلمين، كوسيلة للقضاء على الإرهاب الذي صار يلصق بالمسلمين، حماية لما يدعونه من الأمن القومي، ومن غريب الأمر أن معنى (الأمن القومي) قد تمدد بفعل طغيان القوة ليشمل مناطق تبعد عن الدول المستبقة بالعدوان آلاف الأميال، فقد اعتبرت تلك القوى نفسها وكأنها مالكة العالم أو السيد القائد صاحب التصرف الذي لا ينازع، فرأت في كل خروج عما تراه من نظام لإدارة المجتمع الدولي، والتنافس معها في امتلاك السلاح الفعال التي تحمي به الدول نفسها، ومنافسة هيمنتها وسيطرتها على منابع النفط وإمدادات الطاقة والأسواق العالمية، تهديدا لأمنها القومي يسوغ لها القيام بالحرب الاستباقية، وأعطت لنفسها الحق الكامل في تحديد ذلك، وتجاوز تلك المنظمات التي لا يلتزم بها إلا الضعفاء حتى غدت تلك المنظمات وسيلة لفرض إرادة الأقوياء على الضعفاء تحت مسمى القرارات الدولية وإرادة المجتمع الدولي، التي لم تزد في حقيقتها عن إرادة دولة أو عدة دول متنفذة في هذا العالم، وكأن المجتمع الدولي قد اختزل في بضعة دول باغية مستعلية معبأة بنزعة عدوانية هائلة على الآخر المخالف أو المنافس.

إن تبجح تلك الدول وزعمها أنها تدافع عن المجتمع الدولي وأنها تعبر عن الإرادة الدولية، قول ينكره العارفون بالقانون الدولي، ويجمعون على أن تلك الدول تخرق بفعلها هذا القانون الدولي وقد صرح مؤخرا الأمين العام السابق لمنظمة الأمم المتحدة (كوفي عنان) أن أمريكا وبريطانيا قد شنتا الحرب على العراق بالمخالفة لميثاق تلك المنظمة
لقد انهارت نظريات السيادة الداخلية للدول، حيث أباحت الدول العدوانية لنفسها التدخل في سيادة هذه الدول وانتقاصها، وانعدمت المساواة القانونية التي كانت قائمة في النظام الدولي، وذلك بفعل أفكار الحرب الاستباقية، ولقد كان من الوسائل المتبعة لتحقيق هذه الحرب لأهدافها إشاعة الفوضى والاضطراب في أماكن محددة من العالم تحت مسمى "الفوضى الخلاقة أو البناءة" بقصد إيجاد مسوغ للتدخل بحجة إعادة ترتيب الأوضاع في تلك الأماكن ولكن بما يحقق الأهداف العدوانية ويخدم السياسات الطغيانية.

وهذه الحرب كما تعرض شعوب الدول المستهدفة لويلات كثيرة، فإنها تحمل أيضا شعوبها كثيرا من الصعاب كالزيادة الضخمة في ميزانيات التسليح، التي تثقل كاهل الميزانية العامة للدولة، وتستجلب كراهية شعوب الدول الأخرى لهم لاختيارهم لهؤلاء الحكام، مما يفقد أي مصداقية لحب شعوب هذه الدول للسلام أو العدالة.
ولا يرى المتابع أن الحرب الاستباقية تمثل حاجة حقيقية عند الدول المستبقة بالعدوان، بقدر ما تمثل شعورا زائدا بالقوة المفرطة التي لا تضارع، وعلى القدرة الكاملة في فعل ما تريد تلك الدول، من غير أن يحاسبها أحد على ما تفعله.
أما كيفية بداية الحرب الاستباقية والعمليات القتالية فتعتمد على المفاجأة القائمة على الغدر، وعدم الاعتداد باعتراف الدول بعضها ببعض، أو المعاهدات، أو المشاركة في هيئات تنص مواثيقها على عدم جواز اعتداء طرف من الأطراف الموقعين عليها على طرف آخر.
والحرب بين البشر والعدوان من شخص على شخص، أو جماعة على جماعة، أمر قديم قدم البشرية، وأول ما قام بين البشر من ذلك هو ما قصه الله تعالى علينا في كتابه من نبأ ابني آدم، حيث قتل أحدهما أخاه ظلما وعدوانا.

والحرب والمقاتلة بين البشر كانت وستظل ولن تنقطع في هذه الحياة؛ لأن أسبابها قائمة، وهو الطمع والجشع والرغبة في العلو على الآخرين، وما يقوم به الشيطان الرجيم من الوقيعة بين بني آدم، حيث يزين للكثيرين الكفر بالله العظيم، والعدوان على أولياء الله الصالحين.

وقد شرع الله في هذه الرسالة الخاتمة التي أرسل بها رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى العالمين الجهاد في سبيله، حيث يبدأ بدفاع المسلمين عن أنفسهم وأعراضهم وأموالهم وديارهم، برد الظلم عنهم كما قال الله تعالى: "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير" [الحج: 39]، وينتهي بقصد الكفار إلى ديارهم دعوةً لهم إلى دين الله تعالى رغبة في هدايتهم، وإخراجا للمستضعفين من تحت سلطان الطاغين، قال الله تعالى: "وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها"، [ النساء: 75] والكفار بعد ذلك ليسوا مكرهين على الدخول في الإسلام فإنه" لا إكراه في الدين"، [البقرة: 256] بل يقرروا من غير جبر ولا إكراه ماذا يختارون، أيبقون على دينهم أم يتحولون إلى دين الحق ويتركون الشرك الذي كانوا عليه؟ وقد كانت الحروب أو المعارك التي جرت وتجري بين المسلمين وبين غيرهم من الكفار والمشركين تحدث من قبل المسلمين وفق ضوابط محكومة بالشريعة التي أنزلها الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من غير عدوان على أحد ولا استعجال للمواجهة، ولا رغبة في العلو والاستطالة على خلق الله، ويتضح ذلك في أمرين: الأول:الهدف من الحرب، الثاني: كيفية نشوب الحرب وحدوث القتال الهدف من القتال في الإسلام:
فالهدف من القتال في الإسلام يتمثل في أمرين، يظهران من تسمية أنواع الجهاد، إذ الجهاد في الإسلام نوعان: جهاد الدفع، وجهاد الطلب.
أما جهاد الدفع: فالمراد به، ما يخوضه الجيش المسلم دفاعا عن الدين أو النفس أو العرض أو المال أو البلاد، ردا لعدوان الكفار وصيالهم على ديار المسلمين وحرماتهم، وهو من فروض الأعيان حيث يجب الدفع على الجميع رجالا ونساء وأما جهاد الطلب: فهو قصد الكفار إلى بلادهم دعوةً لله، ونشرًا لكلمة الحق وإعلاءً لكلمة التوحيد، وهو فرض على الكفاية إذا قام به بعض المسلمين سقط عن الباقين، ويتبين من هنا أن كلا نوعي الجهاد يهدف إلى الحفاظ على المسلمين وحمايتهم، وهداية الكفار إلى الإسلام وإخراجهم من الظلمات إلى النور رحمة بهم وشفقة عليهم، فليس في أي نوع من أنواع الجهاد في الإسلام علو في الأرض بالباطل ولا استطالة على عباد الله، ولا رغبة في نهب ثروات العباد أو سرقة لخيرات الشعوب ولا احتلال بلادهم، نتيجة لما يقع من الحسد في النفوس على ما أعطى الله لبعض خلقه من النعم، فقد قال الله تعالى: "تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا"، [القصص: 83] ، فكل من أسلم وقبل دعوة الله فقد أَمِنَ على دمه وماله وولده وأهله، وصار له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، فقد سأل ميمون بن سياه أنس بن مالك قال: يا أبا حمزة ما يحرم دم العبد وماله؟ فقال: "من شهد أن لا إله إلا الله، واستقبل قبلتنا وصلى صلاتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم له ما للمسلم وعليه ما على المسلم" .

وقد كان المسلمون يخرجون للجهاد بغرض هداية الناس ونقلهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم، وكانت هداية الناس من أحب الأشياء إليهم رغم ما يصيبهم من لأواء في ذلك،فعندما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله تعالى عنه إلى خيبر قال علي رضي الله تعالى عنه: نقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: « على رِسْلك حتى تنزل بساحتهم ، ثم ادعهم إلى الإسلام ، وأخبرهم بما يجب عليهم ، فوالله لأن يهدى بك رجل واحد خير لك من حمر النعم" .

ولم يكن لهم رغبة أو طمع فيما عند الناس من نعم أنعم الله بها عليهم، بل كانوا فيها من الزاهدين فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا رضي الله عنه إلى اليمن فقال « ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأنى رسول الله ، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة ، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم ، تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم " ، فبين هذا الحديث أن الدعوة لعبادة الله تعالى، وليست لعلو جنس على جنس آخر، كما أن الأموال (الصدقة) المأخوذة منهم عائدة لفقرائهم، وليس لإغناء شعوب على حساب أخرى، والحديث في هذه المعاني كثيرة.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال: « اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال - أو خلال - فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجرى عليهم حكم الله الذي يجرى على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم" ، فالغزو إنما يكون في سبيل الله تعالى ليس في سبيل العلو في الأرض ولا الاستطالة على الناس، وليس لنهب ثروات البلاد ولا لسرقة خيراتها، والقتال إنما يكون لمن كفر بالله تعالى وأبى المسالمة، وليس لمن ينافس المسلمين في القوة والانتاجية، ومن قَبِل دعوة الإسلام فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم، ومن أبي الإسلام فلا يكره على اعتناقه بل عليه أن لا يكون محاربا لهم بل مسالما، ويدلل على مسالمته عدم محاربته لدين الله ولعباد الله المسلمين بدفع الجزية التي تبين أنه ليس من المحاربين وهذه الأهداف النبيلة والغايات الحميدة من وراء شرع الجهاد لا تسوغ سلوك الأساليب والطرائق غير المشروعة، لذلك جاءت النصوص الصريحة بتحريم الغدر ولو في القتال ضد الأعداء ، فقد نهت النصوص الشرعية المسلمين عن الغدر إذا عاهدوا الكفار، كما ورد في الحديث السابق "ولا تغدروا"، كما حذرت من معرة الغدر يوم القيامة فقد قال صلى الله عليه وسلم: "إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء فقيل هذه غدرة فلان بن فلان " .

كما بينت النصوص أن المسلمين لا يفاجئون الكفار بالمقاتلة إلا إذا بلغتهم الدعوة قبل ذلك، ثم أبوا ما عرضه عليهم المسلمون من الحلول العادلة التي تحفظ الدماء، وأصروا على كونهم حربا للإسلام والمسلمين، فقد كتب ابن عون إلى نافع يسأله عن الدعاء قبل القتال، فكتب إليه ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون، وأنعامهم تسقى على الماء فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم وأصاب يومئذ جويرية"

قال النووي: " وفي هذا الحديث : جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم الدعوة من غير إنذار بالإغارة ، وفي هذه المسألة ثلاثة مذاهب حكاها المازري والقاضي:
أحدها : يجب الإنذار مطلقا ، قاله مالك وغيره . وهذا ضعيف .
والثاني : لا يجب مطلقا وهذا أضعف منه أو باطل .
والثالث : يجب إن لم تبلغهم الدعوة ، ولا يجب إن بلغتهم ، لكن يستحب ، وهذا هو الصحيح ، وبه قال نافع مولى ابن عمر ، والحسن البصري والثوري والليث والشافعي وأبو ثور وابن المنذر والجمهور ، قال ابن المنذر : وهو قول أكثر أهل العلم ، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على معناه" .

وقد أمرت النصوص الشرعية المسلمين بالوفاء بالعهد مع من عاهدهم المسلمون من الكفار ولم تبح لهم الغدر حتى في حالة خوف خيانة الكفار، ولكن أمرتهم إذا قامت لديهم الدلائل أو القرائن على خيانة الكفار أن يعلموهم بوضوح عن انتهاء العهد بينهم وبين المسلمين، حتى يكون الجميع على بينة من أمرهم، ولم تأمرهم في هذه الحالة بمقاتلة من تخاف خيانتهم ابتداء من غير نبذ العهود، قال الله تعالى: "وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين"، قال ابن كثير: " يقول تعالى لنبيه، صلوات الله وسلامه عليه: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ-قد عاهدتهم- خِيَانَةً -أي: نقضًا لما بينك وبينهم من المواثيق والعهود- فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ-أي: عهدهم- عَلَى سَوَاءٍ-أي: أعلمهم بأنك قد نقضت عهدهم حتى يبقى علمك وعلمهم بأنك حرب لهم، وهم حرب لك، وأنه لا عهد بينك وبينهم-على سواء- أي: تستوي أنت وهم في ذلك-إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ- أي: حتى ولو في حق الكفار، لا يحبها أيضًا "
وقد روى الإمام أحمد في مسنده: عن سليم بن عامر، قال: كان معاوية يسير في أرض الروم، وكان بينه وبينهم أمد، فأراد أن يدنو منهم، فإذا انقضى الأمد غزاهم، فإذا شيخ على دابة يقول: الله أكبر الله أكبر وفاء لا غدرا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ومن كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلَّنَّ عقدة ولا يشدها حتى ينقضي أمدها، أو ينبذ إليهم على سواء" قال: فبلغ ذلك معاوية، فرجع، وإذا الشيخ عمرو بن عبسة، رضي الله عنه" ، وفي هذا ما يبين احتراز الإسلام عن نقض العهود، "والحفاظ على التقيد بالعهود والمواثيق التي تربطها مع غيرها من الدول"
وكذلك حذرت النصوص من البغي فبينت أن مما أهلك أهل الكتاب من قبلنا بغيهم بينهم، فقال تعالى: ".وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم" [آل عمران: 19]، فبين أن البغي هو الذي أوقعهم في الخلاف، فـ"عن أبي بن كعب في قوله تعالى : "بغيا بينهم" يقول: بغيا على الدنيا ، وطلب ملكها وزخرفها وزينتها ، أيهم يكون له الملك والمهابة في الناس ، فبغى بعضهم على بعض، وضرب بعضهم رقاب بعض،وعن أبي العالية بغيا بينهم، يقول : بغيا على الدنيا ، وطلب ملكها وسلطانها ، فقتل بعضهم بعضا على الدنيا بعد ما كانوا علماء الناس" ، وقال تعالى: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون"[النحل: 90]قال ابن عباس في تفسيره: البغي، يقول: الكبر والظلم.قال الطبري: وأصل البغي: التعدي ومجاوزة القدر والحد من كل شيء" وقال القرطبي: " والبغى: هو الكبر والظلم والحقد والتعدى، وحقيقته تجاوز الحد، وهو داخل تحت المنكر، لكنه تعالى خصه بالذكر اهتماما به لشدة ضرره" ، فهذه بعض الأحكام والآداب التي تتعلق بالجهاد في شريعة الإسلام، ولا يمكن لأحد أن يلحظ فيما تقدم أي أثر لنزعة عدوانية عند المسلمين تجاه المخالفين لهم -وهي ما يمكن ترجمتها إلى الحرب الاستباقية- ، وإن كنا نجد في المقابل أن الشريعة تعتمد إعداد القوة المستطاعة التي ترهب العدو وتجعله يحجم عن مهاجمة المسلمين(التي يمكن تسميتها بالردع) بدلا من البغي والعدوان تحت مسمى الحرب الاستباقية، قال الله تعالى: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم" [الأنفال: 60] فالمطلوب من المسلمين إعداد ما استطاعوا من قوة لإخافة الأعداء حتى لا يقدموا على العدوان عليهم، وأخيرا فهذا جهادنا وهذه معاركنا وحروبنا، فكيف معاركهم وحروبهم هم؟ مع بعد الإنسانية عن الالتزام بالأخلاق الحميدة، وغلبة الأنانية والحسد على كثير من الدول المعاصرة، تخلت الكثير منها عن الضوابط التي ينبغي التقيد بها، فالأهداف المشروعة عند هؤلاء التي تبيح لهم شن الحرب وبدأ العمليات القتالية هي الرغبة في نهب ما عند الآخرين من الخيرات التي وهبهم الله إياها، أو الرغبة في احتكار القوة والاستطالة بها على الدول الأخرى، ومنعهم من امتلاك القوة التي يتمكنون بها من الحفاظ على إمكاناتهم والاستقلالية في اتخاذ قراراتهم، وهذه أمور واضحة من تصرفات تلك الدول التي تشعر أنها تمتلك من القوة ما لا يمكن أن يقاومه أحد، فاستطالت بذلك على الدول الأخرى واستضعفتها وبغت عليها تحقيقا لمآ ربها مع عدم الالتفات لمصالح الآخرين، فمنذ فترة قصيرة شنت أمريكا وبريطانيا وبعض الدول الغربية الأخرى حربا مدمرة على العراق على خلفية اتهامها بأنها تمتلك أسلحة دمار شامل، وجعلت حرمانها من امتلاك ذلك مسوغا مشروعا لشن الحرب عليها، ودشنوا هذا التصرف تحت مسمى الحرب الاستباقية، بل جعلت مجرد وجود نوايا لامتلاك هذه الأسلحة مسوغا لشن تلك الحرب، وعندما فشلت فرق التفتيش في العثور على أي أثر يفيد امتلاك العراق لهذه الأسلحة، خرجت التصريحات الأمريكية لتقول: "إن النية العراقية بإنتاج مثل هذه الأسلحة كافية لتبرير الحرب على العراق!"، وهذا يدلل على الرغبة في احتكار القوة وقهر من يحاولون منافسة أمريكا في أن يكون لهم وجود أو قوة خارج الارتباط بها، مما يبين الوجه الظالم والكالح لهذا المصطلح الذي يراد تعميمه ليحكم العلاقات بين الدول القوية والأخرى الضعيفة.

ومن عجيب الأمور أن هذه الدول الباغية المريدة للعلو في الأرض والفساد أنها تبذل كل وسعها في منع الدول الأخرى من تملك أسلحة الدمار الشامل (السلاح النووي) ثم عندما تشعر بعجزها عن تحقيق ذلك من خلال التخويف والتهديد أو من خلال الطرق الدبلوماسية نجدها تضع الاحتمالات لضرب تلك الدول بالأسلحة النووية لمنعها من تملك السلاح النووي، فهي تحرم على غيرها بالقهر والغلبة ما تبيحه لنفسها، من غير حياء في إعلان ذلك والتحدث به، وما زالت تلك الدول تجري البحوث المتعددة وتنفق عليها ملايين الدولارات من أجل تطوير السلاح النووي الذي تحرم على الآخرين امتلاكه، وتهدد من لا يستجيب لذلك المنع بشن الحرب عليه ولو باستخدام السلاح النووي.

فالحرب الاستباقية مصطلح استعماري (احتلالي) معاصر يهدف إلى العدوان على الدول الضعيفة عدوان الذئب الغادر على الحمل الضعيف، وهو يحمل في طياته عدة معاني منها البغي والاستطالة على الآخرين،تغيير عقائد الدول وثقافاتها لتكون تابعة للدول المعتدية، نهب الثروات وسرقة الخيرات، احتكار القوة ومنع الدول الأخرى من الحصول أو تصنيع السلاح الرادع الذي يخيف المعتدين ويردعهم، ومن خلال هذا الأمر فإننا نوجه نداء إلى من يعنيهم أمر الأمة أن عليهم الجد والاجتهاد في التمسك بدينهم والعمل به، وإعداد العدة حتى لا يكونوا لقمة سائغة لجشع الدول الباغية.

ويتبين من ذلك أن الأمة التي يكون الجهاد في سبيل الله أحد الفروض الدينية عندها، الأمة التي لا ترضى الضيم والذل والتي لا تقبل بالتبعية لمن يخالف دين الله، هي أعدى أعداء الدول الباغية المعتدية على الآخرين بقصد العلو، وهذا مما يبين أن الحرب بين الأمة الإسلامية وبين الدول صاحبة فكرة الحرب الاستباقية هي حرب على البقاء والوجود، والمواجهة بين من يمثلون المنهج الصحيح في فهم الإسلام منهج أهل السنة والجماعة وبين هذه الدولة مواجهة مفتوحة زمانا ومكانا، ولن يفل هذا الفكر المشبع بالعلو والاستطالة والعدوان على الآخرين إلا بترسيخ معاني الجهاد في نفوس أفراد الأمة على امتدادها،وإعداد العدة وعدم التهاون في ذلك، والاستعداد لوقت النزال الذي قد يأتي بأسرع مما نتصور.

ويرى المتابع لهذه الحرب الاستباقية أن الأهداف التي كانت ترجى من ورائها لم تتحقق كما أريد لها، وهي وإن كانت مكنتهم من القضاء على بعض الأنظمة، وسرقة الكثير من خيرات بعض الدول إلا أنها أتت بالضد من ذلك في كثير من الأمور، وهذا لأن الله تعالى لا يصلح عمل المفسدين.

فإذا قدر لهذه الحرب التي شنتها قوى البغي والعلو أن تحقق أهدافها أعاذنا الله من ذلك، فقد دخل العالم في نفق مظلم لا تدرى نهايته، أما إذا أخفقت هذه الحرب الظالمة وارتدت في نحور مشعلوها، وهذا ما نرجوه ونؤمله، فإن عصرا جديدا سوف يهب على العالم ترتفع فيه راية الإسلام بإذن الله تعالى.

وأخيرا فإن البغي على الناس والاستطالة عليهم عاقبته وخيمة، وكما في المثل المشهور: وعلى الباغي تدور الدوائر، فقد وردت النصوص أن البغي من الذنوب العظيمة التي يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة، فقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- « مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ تَعَالَى لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِى الدُّنْيَا - مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِى الآخِرَةِ - مِثْلُ الْبَغْىِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ"
وقد قال أبو أمامة لأنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: " أَلاَ تَرْكَبُ لِتَنْظُرَ وَلِتَعْتَبِرَ؟ قَالَ: نَعَمْ فَرَكِبُوا جَمِيعًا فَإِذَا هُمْ بِدِيَارٍ بَادَ أَهْلُهَا وَانْقَضَوْا وَفَنَوْا، خَاوِيَةً عَلَى عُرُوشِهَا فَقَالَ « أَتَعْرِفُ هَذِهِ الدِّيَارَ ». فَقُلْتُ مَا أَعْرَفَنِى بِهَا وَبِأَهْلِهَا هَذِهِ دِيَارُ قَوْمٍ أَهْلَكَهُمُ الْبَغْىُ وَالْحَسَدُ، إِنَّ الْحَسَدَ يُطْفِئُ نُورَ الْحَسَنَاتِ وَالْبَغْىُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ" ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذَنْبَانِ مُعَجَّلاَنِ لاَ يُؤَخَّرَانِ الْبَغْىُ وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ" وذلك أن الله تعالى قد وعد في كتابه بنصر المبغي عليه بقوله: " ثم بغى عليه لينصرنه الله" [الحج: 60] كما قال: "إنما بغيكم على أنفسكم" [يونس: 23] ونحن على ذلك ننتظر نقمة الله تعالى في أولئك الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق علوا واستطالة على عباد الله، وإن غدا لناظره قريب.

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
محمد الشريف
  • مقالات في الشريعة
  • السياسة الشرعية
  • كتب وبحوث
  • قضايا عامة
  • الصفحة الرئيسية