بسم الله الرحمن الرحيم

لا يدري ما يجري


- إذا ضعف سلطان الشريعة أخرجت الفتن رؤوسها، تبحث عن المفتونين، من استشرفها تستشرفه: أي من تعرض لها تتعرض له..

- فإذا غاب سلطان الشريعة خرجت الفتن برؤوسها وأجسادها تجري وراء الجميع، لاتدع أحدا إلا استشرفته، ففتنتنه، أو كادت، فلا يسلم منها فارُّ مدبر، فضلا عن مستشرف مقبل..

- فيا سعد من عاش في زمن يهيمن فيه سلطان الشريعة ويعلو.. تدفن كل الفتن، وتوصد أبوابها، وتجتث جذورها..

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (
يوشك أن يكون خير مال المسلم: غنم يتتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن) : رواه البخاري


الناس على قسمين: علمــاء، وعــوام..

العلماء لهم دراية بالدين، وخبرة بالفتن والمخرج منها، والسبل الآمنة، علمهم وإيمانهم يحجزهم وينجيهم من الفتن، فلهم التوفيق.. إلا من زل، وقلد بلعام بن باعوراء، فاشترى بآيات الله ثمنا قليلا..

والعوام لا فقه لهم في الدين، ولا خبرة لهم بالفتن، ولا مخارجها وطرق النجاة، وقد لايكون معهم من الإيمان ما يثبت قلوبهم أيام الفتنة، فينجرون وراءها، ويسارعون فيها.

فالواقع: أن كثيرا من الناس لايصلون إلى اليقين في الدين، ولا إلى ترك المنكرات..

فلو شككوا لشكوا، ولو دُعوا إلى منكر لأجابوا، وليسوا كفارا ولا منافقين، لكن:

- ليس عندهم من علم القلب ومعرفة الرب ما يدرء عنهم الريب والشبهة والفتنة.

- وليس عندهم من قوة الحب لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ما يقدمونه على محبة الدنيا.

وهؤلاء إن عوفوا من المحنة دخلوا الجنة، وإن ابتلوا بمن يدخل عليهم شبهات توجب ريبهم، أو شهوات توجب زلتهم، فإن لم ينعم الله عليهم بما يزيل الريب والشبهة وإلا صاروا مرتابين، وانتقلوا إلى نوع من النفاق، ووقعوا في الفتنة..


الفتن بلايا ورزايا، إذا انتشرت أفنت وأضرت، فلم تدع أحدا إلا وله تعرضت.

- في الفتن تكثر تأويلات الزلات.. فمن كان مؤمنا اتقى الشبهات، واستبرأ لدينه..

- في الفتن يحلل الحرام، ويحرم الحلال.. فإذا لم يكن قوامون بالحق، صادعون به، وإلا ضاع.

- في الفتن يتكلم الرويبضة (هو الرجل التافه) في أمر الأمة، فيُسمع له، ويترك أهل الحكمة والبصيرة، فإذا لم يصبروا في رد الناس إلى العلم والعقل، وإلا خدعهم فساقهم بالجهل والعاطفة.

- في الفتن ينفرط الأمر، وتكثر المذاهب المدعية الإصلاح، فلا يدري الناس من يتبعون، فإن لم يقم أهل الحق، ببيان سبيل الصحابة ليعرفه الناس، وإلا تفرقوا شذر مذر.

- في الفتن تكثر الشهوات، وتتزين للمرء عند بابه، وفي بيته، تتعرض له في كل مكان، فإن لم يَعَفّ، ويغض طرفه، ويصرف قلبه، وإلا انساق إليها، وغرق فيها.

- في الفتن كل امرئ حجيج نفسه، وحفيظ دينه، يصونه، ويزجرها، ليس له رادع إلا ذاك، فلن يجد من يأخذ على يديه، فيمنعه من تجاوز الحدود، فلكل أن يجترئ على ما يشاء، فهو بين الفتن وحده، كالغنم القاصية، ولا يأكل الذئب إلا من الغنم القاصية..


كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(
بادروا بالأعمال الصالحة، فستكون فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا، ويمسي كافر، ويمسي مؤمنا، ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا )، رواه مسلم بنحوه والترمذي

- هنا يرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى المبادرة بالأعمال الصالحة، والعادة أن الحض على الأعمال الصالحة يكون للسلامة من شر الآخرة، لكن الحث هنا جاء لأجل السلامة من شر الدنيا، وهذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)..

فالمبادرة بالصالحات وقاية وجنة من الفتنة، وهكذا ينبغي على المؤمن أن يستبق الشر بالخير، فيتخذه درعا وحصنا من الشرور المقبلة..

- وقد بيّن أنها فتن، ليست واحدة، ولا اثنتين، بل جمع، فهي كثيرة لا تعد ولا تحصى.. تأتي من كل من مكان، كقطع الليل، يغشى الناس من كل ناحية، لا تدع ناحية إلا أتت منها..

- والليل مظلم، ومن الذي لا يعرف أن الليل المظلم، والنهار مشرق، لكنه لايكتفي.. فينعته بالظلمة، فهذا التوكيد بذكر الوصف اللازم المعروف، غرضه تعظيم الخوف من هذه الفتن، فكلما زاد وصف الشيء، وكلما دقق في نعته: تبين خطره..

- ثم ذكر اضطراب حال الناس حين الفتن، فمرة إيمان، ومرة كفر، وذلك في اليوم الواحد، من الرجل الواحد، يكون مسلما في الصباح، ثم يرتد كافرا في المساء، ثم يعود مؤمنا، ليرتد كافرا في الصباح، ولعله لايشعر بما يقع فيه من التقلب بين الكفر والإيمان لجهل وغفلة، لكن هكذا يكون حاله.. فهو يصبح على الإيمان، فلا تزال به الفتن، تتعرض له وتتزين، في بيته، وأهله، وولده، وقرابته، وصحبته، وعمله، حتى لا يبلغ المساء إلا وقد أمسى كافرا، ثم يتذكر، فيتوب، ويستغفر، ثم تعاوده الفتن ليعاودها ثانية، وهكذا..

فإن رحمه الله قبضه وهو مؤمن، وإن عامله بعدله قبضه وهو كافر..

- وما فتنته إلا الدنيا، وهي أصل الفتنة، في مباحاتها ومحرماتها: من مال وجاه ورئاسة وشهوات بطن وفرج، فمن الفتن: فتنة المال، وفتنة النساء؛ وكلاهما قد خصا بالتنبيه والتحذير:

قال صلى الله عليه وسلم: "والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا، كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم"البخاري في الرقاق.

ما بسط على قوم في الدنيا، فاغتنوا وأترفوا، إلا وفتح عليهم معه باب الفتنة، لم يتخلف هذا الحكم يوما، فهي علاقة لازمة، الغنى يأتي معه رقة الدين والاستجابة للزلات، وهي الفتن..

لا تقولوا: عثمان، والزبير، وابن عوف، وغيرهم كانوا أغنياء، ولم يفتنوا.. فهذه ليست بحجة، نعم هم ما فتنوا مع غناهم، لأنهم لم يترفوا ولم يتوسعوا بأموالهم في دنياهم، بل عاشوا إلى الفقر أقرب منهم إلى الغنى، الأموال بأيديهم، لكن حياتهم حياة المساكين.. وهكذا كل غني لم يفتن بسبب غناه..

يعسر على المرء أن يجمع بين الترف وسلامة الدين، بل كلما توسع في الترف كلما أنقص من دينه.

ومن هنا تجد القرآن يذكر من أوصاف الهالكين الترف في الدنيا، والعلو فيها، وتشييد القصور، كما يحذر من زينة الدنيا، يقول تعالى: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب}.

أما فتنة النساء، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:
(اتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء) مسلم في الذكر..

فتنة النساء في التبرج والسفور والاختلاط، وفيه هلاك الفرد والأمة، وهذا معلوم ولا يخفى، وكل من أراد أن يفتن أمة، ويضيع أخلاقها ودينها، سعى في نزع الحجاب، والزج بالمرأة بين الرجال في العمل والتعليم والملاهي والمحافل، وكل مكان..

وفتنة النساء مهلكة، تهلك الصحة، فكثير من الأمراض ما شاعت إلا بهذه الفتنة، وهي مفسدة للعلاقات بين الناس، وهي محطمة للأخلاق والفضائل، وهي سبب في كثرة الجرائم، والأمراض النفسية، والحرمان والجنون، والطلاق والعنوسة.. وغير ذلك..


قال تعالى: {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون}..

فالرجل فتنة للمرأة، والمرأة فتنة للرجل..

والغني فتنة للفقير، والفقير فتنة للغني..

والفاجر فتنة للبر، والبر فتنة للفاجر..

والكافر فتنة للمؤمن، والمؤمن فتنة للكافر..

كما قال تعالى: {وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا}..


وقال تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة}..

فالخير فتنة، والشر فتنة، ففي الخير يحتاج إلى الشكر، وفي الشر يحتاج إلى الصبر، كي يجتنب الفتنة.. وفتنة السراء أشد من فتنة الضراء، قال عبد الرحمن بن عوف:

- "بلينا بفتنة الضراء فصبرنا، وبلينا بفتنة السراء فلم نصبر"…

وقال بعضهم:
- "فتنة الضراء يصبر عليها البر والفاجر، وفتنة السراء لا يصبر عليها إلا صديق".

- ولما ابتلي الإمام أحمد بفتنة الضراء صبر ولم يجزع، وقال: "كانت زيادة في إيماني"، فلما ابتلي بفتنة السراء جزع، وتمنى الموت صباحا ومساء، وخشي أن يكون نقصا في دينه.انظر: اختيار الأولى ص110-111

ذلك أن فتنة السراء فيها التزين والخداع، فينساق وراءها الغر، وهو يظن أنها كرامة له من الله تعالى ورضا، وما درى أن الله تعالى يستدرج قوما بالنعم، من حيث لا يشعرون..


إن العظماء هم الذين يرفعون رؤوسهم يردون الفتنة بقوة ويقين، لاتزحزح إيمانهم بالله تعالى..

هم الذين يخمدون نار الفتنة في أنفسهم، ومن حولهم، كما فعل الأنبياء والرسل، دعوا قومهم وهم في لجة الفتنة ونارها، فلم تضرهم، وتجرهم، بل تتبعوها بماء الإيمان، وبرد اليقين، فأخمدوها، واستخرجوا المفتونين، ودفعوا بهم خارجها آمنين، فالفتنة تتعرض وتستشرف وتؤذي، لا يسلم منها أحدا..

نعم..

لكنها لا تأكل كل أحد، لا تأكل أصحاب اليقين والعلو في الدين، إنما تأكل الضعفاء المرتابين، كما قال تعالى:

{ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جنهم لمحيطة بالكافرين}..

كان الجد بن قيس منافقا، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم للغزو، فاعتذر بالخوف على نفسه فتنة نساء الروم، فسقط في الفتنة.. فما يترك الخضوع للدين بدعوى خوف الفتنة إلا مفتون..

عرض على النبي صلى الله عليه وسلم الملك والمال ليدع دعوته، فلم يلتفت إلى هذه الفتنة، ومضى..

وعرض إبراهيم عليه السلام على النار ليترك دعوته، فلم يلتفت إلى هذه الفتنة، ومضى..

وسلم غلام الأخدود من الفتنة، فمات ولم يتزحزح عن دينه..

فكل من رسخ إيمانه، ثبت في الفتنة، فلم تضره، أما عابد الشهوات، فهو يطير خلف كل فتنة..

كان من دعائه صلى الله عليه وسلم:
(
اللهم إن أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت فتنة في قوم، فتوفني غير مفتون، وأسألك حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يقربني من حبك) رواه الترمذي في تفسير سورة ص..

إن الفتن أنواع: منها فتنة الدنيا: مالها، نساؤها، رياستها، جاهها.. ومنها الكفر والبدع..

وفي الأثر النبوي مشروعية الدعاء على النفس بالموت إذا خيف الفتنة، وقد فعلها جمع من الصحابة رضوان الله عليهم، فهذا عمر لما حج آخر عمره، رفع يديه وقال:

" اللهم إنه قد كبر سني، ورق عظمي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون"..

ودعا بنحوه علي رضي الله عنه، ودعت زينب بنت جحش رضي الله عنها لما جاءها عطاء عمر من المال فاستكثرته، وقال: "اللهم لايدركني عطاء لعمر بعدها"، فماتت قبل العطاء الثاني..

وعمر بن عبد العزيز لما ثقل عليه القيام بحق الرعية، طلب من رجل كان معروفا بإجابة الدعاء أن يدعو له بالموت، فدعا له ولنفسه بالموت، فماتا..

وكان سفيان الثوري يتمنى الموت كثيرا، فسئل في ذلك فقال:

"ما يدريني لعلي أدخل بدعة، لعل أدخل فيما لايحل لي، لعلي أدخل في فتنة، أكون قد مت، فسبقت هذا".. اختيار الأولى ص107-108


لا نشبه هذه الدنيا إلا ببحر مائج، والكل قد نزل في مركب، والموج يلعب به، يرفعه ويخفضه..
فالمؤمن يقول:
اللهم سلم سلم..
والمفتون يرمي بنفسه في الأمواج..
والغافل نائم لايدري ما يجري..

أبو سارة
abu_sarah@maktoob.com

الصفحة الرئيسة