بسم الله الرحمن الرحيم

النبت الذابل!

النبت الذابل! ( 1 )
في هذا اليوم الاثنين: 16/11/1409هـ ـ 19/6/1989م أقلعت بنا الطائرة الفرنسية من مطار دلهي الدولي في الساعة السادسة إلا ربعاً صباحاً بتوقيت الهند متجهة إلى بانكوك.
نظرت من النافذة إلى المدينة الهندوسية، وتذكرت ماضي المسلمين فيها وفي الهند كلها، حيث كانت تعنو فيها الجباة لله، وكانت العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، يقود أهلها رجال عظام من المسلمين الذين أناروا بدين الله أرجاءها وأقاموا بعدل الإسلام دولتها، وحطموا قلاع الظلم فيها، وأرسوا قواعد المساواة بين الناس، فلا فضل لشريف على وضيع ولا لغني على فقير ولا لأبيض على أسود، إلا بالتقوى إن أكرمكم عند الله أتقاكم .... مضى على ذلك زمن نبغ فيه من أهل البلاد علماء في كل علم من علوم الإسلام، وبرز منهم قادة عظام في كل شأن من شؤون الحياة، ثم استدار الزمان شيئاً فشيئاً حيث بدأ أمراء المسلمين يهتمون بمأكلهم ومشربهم ومنازلهم ومراكبهم وجواريهم، ويسخرون أموال الدولة والرعية لترفهم، ونسوا رفع راية دينهم، فنزلت بهم سنة الله، فسلط عليهم من أخذ مقود القطار من أيديهم، فأصبحوا رعية محتقرة، بعد أن كانوا رعاة بررة، وذلوا بعد العز، وافتقروا بعد الغنى، وتفرقوا بعد التجمع، وجهلوا بعد العلم، وصاروا قلة لا يحسب لها حساب، وكان ذلك كله يقتضي منهم العودة إلى الله وتطبيق دينه والاعتصام بحبله، والتعاون على جلب مصالحهم ودفع مضارهم، ولكن المؤسف أن القوم تعمدوا التفرق ونسوا أمر الله لهم بالتوحُّد، كأمره لهم بالتوحيد، وأن العدو الشرس يتربص بهم الدوائر لتدميرهم والقضاء عليهم، ويسره هذا التفرق الذي هو الطريق إلى انتصاره، عليهم فيقتل النفوس وينهب الأموال ويدنس المقدسات.
وعند اشتداد الأمر انقسموا فيما بينهم: طائفة تدعو إلى إقامة دولة مستقلة للمسلمين، وأخرى ترى البقاء على وضعهم، فأقيمت الدولة الباكستانية بشقيها من أجل أن ينعم المسلمون بحكم الله، ويتنسموا عبير القرآن والسنة، ولكن ما إن قامت هذه الدولة حتى صار أهلها شيعاً وأحزابا،ً هذا يساري وهذا يميني، ودعا أهل الحق إلى الحق فخذلوا من قبل الدولة وتلك الأحزاب المتفرقة، ثم أنزل الله بهم بأسه فاقتتلوا فيما بينهم استجابة لتحريش عدوهم، وانفصلت الباكستان الشرقية عن الغربية تحقيقاً للقومية البنغالية، فضعفت الدولتان، وضعف المسلمون في الهند أكثر من ذي قبل.
ولكن رجال العلم والدعوة – وإن قلوا – لا زالوا يسقون هذا النبت ويتعهدونه بعلمهم وفكرهم ودعوتهم ، ومن هؤلاء الشيخ العلامة أبو الحسن الندوي المشهور في العالم كله . ( 2 )
تذكرت كل هذا وما جرى من نقاش أمس في نفس هذا الموضوع، وكنت أريد أن آخذ راحتي في الطائرة فأنام تعويضاً عن النوم المفقود بالليل، ولكن عيني جفتا وأبتا أن تغمضا، وتحركت العاطفة وأنشأت هذه القصيدة تحت هذا العنوان
النبت الذابل

حنانيك يا دلهي فأرضك تشهد ====== بما قد بنى الأجداد فيك وشيدوا
أتوك بنور الله والوحي والهدى ====== وليلك (في الشمس المضيئة) أسود
فأضحت منارات المساجد أزمناً ========= من الدهر ذَيَّاكَ الظلامَ تُبَدِّدُ
وأحيا كتابُ الله في كل بلدة ======== قلوباً بها كانت مواتاً تَجَلْمَدُ ( 3 )
وأرسى رجالُ الله بالعدل دولةً ======== ودكوا قلاع الظلم دكاً فأخمدوا
وأهدوا إلى المنبوذ عزاً وسؤددا ======= وما كان للمنبوذ في الهند سؤدد
فصار وضيع القوم مثل شريفهم ======== بتقواه يعلو من سواه ويُحمَد
ونصت إلى الحادي حشود وأعنقت ====== لتنهل من عذب به طاب مورد
وأصبح في أهل البلاد نوابغ =========== لهم همم بالعلم تسمو وتسعد
فأشرقت الدنيا بنور علومهم ========= وما زال غرس القوم فيها يجدد
ولكنه غرس تقادم عهده ============= وقل من الساقين من يتعهد
ينادي جميع المسلمين إلى الهدى ======== ويحدو بهم أن فكروا وتوحدوا
وكانت لهم في الأرض ريح ودولة ====== ولكنهم صالوا عليها وأفسدوا
فقد تركوا الحبل الوثيق وأدبروا ========= وفرقهم بُعْدٌ عن الحق أَبْعَدُ
وحل محل الحب والأمن والرضا ======= عداء وخوف واضطراب مشدد
فأرضوا بصدع المسلمين عدوَّهم ========== ليَفْرَغ لاستئصالهم مُتَمَرِّد
فما بقيت للدولتين مهابة ============ وقلتهم في الهند أضحت تُهَدَّد
فأين رجال العلم أين دعاتهم ========= وأين ذوو الإخلاص أين المجدد
أيذبل نبت قد سقاه جدودكم ======== ويصدعكم داعي الهوى ويبدد
أيجمع ضد الحق أتباع باطل ============= لآلهة شتى عَنَوا وتعبدوا
وينسى دعاة الحق أمر إلههم ========= بوحدتهم كالأمر في أن يوحِّدوا
يُرَبَّى شباب ذو صفاء وفطرة ======== على أن يوالوا في الْمُرَبِّي ويَحْقِدوا
فتنشأ في الحزب الصغير مذاهب ========== ويصبح مأمورٌ أميراً يُقَلَّد
وترتكب الآثامَ لمزاً وغيبةً ========== جماعةُ هذا وهو في القوم يشهد
وذلك في ذات الإله بزعمهم ======= وأحزاب أهل الكفر ترغى وتزبد
ألا إنه خطب يَجِل مصابُه =========== وفي قعر بحر الذل أهليه يورد
ولكنَّ في أفْقِ السماء مبشراً ========= بغيث لهذا النبت يروي وينجد
وعندئذٍ يزكو وتشتد سوقه ========== وتَرضَى قلوبُ المؤمنين وتبْرد
وتعلو سماءَ الهند والسند رايةٌ ======== ويحني لها الطاغوتَ سيف مهند
فبادر إلى ركب يسوق مطيَّهُ =========== لينصر دين الله وهو المؤيد
ودع عنك ثرثاراً يلوك لسانه ======= بقلتُ وقالوا وهو للأرض مخلد
فليس لدى الْمِفعال قول يقوله ====== سوى ما به يُرسِى الصلاحَ ويسند
وويلُ شَجِيٍّ من خَلِيٍّ ، وعالِمٌ ====== له الويلُ من ذي الجهل- أمرٌ مؤكد
======================
( 1 ) من سلسلة في المشارق والمغارب
( 2 ) وقد انتقل إلى رحمة ربه في آواخر شهر رمضان المبارك من عام 1420 هـ
( 3 ) أي تتحجر ، والجلمود " الحجر .

د . عبد الله قادري الأهدل