صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







وجاء عام جديد...آمال برغم الآلام

محمد بن شاكر الشريف

 
الحمد لله مصرف الأيام والدهور ومقلب الليل والنهار، والصلاة والسلام على البشير ‏النذير محمد بن عبد الله الذي أرسله ربه رحمة للعالمين أما بعد‏
فإن الجديد من كل شيء محبب إلى القلوب ومبهج للنفوس، تشتاق إليه وتأنس به، وذلك ‏بعكس القديم الذي غالبا ما تعافه النفوس، وتبتعد عنه، وقد أقبل علينا عامنا الجديد ‏بزهوته وجماله والذي يذكرنا بمناسبة من أهم وأعظم المناسبات التي مرت بها الأمة ‏الإسلامية، فهل يحمل إلينا عامنا الجديد أنباء مستقبلية سارة غير مجرد عطر الذكريات ‏الجميلة، هل يبزغ الفجر الذي طال انتظاره، وتتبوأ الأمة الإسلامية المكانة التي تليق بها، ‏وتتحرر شعوبها من كل ألوان الاستعباد المعلنة والمخفية.‏
‏ إن العام الهجري لم يكتسب قيمته إلا من خلال الحدث الفذ الذي ارتبط به، ألا ‏وهو هجر الديار والأوطان والأهل والخلان، قربة إلى الله تعالى وتقديم حبه ودينه ورسوله ‏على حب الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة والأموال والتجارات والمساكن، ‏‏"قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا ‏وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي ‏سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ" [التوبة :24]، لقد ‏كانت هجرة الرسول ‏ صلى الله عليه وسلم  من مكة إلى المدينة عملا إيجابيا وإعدادا للمواجهة التي لا بد ‏منها بين الحق وأهله وبين الباطل وأحزابه، ولم تكن عملا انسحابيا يؤثر الفرار على ‏المواجهة؛ إبقاء على المهج وضنا بالأرواح أن تزهق في سبيل الله، والأموال أن تنفق في ‏نصرة دينه وإعلاء كلمته.‏

كانت الهجرة الميمونة حدا فاصلا واضحا بين مرحلتين متمايزتين من مراحل الدعوة ‏الإسلامية :مرحلة كف الأيدي والصبر على الأذى رغبة في هداية الناس وجمع أكبر عدد ‏من الأنصار لرسالة الإسلام، ثم مرحلة الدفاع عن النفس ورد العدوان والمعاملة بالمثل، ‏والدعوة إلى الله بالجهاد في سبيله تعالى، وكان في هذا تعليما وتدريبا للأمة من بعدُ على ‏أهمية مراعاة الواقع وظروفه على أرض الحدث، بعيدا عن الأفكار النظرية التي لا تمتلك ‏رصيدا من الواقع أو التجربة، يؤهلها لقيادة المواجهة مع الجاهلية التي تتعدد صورها وتتباين ‏ألوانها على مدى التاريخ.‏


ظل رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  طيلة ثلاثة عشر عاما يدعو إلى الله تعالى في مكة المكرمة يصبر من ‏قومه على الأذى، ويحتمل منهم الصد والإعراض، لم يصبه من ذلك كلل أو ملل، ولم ‏يدفعه ذلك إلى سياسة حرق المراحل، أو القفز إلى نهاية الطريق من غير المرور على محطاته ‏المتتابعة، وقد كان في هذا دليل على أهمية حنكة القائد وخبرته، وعدم يأسه وقنوطه من ‏تحقق المطلوب، رغم الظلام الدامس الذي يغلف الأجواء، وكان في هذا أيضا دعوة إلى ‏الأمل المشرق بانبلاج الصبح بعد عتمة الليل، والثقة في وعد الله تعالى بالنصر والتمكين ‏وإن طال الزمن، وهذا يدفع المؤمن ويشحذ همته ويحمله على العمل الدائب، كما أن فيه ‏ما يشعر أن تأخر النصر قد يكون لحكمة تربية النفوس وتثبيت دعائم الإيمان وليس فقط ‏نتيجة للتقصير وعدم بذل الجهد المطلوب، فإن الله تعالى ينصر عباده الذين صدقوه ولا ‏يخذلهم ولا يسلمهم لأعدائهم، وأنهم لو تعرضوا لأمور طارئة تخرج عن قدراتهم فإن الله ‏تعالى يجعل لهم منها مخرجا، فإذا أُتي المسلمون فلن يؤتوا إلا من قبل أنفسهم، والتاريخ كله ‏شاهد على ذلك، فالله صادق في وعده ولا يخلف الميعاد كما قال تعالى :"وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ‏اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا ‏أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ‏وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ" [آل عمران:152]، وقال تعالى مقررا قاعدة ‏عامة تنطبق على كل أحد في كل وقت وفي كل مكان "وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً" ‏‏[الطلاق :3] فكل من كان متقيا لله عز وجل فإن الله قد وعده بالمخرج من الضيق الذي ‏هو فيه، وهذا مما يجعل الصف المجاهد في سبيل الله يحذر المعصية أشد الحذر، فمعصية الله ‏أشد على الجيش المجاهد في سبيله من أسلحة عدوه وإن كانت أسلحة قوية متطورة.‏

إن الهجرة لم تكن حدثا اضطراريا لجأ إليه المسلمون تخلصا من ظرف طارئ، بل ‏كانت حدثا قد خطط له ودُبِّر بعناية تامة كاملة سواء في أرض الحدث نفسه مكة المكرمة ‏أم في الأرض المستقبلة له المدينة المنورة، فلم يهاجر الرسول ‏ صلى الله عليه وسلم  إلى المدينة إلا بعد أن استقر ‏الإيمان في نفوس طائفة ليست بالقليلة من عظماء أهل المدينة وقادتهم، وقد كانوا بايعوه ‏من قبل على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأهليهم، وإذا كان التخطيط والتدبير قد ‏ظهرت دلائله في أرض المهجر، فإن الدلائل كانت أشد ظهورا في أرض الحدث نفسه مما ‏ينفي أن تكون الهجرة قد حدثت اضطرارا من غير روية أو تدبير.‏

كانت هجرة الرسول ‏ صلى الله عليه وسلم  مفعمة بالعظات والعبر فقد كان رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  يدعو في ‏مكة إلى طاعة ربه حتى ضيق أهلها عليه واتفقوا على قتله ليتخلصوا منه، بعد أن أخفقت ‏كل محاولاتهم من الإغراء أو التخويف والإيذاء، في إِثنائه عن تبليغ الدعوة التي ائتمنه الله ‏عز وجل عليها، ورغم أن الرسول ‏ صلى الله عليه وسلم  كان يدعو إلى ربه ولا يدعو إلى نفسه، ورغم أن ‏الله تعالى قد أخبره بما مكر به الذين كفروا وأذن له في الهجرة، لكن الرسول ‏ صلى الله عليه وسلم  لم يهاجر ‏إلا بعد أن أعد العدة وأحكم الخطة لذلك أيما إحكام، فذهب إلى أبي بكر رضي الله تعالى ‏عنه ليعلمه بأمر الهجرة في ساعة لم يكن يذهب إليه في مثلها حتى لا يفطن له أحد، وقال ‏له :أَخْرِج من عندك حتى يحافظ على سرية الأمر، ثم استأجر رجلا خريتا أي ماهرا ‏بالطرق ليكون دليله في الهجرة، وذهب في أول أمره في طريق اليمن ولم يذهب مباشرة في ‏طريق المدينة، حتى يموِّه على المشركين ويغطي عنهم وجهته، واختبأ في غار ثور ثلاثة أيام ‏حتى يهدأ الرَّصد ولم يواصل الرحلة، وكان يرسل من يأتيه بأخبار أهل مكة حتى يعرف ‏خطتهم ليتصرف وهو على علم بما يدبرون، ولم يقل :إن الله معي-وهو معه حقا-فلا ‏عليَّ أن آخذ بالأسباب، مما يبين أن العاملين لنصرة هذا الدين ينبغي عليهم الأخذ ‏بالأسباب المعينة لهم، وإلا كانوا مقصرين ومن كان مقصرا فلا يلومن إلا نفسه، وقد بين ‏الله تعالى أن رحمته قريب من المحسنين، فقال عز من قائل :"إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ ‏الْمُحْسِنِينَ" [الأعراف:56] فمن كان مقصرا فيما وجب عليه لم يكن من المحسنين.‏

وعندما أراد رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  أن يتجهز لهذا السفر البعيد عرض عليه أبو بكر رضي ‏الله تعالى عنه أن يعطيه دابة من عنده كان قد أعدها لمثل هذا اليوم، فأبى الرسول ‏ صلى الله عليه وسلم  ‏أخذها إلا بالثمن، تقول عائشة رضي الله تعالى عنها :"لقَلَّ يوم كان يأتي على النبي ‏ صلى الله عليه وسلم  ‏إلا يأتي فيه بيت أبي بكر أحد طرفي النهار، فلما أُذن له في الخروج إلى المدينة لم يرعنا إلا ‏وقد أتانا ظهرا، فخُبِّر به أبو بكر، فقال :ما جاءنا النبي ‏ صلى الله عليه وسلم  في هذه الساعة إلا لأمر ‏حدث، فلما دخل عليه قال لأبي بكر :أخرج من عندك، قال :يا رسول الله إنما هما ‏ابنتاي، يعني :عائشة وأسماء، قال :أشعرت أنه قد أُذن لي في الخروج؟ قال :الصحبة يا ‏رسول الله، قال :الصحبة، قال يا رسول الله :إن عندي ناقتين أعددتهما للخروج فخذ ‏إحداهما، قال :قد أخذتها بالثمن"‏ ، وفي هذا ما يرشد على أن الداعي إلى الله يتحمل ‏النفقات المادية التي تحتاج إليها دعوته ولا يحمل الآخرين حتى وإن بذلوها بطيب نفس، ما ‏دام قادرا على ذلك حتى يتحصل له الأجر الكامل ‏
‏ والعاملون لدين الله تعالى يأتيهم من فضل وكراماته لهم وقت الشدة ما يخرجهم به ‏من الورطات التي لا يملكون لها دفعا، لكن بعد أن يكونوا قد أخذوا بالأسباب المتاحة لهم ‏حتى لا يكونوا مقصرين، وقد حدث هذا في قصة الهجرة، فمع كل هذه الاحتياطات التي ‏أخذ بها الرسول ‏ صلى الله عليه وسلم  إلا أن المشركين قد تمكنوا في نهاية الأمر من خلال حملة الاستنفار غير ‏المسبوقة في البحث والتحري إلى أن يصلوا إلى مكان الغار الذي يختبئ فيه الرسول ‏ صلى الله عليه وسلم  ‏وصاحبه، ولو نظر أحدهم إلى أسفل قدميه لرآهما، وهنا يصرف الله تعالى أبصار المشركين ‏عن الرسول ‏ صلى الله عليه وسلم  وصاحبه، ويسجل القرآن هذا المشهد الفريد ورسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  يسري عن ‏أبي بكر ما أهمه، فيقول الله تعالى :"إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ‏اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ ‏بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ ‏حَكِيمٌ" [التوبة:40]، وبعدما عجزت قريش وأحست بعدم قدرتها على الوصول إلى رسول ‏الله ‏ صلى الله عليه وسلم  وصاحبه جعلت لمن يدل عليهما أو يقبض عليهما جائزة كبيرة، فأخذ الناس ‏يبحثون في كل واد وناحية، إلى أن تمكن أحد فرسان قريش من معرفة طريق الرسول ‏، ‏لكن الله تعالى منعه منه قبل أن يلحق به، ويَعِدُه الرسول إن رد الرصد عنهم بجائزة فوق ‏جائزة المشركين، يَعِده وهو في هذه الحالة بسواري كسرى ملك الفرس الذي كان يمثل ‏ملك إحدى القوتين العظميين في ذلك الزمان، وهذا درس تربوي عظيم من دروس الهجرة ‏فلا يكفي للمجاهد في سبيل الله سلامة المعتقد وحسن النية، والرغبة في نصر دين ‏الإسلام، بل لا بد من الأخذ بالأسباب التي خلقها الله تعالى، فما خلقها الله وجعلها ‏موصلة لمسبباتها إلا لكي يعمل بها الناس ويستفيدوا منها، وفي هذا درس آخر وهو بيان ‏حقيقة التوكل فإن رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  كان سيد المتوكلين، فالتوكل لا يعني إهمال الأسباب أو ‏تركها، بل يأخذ المسلم بكل الأسباب الممكنة ويتوكل على الله، لأن الأسباب قد لا تنتج ‏مسبباتها، فيحتاج المسلم إلى التوكل على الله في كل حين.‏

لقد كانت هجرة الرسول ‏ صلى الله عليه وسلم  في سبيل الله فتحا عظيما ونصرا كبيرا، نصرا على ‏شح النفس التي تميل دائما للارتباط بالأرض وعدم مغادرتها والتشبث بها، فكانت الهجرة ‏إعلاء لقيم الدين على قيم التعلق بالوطن، فإن التعلق بالأوطان قد يوقع المسلم فيما يعرضه ‏لسخط الله تعالى، فقد تمسك قوم من المسلمين الأوائل بالأوطان حتى منعتهم من الهجرة ‏في سبيل الله، وقد اضطرتهم قيادات المشركين للخروج في الجيش المشرك ليكثروا أعداد ‏المشركين في أعين المسلمين من غير أن يباشروا القتال حقيقة، فهم بذلك أقل ممن يعمل في ‏الخطوط الخلفية أو الشؤون الإدارية بكثير بل لا نسبة بينهم ومع ذلك أنزل الله تعالى فيهم ‏قوله :"إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي ‏الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ ‏مَصِيراً" [النساء:97]، وقد ضمن الله تبارك وتعالى لمن خرج من بيته مهاجرا إلى الله بدينه أن ‏يوسع عليه، وأن أجره لا يضيع حتى لو حال الموت بينه وبين الهجرة، قال الله تعالى :"وَمَن ‏يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى ‏اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً"[النساء ‏‏:100] .‏

كما كانت أيضا نصرا على الأعداء حيث تمكن الرسول ‏ صلى الله عليه وسلم  بهذه الهجرة الموفقة أن ‏يكسر الطوق الذي صنعه المشركون حول الدعوة، فتمكن من مقابلة الوفود من غير ‏مضايقات ودعوتهم إلى الله تعالى وهذا مصداق قوله تعالى :" يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً ‏كَثِيراً وَسَعَةً"، وتمكنت الدعوة في مدة قصيرة أن تحقق من الفتوحات والانتصارات ‏والاستجابة والانتشار ما لم يتحقق لها في مدة طويلة، حتى عمَّ الإسلام جزيرة العرب في ‏ما لا يزيد عن عشر سنوات.‏

‏ لقد ربَّىا رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  جيل المهاجرين الأُوَل على العطاء غير المحدود فلما أذن ‏لهم بالهجرة لم يتخلف عن ذلك أحد ممن آثر الله ورسوله والدار الآخرة، فلم يتعلق أحد ‏منهم بأهل أو أموال أو ديار وقد سجل القرآن الكريم هذا المشهد العظيم فقال تعالى ‏‏:"لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً ‏وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ" [الحشر :8]، والهجرة في سبيل الله شريعة محكمة ‏غير منسوخة بل هي قائمة ما دام هناك من المسلمين من يُحارب في دينه، فيخرج المسلم ‏إلى حيث يمكنه أن يعبد الله، قال رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  :"لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا ‏تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها"‏ ‏ وقال ‏ صلى الله عليه وسلم  :"لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو"‏ ‏ ‏وقال ‏ صلى الله عليه وسلم  :"ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم ..."‏ ‏.‏

وقد بلغ من مكانة الهجرة وموقعها في الدين أن الله تعالى قد قطع ولاية التناصر بين ‏المؤمنين وبين من آمن ولم يهاجر فقال تعالى :" َالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن ‏وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ ‏بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ"‏
إن حدث الهجرة يمثل معلما بارزا من معالم صناعة الأمة التي تستعلي بإيمانها على ‏كل الروابط التي من شأنها أن تكبل انطلاقة الأمة الكبرى نحو السمو والكمال، ولا ‏أحسب أن محاولة إعادة بناء الأمة لتحقق في عالم الواقع ما أنيط بها من المهام الجسام، ‏يمكن أن تتم إلا عبر بناء الجيل المتخلق بأخلاق المهاجر إلى الله ورسوله، فهل حان الوقت ‏لبروز هذا الجيل وتبوأ مكان الصدارة  .

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
محمد الشريف
  • مقالات في الشريعة
  • السياسة الشرعية
  • كتب وبحوث
  • قضايا عامة
  • الصفحة الرئيسية