بسم الله الرحمن الرحيم

الإجابة على أدلة المخالفين
 أولا : حديث البطاقة


اعتمد المخالف على أمرين :
الأول : بعض الأحاديث التي قد يفهم منها حصول النجاة في الآخرة لمن لم يعمل خيرا قط من أعمال الجوارح ، كحديث الجهنميين ، وحديث البطاقة ، وأحاديث الشفاعة بوجه عام .
الثاني : بعض النقولات عن أهل العلم ، والتي ظن أنها تعارض الإجماع السابق .
وأبدأ بالإجابة عن الأدلة ، وذلك بجوابين : مجمل ، ومفصل .
الجواب المجمل : وهو من وجهين :
الوجه الأول : قد تقرر في محله أن العصمة والنجاة في اتباع الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح ، وهذه إحدى الحقائق البينة الواضحة التي لا أراني محتاجا إلى الاستدلال لها أو التأكيد عليها .
ومن سبر أحوال الفرق المخالفة ، وتأمل طرق استدلالهم ، وجمل شبهاتهم ، علم أنهم أتوا من هذا الباب ، وهو استدلالهم بأدلة من القرآن والسنة ، فهموها على غير وجهها ، وحملوها على غير المراد منها ، وذلك حين راموا فهمها بعيدا عن فهم السلف الصالح لها .
ولهذا كان لزاما على من يستشهد بهذه الأحاديث العظيمة ، لا سيما في مسائل الاعتقاد ، أن ينظر إلى فهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لها ، وفهم التابعين لهم بإحسان ، من أهل القرون المفضلة .
ولا ينقضي عجبي حين أرى أناسا يدعون إلى التمسك بمنهج السلف الصالح ، وفهمهم ، وطريقتهم ، ثم هم يستدلون بأدلة : لم يسبقهم إلى الاستدلال بها صحابي أو تابعي ، مع مخالفتها للمنقول عن الصحابة والتابعين .
وأوضح مثال على ذلك مسألة تارك الصلاة ، فقد انقسم الناس فيها إلى فريقين :
فريق تمسك بالنصوص المصرحة بكفر تارك الصلاة ، التي يعضدها فهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وفهم جمهور السلف وأصحاب الحديث – كما يقول شيخ الإسلام - .
وفريق تمسك بأدلة عامة أو خارجة عن محل النزاع ، لم يسبق أن استدل بها صحابي أو تابعي على المعنى المراد إثباته .
ويزداد العجب حين يكون " السبق " إلى هذا الاستدلال سببا للفرح والشعور بالنعمة !
ونحن لا ننكر أن يفتح الله على أحد بشيء من الفهم والاستنباط لم يسبق إليه، لكن لا اعتداد بفهم يخالف فهم أولئك. فقف حيث وقف القوم.
وبعبارة واضحة : من من الصحابة أو التابعين فهم من حديث " البطاقة " أو أحاديث " الشفاعة " الحكم بإسلام تارك الصلاة ؟!
ومن من هؤلاء ، فهم من هذه الأحاديث نجاة تارك عمل الجوارح بالكلية ؟!
أمَا إنها أحاديث جاءت عن طريقهم .. هم حملتها ، وأوعيتها ، وهم أولى الناس بفهمها ومعرفة المراد منها .
إن كون هذه الأحاديث لم يتعرض لها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمناقشة ، ولم تشكل في حسهم صورة من صور التعارض مع النصوص الحاكمة بكفر تارك الصلاة ، ولم يذهب إليها منهم ذاهب .
إن ذلك يعني أن القوم فهموها فهما آخر ، مغايرا لفهم لمن أراد تقديمها على تلك النصوص الصريحة الصحيحة.
وحين يٌجمع السلف على أن الإيمان قول وعمل ، وأنه لا ينفع قول بلا عمل ، أو على أن الإيمان إقرار ومعرفة وعمل بالجوارح ، وأنه لا يجزيء الإقرار والمعرفة من غير عمل الجوارح.
ألا يعني ذلك أنهم لم يفهموا من هذه النصوص ، ما يفهمه منها المخالف الآن ؟
ألا يعني أن من حاول الاستدلال بها الآن – مع خروجه عن إجماعهم أيضا – أنه لا يأخذ بقاعدة : الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح؟
وفي هذا المقام ، أنقل كلمة رائعة سطرها الشيخ الدكتور عبد الله بن محمد القرني في كتابه ضوابط التكفير في مقدمة الطبعة الثانية قال:
" ومن هذه القواعد :
1- الوقوف مع إجماع السلف ، وعدم تجاوزه أو قبول الخلاف فيه بأي حال ، لان مخالفة إجماعهم يقتضي بالضرورة تخطئتهم ، وهم إنما أجمعوا على الأصول التي أجمعوا عليها بناء على نصوص كثيرة ، فلا يمكن أن يكون إجماعهم خطأ ، بل إن من يخالفهم لا بد أن يكون هو الذي أخطأ ، وأحدث في الدين ما ليس منه .
فإذا كان أهل السنة قد أجمعوا –مثلا- على أن الإيمان قول وعمل فإن مقتضى ذلك عندهم أن الكفر قد يكون بالعمل فلا يصح تقييد الكفر بمجرد الاعتقاد ...
كما أنه يلزم عن هذا الأصل تكفير التارك لجنس العمل ، وأن النجاة من عذاب الكفار لا تكون إلا بالعمل ، وقد نص العلماء على أن هذه هي حقيقة الفرق بين أهل السنة والمرجئة في هذا الباب ، ثم يأتي من يقول إن العمل كمالي للإيمان ، وأن النجاة من عذاب الكفار ممكنة بمجرد الإقرار ، ولو لم يعمل أي عمل ، ويدعي أن هذا هو مقتضى دلالة النصوص ، مع أن علماء أهل السنة قد بينوا دلالة تلك النصوص بما يوافق الأصول التي اتفقوا عليها ، فلم تشكل عليهم تلك النصوص فضلا عن أن يعارضوا بها الأصول المتفق عليها "
2- ضرورة أن يكون القول في أي مسألة مبنيا على النظر في جميع النصوص الواردة فيها ، والنظر في مجموع تلك النصوص وفق القواعد المقررة في أصول الفقه ، بحيث يتميز المطلق من المقيد والعام من الخاص ونحو ذلك ، مع الجزم بأن ما ذهب إليه السلف في فهم تلك النصوص والجمع بينها هو الحق. فلا يصح مثلا الحكم بأن حديث الشفاعة الوارد في الجهنميين نص في أن العمل كمالي للإيمان ، لما ورد فيه من أنهم دخلوا الجنة مع أنهم لم يعملوا خيرا قط ، مع أن السلف قد أجمعوا على أن العمل من الإيمان ، وأنه شرط للنجاة من عذاب الكفار ، ولم يشكل هذا الحديث على ما ذهبوا إليه ، بل فهموه بما يتفق مع ذلك الأصل . ومثله حديث البطاقة ، ونحوه من الأحاديث التي فيها البشارة بدخول الجنة أو تحريم النار على من قال لا إله إلا الله ، فإنها لم تشكل على السلف ، بل فهموها وفق النصوص الدالة على اشتراط العمل في الإيمان وكونه ركنا فيه ، وان النجاة من التخليد في النار لا تكون بدونه.) انتهى . ص 9- 11
الوجه الثاني : أن عامة ما استدلوا به في هذه المسألة لا يخرج عن أربعة أقسام ينطبق عليها ما قاله الشيخ ابن عثيمين رحمه الله وهو يناقش أدلة المانعين من تكفير تارك الصلاة ( الشرح الممتع 2/30) :
(
القسم الأول : ما لا دليل فيه أصلا للمسالة ، مثل استدلال بعضهم بقوله تعالى " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " فإن معنى قوله " ما دون ذلك " ما هو أقل من ذلك ، وليس معناه ما سوى ذلك ... والكفر المخرج عن الملة من الذنب الذي لا يغفر وإن لم يكن شركا ).
القسم الثاني : عام مخصوص بالأحاديث الدالة على كفر تارك الصلاة ، مثل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ بن جبل " ما من عبد يشهد أن لا اله إلا الله وان محمدا عبده ورسوله إلا حرمه الله على النار".
القسم الثالث : عام مقيد بما لا يمكن معه ترك الصلاة ، مثل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عتبان بن مالك " فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله " رواه البخاري ومسلم. و قوله صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ بن جبل " ما من عبد يشهد أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله صدقا من قلبه إلا حرمه الله على النار". ( فتقييد الإتيان بالشهادتين بإخلاص القصد وصدق القلب يمنعه من ترك الصلاة ؛ إذ ما من شخص يصدق في ذلك ويخلص إلا حمله صدقه وإخلاصه على فعل الصلاة ولا بد ، فإن الصلاة عمود الإسلام ، وهي الصلة بين العبد وربه ، فإذا كان صادقا في ابتغاء وجه الله ، فلا بد أن يفعل ما يوصله إلى ذلك ، ويتجنب ما يحول بينه وبينه ، وكذلك من شهد أن لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله صدقا من قلبه فلابد أن يحمله ذلك الصدق على أداء الصلاة مخلصا بها لله تعالى متبعا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن ذلك من مستلزمات تلك الشهادة الصادقة.
القسم الرابع : ما ورد مقيدا بحال يعذر فيها بترك الصلاة _ وذكر الشيخ حديث حذيفة " يدرس وشي الإسلام "_ ثم قال : فإن هؤلاء الذين أنجتهم الكلمة من النار كانوا معذورين بترك شرائع الإسلام لأنهم لا يدرون عنها ، فما قاموا به هو غاية ما يقدرون عليه ، وحالهم تشبه حال من ماتوا قبل فرض الشرائع ،
أو قبل أن يتمكنوا من فعلها ، كمن مات عقيب شهادته قبل أن يتمكن من فعل الشرائع ، أو أسلم في دار الكفر قبل أن يتمكن من العلم بالشرائع). انتهى كلام الشيخ ابن عثيمين رحمه الله .
الجواب المفصل :
1- حديث البطاقة : عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يصاح برجل من أمتي يوم القيامة على رءوس الخلائق فينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل مد البصر ثم يقول الله عز وجل: هل تنكر من هذا شيئا؟ فيقول: لا يا رب . فيقول: أظلمك كتبتي الحافظون؟ ثم يقول: ألك عن ذلك حسنة؟ فيهاب الرجل فيقول: لا . فيقول : بلى إن لك عندنا حسنات وإنه لا ظلم عليك اليوم . فتخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. قال: فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول: إنك لا تظلم ، فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ".
رواه أحمد والترمذي وابن ماجة واللفظ له ، والحاكم وصححه الألباني.
قالوا - والكلام للأخ أحمد بن صالح الزهراني في كتابه ضبط الضوابط ص 69 - : " وفي الحديث إشارة إلى أنه ليس معه من الصالحات غير شهادة التوحيد ، هذا هو القطع لأنه لم يذكر شيء غيره . ومن قال : إن معه أعمال أخرى فعليه أن يتوب إلى الله إذ هو استدراك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ... الخ ".
واعترف الزهراني بأن هذه " الشهادة " كانت مقرونة
بالصدق والإخلاص ، وأنه ليس كل واحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يفعل به ذلك ، وإنما سيكون هذا لرجل من أمته . وقال : " وكل واحد منهم معه مثل هذه البطاقة ، والنبي صلى الله عليه وسلم حكى عن رجل من أمته وليس عن كل أحد " .
وقال " فهذا الرجل مات وهو يشهد هذه الشهادة العظيمة بصدق وإخلاص قام في قلبه رجح بكل تلك السجلات " . ص 68
وقال الأخ خالد العنبري في أصل كتابه " الحكم بغير ما أنزل الله " 1/205 ، متحدثا عن صاحب البطاقة " ...
ولم يأت بصلاة ولا زكاة ولا صيام ولا حج ، بيد أن لسانه نطق بالشهادة وصدق بها قلبه واعتقد الإسلام ، ولم يجحد منه شيئا ، فشاء ربنا جل شأنه أن يغفر له غدراته وفجراته ، ويتجاوز عن هناته وهفواته . فلو كان ترك المباني والأعمال كسلا ، وتهاونا كفرا مخرجا من الملة ، ما أقال الله عثرته ولا اغتفر جريمته" انتهى .
والجواب من وجوه :
الأول :
أن يقال : صاحب البطاقة إما أن يكون قد أتى بالقول المجرد ، من غير صدق أو إخلاص أو يقين . وهذا باطل . وهو خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام . كما قال ابن القيم رحمه الله ( مدارج السالكين 1/339)
وإما أن يكون أتى بالنطق مع الإخلاص والصدق واليقين . وحينئذ فيمتنع أن يترك الصلاة . ويكون هذا الحديث داخلا في القسم الثالث الذي ذكره الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : ( عام مقيد بما لا يمكن معه ترك الصلاة).
الوجه الثاني :
أن الجزم بأن هذا الرجل لم يأت بصلاة ولا زكاة ولا صيام ولا حج : لا يصح . وليس في الحديث ما يصرح بذلك . بل في ألفاظ الحديث ما يشعر بوجود العمل .
ففي رواية ابن ماجة السابقة - وهي التي ذكرها العنبري في كتابه - : فيقول الله عز وجل : بلى إن لك عندنا
حسنات ، وإنه لا ظلم عليك ، فتخرج له بطاقة " الحديث . فقوله تعالى : وإن لك عندنا حسنات يشعر بوجود العمل ، ولعظم جنايات الرجل وكثرة سجلاته ( تسعة وتسعون سجلا ) يتهيب أن يجيب ربه بنعم ، حين يسأله : ألك عذر أو حسنة ، فيهاب الرجل فيقول : لا ، يارب".
والمثبت في الحديث هو وجود سجلات الذنوب ، ولهذا كان من دقة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تصريحه بأن الله غفر له بهذه البطاقة
كبائر
قال في منهاج السنة 6/218
(فالمحو والتكفير يقع بما يتقبل من الأعمال وأكثر الناس يقصرون في الحسنات حتى في نفس صلاتهم فالسعيد منهم من يكتب له نصفها وهم يفعلون السيئات كثيرا، فلهذا يكفر بما يقبل من الصلوات الخمس شيء ، وبما يقبل من الجمعة شيء ، وبما يقبل من صيام رمضان شيء آخر ، وكذلك سائرالأعمال. وليس كل حسنة تمحو كل سيئة ، بل المحو يكون للصغائر تارة ويكون للكبائر تارة باعتبار الموازنة .
والنوع الواحد من العمل قد يفعله الإنسان على وجه يكمل فيه إخلاصه وعبوديته لله فيغفر الله له به كبائر كما في الترمذي وابن ماجه وغيرهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يصاح برجل من أمتي يوم القيامة على رؤوس الخلائق ...) وذكر الحديث ، ثم قال : ( فهذه حال من قالها بإخلاص وصدق كما قالها هذا الشخص وإلا فأهل الكبائر الذين دخلوا النار كلهم كانوا يقولون لا إله إلا الله ولم يترجح قولهم على سيئاتهم كما ترجح قول صاحب البطاقة ).
الوجه الثالث :
أنه ليس في الحديث ذكر لإخلاص الرجل أو صدقه ، فإضافة الزهراني أو العنبري لذلك استدراك على النبي صلى الله عليه وسلم – حسب تأصيل الزهراني - .
فإن قالوا : استفيد هذا القيد من النصوص الأخرى التي تقيد الانتفاع بالشهادة بوجود الإخلاص والصدق . قيل لهم : واستفيد وجود الصلاة من النصوص التي قضت بكفر تاركها ، والنصوص التي أخبرت بكون النار لا تأكل مواضع السجود ، والنصوص التي دلت على أنه لا يبقى – بعد هلاك الكفار واليهود والنصارى – إلا من كان " يسجد لله " إخلاصا أو نفاقا .
بل استفيد وجود الصلاة من هذا القيد الذي أثبتموه ( الإخلاص والصدق ) .
كما سبق عن الشيخ ابن عثيمين قوله (فتقييد الإتيان بالشهادتين بإخلاص القصد وصدق القلب يمنعه من ترك الصلاة).
الوجه الرابع :
أن الزهراني مقر بأنه ليس كل أحد من أمة محمد يٌفعل به كذلك .
وقوله هذا حق ، فإن كل مسلم معه هذه البطاقة ،
ولو كان هذا الحكم عاما للزم أن لا يدخل أحد من العصاة النار !! وهذا باطل قطعا ، فإن النصوص دلت على دخول أناس من أمة محمد صلى الله عليه وسلم النار ، ثم يخرجون منها بالشفاعة أو بعد التهذيب والتنقية.
قال ابن القيم في ( مدارج السالكين 1/340 ):
( ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة وكثير منهم يدخل النار بذنوبه ، ولكن السر الذي ثقل بطاقة ذلك الرجل ، وطاشت لأجله السجلات ، لما لم يحصل لغيره من أرباب البطاقات ، انفردت البطاقة بالثقل والرزانة).
وإذن فكيف ترد النصوص الصريحة في كفر تارك الصلاة ، وكيف يرد الإجماع السلفي المصرح بأنه لا يجزيء القول والتصديق إلا بالعمل ، لأجل حالة خاصة لا تحدث لكل أحد !
الوجه الخامس :
أنه قد نقل عن جماعة من الصحابة القول بكفر تارك الصلاة ، وحكي على ذلك إجماعهم ، دون أن يشكل عليهم هذا الحديث ، أو يتأولوا النصوص لأجله.
الوجه السادس :
ما ذكره الشيخ الفوزان حفظه الله جوابا لمن استدل بهذا الحديث على عدم تكفير تارك الصلاة وأنه من غير المعقول أن شخصا يصلي وليس له حسنات .
قال الشيخ حفظه الله ( ... فهذا الحديث الشريف فيه أن التوحيد يكفر الله به الخطايا التي لا تقتضي الردة والخروج من الإسلام ، أما الأعمال التي تقتضي الردة فإنها تناقض كلمة التوحيد وتصبح لفظا مجردا لا معنى له ..." المنتقى 2/10

والحاصل : أنه لا يخرج الجواب عن أمرين :
الأمر الأول : أن يقال :إنه رجل مصل ، فلم يترك عمل الجوارح بالكلية ، فخرج هذا الدليل عن محل النزاع .
ونسبة الصلاة إليه مبنية على أمرين :
الأول : كون هذه الشهادة لا بد فيهالا من الإخلاص والصدق واليقين ومن حصل له ذلك لم يتصور تركه للصلاة .
والثاني : أن النصوص دلت على أن ترك الصلاة كفر ، وأن كلمة الشهادة لا نفع لها مع وجود الكفر ، فلزم أنه من أهل الصلاة.
والأمر الثاني : أن يقال : إنها حالة خاصة ، وقضية عين ، لا يرد لها إجماع الصحابة على أن الإيمان قول وعمل ونية وأنه لا يجزيء واحد من الثلاثة إلا بالآخر ، وإجماعهم على أن تارك الصلاة كافر.
وبيان هذه الحالة الخاصة ، يتضح بالوجه السابع والأخير :
الوجه السابع :
أنه يمكن حمل هذا الحديث على رجل مسرف على نفسه ، مفرط في حق ربه ، اقترف ما اقترف من الآثام والأوزار ، ثم قال : لا إله إلا الله ، بصدق وإخلاص ويقين ،
دون أن يتوب من ذنبوبه السابقة ، ثم مات على ذلك . وهذا هو تأويل شيخ الإسلام لحديث البطاقة ، ويأتي لفظه .
وتنبه لقولي : دون أن يتوب من ذنوبه السابقة ، لأنه لو تاب منها لبدلت حسنات ، كما أخبر الله تعالى في كتابه .
أما كلام شيخ الإسلام فنقله الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في كتابه :
تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد ص 88 ( في شرح حديث عتبان بن مالك ).
ونقله الشيخ عبد الرحمن بن حسن في فتح المجيد أيضا.
قال في التيسير : بعد ذكر الأحاديث في فضل الشهادتين : ( وأحسن ما قيل في معناه ،
ما قاله شيخ الإسلام وغيره : إن هذه الأحاديث إنما هي فيمن قالها ومات عليها كما جاءت مقيدة ، وقالها خالصا من قلبه مستيقنا بها قلبه ، غير شاك فيها ، بصدق ويقين ... وحينئذ فلا منافاه بين الأحاديث فانه إذا قالها بإخلاص ويقين تام لم يكن في هذه الحال مصرا على ذنب أصلا فإن كمال إخلاصه ويقينه يوجب أن يكون الله أحب إليه من كل شيء فإذا لا يبقى في قلبه إرادة لما حرم الله ولا كراهية لما أمر الله .
وهذا هو الذي يحرم من النار وإن كانت له ذنوب قبل ذلك فإن هذا الإيمان وهذه التوبة وهذا الإخلاص وهذه المحبة وهذا اليقين لا يتركون له ذنبا إلا يمحى كما يمحى الليل بالنهار.
فإذا قالها على وجه الكمال المانع من الشرك الأكبر والأصغر فهذا غير مصر على ذنب أصلا فيغفر له ويحرم على النار.
وإن قالها على وجه خلص به من الشرك الأكبر دون الأصغر ولم يأت بعدها بما يناقض ذلك فهذه الحسنة لا يقاومها شيء من السيئات ، فيرجح بها ميزان الحسنات كما في حديث البطاقة فيحرم على النار ولكن تنقص درجته في الجنة بقدر ذنوبه. وهذا بخلاف من رجحت سيئاته على حسناته ومات مصرا على ذلك فإنه يستوجب النار.
وإن قال لا إله إلا الله وخلص بها من الشرك الأكبر
لكنه لم يمت على ذلك بل أتى بعد ذلك بسيئات رجحت على حسنة توحيده ، فإنه في حال قولها كان مخلصا لكنه أتى بذنوب أوهنت ذلك التوحيد والإخلاص فأضعفته ، وقويت نار الذنوب حتى أحرقت ذلك .
بخلاف المخلص المستيقن فإن حسناته لا تكون إلا راجحة على سيئاته ولا يكون مصرا على سيئة فإن مات على ذلك دخل الجنة ... والذين يدخلون النار ممن يقولها قد فاتهم أحد هذين الشرطين:
إما أنهم لم يقولها بالصدق واليقين التامين المنافيين للسيئات أو لرجحان السيئات.
أو قالوها واكتسبوا بعد ذلك سيئات رجحت على حسناتهم ثم ضعف لذلك صدقهم ويقينهم ، ثم لم يقولوها بعد ذلك بصدق ويقين تام ، لأن الذنوب قد أضعف ذلك الصدق واليقين من قلوبهم ، فقولها من مثل هؤلاء لا يقوى على محو السيئات بل ترجح سيئاتهم على حسناتهم.
انتهى ملخصا وقد ذكر معناه غيره كابن القيم وابن رجب والمنذري والقاضي عياض وغيرهم ) انتهى من تيسير العزيز الحميد.
وهنا إشكال حاصله : أن الكبائر لا تمحى إلا بالتوبة ، فكيف يقال : إنه لم يتب ، وإنما قال الشهادة بصدق وإخلاص ، فغفر الله .
والجواب : أن من "الأعمال و الحسنات" ما تغفر به الكبائر والصغائر- وإن لم تحصل التوبة من الكبائر .
وقد بين ذلك شيخ الإسلام رحمه الله
بخمسة أوجه ، انظرها في مجموع الفتاوى 14/489
ومن كلامه رحمه الله : (وسؤالهم على هذا الوجه أن يقولوا الحسنات: إنما تكفر الصغائر فقط فأما الكبائر فلا تغفر إلا بالتوبة كما قد جاء في بعض الأحاديث:" ما اجتنبت الكبائر " فيجاب عن هذا بوجوه :
أحدها : أن هذا الشرط جاء فى الفرائض كالصلوات الخمس والجمعة وصيام رمضان وذلك أن الله تعالى يقول: " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم". فالفرائض مع ترك الكبائر مقتضية لتكفير السيئات.
وأما الأعمال الزائدة من التطوعات فلابد أن يكون لها ثواب آخر فان الله سبحانه يقول : " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ".
الثاني : أنه قد جاء التصريح فى كثير من الأحاديث بأن المغفرة قد تكون مع الكبائر كما في قوله: " غفر له وإن كان فر من الزحف ". وفى السنن: " أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى صاحب لنا قد أوجب فقال اعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار". وفى الصحيحين في حديث أبى ذر : " وان زنا وإن سرق".
الثالث: أن قوله لأهل بدر ونحوهم : " اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" إن حمل على الصغائر أو على المغفرة مع التوبة لم يكن فرق بينهم وبين غيرهم.
فكما لا يجوز حمل الحديث على الكفر؛ لما قد علم أن الكفر لا يغفر إلا بالتوبة، لا يجوز حمله على مجرد الصغائر المكفرة باجتناب الكبائر..." .
ومما يؤكد ما قدمت من حمل الحديث على رجل لم يتب من ذنوبه ... الخ : قول شيخ الإسلام في هذا المبحث ، بعد أن ذكر أن عقوبة الذنب تزول عن العبد بنحو عشرة أسباب ، أحدها التوبة ، والسبب الثاني الاستغفار :
( وقد يقال على هذا الوجه: الاستغفار هو مع التوبة ، كما جاء فى حديث : "ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم مائة مرة".
و
قد يقال بل الاستغفار بدون التوبة ممكن واقع ، وبسط هذا له موضع آخر، فإن هذا الاستغفار إذا كان مع التوبة مما يحكم به ، عام في كل تائب.
وإن لم يكن مع التوبة فيكون في حق بعض المستغفرين الذين قد يحصل لهم عند الاستغفار من الخشية والإنابة ما يمحو الذنوب كما في حديث البطاقة ، بأن قول لا إله إلا الله ثقلت بتلك السيئات لما قالها بنوع من الصدق والإخلاص الذي يمحو السيئات ، وكما غفر للبغي بسقي الكلب لما حصل في قلبها إذ ذاك من الإيمان . وأمثال ذلك كثير). انتهى .
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .

الإجابة على أدلة المخالفين .. ثانيا : حديث " لم يعملوا خيرا قط "

كتبه ... الموحد