صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







توظيف الخلاف الفقهي في دعم الانحرافات الفكرية

د.فهد بن صالح العجلان
@alajlan_f

 
بسم الله الرحمن الرحيم


سأتحدث في هذا الموضوع عن تسع نقاط أساسية :

العنصر الأول ما المراد بتوظيف الخلاف الفقهي ؟

أولاً : المقصود بالخلاف الفقهي كما هو معلوم هو مساحة الاختلاف والتنازع بين الفقهاء في مفهوم الأحكام الشرعية, فكما تعلمون فالأحكام الشرعية ليست على درجة واحدة من حيث القطع والجزم بها وهذا من مقصد الشريعة, فالله سبحانه وتعالى لما أنزل الأحكام لم يرد أن يجعلها جميعاً بمرتبة واحدة فبعض الأحكام تعتبر من قبيل الضرورات التي لا يمكن لمسلم أن يجهلها كتحريم الخمر والزنا والأمر بالصلاة والزكاة ونحو ذلك .

هناك أحكام أقل من ذلك لكنها من المسائل القطعية المجمع عليها وهناك أحكام قد اختلف العلماء في الراجح من مراد الله في هذه الأحكام،  وسبب خلافهم راجع إلى أن ذات النصوص لم  يرد الله سبحانه وتعالى  بهذه النصوص أن يقطع النزاع إنما يبقى مساحة للاجتهاد والنظر في أدلة الشريعة حتى يتوصل الانسان إلى الراجح .

حديثنا هذا اليوم حول هذا الخلاف الفقهي الذي هو جزء من الشريعة وجزء من السعة والرحمة في الشريعة , الإشكال هو في توظيف هذا الخلاف بمعنى استغلال هذا الخلاف واتخاذه ذريعة وسُّلماً إلى أخطاء وانحرافات وتجاوزات،  فالخلاف بحد ذاته لا إشكال فيه إنما الإشكال أن يتخذ هذا الخلاف ذريعة إلى محرمات, ذريعة إلى أهواء, ذريعة إلى أخطاء, فهذا هو المقصود بتوظيف الخلاف الفقهي هو استغلاله لذرائع  وأمور محرمة أو أهواء مخالفة للشريعة .


بعد ذلك نأتي لسؤال: لماذا يُلجأ أساساً إلى الخلاف الفقهي حتى يوظف ؟  بمعنى ما سبب توظيف الخلاف الفقهي ؟


في الحقيقة أن ظاهرة التوظيف ليست خاصة بالخلاف الفقهي , هي ظاهرة عامة توظف أشياء كثيرة منها الخلاف الفقهي , فما سبب اللجوء إلى التوظيف ؟نظراً إلى عمق التدين في الناس وتعظيم عموم المسلمين للشريعة وتعظيمهم لنصوص الكتاب والسنة جعل كثيراً من المنحرفين لا يستطيع أن يتجاوز هذه النصوص مباشرة فشاع عند الكتير اتخاذ ذرائع من أجل تخطي إشكالية ألا يصادموا الناس , ولأجل ذلك يتحدث كثير من أصحاب التيارات الليبرالية والعلمانية يتحدثون بوضوح أنه يجب البحث داخل الشريعة عن أداوت لأجل تخطي هذه الإشكالية يعني  بمعنى لا تواجه الناس بمخالفة الشريعة مباشرة وإنما أبحث عن وسائل تستطيع من خلالها أن توهم الناس أنك لا تخالف الشريعة وإنما تقدم خلافاً في الشريعة أو أنت تعتمد على رأي في الشريعة أو على مقاصد أو على مصالح وغير ذلك .

فشاع عند كثيرين اتخاذ هذه الوسيلة فأصبح الشخص لا يغير رأيه قناعة إنما فقط يبحث عن ذريعة وأدوات يركب عليها حتى يستطيع أن يصل إلى مقصوده ولا يستفز الناس ولا يثير رفضهم لموقفه, لأجل ذلك وُظفت كثير من الأحكام الشرعية كالمقاصد الشرعية والمصالح الشرعية واجتهادات الفقهاء المتقدين حتى اجتهادات عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعني أصبح كثير من الناس يريد التفلت من الشريعة من خلال الاستدلال بفعل عمر وهو من هو أشد الناس تعظيماً للشرع واستمساكاً به أصبحت اجتهاداته ذريعة لبعض الناس حتى يتفلت من أحكام الشريعة .
ومن التوظيف توظيف الخلاف الفقهي بمعنى البحث عن أي قول فقهي أي خلاف  واستغلاله في تمرير محرمات تمرير إشكالات وأخطاء وتجاوزات .
خاصة أن الخلاف الفقهي يعتمد على أقوال لأئمة لهم مكانة ولهم فضل ولهم قبول حسن عند الناس فلما الشخص يعتمد عليهم فإن الشناعة لموقفه تخف كثيراً .


العنصر الثالث إذا فهمنا هذه الظاهرة أو هذه الحالة هل توظيف كلام الفقهاء وتوظيف الخلافات الفقهية هل هو ظاهرة حديثة نشأت في هذا العصر أم هي ظاهرة قديمة ؟

الحقيقة إن إشكالية التوظيف قديمة فمنذ النشأة الاولى للفقه وإشكالية التوظيف حاضرة عند الفقهاء رحمهم الله حتى في نصوص الشريعة نجد نهياً عن بعض الأحكام حتى لا توظف بشكل خاطئ ومنحرف ومن أظهر الأدلة في ذلك ( النهي عن قول راعنا ) { لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا } لماذا نهي المسلمون عن قول راعنا ؟ لأن هذا اللفظ وإن كان في ظاهره شرعياً ومباحاً ولا إشكال فيه قد اتُخذ ذريعة إلى محرم وهو الإساءة إلى النبي عليه الصلاة والسلام فنهت الشريعة عن هذا القول .

والفقهاء كانوا يتحدثون كثيراً عن ظاهرة التوظيف في بابين مشهورين :

الباب الأول : ( باب الظلم الذي يتعلق بالحكام والقضاة والساسة )

فكان يُستغل خلاف بعض العلماء أوبعض النصوص في سبيل الظلم , فكان في كثير من فتاوى العلماء وأقوالهم مراعاة إلى خطورة هذا التوظيف وفي كلام كثير من العلماء ذم من يدخل في هذه الاهواء أو يبررها أو يشرعنها , ولاشك أنه ليس هناك أحد يقول للحرام حلال يعني ليس هناك احد متقدم يقول القتل حلال أو الزنا حلال أو أخذ المال حلال إنما حتى يجعل هذا الأمر حلالاً يبحث عن أقوال فقهية نصوص فقهية حتى يوظف ويبرر لمثل هذا الانحراف .


الباب الثاني : ( باب المعاملات المالية )

كان حاضراً عند الفقهاء مراعاة الحيل التي يتخذها المرابين للوصول إلى الربا فكان هناك منع لفتاوى حتى لا يتخذها هؤلاء ذريعة إلى محرم .
ورعاية الفقهاء لهذا الأمر كثير سيأتي الحديث عنها .


النقطة الرابعة أيها الإخوة والأخوات .. ( ما أنواع التوظيف ؟ )


التوظيف هذا له حالتان :
الحالة الأولى / أن يقول الفقيه فتوى أو رأي بشكل فقهي كامل وبلا أي إشكال فيأتي بعض الناس يستغله في تحقيق أمر محرم , فيكون الفقيه أو العالم لم يقع في أي خطأ أو تجاوز إنما أبرأ ذمته فقال ما يدين الله به ولم يخطئ ولم يفرط  ولم يهمل واقعه , إنما بعض الناس استغلها, فهذه حالة من حالات التوظيف لا يكون الفقيه فيها آثماً أو مقصراً , إنما هو من جنس أن يستغل بعض الناس أية في كتاب الله أو حديث في سنة النبي صلى الله عليه وسلم فيتوصل بها إلى محرم , إنما حتى في هذه الحالة كان الفقهاء يراعون ضرورة أن يتفطن الفقيه لمسالك معينة حتى لا تستغل فتواه .


الحالة الثانية :
أن يكون  ثمة تقصير وتفريط من العالم أو المفتي في فتواه مما يجعل ذات تقصيره ذريعة إلى استغلال محرم كما سيأتي ذكر بعض نماذج لها .
إذاً لا يمكن حصول توظيف في الحقيقة إلا بجزء من التقصير والتفريط وإلا لو ألتزم الفقيه بمسلك العلماء رحمهم الله في بيان أقوالهم وفقه واقعهم لما استطاع أحد أن يوظف قولاً فقهياً أو خلافاً فقهياً للوصول إلى أمر محرم .


بعد ذلك المحور الخامس : ( ما الذي يكشف هذا التوظيف ؟ )

يعني إذا عرفنا أن الخلاف نفسه معتبر ومقدر لا إشكال فيه إنما الخشية من التوظيف واستغلال بعض المفسدين له , كيف أعرف أنا أن هذه الفتوى وهذا القول فيه توظيف أم هو من قبيل الخلاف الفقهي ؟

الحقيقة أن الذي يكشف هذا هو "السياق " السياق العام لهذه الفتوى لهذا الرأي لهذا القول من حيث وقت زمانه ومكانه وطبيعته يكشف لك هذا السياق طبيعة هذا الخلاف وطبيعة هذا الكلام هل هو من طرائق الفقهاء رحمهم الله في تقرير الأدلة ونصرة الأقوال أم أنه يشوبه ما يشوبه من تفريط وهوى وتوظيف ؟

والسياق أيها الإخوة له أثر كبير في تغيير الحكم , ولو تأملنا في ثلاثة مواقف في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم كيف تفاوت فيها موقف النبي صلى الله عليه وسلم نظراً لاختلاف الحال وإلا لو نظر لها الشخص بدون مراعاة السياق لقال هذا الموقف واحد يعني الشخص الذي ينظر للحدث نظرة ظاهرية لفظية يقول هذا وهذا وهذا جميعها مواقف لا فرق بينها, بينما تفاوت عمل الرسول في هذه الثلاث تفاوتاً بيناً كبيراً ,, لماذا ؟ نظراً لاختلاف الحال .


الموقف الأول  :
موقف المنافقين لما أساوا للنبي صلى الله عليه وسلم في وقائع عدة
, وإن كان بعض أهل العلم يجعلها واقعة واحدة فقال بعضهم للرسول عليه الصلاة والسلام لما قسّم الغنائم اتق الله , وقال أخر : اعدل فإنك لم تعدل وهذه قسمة ما أريد بها وجه الله فتغير وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقال : ويحك ومن يعدل إن لم أعدل ألا تأمنونني وأنا أمين من في السماء حتى قال عمر : يا رسول الله دعني اضرب عنقه .
لم يقل الرسول أنه لا يستحق القتل إنما علل لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه بمعنى أن هذا الفعل يستحق القتل لكنه عفى عنه النبي صلى الله عليه وسلم .
كان موقف شديد وصارم لرجل أساء إلى النبي عليه الصلاة والسلام .


الموقف الثاني :
يأتي أعرابي إلى النبي عليه الصلاة والسلام فيمسك بردائه عليه الصلاة والسلام ويجذبه جذبة شديدة ويقول : أعطني من مال الله فيضحك النبي صلى الله عليه وسلم ويؤمر له بعطاء .

الموقف شديد وغير متقبل أن يأتي شخص فيجذب رداء النبي صلى الله عليه وسلم حتى يؤثر في صفحة عنقه عليه الصلاة والسلام فيها إساءة وفيها عدم تهذيب مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك ضحك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعاتبه ولم يقل له شيئاً .


الموقف الثالث :
أعلى درجة وهو في قسمة غنائم حنين لما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم الحديثي عهد بالإسلام وترك الأنصار ووكلهم إلى إيمانهم وجهادهم وصبرهم فقال شباب الأنصار : يغفر الله لرسول الله يعطي قريش ويدعنا ,
فكان تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع هذا الموقف ليس كتعامله في الحالة الأولى ولا الثانية إنما كان تعاملاً لطيفاً رقيقاً تعامل المعاتب المحب الذي يعاتب خاصة أصحابه فدعاهم وخصهم بمجلس وسألهم عن هذه المقالة وقال لهم : لو شئتم لقلتم وصدقتم جيئتنا طريداً فأويناك حتى يذكرهم بفضائلهم ثم يبين لهم حكمة هذا الفعل وأنه أراد أن يتألف بهذا المال أقواماً حديثي عهد بإسلام وأنتم وكلتكم إلى إيمانكم وصبركم , ثم أثنى على الأنصار وقال : لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار , ولو سلك الناس شعباً ووادياً لسلكت شعب الأنصار وواديهم , اللهم أغفر للأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار حتى أخضلت لحاهم بالدموع .

موقف يختلف تماماً عن الموقف الأول والموقف الثاني مع أن الشخص الذي ينظر بحالة ظاهرية يقول : هؤلاء أساوا وهؤلاء أساوا وهؤلاء أساوا وقد قيل ليس هذا افتراض , بعض الناس طرح سؤال أن الأنصار قد شتموا الرسول أو طعنوا في الرسول واستدل بها بطريقة خاطئة ما الفرق ؟ الفرق في السياق  فرق بين شخص يطعن في عدالة الرسول وقوله للرسول "اتق الله" دلالة على طعن في عدالة الرسول فلا يبقى بعد هذا الطعن أي ثقة بالدين نفسه فكان موقف الرسول منه شديد وفرق بين الموقف الثاني الموقف الذي فعلاً ليس مهذباً  لكن موقف الأعرابي الذي يتحرك وفق سجيته وطبعه فهو لم يتعمد إساءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتعمد طعناً فيه و إنما هو يتعامل حسب تربيته وطبيعة بيته فما في الحقيقة أساء بحسب تصوره والموقف الثالث موقف الذي له سابقة وجهاد وصبر ووقوف مع النبي صلى الله عليه وسلم وخفيت عليه حكمة من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم فتساءل عن وجه هذه الحكمة .
فتفاوت النبي صلى الله عليه وسلم في تعامله مع هؤلاء نظراً لاختلاف الحال .
وهكذا الأمر السياق القرائن تؤثر , لا يتعامل الشخص معها تعاملاً ظاهرياً يقول : هذا قول فقهي وينتهي الأمر , لا , السياق الذي يوضع فيه القول الفقهي يؤثر فقد يقلب الأمر إلى مفسدة يقينية منحرفة لا يمكن أن يقبلها فقيه بينما السياق نفسه الفقهاء يراعون في تقرير أحكامهم طبيعة السياق .
ولأجل ذلك من الملفت أن تجد المفسدين والمنحرفين يبتهجون ويفرحون ببعض الخلافات الفقهية ما السبب ؟ يعني تجد بعض الناس يفرح بقول فقهي وهو من أشد الناس عداوة لمنهج الفقه كله فهذا يدل على أن السياق نفسه فهم منه أنه ليس سياقاً فقهياً إنما سياق يحقق أهدافه ومراميه .
ولأجل ذلك من الخطأ البين أن يأتي الشخص فيتحدث عن الخلاف الفقهي في وقت التوظيف , يعني عندما يأتي شخص يوظف خلاف فقهي لأجل مقاصد سيئة من الخطأ و القصور الفقهي والقصور في إدراك الواقع أن أتحدث في هذا الوقت عن الخلاف الفقهي ؛ لأن المسألة تعدت  مسألة الخلاف إلى مسالة التوظيف .
ولأجل ذلك أيها الإخوة والأخوات إذا وظف الخلاف الفقهي في تعطيل مصالح الناس الدنيوية والإضرار بمصالحهم فإن الناس كلهم يستنكرون هذا الفعل , ويفهمون أن الذي يتحدث صاحب هوى ومتعدي وظالم ؛ لأنه يمس المصالح التي يقدرونها وقد صدقوا , يعني لو أن شخصاً بدأ يبرر بظلم وقتل واعتداء وسجن وأخذ أموال بلا حق وبدأ يقول قال بعض الفقهاء والدليل عليه والحديث تجد النفوس تنفر منه وتستشنع موقفه وقد صدقوا وحق لهم هذا , لكن هذه الشناعة لا تأتي في القضايا الأخرى التي تمس القضايا الدينية المحضة التي ليس فيها جانب دنيوي ومصالح مع أن البابين باب واحد هذا الذي يوظف هنا هو نفسه الذي يوظف هناك .


المحور السادس في هذه الورقة ( عناية الفقهاء بصيانة فتاويهم عن التوظيف ) .

والحقيقة عندما بحثت وأردت أن أجمع ما هي الأصول التي عند الفقهاء رحمهم الله تحمي فتاواهم من التوظيف حقيقة وجدت أن كل بناءهم الفقهي يدل على هذا فيشق على الإنسان أن يستخرج مضان معينة ؛ لأن الفقه كله مبني على الصيانة في الفتوى وحفظها وضبطها بحيث لا توظف ولا تستغل استغلالاً سيئاً .

ولا يقع  أساساً في التوظيف إلا أحد شخصين : إما شخص صاحب هوى أو شخص ليس فقيهاً أساساً , يعني لم يدخل في البناء الفقهي كما هو وإنما دخل عليه من النافذة فأخذ مسألة وجمّع أقوال معينة ثم بدأ يتكلم , وإلا لو درس الفقه دراسة كما يدرسه الفقهاء وطلبة العلم سيجد أن البناء الفقهي كله يغذي في نفسه ضرورة حفظ الفتوى وضبط القول ألا ينحرف ذات اليمين أو ذات الشمال .

سنقتصر على معالم أساسية عند الفقهاء يراعون فيها ضبط فتواهم وضبط قولهم ألا يحصل فيه تحريف .


الأمر الأول : ( النهي عن الترخص واتباع الهوى ) .

وهذا من الأصول الفقهية الظاهرة , فالفقهاء وهم يختلفون يقررون للناس أنك في الفتوى لا تأخذ بحسب هواك ولا تترخص, بمعنى أنا أفتيك بقول وفلان يفتيك بقول , انا أحترم خلاف فلان وفلان والمذهب كلها لكنها كلها تتفق أنه ليس من الجائز شرعاً أن تذهب وتستغل خلافنا في أن تتقلب بين الأقوال وتختار ما تشاء بحسب هواك .

فأجمع العلماء على حرمة الترخص بمعنى ليس أن يأخذ الإنسان بالقول السهل وإنما أن يتقصد البحث عن الأقوال السهلة في كل مذهب , فمرة يختار قول في مذهب الحنابلة ومرة يختار وجه عند الشافعية ومرة يذهب إلى المالكية ومرة إلى الحنفية بلا أي ضابط  ولا أي  مسلك ولا أي منهج فقط يبحث عن الأسهل فهو باتفاق الفقهاء المختلفين  اتفقوا أن هذه الطريقة ليست طريقة شرعية .. لما ؟ لأنهم يعون أن هذه الطريقة تعني التفلت من الشريعة , تعني استغلال أقوالهم في الخروج من الشريعة , فكلما اختلفتم ذهبت إلى قول أسهل , ثم إذا  اختلفتم في مسألة أخرى أذهب إلى القول الآخر .

فحقيقة هذه الطريقة أن الشخص لم يعد يبحث عن مراد الله أومراد الرسول عليه الصلاة والسلام إنما يبحث عن ما هو أسهل لنفسه , ولأجل ذلك أتفق العلماء على منعه , واتفقوا على منع اتباع الهوى لا من المفتي ولا من المستفتي فلا يجوز للمفتي أن يفتي للناس بحسب أهوائهم .

ذكروا مثلاً أنه لا يجوز للمفتي أن يفاوت في الفتوى بين الناس , فيعطي بعض الناس فتاوى شديدة , وبعض الناس فتاوى سهلة , فإذا جاءه مثلاً سلطان أو قاضي أو شخص له وجاهة فضاقت عليه المسألة يحاول أن يخفف عليه , ويبحث له عن مخارج وأقوال , وإذا جاءه شخص أخر من عامة الناس شدد عليه في القول هذه صورة معيبة , وينص عليها الفقهاء دوماً أن هذا من اتباع الهوى وليست من المسالك الشرعية , طبعاً الحديث يطول حول هذه الجزئية .


الأمر الثاني من مراعاة الفقهاء في التوظيف ( تحريم الحيل )

فعند الفقهاء حديث واسع عن حرمة الحيل , والحيل هي يتوصل الشخص إلى أمر محرم عن طريق شرعي, فيبحث عن مسلك وطريقة شرعية لأمر محرم فهو جزء من التوظيف .


أيضاً عند الفقهاء من الأصول ( مراعاة أفهام الناس )

فالشخص عندما يفتي يجب عليه أن يراعي أفهام الناس حتى يضمن أن فتواه ورأيه لا تفهم خطأً ولا توظف بشكل سيئ فكما قال علي رضي الله عنه "حدثوا الناس بما يعقلون أتريدون أن يكذب الله ورسوله" إنك إن تحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة" وهذا من الفقه والوعي أن الشخص يراعي أفهام الناس .
ويذكر الفقهاء مثلاً من هذه الصور أن الشخص إذا جاء المفتي يطلب ترخصاً وتساهلاً فإنه لا يفتيه يعني إذا جاء شخص لا يريد الحق ولا القول الفقهي فقط جاء يسألك حتى يبحث عن قول سهل فإن العلماء يذكرون أن مثل هؤلاء لا يجاب ولا يحقق له مطلبه ؛ لأنه مطلبه ليس مطلباً شرعياً .


الأمر الرابع من مراعاة الفقهاء لضبط الفتوى وحمايتها من التوظيف ( مراعاتهم إلى كون الفتوى سياسة )

يعني يراعى فيها الأصلح للناس والأنفع ,’ فليس الفتوى من قبيل الآراء المحضة إنما المفتي يسوس الناس ويراعي أفهامهم وأعرافهم .
تجد عند الفقهاء حديثاً عن مراعاة الأعراف عن الانضباط في الأقوال والانضباط بالمذهب الإلزام بقول معين كل هذه الأصول المتعددة هدفها أن الفتوى هي من قبيل السياسة فلا يصح ان الإنسان يتعامل مع الفتوى بطريقة هذا رأيي أقول به في كل زمان ومكان ولا أبالي, لا خطأ بل يجب عليك أن تراعي الزمان والمكان , فقد تقول في مكان ما لا تقول به في مكان أخر, وقد تسكت في مكان ما لا تسكت به عن مكان اخر , قد ترفع وتشد في مكان وتترخص في مكان كل هذا من الفقه والسياسة التي يجب أن تكون حاضرة وهي تحفظ الفتوى من أي توظيف أو إساءة .

ولأجل ذك مما يذكر هنا فتوى شهيرة للإمام مالك رحمه الله لما استشاره الخليفة أبو جعفر المنصور أن يهدم الكعبة ويعيد بناءها على قواعد إبراهيم لأنه كما تعلمون أن الكعبة كانت في الجاهلية على قواعد إبراهيم ثم قصرت بهم النفقة فأخرجوا جزءً منها ثم اعادها عبدالله بن الزبير رضي الله عنه ثم رجعت كما كانت في عهد عبدالملك بن مروان , فأراد أبو جعفر المنصور أن يعيدها كما كانت في عهد عبدالله بن الزبير وهو الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم .

كان فقهاً ودليلاً ليس هناك شيء يمنع من فعل أبو جعفر المنصور بل قد يقول بعض الناس أن هذا هو الأقرب للنص الشرعي أن تعيدها على ما أراد به النبي صلى الله عليه وسلم لكن عمق فقه هذا الإمام رحمه الله أدرك خطورة هذه المسألة على العبث بالكعبة , أن أبو جعفر يعيدها ثم يأتي بعد ثلاثة عشر سنة او عشرين سنة حاكم ويفعل وثالث ورابع حتى تسقط هيبة الكعبة أمام الحكام , فقال : يا أمير المؤمنين لا تجعل بيت الله لعبة بيد الملوك كل ما جاء ملك قال أهدم وأبني فتركها وحفظ الله بيت الله من اثر ومغبة هذه الفتوى ببركة هذا العالم مع انها فقهياً أيها الإخوة ليس فيها شيء يمنعها لكنها الرؤية المقاصدية العميقة لهذا الإمام راعت خطورة مثل هذه الفتوى لاحقاً .


أيضاً من الأصول ( سد الذرائع ) .

وسد الذرائع هي منع لمباح خشية من الحرام فما بالك بمنع أو مراعاة قول فقهي خشية من الحرام لا شك أنه من باب أولى .


أيضاً عند الفقهاء حديث عن مراعاة ( فساد الزمان ) .

فتجد بعض الأقوال تكون جائزة في زمان لكن يقولون في زمان أخر يحرم أو يمنع أو ينهى عنه أو يجوز , لماذا ؟ ما الذي تغير ؟ يقولون : فساد الزمان ,وتغير الأحكام بتغير الزمان والمكان . 
الحديث حول الأصول الفقهية حقيقة يطول وكما ذكرت في أولها أن كل كلام الفقهاء حقيقة ضبط لباب الفتوى ولباب الخلاف الفقهي ألا يوظف توظيفاً منحرفاً .


بعد ذلك نأتي إلى النقطة السابعة في هذه الورقة ( صور معاصرة للتوظيف ) .

سأتحدث عن خمسة صور معاصرة حصل فيها توظيف للخلاف الفقهي , والحقيقة أن الصور كثيرة لكن سأقتصر على خمس أربع سأذكرها إجمالاً والخامسة هي التي سأطيل الحديث حولها لأننا نحن حديثي عهد بها .

الصورة الأولى : ( مسألة الزواج بنية الطلاق ) .
والصورة الفقهية المعروفة ان يتزوج شخص من امرأة وهو ينوي عدم استمرار النكاح , وإنما ينوي أنه متى ما قضى سفره أو قضى حاجته طلق زوجته ورحل , جمهور الفقهاء على جواز هذه الصورة لا إشكال فيها , وفي زمانهم كانت هذه الصورة في الحقيقة محققة للمصلحة ودافعة للمفسدة ولا إشكال فيها , الذي حصل أن هذه الفتوى وظفت في الحالة المعاصرة فأصبح بعض الناس يتزوج بطريقة هي في الحقيقة نكاح متعة لا إشكال فيها .

يذهب إلى مكان معين بطريقة معينة الزوج والزوجة والشهود والولي وكل الناس يعرفون أن الزواج زواج محدد يعني أصبح المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً, فما في فرق بين أنك تنص في الشرط او أن يكون هناك عرف .

فهذه الصورة ظاهرة الفساد في حالتها المعاصرة فلا يمكن أن يكون هذا هو قول جمهور الفقهاء ما الذي تغير ؟ السياق كله تغير , سياق زمان الفقهاء يختلف تماماً عن السياق الذي وظف فيه في الحالة المعاصرة ؛ لأن الفقيه في الحالة السابقة كانوا يتحدثون عن شخص يسافر إلى بلد معين سيجلس فيه عشر سنوات او خمس سنوات هو يجزم أنه لن يستقر في هذا البلد فيقول أريد أن أتزوج في هذا البلد سيحصل بهذا الزواج أني أغض بصري, أكف نفسي عن الحرام وأكف امرأة عن الحرام ويحصل بيننا ذرية ونفقة فيها مصالح كثيرة, لكنني بعد خمس سنوات سأذهب

في الحقيقة ليس هناك مانع يمنع من الزواج خاصة أنك تضمن مصالح قطعية على احتمال انك بعد خمس سنوات سيرحل .
والواقع أن كثير من الزواجات يحصل فيها الطلاق بعد شهر أو شهرين فهي أكثر فساداً من هذه الصورة , ولأجل ذلك كانت الفتوى مبنية على هذه الصورة وهم يقولون أيضاً أنها في النهاية هي نية قلبية لا يعرف أحد ما في قلبك أساساً .
يأتي بعض الناس بهذه الصورة فيذهب بطريقة يعرف الناس كلهم أنها ليس لها علاقة بالزواج فلا يبالي أساساً بمن تزوج ولا بالشروط ولا بالولي ؛ لأن هدفه واضح عند الجميع .
فالصورة اختلفت تماماً نظراً لاختلاف السياق بين الصورتين فانطلقت من المصلحة الكبرى عند الفقهاء إلى مفسدة يقينية ظاهرة عند الحالة المعاصرة نظراً لأنها أصبحت حالة توظيف ليست اعتماد حقيقي على الفتوى .


من الصورة المعاصرة  الحاصلة بها التوظيف ( الربا ) .

استند بعض الناس إلى وجود خلاف فقهي في علل الربا فبعض العلماء على مسالك كثيرة في تحديد علة الربا , وبعضهم يقول الربا منصوصة فقط بالتي نص عليها النبي صلى الله عليه وسلم , استغلوا وجود هذا الخلاف مع خلاف ابن عباس في ربا الفضل إلى الوصول أن ربا الديون البنوك الواضحة المعاصرة القطعية هي من قبيل الخلاف الفقهي فأصبح قولهم في الحقيقة إزالة لباب الربا مطلقا من الحالة المعاصرة بحيث انه لا وجود أبداً لأي ربا في الحالة المعاصرة إلا في أضيق الحدود فوقعنا في مفسدة يقينية ظاهرة نظرا لنقل الخلاف الفقهي في غير مكانه .


الصورة الثالثة ( الاختلاط )  .

أيضاً بعض الناس يستغل أقوال معينة للفقهاء أجازوا فيها صوراً من الاختلاط معينة , والإشكال في الاختلاط أيها الإخوة والأخوات ليس الإشكال في الاختلاط أن امرأة  تلتقي مع رجل في مكان معين , الإشكال في الاختلاط التي يكابر الذين يسوّقون له عن الوقوف على المنطقة المحددة للخلاف هو صورة من صور الاختلاط لا يمكن أن تجتمع مع الضوابط الشرعية التي وضعتها الشريعة للعلاقة بين الرجل والمرأة .

تحدثني عن غض بصر, حجاب, تزين, تعطر, خلوة, و وو تعطيني عشرين من الآداب الشرعية للعلاقة بين الرجل والمرأة ثم تضع لي صورة لا يمكن أساساً أن تتحقق مع هذه الضوابط إلا في أضيق الحدود , يعني حققها 10 % أو 15 % لكن تجزم أن هذه الصورة لا تجتمع مع ضوابط الشريعة يعني لا يمكن أن تجمع الشباب والفتيات في قاعة دراسة أو قاعة عمل ثم تقول أنا الغالب على ظني أن الضوابط الشرعية لن تنتهك , بل أنت تعرف قبل غيرك أن هذه البيئة نفسها مؤدية إلى انتهاك هذه الضوابط يقيناً , وبالتالي هذه الصورة لا ينازع فقيه في تحريمها .

أما تبقى صور مشتبه مشكلة هي التي قد ينازع فيها الإنسان , أما هذه الصورة لا يقل احد من الفقهاء بمثل هذه الإباحة .

الصورة الرابعة ( حرية الردة )

 وهو أن بعض المعاصرين أستند إلى ما روي عن بعض التابعين كإبراهيم النخعي ونُقل عن سفيان الثوري رحمهم الله أنهم قالوا عن المرتد ( يستتاب أبداً ) فقالوا في هذا دليل على أن الشريعة تكفل حرية الأديان وحرية العقائد , بمعنى أنه بإمكان الشخص أن يقول ما شاء وينشر دينه وكفره وظلاله ولا يحاسب ؛ لأن سفيان الثوري وإبراهيم النخعي قالوا : يستتاب أبداً – فهذا خلاف فقهي صحيح ومشهور لكنه سيق في مسألة بعيدة جداً عن كلام هؤلاء الأئمة , ففي النهاية هؤلاء الأئمة يقولون يستتاب بمعنى يوقف عند قاضي ويطلب القاضي توبته فإن رفض يطلب منه ثاني مرة فثالث مرة بمعنى له حرية أو ليس له حرية ؟ ليس له حرية قطعاً , بل قول سفيان الثوري والنخعي أشد في الحالة المعاصرة وفي رفض الثقافة الليبرالية من قول "من بدل دينه فاقتلوه" لماذا ؟ لأن القتل حالة واحدة في الثنتين أما هذا الرجل ستبقى تمارس انتهاك حسب مفهومهم عليه بشكل مستمر , فالنفرة من هذا القول بحسب الثقافة الليبرالية يجب أن تكون أشد من موقف واحد وإن كان في طبيعته سيكون أشد عقوبة..


الصورة الخامسة من صور التوظيف وشهدنا حديث كبير حولها ما يتعلق بحالة  ( جواز كشف المرأة لوجهها ) .

هذه الصورة يكثر عند المعاصرين الحديث حولها , تجد بعض الصحفيين والليبراليين , والذين عندهم أساساَ إشكالات كبيرة حريصين على إظهار القول الفقهي في هذه المسألة , وحريصين على قول الطبري وما هو الراجح في مذهب الشافعي ويعيدون هذه الأقوال ويظهرونها بشكل غريب ولا يلامون على موقفهم ؛ لان يحقق أهدافهم , يلام الشخص الذي لا يتفطن لهذا السياق الظاهر الذي يوضع فيه هذا القول .

أولاً : تجد في هذا السياق من باب التوظيف الحديث عن حجاب الوجه بطريقة الدعوة إلى السفور وتحسين السفور وإباحته وتحريض الناس عليه وتشجيعهم والظن أن هذا الأمر قال به بعض الفقهاء من قبل , وهذا جهل إن كان الشخص لا يعلم , وسوء قصد إن كان الشخص يعلم ففرق كبير بين عالم يرى الجواز , وبين شخص يحرض على الإباحة .

فالذي يرى الجواز في النهاية يقول أنا أمام مشروع ومستحب وفاضل وكامل ويحث النساء على الحجاب , ويقول يا نساء المؤمنين هذا أستر لكم وأفضل وأقرب إلى الله وأشجعكم عليه إلخ .. موقفه لا يختلف عن الطرف الأخر في الحث على الحجاب , أما يأتي الشخص فيحرض على السفور فالحقيقة أنه يحرض على انتهاك مشروع , وإذا زاد الجرعة أصبح يقول : السفور يعطي المرأة حرية وصلاحية , فهو في الحقيقة جالس يحرض على الشريعة  وليس المسألة لها علاقة بأي قول فقهي تماماً .

كما أن بعض الفقهاء يقول صلاة الجماعة سنة لكن لا يمكن لأي فقيه في الدنيا يحرض الناس يقول صلوا في بيوتكم , أو يقعد عند باب المسجد وإذا جاء أحد يصلي قال : ( ترى الجماعة ليست بواجبة لو تصلي في بيتك لا تشدد على نفسك ) أو يطلع في مكان عام ويقول الذين يصلون في بيوتهم أو يصلون في المسجد كأنه قول في مقابل قول , بل تجدهم يحرضون الناس على الجماعة ويحثوهم عليه ويطالبونهم به , بل بعضهم يعزر عليه يؤدبهم عليه فيعامل السنة كأنها واجب , ففرق شديد بين الشخص الذي يحرض على السفور ويحسنه وبين شخص يرى الإباحة فهذا انحراف وتوظيف للخلاف الفقهي لشق الفضيلة ودعوة إلى انتهاك هذه الشعيرة العظيمة التي تحفظ ستر المرأة واتفق الفقهاء كلهم على مشروعيتها واعتبارها .

تجد هذا التوظيف يبخر ويزيل كل الضوابط التي وضعها الفقهاء في هذا الموضوع .

الفقهاء يتحدثون عن النهي عن التبرج وعن التزين والنهي عن التعطر والنهي عن الخلوة والنهي عن الاختلاط والنهي حتى أن تضرب المرأة برجلها على الأرض حتى لا تثير دوافع المحرم يعني دقة في ضبط هذا الباب , فكل هذه الضوابط تذهب ويبقى فقط أن الفقهاء يقولون بهذا القول ,
هل هذا خلاف فقهي أم سياق وضع فيه هذا الخلاف ؟

الفقيه الذي يتحدث عن الوجه هو أشد الناس محاربة للتعري والتفسخ وكشف الشعر وغيرها يطالب بها ويحرض الناس عليها ويأمر بها هل من يدخل في هذا السياق يتحدث عن هذه المنكرات , فقط إشاعة لهذا القول وسكوت عن ما يحتك بها, فهو مثل الشخص الذي يذم الناس ويحرضهم على ترك صلاة الجماعة وهو يراهم لا يصلون الفجر أساساً ولا يصلون الظهر ولا العصر هل يقبل فقيه هذا ؟ أن يحرض الناس على ترك صلاة الجماعة وهو يعرفهم أساساً أنهم ما يصلون هل يقبل بهذا فقيه ؟ أبداً , إنما هي حالة توظيف واستغلال بعض من يقبل الدخول في هذه الأهواء بأن يدخلون في هذه الدوامة حتى يشقون بها انحرافات ومخالفات شرعية ظاهرة .

ولأجل ذلك عندما تنظر للصورة الكلية لهذا المشهد تجد صورة شخص يحرض على السفور يحسنه للناس , ويسكت عن المنكرات المحتفة بهذا السفور, ويشنع ويشدد على من يرى الوجوب وكأنهم متشددين غلاة متطرفين آثمين بهذا الموقف , وفي نفس الوقت يكون الراعي الرسمي لهذا الخلاف قناة أقل ما يقال فيها أنها قناة تشيع الفاحشة في الذين امنوا وتحرض على الرذيلة وتطبّع الناس وتسعى جاهدة بكل ما تملك من قوة أنها تشق الضوابط الشرعية التي بين الرجل والمرأة وتشق وتطبع المحرمات , فلما يخرج الإنسان في هذا السياق هل يقبل عاقل أن هذا خلاف فقهي ؟

أيها الإخوة لو كان هذا خلافاً فقهياً لكان هذا طعناً في الشرع , يعني هل الشريعة تقبل هذه الصورة الظاهرة في الفساد والظاهرة في الانحراف ؟ أبداً , ولا يمكن لفقيه في الدنيا أن يسلك هذا المسك إنما هي حالة توظيف لخلاف فقهي في سبيل تخطي مرحلة معينة وتخفيف شناعة الانحراف عند الناس وإلا مثل هؤلاء الناس لا يبالون أساساً بقول فقهي ولا بما ذهب إليه الشافعي ولا غيره , وإلا لو كانوا يحترمون شعائر الله وحدوده لتوقفوا عن إشاعة الرذيلة في المؤمنين .

النقطة الثامنة : ( فقه سياسة الخلاف ) .
بعد أن طرحنا هذه الأمثلة وهي فقط لتوضيح نموذج نتحدث عنه لا يعني هذا أننا سنلغي الخلاف الفقهي كله , واننا حتى لا يستغل الخلاف الفقهي سنقطعه لا , نحن نتحدث عن ضرورة السياسة أو الوعي في الخلاف الفقهي بحيث يكون الشخص واعياً بقوله ورأيه وبفتواه حتى لا يكون أداءة من أدوات الإفساد من حيث يشعر أو لا يشعر , نحن لا نتحدث عن نيته نتحدث عن ظاهر فعله , ظاهر فعلك يجب أن تكون واعياً ألا يؤدي إلى فساد .

أولاً :
مساحة الخلاف التي توظف هي مساحة محدودة , فالمفسدون لا يريدون كل الخلافات الفقهية إنما يريدون بعض الأجزاء لفقهية التي تحقق لهم مراميهم .
والمقصد ليس إلغاء الخلاف الفقهي , لا نقول لا تقول رأيك ولا تكتبه لا , الحديث يجب على المستفتي أن يكون واعياً وعلى المفتي أن يكون واعياً , واعياً بماذا ؟ بواقعه الذي يتحدث فيه بحيث لا توظف فتواك لا يوظف قولك في طريق محرم .
ليس من المنطق تماماً أن شخص ما ينتبه إلى كل هذا السياق ويقول أنا فقط أتحدث في قول فقهي , ويريد من الناس أن يحسنون الظن فيه , حتى لو كان قلبك طاهراً وليس لك أي مقاصد لا يمكن للناس أن يحسنوا الظن بقول فقهي يدخل في كل هذا السياق المحرم .

ولأجل ذلك من الأخطاء للأسف التي يسعى بعض الناس في تحريض بعض المنتسبين لأهل العلم عليها: الحديث عن الفتوى بطريقة كأنها رأي شخصي يعني مخاطبة طلبة العلم وكأن الفتوى لهم كأنها أراء شخصية يعني كونوا جريئين , شجعان , ولا تخافون , واقتحموا المحرمات, حتى يشعر بعض الناس أنه بقدر ما يثير من الصخب واللجج ويحرك المجتمع بقدر ما يدل على انه متمكن وشجاع وفقيه , إذا فتواه لا تسبب إرباك ولا تسبب إزعاج يشعرون أنه ليس بذاك الفقيه هذه اللغة هي لغة صحفية للأسف أنها تستفز بعض الناس لسبب أو لآخر لكنها في الحقيقة ليست لغة فقهية أبداً , ليس في البناء الفقهي تحريض الناس على الفتوى بهذه الطريقة بل المؤصل والأساس الفقهي هو التحرز من الفتوى والتأني فيها والتريث ومراعاة المصالح والمفاسد , ليس صحيحاً أن يتعامل المفتي مع الفتوى بطريقة أنا أقول رأيي ولا أبالي لا , بل قبل أن تقول رأيك يجب أن تراعي الناس كيف يفهمون رأيك , وكيف سيصل إليهم هذا فالفتوى دين وليست المسألة رأي شخصي يعني بقدر ما أنا أسبب حراك وجدل وصخب فهذا يدل على أنني أحدثت حراكاً , فهذا حقيقة لا يجوز لطالب علم ان تغريه هذه اللغة هي جزء من الهوى والذي يجب أن يكون منتصباً أمام العالم وأمام الفتيا هو المصلحة والسياسة الشرعية بمعنى أنه ليس صحيحاً أن أي قول فقهي يجب أن يشاع في كل زمان ومكان , يعني بعض الناس يتحدث عن الأقوال الفقهية وكأن وجودها في كل زمان ومكان هي من أصول الإسلام يقاتل عليها ويستميت في الدفاع عنها وهذا غير صحيح، مجرد ترك قول فقهي مراعاة لزمان أو مكان أو لمصلحة أو ساسة هذه من بدهيات الفقه ولا أحد ينازع فيها , إنما اللغة الصحفية هذه هي التي أحياناً تربك بعض الناس وتوقعهم في مواقع غير شرعية شعر بذلك أو لم يشعر .

ولأجل ذلك عندما نعود إلى مسألة القول بكشف الوجه , عندما يأتي شخص ويعرف أن مجتمع ما يرى وجوب غطاء المرأة وجهها وهو على أوسع شيء إذا قبلنا بكل ما قيل في الخلاف فهو قول مشروع والنساء والرجال تبع لعلمائهم وعلماؤهم يرون الوجوب وهذا القول يحفظ النساء ويحقق لهم مقاصد ويسترهم , وفي نفس الوقت القول الآخر بدأ في مجتمعات حولنا فأدى إلى انتهاك الشريعة , قد تعجبون إذا ذكرت أن قاسم امين صاحب الدعوة المشهورة لتحرير المرأة كتابه الاول في تحرير المرأة كان يتبنى مسألتين فقط المسألة الأولى كشف المرأة لوجهها والمسألة الثانية تعليم المرأة وتربيتها فقط , كان كتابه الاول الذي أحدث ضجة هو هذا الأمر ثم سنة سنتين قفزوا إلى ما بعدها .

فالتجربة تثبت أن المسألة ليست مسألة قول فقهي , وأن المسألة هذه هي  مسألة قطع وإزالة للشريعة من الشعائر وفي النهاية غاية ما يسلكه الشخص أن يسكت مراعاة لهذا الأمر أو يحيل الفتوى إلى من يرى الوجوب , هل يقول أحد ان هذا خطأ ؟ بل هذا هو الفقه والوعي  ولا أحد ينازع فيه فالسياسة الشرعية فيها ظاهرة , مع ذلك لو شخص خالف المهم انه يفهم ويعي السياق , إذا خالف لا يدخل في سياق من التحريض على المحرم وتشريع الفساد ويكون أداء من أدوات المنحرفين في هتك ستار هذه الشعيرة .


أختم بالنقطة الأخيرة وهي ( كيف نحفظ الفقه والخلاف والفتوى من التوظيف ؟ ) .


الحقيقة حفظها بمنهج الفقهاء للخلاف الفقهي وهو واسع وكبير ويستحق لمحاضرة خاصة , ولكن سأختصر بجزيئة أنا أراها كافية وهي كلام الفقهاء عن ضرورة أن يختار الإنسان في فتواه من يثق في دينه وعلمه ؛ لأن الفتوى ليست أي شخص يخرج في قناة فيطير الناس بفتواها ولا أي شخص يريد استفزاز المجتمع فيذكر أي قول شاذ فيصبح من المشاهير,  لا ,  إنما لا يؤخذ هذا الدين إلا عن شخص تثق بعلمه وتثق بدينه , وبداهة أنك لن تثق بدين وعلم شخص إلا بعد أن تختبره طويلاً وتعرف علمه ومؤلفاته وتخبر حياته فيحصل من خلال هذه الخبرة الطويلة الطمأنينة إلى علمه ودينه ومثل هؤلاء عادة لا يوظفون ؛ لأنهم أهل علم ودين فيصعب ويتعذر استغلالهم , إنما الإشكال أن يكون أي شخص يخرج في أي قناة فيقول فتوى يصبح مفتياً ويصبح معتمداً , ويصبح هناك من يتناول موضوعه , بل أحياناً بعض الناس لا يُعرف إلا من خلال الفتاوى المثيرة للجدل , بمعنى أن كل  ما يعرفه الناس من علم هي هذه الفتاوى , لا يعرف الناس عنه تدريس ولا كتب ولا تعليم ولا أي شيء فقط أربع خمس ست فتاوى أثارت الصخب فأصبح مفتياً وهذا غير صحي .

ليس من الأمر الصحي ولا المقبول شرعاً أن يصبح ما بين الشخص و بين ان يكون عالماً مفتياً مؤثراً إلا القنوات الفضائية , وأن تكون القنوات هي التي تضع لنا المفتين , إنما الصحيح تعزيز هذه القاعدة وتعميقها وتربية الناس عليها يجب عليك أن تثق في علمه ودينه , كيف أعرف بعلمه ودينه ؟ هذا بينك وبين الله وسيحاسبك الله عليها وهي من العبادة الخاصة كما أنك تراقب الله في صلاتك وصومك وحجك فلا أحد يعرف عن تفاصيل ما تفعل , كذلك لا أحد يعرف عن تفاصيل الفتوى التي تأخذ بها .

فرغه : محبك فهد بن سعيد الغامدي - جدة
0555717957

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
د.فهد العجلان
  • مقالات
  • السياسة الشرعية
  • سيادة الشريعة
  • محاضرات مفرغة
  • معركة النصّ
  • الفروق الفيسبوكية
  • المؤلفات
  • الصفحة الرئيسية