بسم الله الرحمن الرحيم

هذه أرض سبخة.. الأرض الطيبة هناك...
10/9/1423


من قدرنا نحن البشر أن خلقنا الله تعالى للحياة الدنيا والحياة الآخرة، مرحلتان: نبتدأ بالدنيا وننتهي في الآخرة، وكل من الحياتين لهما مزايا وأحكام معلومة.. الكل يعترف بفضل الآخرة، والكل يعترف بكبد الدنيا، لكن الكل كذلك يقبل على هذه العاجلة ويذر الآخرة، إلا قليلا..!!..
ربما أصبح الكلام في ذم الدنيا ممجوجا، فالمادية غزت جماهير البشر حتى المسلمين، فإذا كنت محدث الناس، فحدثهم كيف يحصلون الأموال، وكيف يصرفون، وكيف يبنون، وكيف يتمتعون؟..
لا تحدثهم عن التقلل من الدنيا، أو الزهد فيها والاكتفاء بما يقيم صلبهم، لا تحدثهم عن خطورة الإغراق في شهوات الدنيا ومباهجها.. هذا ثقيل عليهم، وربما ضحكوا على عقلك، فجعلوك صوفيا أو باعثا لدين الرهبان، فالناس – إلا القليل – على صنفين:
- صنف مغرق في الدنيا، ناس للآخرة، فهو يضيق بالكلام فيه ذم الدنيا، لأنها رأس ماله، وليس لديه استعداد للتضحية..
- وصنف يعلم فضل الآخرة ودناءة الدنيا، لكن الشيطان غره وخدعه..
لا أحدثكم عن الدنيا إلا من كلام الله تعالى، الذي خلق الدنيا والآخرة، وجعل فيهما ما فيهما، وإذا جاء الكلام عن الله سبحانه فاعلم أنه صدق وحق يقين، وهو برهان ونور، قال تعالى:
{يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا * فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما}.

* * *

- أساليب القرآن في التحذير من الدنيا:

(1) أسلوب المقارنة والتشبيه.
في القرآن آيات كثيرة تقارن بين الدنيا والآخرة، والفضل للآخرة، وأما الدنيا فوصفها أنها متاع، والمتاع: "ما يتمتع به مما لا يبقى"، قال الشاعر [المحرر الوجيز 3/311]:
تمتع يا مشعث إن شيئا سبقت به الممات هو المتاع
تلك المقارنة تكشف حقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة، وفيها تزهيد وترغيب، فمهما بلغت زينة الدنيا ومتاعها فلن تبلغ في ميزان الآخرة إلا قليلا، إلا كمثل أن يضع المرء أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع، كما في الحديث، فزينة الآخرة أحسن وأبقى، وزينة الدنيا زائلة وأدنى..
- {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب * قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد}.
- {الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع}.
- {وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون}.
- {وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كان يعلمون}.
في بعض الآيات تشبيه لها بالزرع إذا اهتز وربى واخضر بعد الماء، ثم يقل الماء وتذهب النضرة، فيهيج، فيصفر، ويموت، وربما جاءه إعصار أو نار يحصده، حتى لا يغني.. وهكذا نهايات الدنيا دائما، لمن تعلق بها، وأعجب بزينتها.. ونحن نرى هذه الآية في الزرع كل يوم، وهي تذكرة بحقيقة حالنا فيها، قال تعالى:
- {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهوٌ وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور * سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم}.
- {إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون * والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}.
- {واضرب مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا * المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا}.

(2) أسلوب الوعيد.
في بعض الآيات وعيد شديد، وتفسيق لمن قدم حب الدنيا على حب الآخرة ومتعلقاتها، ووصف للدنيا بأنها غرور، ونهي عن اتباع سبيل الذين غرتهم الحياة الدنيا، قال تعالى:
- {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين}.
- {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل}.
- {يا أيها الذين آمنوا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور}.
- {وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا}.

(3) أسلوب التنفير.
من الطرق المتبعة في القرآن التنفير من التعلق بالدنيا، بذكر أن الكفار يستحبونها.. يؤثرونها، يتمنون البقاء فيها، وأنهم بها يشقون، وبها يعذبون، وأن الله يفتح لهم أبوابها مكرا بهم جزاء كفرهم، وفي الآخرة يعذبون عقوبة لذلك. وفي ذلك بيان للمؤمنين أنه يصيبهم ما يصيب أولئك إذا فعلوا فعلهم، فتعلقوا كتعلقهم، قال تعالى:
- {ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين * الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآيات الله يجحدون}.
- {ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا وغرتكم الحياة الدنيا فاليوم لا يخرجون منها ولاهم يستعتبون}.
- {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون}.
- {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون * فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين}.
- {إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون * أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون}.
- {ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعلمون}.
- {وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون * يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون}.
- {زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب}.
- {وويل للكافرين من عذاب شديد * الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولئك في ضلال مبين}.
- {وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون * أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يقوم القيامة من المحضرين}.

(4) أسلوب الاستحالة.
إن إرادة الدنيا تنافي إرادة الآخرة، فمن جعل الدنيا همه لم ينل حظ الآخرة، هكذا يقول الله تعالى، وهو وإن نال شيئا من حظ الدنيا، غير أنه لا ينال إلا ما قدر له، وقد لا يأخذ منها شيئا، فيمضى إلى ربه، فلا هو حصل دنيا، ولا حصل آخرة، قال تعالى:
- {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون * أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون}.
- {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب}.
- {من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا * ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا * كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا * انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا}..

(5) أسلوب التزهيد.
وفي كل حال، فإن الدنيا مهما امتدت، ومهما ازينت، ومهما غرت وخدعت، فمآلها إلى الفناء والزوال، فلا يبقى منها إلا الذكرى، وما يسطر، فلا يبقى من حقيقتها شيء، قال تعالى:
- {يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين}
- {كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها}..
- {ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم}..
- {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون}.

* * *

فهذه هي الدنيا، حقيقتها تملأ القرآن، لا تمر بسورة أو جزء إلا وفيه تذكير بتنوع لما عليها هذه الحياة، فهذا الإلحاح والإصرار على التذكير والتنوع في الوصف لا بد له من هدف وغاية وقصد.. ليس إلا أن يفهم الناس أين موقعهم، وما الأرض التي يقفون عليها، وكأن ناصح يقول لهم:
- هذه ليست أرض سكنى.. هذه أرض سبخة.. هذا مجرى وادٍ كبير.. هنا سباع ووحوش وحيات وعقارب.. الأرض الطيبة هناك، في ذلك العلو، لا تغرنكم بضع شجيرات خضراء، ونهر يجري هنا وهناك، وعشب يكسو الأرض، وفاكهة وطعام، فكلها ليست بشيء إذا ما قيست بما في المنطقة العالية، هناك وراء الجبال، اصبروا، واصعدوا جبلا، جبلا، واقطعوا واديا، واديا، وتسلحوا بكل ما تملكون من أدوات، ينفعكم ويحميكم في الطريق، فإذا نفذتم ووصلتم، سترون شيئا هائلا، لا يقدر الواصف على وصفه، غير أنه أقل ما يقال أن ما فيه لم يخطر بقلب بشر، ولم يبلغ أذن إنسان، ولم تره عين أحد، فلا تلتهوا بما أنتم فيه عما هو مرصود لكم هناك، حيث لا موت، ولا خوف، بل حياة صافية من كل كدر، وكل تعب، ومن كل كبد..
هذه هي الخلاصة، وتلك هي العبرة.. والله المستعان..
 

أبو سارة
abu_sarah@maktoob.com

الصفحة الرئيسة