صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







أسباب انتقال شيخ الاسلام محمد بن عبدالوهاب
ـ رحمه الله ـ من حريملاء إلى العيينة .

محمد بن حسن المبارك


الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على أشرف المرسلين ، نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين ، و بعـد .

فقد روى ابن بشر رحمه الله في تاريخه ـ الذي انتهى فيه إلى حوادث عام 1267هـ ـ سبب انتقال الشيخ محمد بن عبدالوهاب من حريملاء إلى العيينة عام 1157هـ قائلاً :

( و كان في البلد عبيدٌ لإحدى القبيلتين كثيرٌ تعـدِّيهم و فسقهم ، فأراد الشيخ أن يُمنعوا عن الفساد و ينفُـذَ فيهم الأمرُ بالمعروف و النهي عن المنكر ، فهمَّ العبيد أن يفتكوا بالشيخ و يقتلوه بالليل سراًّ ، فلمَّـا تسوَّروا عليه الجـدار علم بهم أناسٌ فصاحوا عليهم فهربوا ، فانتقل الشيخ بعدها إلى العيينة) ، و لم يُسَـمِّ العـبيد المذكورين .

وسمَّـاهُم الحيدري العـراقي في تاريخه الذي انتهى منه عام 1286هـ ( بالحـمـيَّان ) ، و يظهر أنه ينقل عن تاريخ ابن بشر في مبيضته الأولى .

ـ بينما لم يروِ ابن غنام تلميذ الشيخ محمد بن عبدالوهاب و معاصره ،والمؤرخ الأول للدعوة الإصلاحية في تاريخه "روضة الأفكاروالأفهام " هذه الرواية ، بل ذكر سبباً آخر لانتقال الشيخ قائلاً :
( ثم بعد ذلك عزم على المسير عنها و الارتحال ، والإقامة بالعيينة ، فجـدَّ بالرحيل و الانتقال ، و ذلك بعد أن هدى الله ابن معمر لقبول هذا الدين ) ، كما في الطبعة الأولى و التي طبعت في الهند عام 1337هـ .
والعـجيب أنَّ ناصر الدين الأسـد محقق الطبعات اللاحقة لتاريخ ابن غنام ــ و الذي أعاد صياغته من جديد تحاشياً لأسلوب الترصيع و السجع الذي انتهجه ابن غنام لدى كتابة تاريخه ـ أدرج قصَّـةَ العبيد المذكورين على لِسـان ابن غَـنّ‍َام الذي لم يذكرها أصلاً .

و لا يخفى عدم صحة هذه الرواية التي أوردها ابن بشر ، فدعاة الحق و الاصلاح "ـ مُذ كانوا ـ يجابهون بأعظم من هذا فيصبرون ، و يزدادون قوةُ و عزماً ، فلذلك يترجح لدى الباحث المتأمل عدم صحة هذه الرواية لعدة أمور ، منها :

1 ـ أنَّ الشيخ ابن غنام لم يذكر هذه القصّـة في تاريخه كما ذكرنا ، و هو من أخص تلاميذه و المؤرخ المعاصر له .

2 ـ أنَّ هذه القصَّـة لم يذكرها أحدٌ من المؤرخين قبل ابن بشرالمتوفي عام 1290هـ .
3 ـ أن الشيخ ابن غنام ذكر سبباً آخر لانتقال الشيخ من حريملاء ، و هو هداية الله عز و جل لابن معمر لدخول هذا الدين ، و هو أمير العيينة قصبة نجد آنذاك ، وأكبر بلدانها .

4ـ انقطاع سند هذه القصَّـة لأنَّ الشيخ ابن بشر يروي هذه القصَّـة مرسلةً عن بواكير دعوة شيخ الاسلام محمد بن عبدالوهاب ، و لم يتابع فيها أحداً من المؤرخين ، بل هو أول رواتها ، و هو غير معاصر للشيخ كما هو معلوم .

5 ـ أنَّ الشيخ ابن بشر رحمه الله تساهل في ذكر ما لم يثبت عنده من الروايات عن نشأة الدعوة و بداياتها ، يحدوه في ذلك إيمان عميق و اهتمام خاصَّ بكل ما يُظهِـر ما عاناه الشيخ رحمه الله في سبيل الدعوة .

6 ـ رجوع الشيخ ابن بشر عن بعض تلك الروايات ، و هي رواية خروج الشيخ من العيينة و محاولة ابن معمَّر التخلص منه ، فقـد ذكر في المبيضة الثانية لتاريخه عدولَه عن هذه الرواية عندما تبين له عدم صحتها، فقال : ( اعلم رحمك الله أني ذكرتُ في المبيضة الأولى أشياء نقلت لي عن عثمان بن معمر و فرسانه ، أنه أمرهم بقتل الشيخ في الطريق و غير ذلك ، ثم تحقق عندي أنه ليس لها أصلاً بالكليَّة فطرحتها من المبيَّضة ) ، وهذا ممَّـا يدلُّ على توخِّـي ابن بشـر رحمه الله للحقيقة في كل ما يرويه .

7 ـ أنه لا تُعـرف أسرةٌ في حريملاء باسم ( الحميَّان ) كما أسماهم الحيدري في تاريخه نقلاً عن ابن بشر ، و هذا يدل على ضعف الرواية المذكورة .

8 ـ أن بلدة حريملاء كانت مناصرةً للشيخ إبَّان إقامته فيها ، بل وكانت موئلاً لدعوته الاصلاحية ، و ألَّف فيها كتابه القيم ( التوحيد ) و الذي شنَّ فيه على أهل البدع و الشرك ، فما بال هؤلاء العبيد المذكورين يؤذون الشيخ رحمه الله ، حتى يلجؤوه إلى الخروج من البلدة ، و هذا يجرُّنا إلى التطرق إلى الحـالة الدينية في بلدة حريملاء .

ـ فأولاً قبل دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب :

لم ينتقد الشيخ رحمه الله في رسائله الدعوية و آثاره العـقدية أية مظاهر شركية في بلدة حريملاء ، فلم يذكر أن فيها أوثاناً أو أضرحة أو غيرها من نواقض التوحيد ، كما انتقد ذلك في كثيرٍ من بلدان نجد ، بل يدل حديث شيخ الاسلام نفسه عن حريملاء في كتابه " مفيد المستفيد " على أنها كانت بمنأى عن مظاهر الوثنيَّة التي ظهرت في بعض قرى الجزيرة العربية .

ـ ثانياً : عند إقامة شيخ الاسلام رحمه الله في حريملاء :

قال ابن غنام : ( ثم رجع بعد ذلك السفر ، فإذا والده عبدالوهاب قد رفض سكنى العيينة وهجر ، و اختار سكنى حريملاء ، فأقام بها و استقر ، فأقام مع أبيه ، يعلن بالتوحيد و يبديه ، و ينادي بإبطال دعوة غير الله و يغشيه ، و ينصح من عدل عن الحق و الرشاد ، و يسلك في ذلك سبيل السداد ، و يزجر الناس عن الشرك و الباطل و الفساد حتى رفع الله شأنه فسـاد ـــ حتى بدا له في أفق تلك البلدة طالع القبول و لمع فيه بارق سيف الحق المسلول و انحط ذُرى الضلال و انقطع حبله الموصول ـ فانتظم في سلك الإمام رجالٌ و عصابةٌ فحول ، فاتخذوه جليسـاً و أنيسـاً ، و اقتدوا به في كلِّ ما يقول ، فكانوا لطريقته المثلى متبعين ، و بأقواله و أفعاله مقتدين و بهديه الواضح مهتدين ، لا يزالون معه في إخلاص الدعوة مشمرين ، و في إدحاض الباطل و أهله مجتهدين ، و بإيضاح مناهج الشرك معلنين ، و فيما يرضي الله مسرعين ، و لأهل الدين و الحق مكرمين ، و لأهل الضلال موهـنين ـــ قائمين في ذلك لرب العالمين و لوجهه الكريم محتسبين ــ و كان هؤلاء الرجال ملازمين للشيخ في جميع الأحوال ، و كان في تعليمهم و ارشادهم لا يزال ، فقرؤوا عليه كتب الحديث و الفقه و التفسير ، و حقق لهم ذلك أتم التحقيق و التحرير.) .
و كانت حريملاء أيضاً ترحِّـب بالوفود التي تقدُمُ حريملاء مؤازرةً الشيخَ و ناهلةً من بحر علمه الغزيز .
ـ يقول ابن غنام : ( و كان رحمه الله في تلك المُـدَّة يروِّعُ كلَّ معاند ، و معارض ، فاشتُهِـر حـالُه في جميع بلدان العارض ، في حريملاء و العيينة و الدرعية و الرياض و منفوحة ، فلم يكن لبعضهم عن اتباع ذلك الحق مندوحة ـ فأتى إليه ناسٌ كثير ، و انحـازَ إلى دعوته جمٌّ غفير ) .

إلى أن قال : ( و أقام رحمه الله تعالى و أفاض عليه برَّه ووالى ، في بلد حريملاء سنين ينشر أعلام التوحيد ، و يبدي في المحافل الدر النضيد و جوهر الحق الفريد ، و صنف في تلك المدَّة كتاب التوحيد ، و نشر أعلامه ثم بعد ذلك عزم على المسير عنها و الارتحال والإقامة بالعيينة ، فجـدَّ بالرحيل و الانتقال ، و ذلك بعد أن هدى الله ابن معمر لقبول هذا الدين ) .

ـ ثالثا ـ بعد انتقال شيخ الاسلام إلى العيينة فالدرعيَّة ـ :

كانت حريملاء هي أول بلدة بايعت الشيخ محمد بن عبدالوهاب بعد انتقاله إلى الدرعيَّة ، و كان ذلك طوعاً عام 1158هـ ، لما انتقلت دعوة الشيخ من القوة إلى الفعل ، فكانت بلدة حريملاء هي السباقة في هذه المرحلة كما كانت في المرحلة السابقة ، و ساهمت حريملاء بقوَّة و تضحية في غزوات الجهاد التي قادتها الدرعية ضدَّ البلدان التي لم تستجب للدعوة الاصلاحية.

ففي ربيع الأول من عام 1160 هـ كانت وقعة(دلقة) بين الإمامِ محمدٍ بن سعود ودهامِ بن دواس وقُـتِل فيها من أهلِ حُـريملاء التي تجندت للدعوة السلفية سليمانُ الزيـر وحمـودُ بن حسين بن داود ، وحسن الثميري ، و( أبو منيس) حمدُ بن محمد بن سليمان آل راشد الذي التقى بدهام و تمكَّن منه لولا أنه أُغـتِيلَ مِن خلفه .
وفي عام 1161هـ حَـصَلت وقعة (البنيَّة) لمَّـا سارَ المسلمون إلى الرياض لمقاتلة دهام ، وافترقوا فِرقتين ، فعَمَدَت فرقةٌ إلى (صِياحٍ) ودخَلوه ، وعَـمَدَ أهلُ عِـرقَةَ وحُريملاء إلى(مِقْرنَ) ودخَـلوه ،ووصلوا إلى (الظُّهَيْرة) ، فحصلَ قتالٌ شديدٌ وانهزمَ المسلمون وكثر القتل في أهل حريملاء خـاصَّة ، فقُـتِلَ مِن أهلِ حُريملاء خمسةٌ وعشرون ،منهم محمدٌ بنُ غـنَّام آل راشد ومحمدُ بن حمد بن داود.
وفي نفسِ العام جرت وقعة (الخُـرَيزة) وهو موضعٌ بالرِّياض ، ذلك أنَّ عبدالعـزيز بن محمد بن سعود سار بأهل الدِرعيَّة وقُـراها وأهل ضرما وسارَ عثمان بن معـمَّر بأهـلِ العُـيينة وحُريملاء وقـصَدُوا الرياضَ وخرجَ إليهم أهلُ الرياض فاقتتلوا قتالاً شديداً .

وفيها جَـرت وقعةُ (البطين) بين المسلمين وأهل ثَرمداء ، وذلك أنَّ عثمانَ بن معمَّر سار بأهل العيينة وحريملاء ،وعبدَالعزيز بن محمد بأهل الدرعـيَّة وقُـرَاها وأهل ضرما ، والامير على الجميع عثمان فسـاروا إلى ثرمداء وناشبوهم القتال وولَّوا أهل ثرمداءَ
منهزمين . وفيها غزا المسلمون بلدَ ثادق.

9 ـ مكانة أسرة الشيخ العلميَّة في حريملاء لا تسمح بتعرض الشيخ لما ورد في الرواية المذكورة ، حيث أنَّ أباه عبدالوهاب بن سليمان كان قاضي البلدة ، ثم أخاه الشيخ سليمان ، و كذلك مكانة أبناء عمه من أسرة آل عبدالوهاب بن عبدالله آل مشرف ، و التي كانت تتصدَّر الاسر العلمية المرموقة في نجـد .

ـ و قد انتقد المحققون من المؤرخين مثل هذه القصص التي أوردها ابن بشر و ان كانت قليلةً لا تقـلِّل أيضاً من قيمة تاريخه الفريد ، ومن هؤلاء المؤرخين :

1ـ الشيخ حمد الجاسر في محاضرة بعنوان "المرأة في حياة الشيخ محمد بن عبدالوهاب" ألقاها عام 1400هـ في جامعة الإمام محمد بن سعود ، و مثَّـل الشيخ حمد تحديدا برواية انتقال الشيخ محمد من حريملاء إلى العيينة ، و كذلك برواية إخراجه من البصرة .

2ـ و منهم أيضاً المؤرخ المعاصر و الذي يعدُّ المؤرخ الرسمي لتاريخ الدولة السعودية الأستاذ عبدالله بن صالح العثيمين ، و قد مثَّل لذلك سوى المثالين السابقين برواية خروج شيخ الاسلام من العيينة إلى الدرعية ، و محاولة ابن معمر التخلص من الشيخ عند انتقاله من العيينة ، و رواية كيفية وصول شيخ الاسلام إلى الدرعيَّة و نزوله عند ابن سويلم .

و يقول الأستاذ عبدالله العثيمين بعد ردِّه للرواية المذكورة :

ـ : ( من المرجَّـح أنَّ ذلك الانتقال يعود إلى سبب رئيسي و سببين ثانويين ، أمَّـا السبب الرئيسي فهو قبول أمير العيينة عثمان بن معمر لدعوة الشيخ ، و ذلك ما ذكره ابن غنام بعد إشارته إلى انتشار تلك الدعوة في بلدان العارض المشهورة ، بقوله :
( ثمَّ بعد ذلك عزم على المسير عنها ـ يعني حريملاء ـ و جـدَّ في الانتقال ، و ذلك بعد أن هـدى الله تعالى عثمان بن معمر لقبول هذا الدين ) .
و أمَّا السببان الثانويان:
فأحدهما :كون العيينة أقوى من حريملاء ، و كونها موحَّـدة الزعامة ، و هذا لم يكن متوافراً في حريملاء التي كانت السلطة فيها منقسمة ، و التي لم يكن لها رئيسٌ يزعُ الجميع ـ حسب تعبير ابن بشر ـ ، و ما دام أمير البلدة القوية الموحدة متقبلاً للدعوة فاحتمال نجاحها فيها أكبر من احـتمال نجاحها في حريملاء ، و كان نجاح الدعوة هو ما يبحث عنه الشيخ محمد بن عبدالوهاب .
و الثاني ـ من السببين الثانويين ـ : وجود مكانة اجتماعية بارزة لأسرة الشيخ في العيينة منذ قدوم جدِّه سليمان بن علي إليها ، و احتلاله مركز القضاء فيها ، و يضاف إلى ذلك أنها كانت مسقط رأس الشيخ و مكان نشـأته) .

3 ـ الأستاذ منصور الرشيد و الذي يقول عن أسباب انتقال الشيخ إلى العيينة : ( بالإضافة إلى أنَّ هذه القرية لا تكفي لأن تكون مجالاً لدعوته ونشرها بعد ازدياد مؤيديه ، فأراد أن تكون دعوته في بلاد واسعة ومكانٍ رحـب ، فاخـتارَ بلدته الأولى العيينة التي كانت في ذلك العهد أكبر بلدان نجد وأكثرها سكانا) .

هذا ما أحببتُ التنبيه عليه من عدم ثبوت قصة انتقال الشيخ رحمه الله من حريملاء إلى العيينةـ كما أوردها ابن بشر ـ ، و كما أُدرِجَـت في تاريخ ابن غنام ، و الذي نأمل تلافيها في طبعات تاريخ ابن غنام اللاحقة ، و على الله قصد السبيل هو حسبنا و نعم الوكيل وصلى الله و سلم على نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين .

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
محمد آل مبارك
  • مقالات
  • تحقيقات ومؤلفات
  • فرق ومذاهب
  • تراجم
  • أدبيات
  • الصفحة الرئيسية