صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







التفكير فريضة إسلامية (1) مناقشة لـ عباس محمود العقاد

محمد جلال القصاص


بسم الله الرحمن الرحيم
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
التفكير فريضة إسلامية 1
مناقشة لـ عباس محمود العقاد

( التفكير فريضة إسلامية ) عنوانُ كتابٍ لعبِّاس العقاد يستدل به قومٌ على أن الرجل كان إسلامياً .. بهذا الدين عليم ، وعن حماه من المدافعين .. ولقضاياه من الشارحين !!
 
في هذا الكتاب ( التفكير فريضة إسلامية ) ثلاث قضايا ، قضية ( التفكير ) أو قل : ( إعمال العقل ) والثانية قضية ( الجدال ) ، والثالثة ( الفلسفة الإسلامية )[1] ، ثلاث قضايا رئيسية في الكتاب وفي رأس عباس العقاد . أناقش كل واحدة منهن وجهدي في إيصال المفاهيم الصحيحة للقارئ أزيل بذلك تلبيس عباس العقاد وغيره .
 
أولا : التفكير أو إعمال العقل .
  يذكر عباس العقاد أن ( القرآن الكريم لا يذكر العقل إلا في مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العمل به والرجوع إليه )[2] .!
 لاحظ أن العقل عنده ( يجب العمل به والرجوع إليه ) . يؤكد على هذا الادعاء كثيراً ، فمثلاً يقول : ( الواقع المكرر في هذه المسألة بذاتها أن حرية العقل لا يقيدها في الإسلام حكم مأثور على مذهب راجح أو على مذهب مرجوح )[3] .
ويذكر أن موانع العقل ثلاثة  : عبادة السلف[4] التي تسمى بالعرف والاقتداء الأعمى بأصحاب السلطة الدينية والخوف المهين لأصحاب السلطة الدنيوية . ويدور حيناً حول التحذير من هؤلاء الثلاث ( الأعراف والسلطة الدينية والسلطة الدنيوية ) على العقل ويقرر أن أخطرها إتباع من سلف ، ويحكي إجماع من كتبوا في التاريخ على ذلك[5] !!.
ثم يقرر بأن الإسلام يأمر العقل بأن يستقل في مواجهة السلف ومواجهة الأحبار ومواجهة الاستبداد .!!
وهي محاولة صريحة من العقاد لاستقال العقل في فهم النصوص دون إدراج من سلف .
 
هذا ما عند العقاد . يدعي بأن العقل حر طليق يعمل كيف يشاء  وأين يشاء ، وأن العقل مرجع نأوي إليه وجوباً حال التحدث في القضايا الشرعية .!
 
وفساد هذه الدعوى من البديهيات ، إذ لو قلنا بقول عباس لما كانت هناك حقائق أبداً ، فما أَستحسنه أنا وأراه صواباً يستقبحه غيري ويراه خطئاً ، والعكس ، حتى قيل أن الحقيقة ثلاثية الأبعاد ، لك وجهة نظر ، ولمن يخالفك الرأي وجهة نظر أخرى ، ولثالث لا يرى رأيكما وجهة نظر تخالفكما[6] !!
فدعوى إطلاق العقل أو دعوى إعمال العقل في النصوص ، والرجوع إليه في فهمها دعوى لا تصح عقلاً .
 
العقل يعمل في ثلاث مناطق :
 
ليس بصحيح أن الشرع يأمر بالرجوع للعقل في كل شيء .إعمال العقل ( التفكير ) يكون في ثلاث مناطق :
الأولى : حال المخاطبة بالشريعة الإسلامية . . حالَ مخاطبة من لم يؤمن أصلا . أو من لا يؤمن .
الثانية : في المناط[7] .
الثالثة : في الدلالة والاستدلال .
 
الأولى : حال المخاطبة بالشريعة الإسلامية ، نكلم الناس بما يفهمون ، ننطق من الثابت المشترك بيننا وبين من نتحدث إليه . فأهل الأديان نتكلم معهم في أمارات النبوة ، وهي قاسم مشترك متعارف عليه ، يُنبئ بغيب ويأتي بمعجزات ، أمارة على اتصاله بمن يعلم السر وأخفى ومَن هو على كل شيء قدير . والعقلانيون نبدأ من أدلة عقلية . والجميع نحدثهم عن الله وعن ما أعد للمتقين وما توعد به العاصين [8].
ولذا تجد أن التوحيد قسمان . قسم مقدمة لقسم . أو سبب ونتيجة .
والتسمية تدل على ذلك .. ( علمي خبري  وقصدي طلبي ) ، فعلم وخبر ( قول القلب وهو المعرفة أو التصديق الخبري ) ، يعقبه ولا بد قصد ( وهذا من عمل القلب ) وطلب ( وهذا من عمل الجوارح ) . أو يقال ( توحيد الربوبية والأسماء والصفات وتوحيد الألوهية )
 
لا حظ توحيد الربوبية يأخذ حيّز المعرفة التي هي قول القلب في مصطلح أهل الاعتقاد ، ويأخذ توحيد الألوهية عمل القلب ـ الناشئ من المعرفة التي هي قول القلب ـ ، وعمل الجوارح ، إذ هما مرتبطان سويا وجودا وعدما ، قوة وضعفا.
­­­­­
فجُعل توحيد الربوبية  والأسماء والصفات كالسبب لتوحيد الألوهية ، أو كالمقدمة له . وهذا كثير في القرآن الكريم . من ذلك قول الله تعالى : { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ }  [ البقرة : 255]
بدأت الآية الكريمة بجملة خبرية تقريرية   ( الله لا إله إلا هو ) ... لا معبود بحق إلا الله ، أو لا يستحق العبادة إلا الله ، ثم تبعت هذه الجملة بعدة جمل تعليلية  ، تبين سبب أحقية الله سبحانه وتعالى للتفرد بالعبادة ، وكأنه سأل سائل : لماذا ؟ فأتت الآية بعدها تعلل هذا الخبر ( الحي القيوم ) ( لا تأخذه سنة ولا نوم ) ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) ( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ) ( وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤوده حفظهما ) ( وهو العلي العظيم ) .
ومن ذلك قول الله تعالى :  { قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [ فصلت:9 ]  ، والمعنى أن من خلق السموات والأرض في يومين لا يُكفر به ولا ينبغي أن يجعل له أندادا .  
ومثله قول الله تعالى :  {  رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً  } [ الكهف: من الآية 14 ] ، والمعنى لأنه ربنا رب السموات والأرض ، لذلك لن ندعو من دونه إلها .
في هذه المنطقة ( الخطاب بالتوحيد ) .. ( مخاطبة من لا يؤمن أو من لم يؤمن ) .. يعمل العقل . 
 
الثانية : في المناط .
 
المناط غير الحكم الشرعي ... المناط هو المحل الذي يتنزل عليه الحكم الشرعي . أو العلة المؤثرة في الحكم .
 
مثلا : الحركة الكثيرة تبطل الصلاة . هذا حكمٌ شرعي . لا يعمل فيه العقل ، لا يقال لماذا الحركة الكثيرة تبطل الصلاة ؟
وإنما يعمل العقل في ( المناط ) .. في كون الحركة كثيرة أم لا ؟ هل تحركتُ كثيرا  أم لم أتحرك كثيرا ؟ وبالتالي تبطل صلاتي أم لا ؟
 
ومثلا خروج شيء من أحد السبيلين ينقض الوضوء . هذا حكم شرعي . لا يعمل العقل فيه . وإنما يعمل العقل في تحقيق المناط : هل خرج شيء من السبيلين أم لا ؟ وبالتالي ينقض الوضوء أم لا ؟
ومثله : كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام[9] .
هذا حكم شرعي لا دخل للعقل فيه ، وإنما يعمل العقل في تحقيق المناط : هل شرب خمرا أم لا ؟
ومثله  :  حين نقول ( حرم الله الزنا وأوجب الحد على من زنا ) .  هذا حكم شرعي لا يعمل العقل فيه .
 
وإنما يعمل العقل في الحادث محل النظر . . . ليتبين أهو زنا أم دون ذلك ؟ وبالتالي هل يُحد أم لا ؟ وما نوع الحد ؟  رجم أم جلد وتغريب  ؟
 
ما يتكلم عنه العقاد وما يحدث الآن من ( العلمانيين ) و ( المفكرين ) و ( الليبراليين ) و ( العصرانيين ) ... إلى آخر  هذه الأسماء ممن يناقشون ( التعدد .. تعدد الزوجات )، و( الميراث ) و ( تحكيم الشريعة ) و ( الجهاد )  , ( الحجاب ) و ( حجية السنة النبوية )  . . الخ . شي آخر . هم يناقشون الأحكام . ومناقشة الحكم تشكيك في المُشَرِّع ، ومن يناقش الحكم نخاطبه بالتوحيد من جديد .. نبين له أن الله هو ( العليم ) ( الحكيم ) ( الخالق ) ( الرازق ) ( القدير ) ..، ومن خلق ورزق وعلم كل شيء وقدر على كل شيء قوله الحق وله الحكم .
ونبين له أن الله أرسل إلينا رسولا بلساننا ليبين لنا ما أراده منا ، وقد كان ،  نبين له أن العقل عاجز ، وأنه إذا تعارض العقل والشرع فالله أعلم وأحكم . " قل أأنتم أعلم أم الله " ؟!
 
ومناقشة الحكم من جنس مناقشة إبليس لأمر الله تعالى له بالسجود . 
ولا يجدي التأويل في هذا . نعم لا يجدي التأويل في هذا .
فإبليس كان متأولا (أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ) (الأعراف : 12 ) ( أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) (الإسراء : 61 ).
 
عرضَ الحكم على عقله فما استقام عنده  . لم ير أن الحكم منصفا . لذا ردَّه وأبى الامتثال له ، وكان متأولا ..كانت له وجهة نظر ـ بلغة القوم ـ .وما صرَّح إبليس بأنه يريد الكفر . بل رد الأمر  بتأويل [10] .
ولا يتعارض العقل الصحيح مع النص الصريح ، ولشيخ الإسلام ومشهور في ذلك ( درء تعارض العقل والنقل ) لشيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله  .
 
الثالثة : في الدليل والاستدلال
 
يعمل العقل في طلب الدليل على الحكم ، أو في الحكم على الدليل هل هو صحيح أم غير صحيح ؟ إن كان من أهل العلم ، ويعمل في دلالة الدليل على المراد منه ، وفي الاستدلال به هل هو صحيح أم لا ؟ .
 تقول : الحركة الكثيرة تبطل الصلاة .
 فيجيب ما دليلك ؟!
فتقول كذا .
فيجيبك معارضاً بدليل آخر ، أو ناقضاً للدلالة ، أو ناقضاً لاستدلالك بالحديث معرضاً بعقلك أو بعلمك . أو معرضاً عنك ذاكراً لما يريد .
 
وهنا ما ورد من خلاف بين أهل الفقه . في تحقيق المناط ، في فهم الدليل في مراتب الأدلة ،.
 
وعباس العقاد بعيد عن هذا كله ، الذي يتكلم عنه العقاد هو الهوى . الذي يعمل في الدليل ليأتي به على هواه .
العقل الذي يتكلم عنه عباس وغيره هو الهوى ، يقول الله تعالى : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ }[الزمر:18] ( فأصحاب العقول هم أهل الدين الصحيح ، وأهل الدين هم أصحاب العقول ، ولهذا كان السلف لا يسمون المخالفين بالعقلانيين بل كانوا يسمونهم بأهل الأهواء . )[11]
وإن تتبعت هؤلاء العقلانيين .. المفكرين .. المستعظمين لعقولهم ، ومنهم عباس العقاد ، تجد أنهم يملكون ثوابت ويأتون للدليل فقط ليحملوه على القول بما يذهبون إليه ، فهم يعتقدون ثم يستدلون ، وهذا مذهب أهل الهوى ، أما أهل الحق فإنهم ينظرون للدليل بتجرد .. ثم هم مع ما يمليه عليهم [12]. وقد رأينا عباس العقاد كيف يستدل بالضعيف ويترك الصحيح ، وكيف يركب الكذب وصولاً إلى ما يريد ، وكيف أنه يأخذ النصارى بقولهم وهو شاهد على باطله وهو يعلم أن القرآن الكريم يخطئهم في قولهم . وكيف يعرض عن قول من نصحوه بل ويُعرِّض بهم . إنه هوى في النفوس يسير صاحبها بين الأدلة يمنة ويسرة .. يحتال حتى يصل لمراده . وهؤلاء هم أهل الهوى .
 
الانفراد بالنص
 
يؤكد العقاد على الثورة على الأسلاف ، وعلى الاستقلال عنهم ، وما كان لنا أن نقول بهذا . وما كان له أن يقول بأن تعظيم السلف نوع من العبادة والتقديس لهم ، أو نوع من الخطر الداهم الذي يأكل الدين !! بل هو الدين .
وكلام العقاد عام عائم ، وظني أن القضية مشوشة عنده ، والثابت فقط هو أن الرجل يبحث عن استقلالية العقل ( كل عقل ) في فهمه لنصوص الشريعة دون الخضوع لفهم الجيل الأول أو غيره .
وهذه قضية محورية عند الجميع يصلون إليها من عدة طرق ، بعضهم عن طريق التشكيك في السنة النبوية ، وبعضهم عن طريق تقسيم السنة النبوية إلى تشريعية وغير تشريعية ، وبعضهم عن طريق ذم الصحابة والتابعين ومن حمى الله بهم هذا الدين .. المهم أنها قضية محورية . يمكن التعبير عنها بـ ( الانفراد بالنص ) .
وأريد معالجة هذا الأمر تحت العنوان التالي :
 
دلالة أخرى لمعنى النص :
اصطلح على أن تطلق لفظة ( النّص ) على منطوق الوحيين الكتاب والسنة الصحيحة . وهذا الأمر فيه نظر  .
إذ أن منطوق القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة لا يمكن بحال أن ينفصل عن سياق عام يشمل فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفعل الصحابة رضوان الله عليهم ، أو قل سبب نزول ( النص ) وكيفية امتثال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحابته  ( للنص ) .
فالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يبلغنا فقط منطوق القرآن الكريم ـ الذي يقال عنه النص في عرف القوم ـ وإنما بلغنا القرآن ومراد الله من كلامه ، وهذا هو معنى البلاغ المبين المذكور  في سبع مواضع من كتاب الله قال تعالى :
(وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ) (المائدة : 92 )
وقال تعالى : (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) (التغابن : 12 )
و قال تعالى : (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) (النور : 54 )
وقال تعالى : (وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) (العنكبوت : 18 )
وقال تعالى :  (وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (النحل : 35 )
وقال تعالى : ((فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ) (النحل : 82 )
وقال تعالى :  (وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ) (يس : 17 )
 
والبلاغ المبين هو :  الذي يحصل به توضيح الأمور المطلوب بيانها[13] . أو هو  الَّذِي يُبِين عن معناه لمن  أَبْلَغَهُ [14], ويفهمه من  أُرْسِلَ  إليه [15] .
 
فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يأتنا فقط بألفاظ القرآن بل بألفاظ القرآن وبمراد الله من هذه الألفاظ .
 
والصحابة رضوان الله عليهم لم يتلقوا من النبي صلى الله عليه وسلم فقط منطوق القرآن الكريم ثم ذهبوا يفهمونها كما شاءوا .  لا .  بل كانوا يتعلمون الإيمان ثم يضبطون ما فهموه بالقرآن الكريم كما جاء في الحديث . عن جُنْدُبِ بن عبد الله قال كنا مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ــ ونحن فتيان حَزَاوِرَةٌ فَتَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ  قبل أن نتعلم القرآن ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانا [16] .
وجاء في مسند الإمام أحمد من حديث  أَبِي عبد الرحمن[17] قال : حدثنا من كان  يُقْرِئُنَا من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـــ  أنهم كانوا يَقْتَرِئُونَ  من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ــ  عَشْرَ آيَاتٍ فَلَا يَأْخُذُونَ فِي الْعَشْرِ الْأُخْرَى حَتَّى يَعْلَمُوا مَا فِي هَذِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ قَالُوا فَعَلِمْنَا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ .
 
والمراد : أن الصحابة رضوان الله عليهم تلقوا ( نص ) ـ منطوق ـ وتلقوا معنى ، وهذا كله هو ما نحن ملزمين به ـ كتابعين لهؤلاء الكرام ـ . قال تعالى : { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } .
وقال تعالى : (فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة : 137 )
 
فالصحابة هم  من أراد الله بوصف المؤمنين في هذه الآيات ذلك أن الله عز وجل شهد لهم بالإيمان في آيات أخرى من كتابه[18] قال تعالى : { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } ( التوبة : 100 ) .
 وَقَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا }( الفتح : 18 )  .
 
والخلاصة أنه لا بد ـ  من وجهة نظري ـ من إعادة تعريف  النص الشرعي على أنه : منطوق القرآن كما فهمه الصحابة رضوان الله عليهم وأقرهم عليه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا يجوز لأحد أن يأخذ آية من كتاب الله ثم بعد ذلك يفهمها ويطبقها بغير الفهم والتطبيق الذي كان عليه صحابة النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ  ؛ إذ أنه من المعروف أن ( العمل المتوارث المستمر من عصر الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم حجة شرعية يجب إتباعها، وتلقيها بالقبول )[19] . 
 
فمن أراد أن يناقش النص فليناقشه في سياقه الكامل الذي يشمل دلالته الشرعية المأخوذة من فعل الصحابة رضوان الله عليهم .
 
 أما القفز إلى النص ـ منطوق القرآن أو السنة ـ  مباشرة وفهمه بمقدمات عقلية أو لغوية أو عرفية خاصة ببيئة المتكلم  فهذا مما لا يقبل بحال .
 
 ومن فعلَ هذا نرده بأننا تلقينا وحيين ـ كتابا وسنة ـ ، وقد كان هناك قوم شاهدوا رسول الله  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  وسمعوا منه ورأوا من أحواله وأفعاله ما يجعلهم أكثر الناس  دراية بمراد الله من خطابه ؛ فليس السامع الغائب كالسامع الشاهد  ، ومات رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو راض عنهم  وزكاهم ربهم وأمرنا بإتباع سبيلهم  قال الله : (فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة : 137 ) وقال الله  (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً) (النساء : 115 )
 
فنحن نرفض تماما التعامل مع منطوق القرآن والسنة بغير السياق العام الذي نزل فيه أعني التطبيق العملي المتمثل في فعل الصحابة رضوان الله عليهم ومعهم إمامهم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
 
وأضرب مثالاً أبين به قولي :
 
آيات الحجاب ـ وهي مما يكثر حولها دندنة القوم ــ أعني قول الله تعالى : (..... وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ .... الآية  ) (الأحزاب : 53 ) وقول الله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً) (الأحزاب : 59 ) وقول الله تعالى : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولى ....  ) (الأحزاب : 33 ) وقول الله تعالى : (وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ .... الآية ) (النور : 31 )
 
هذه الآيات لها سياق نزلت فيه وتفهم دلالتها من خلاله  ... المنافقون على نواصي الطرقات وبالأزقة يتحرشون بالسافرات من النساء حين يخرجن ليلا لقضاء الحاجة ، وعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ  يطالب بضرب الستر بين الرجال والنساء كي لا يرى الرجال أبدانهن ـ وهن العفيفات الطاهرات أمهات المؤمنين ونساء الصحابة رضي الله عنهن أجمعين ـ ولا يرى النساء أشخاص الرجال ـ وهم صحابة النبي الكرام ـ  ونزلت الآيات فشق النساء مروطهن  وتخمرن بها[20] ... وأصبحن كالغرابيب  لا يُعرفن ولا يرى منهن شيء لا بوصف ولا بكشف ، ولا تطمع فيهن عين لزينة في الثياب أو زينة تسمع أو ترى من تحت الثياب وقد فارقن بهذا الثياب  الكافرات ، فلم يكن الأمر اقتباس من عادات الجاهلية كما يدعي الجهلة من المثقفين اليوم ، ولا سرقة من ثقافة اليهود بل تشريع من رب العالمين للصادق الأمين وصحابته الأكرمين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . 
 
أقول من المعلوم أن التشريع في الإسلام ارتبط بالحركة ؛ وأن الوحي كان يتنزل بناء على الأحداث لتوجيهها أو لتصحيحها ، ولم ينزل القرآن مرة واحدة ، ولم يكن المراد من الوحي هو مجرد التلاوة والإقرار بما يحمله من أحكام دون الامتثال العملي ، فكيف ـ مع هذا كله ـ  يؤخذ منطوق القرآن والسنة النبوية بمعزل عن ملابسات أسباب النزول ، وامتثال الصحابة للأمر والنهي ؟!
 
كيف مع هذا كله نسمع لعباس العقاد ونقف بعيداً عن سلفنا الصالح نناطحهم أو نخالفهم بأي دعوى . !!
إن العقاد بعيد .
 

محمد جلال القصاص
الأحد 
  ‏23‏/جمادى الأولى‏/1430
الموافق ‏24‏/05‏/1430
 

--------------------------------------
[1] تكلم العقاد عن الفلسفة الإسلامية في أكثر من كتاب .
[2] التفكير ضرورة شرعية ( ضمن المجلد الخامس من موسوعة عباس العقاد الإسلامية طبعة دار الكتاب لبنان ) / 829
[3] التفكير فريضة إسلامية / 870
[4] ( عبادة السلف ) مصطلح مستعمل عند المنشغلين بالأديان ، يسمونه ( عبادة الأسلاف ) ويعنون به تعظيم الأولين بنحت الأصنام على هيئتهم أو شد الرحال إلى قبورهم وإقامة الأعياد عليها ، وهي إحدى طرق الشيطان في تحريف الأديان .
[5] ص 849 ، وهو إجماع موارب يصدره بكلمة ( يكاد )
[6] وهو كلام لا نسلم به ، إذ الحقيقة واحدة ، والباطل متعدد . واستشهدت بفحواه .
[7] المناط عند العرب ما نيِطَ ( تعلق ) به الشيء ، يقال هذا مَنوط به أي مُعلق به ، والأنواط المعاليق (القاموس المحيط  ، ط2ـ 1997 بيروت: مؤسسة الرسالة، ص892 ) ، وعند علماء الشريعة هو ( العلة التي نيط [ تعلق ] الحكم بها ) أو ( العلة التي رتب الحكم عليها ) ( شرح مختصر الروضة ،3/233.) ، والحكم الشرعي ( التكييف الشرعي للفعل ) يتعدد في ذات الشيء ، فمثلا النفاق ليس كل أفعال النفاق وليست كل أحوال المنافقين كفر بالله ، وإنما بعضها معصية ، وبعضها كبيرة ، وبعضها كفر أكبر مخرج من الملة ، هذه أحكام متعددة تتعلق بمناطات متعددة ، الغائي منها هو أقصاها وهو هنا الكفر الأكبر المخرج من الملة
[8] يرتكز الخطاب الدعوي على تعريف الناس بربهم ، وما أعده لهم من ثواب وعقاب ( اليوم الآخر ) ، وقد فصلت ذلك في معالجتي للسيرة النبوية مستقرئا الآيات ومطبقاً على أحداث السيرة . 
[9] جزء من حديث عند مسلم /3733
[10] انظر للكاتب ( التأويل أنواع )
[11] من مقال للشيخ جعفر شيخ إدريس منشور بموقعه الخاص .
[12] انظر للكاتب ( ثم يستدلون ) .
[13] السعدي عند تفسير الآية 17 من سورة ياسين
[14] الطبري عند تفسير الآية 35 من سورة النحل .
[15] راجع ـ إن شئت ـ تفسير الطبري للآية 35 من سورة النحل .
[16] الحديث في سنن بن ماجة ـ المقدمة ـ حديث رقم60 والحديث صحيح رجالة ثقات كما جاء في شرح السندي لسنن بن ماجه . والفتيان الحزاورة هم من قاربوا البلوغ .
[17] هو زيد بن خالد الجهني توفى بالمدينة 68 هـ . والحديث في مسند الإمام أحمد برقم 22384 . ولأبي عبد الرحمن السلمي التابعي المشهور حديث بنفس المعنى أحفظه ولكني لم أستطع تخريجه لذا أمسكت عنه .
[18] مجموع فتاوى بن تيمية 4 / 3
[19] حراسة= الفضيلة للشيخ الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد عند الكلام على ( المسألة الثالثة : أدلة فرض الحجاب على نساء المؤمنين )
[20] في ذلك عدة أحاديث عن أم المؤمنين عائشة  وأم سلمة ـ رضي الله عنهما ـ في البخاري ومسلم وفي سنن أبي داود . وغيرهم . وانظر سبب نزول الآيات في بن كثير والطبري والقرطبي ـ هذا ما اطلعت عليه ـ . وانظر ما ذكره الشيخ بكر أبو زيد ـ حفظه الله من كل سوء ـ  فيما أورده من أدلة على الحجاب .
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
محمد القصاص
  • مقالات شرعية
  • في نصرة النبي
  • مقالات في فقه الواقع
  • مقالات أدبية
  • تقارير وتحليلات
  • رسائل ومحاضرات
  • مع العقلانيين
  • صوتيات
  • مقالات تعريفية بالنصرانية
  • رد الكذاب اللئيم
  • اخترت لكم
  • بريد الكاتب
  • الصفحة الرئيسية