صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







خطبةٌ بعنوان: خطر اللسان

محمد بن سليمان المهنا
@almohannam
جامع الملك خالد بأم الحمام بالرياض

 
بسم الله الرحمن الرحيم


إن الحمد لله نحمده ونستعينه .....

أما بعد أيها المسلمون:
فقد اختص الله الإنسان بالإكرام، وامتن عليه بنعمة البيان، فقال (الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان) وفي سورة البلد يبين الله تبارك وتعالى جملة من نعمه على ابن آدم فيقول وهو أصدق القائلين (ألم نجعل له عينين*ولساناً وشفتين*وهديناه النجدين)

قال أبو حامدٍ رحمه الله: اعلم أن اللسان من نعم الله العظيمة ولطائف صنعه الغريبة، فإنه صغير الجِرم، عظيم الإحسان أو الجُرم

وصدق، فباللسان يوحَّد الله، وبه يُصلَّى على النبي ﷺ وبه تُبايَع اُلحكام، ويتبايع الأنام، وتتم العقود، ويحكم القضاة، وتُستَحَل الفروج، قال ﷺ عن النساء (إِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ)

ولأهمية هذا الأمر تكاثرت الأدلة من الكتاب والسنة على أهمية ضبط الكلام ووجوب العناية باللسان، بل جعل النبي ﷺ ذلك أهم الأمور فقال لما سأله معاذ فقال يَا رَسُولَ الله أَخبِرنِي بِعَمَلٍ يُدخِلُني الجَنَّةَ وَيُبَاعدني منٍ النار، قَالَ: (لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيْمٍ وَإِنَّهُ لَيَسِيْرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ: ثم أخبره بأركان الدين وبعض شعائره ثُمَّ قَالَ: أَلا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ؟ رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلاةُ، وَذروَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ. ثُمَّ قَالَ: أَلا أُخبِرُكَ بِملاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟قُلْتُ:بَلَى يَارَسُولَ اللهِ. فَأَخَذَ النبي ﷺ بِلِسَانِهِ وَقَالَ: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا، فقال معاذ: يانَبِيَّ اللهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَامُعَاذُ. وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَو قَالَ: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ، إِلاَّ حَصَائِدُ أَلسِنَتِهِمْ؟)

قال الإمام ابن رجب رحمه الله: هذا يدل على أن كف اللسان وضبطه وحسبه هو أصل الخير كله، وأن من ملك لسانه فقد ملك أمره وأحكمَه وضبَطَه.

والمراد بحصائد الألسنة: جزاء الكلام المحرَّم وعقوباته، فإن الإنسان يزرع بقوله وعمله الحسنات والسيئات ثم يحصد يوم القيامة ما زرع، فمن زرع خيرا حصد الكرامة ومن زرع شراً حصد الندامة.

ولأجل ذلك اشتد فَرَقُ الصالحين وخوفهم من تلك الحصائد، فحزموا أمرهم، وخزنوا ألسنتهم وألجموا أفواههم، وكانوا مع ذلك يحاسبون أنفسهم ويتَّهمون عملهم ويستغفرون مولاهم.

دخل عمر رضي الله عنه على أبي بكر رضي الله عنه وإذا بأبي بكر يجبذ لسانه فقال عمر: مَهْ، غفر الله لك، فقال أبو بكر: هذا الذي أوردني الموارد.
وكان ابن مسعود رضي الله عنه يحلف بالله الذي لا إله إلا هو، ما على الأرض شيءٌ أحوجَ إلى طول سجن من لسان.

أيها المسلمون :
أشد حصائد الألسنة ضرراً وخطراً ما كان من سيء الكلام ذا تعلق بالله وآياته ورسوله ﷺ فإن القليل منه كثير، واليسير فيه عند الله كبير، ولهذا غضب الله تعالى على نفر استهزأوا بالنبي ﷺ وأصحابه وقالوا: ما رأينا مثلَ قُرَّائِنا هؤلاءِ أرغبَ بطونًا ولا أكذبَ ألسُنًا ولا أجبَنَ عندَ اللقاءِ فأنزل الله تعالى قوله: (أَبِاللَّهِ وَءَايَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) قال ابنُ عمرَ: كأني أنظرُ إلى الرجل "يعني المستهزِئ" متعلقًا بنسعةِ ناقةِ رسولِ اللهِ ﷺ، وإن الحجارةَ لتنكُبُ رجلَيه، وهو يقولُ: يا رسول الله، إنما كنا نخوضُ ونلعبُ. فيقولُ له رسولُ اللهِ ﷺ: أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ؟ ما يلتفتُ إليه وما يزيدُه عليه.

قال عبدالله بن الإمام أحمد: سمع أبي رجلاً يقول: ينزل الله عزّ وجلّ إلى سماء الدنيا بلا زوال ولا انتقال ولا تغير حال، قال: فارتعد أبي، واصفرّ لونه، ولزم يدي، وأمسكته حتى سكن، ثم قال: قف بنا على هذا المتخرّص، فلما حاذاه قال: يا هذا رسول الله أغيَرُ على ربه عزّ وجلّ منك، قل كما قال رسول الله ﷺ.

ولما حدّث الإمام أحمدُ أصحابه عما وقع له في فتنة القول بخلق القرآن لم يستطع أن يكمل الكلام، وقال: لقد احتجوا علىّ بشئ لا يقوى قلبى ولا ينطلق لسانى أن أحكيه.

ومن أجل ذلك ورد النكير الكبير على من أطلق الكلام دون خطام، قال ﷺ (إنَّ العبدَ ليتكلَّمُ بالكلمةِ من سخطِ اللهِ ، لا يُلقي لها بالًا ، يهوي بها في نار جهنَّمَ).

ومما يجب النهي عنه: كثرة الجدل والخصومة، فإنها توغِر الصدر وتُهيْج الغضب وتورث الحقد.
فإن كنت يا عبدالله ممن يكثر الجدل والخصومة فراجع نفسك، قال ﷺ: (أَبغَضُ الرجالِ إلى اللهِ الألَدُّالخَصِمُ) متفق عليه.

ومن آفات اللسان: الفُحش والبذاء، فإنه قبيح مذموم منهي عنه وصاحبه خاطئ ملوم، قال ﷺ (إياكم والفُحش فإن الله لا يحب الفُحش ولا التفحُّش).

قال ابن قدامة رحمه الله: واعلم أن الفحش والبذاء هو التعبير عن الأمور المستقبحة بالعبارات الصريحة، وأكثر ما يكون ذلك في ألفاظ الجماع وما يتعلق به، فإن أهل الخير يتحاشون تلك العبارات ويكنُّون عنها.

ومن أخطر آفات اللسان: الغيبة والنميمة، قال الإمام النووي رحمه الله: اعلم أن هاتين الخصلتين من أقبح القبائح وأكثرها انتشارا في الناس حتى ما يسلم منهما إلا القليل من الناس.

وقال رحمه الله في تعريف الغيبة: هي ذكر المرء بما يكرهه سواء كان ذلك في بدنه أو دينه أو دنياه أو نفسه أو خلْقه، وسواء ذكرتَه باللفظ أو الإشارة أو الرمز.

وقد نقل القرطبي الاتفاق على أن الغيبة من الكبائر لما جاء فيها من الوعيد الشديد في القرآن والسنة
قال الله تعالى: (ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه)
قال ابن عباس: حرم الله الغيبة كما حرم الميتة.

وأما النميمة فهي نقل كلام الناس بعضهم في بعض على جهة الإفساد، وهو من الكبائر، قال المنذري أجمعت الأمة على تحريم النميمة، وأنها من أعظم الذنوب عند الله عز وجل.
قال ﷺ: (لا يدخل الجنة نمام) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وعن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن رَسُول اللَّهِ ﷺ مرَّ بقبرين، ثم أخبر عن صاحبي القبرين فقال: (إنهما يعذبان، ثم ذكر سبب العذاب فقال: أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

ومما يؤسف له أيها المسلمون: انتشار الغيبة والنميمة بين الناس، حتى صارت كثير من المجالس مرتعاً تؤكل فيه اللحوم وتُنهش فيه الأعراض، واستمرأ الناس ذلك فغاب العاذل وقلّ النكير، مع أنه أمر يغضب الرب ويُكسب الذنب، ويراكم السيئات ويأكل الحسنات، قال ﷺ (أتدرون ما المفلِسُ ؟ قالوا: المفلِسُ فينا من لا درهمَ له ولا متاع. فقال: إنَّ المفلسَ من أمَّتي من يأتي يومَ القيامةِ بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي قد ضرب هذا، وشتم هذا، وقذف هذا، وأكل مالَ هذا، فيُعطَى هذا من حسناتِه وهذا من حسناتِه، فإن فَنِيَتْ حسناتُه قبل أن يقضيَ ما عليه، أُخِذ من خطاياهم، فطُرِحت عليه ثمَّ طُرِح في النَّارِ) نسأل الله عفوه وعافيته وهداه.

اللهم اجعلنا هداة مهتدين، موفّقين مسدّدين، وأمِتنا موحدين، واكتبنا مع الشاهدين .. اللهم آمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم....

الخطبة الثانية


الحمد لله رب العالمين....
أما بعد أيها المسلمون:
فمما حذّر الله منه عباده: السبابُ والتنابزُ بالألقاب، قال عز وجل (ولا تنابزوا بالألقاب) وقال ﷺ : (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) متفق عليه. وفي صحيح مسلم قال ﷺ (المُسْتَبَّان، ما قالا فعلى البادي منهما حتى يتعدى المظلوم) والمعنى أنه إذا وقع سباب بين اثنين فإن إثم ذلك السباب الواقع من الطرفين يتحمله البادي منهما، حتى يتعدى المظلوم في سبابه.

أيها المسلمون:
إنه لمما يحزن القلب ويؤذي النفس ويورث الأسى ما نراه في مجتمعات المسلمين اليوم من التحزب والاصطفاف، وتعالي نبرة الخصومة والسباب، وتصنيف الناس إلى شيع وأحزاب، فهذا يُزنُّ بالفسق وذاك يوصَمُ بالبدعة، والثالث يرمى بالانتساب إلى أهل الأهواء، والرابع تصدر عليه صكاك الخروج من دائرة أهل السنة. مع أنهم كلهم من أهل السنة والجماعة المنتسبين إلى عقيدة السلف الصالح رضي الله عنهم.

وهذا يا عباد الله من البلاء الكبير والشر المستطير، وهو مشين إن صدر من سفهاء الأحلام، فكيف إن صدر من له كان بصر بالعلم وأثر في الخير، ثم صار همه الأول تصنيف الناس وسبابهم والتنقيب عن معايبهم بدعوى حب السلف والدفاع عن السنة، فأساءوا وتعدوا وظلموا، وطال تصنيفهم وسبابهم دعاةً فضلاء، وعلماء أجلاء، فإلى الله وحده المشتكى.

ألا وإن من سبل علاج هذه الفتن: اعتزالَ الخصومة وتربيةَ النفس والولد والتلميذ على الترفع عن هذه السفاسف لا سيما فيما يذيع بين الناس شره وينتشر شرره كقنوات الإعلام ووسائل التواصل، لنحصر هؤلاء السبابين في دوائرهم المغلقة ودهاليزهم المظلمة كما يُحصر المريض في غرف الحجر والحجز.

وعلى من بسط الله يده أن يكبح جماح النفس البشرية التي وصفها الله بالظلم والجهل بسن الأنظمة الواضحة المستمدة من الشريعة وعقوبة المعتدي بالعقوبات الرادعة، حتى يؤوب الناس إلى رشدهم ويمتثلوا قول إمامهم وقدوتهم ﷺ (وكونوا عباد الله إخوانا) فإن التصنيف والتحزيب والسباب والخصومة سبب للتقاطع والفرقة والكراهية والبغضاء، وهي أمور يكرهها الله ورسوله، وتأباها القواعد الشرعية والأنظمة المرعية، والعقول السليمة والفطر المستقيمة.

اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، وألِّف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وأعِذهم من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن.

ربنا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيم

اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
محمد المهنا
  • مقالات
  • كتب
  • تغريدات
  • خطب
  • الصفحة الرئيسية