بسم الله الرحمن الرحيم

بمناسبة شهر ربيع: هذا بيان منزلة النبي ... وأهل الغلو فيه...


جاءت النصوص مبينة أمرين مهمين في حق النبي صلى الله عليه وسلم:
الأول: بشريته، وكونه خلقا من خلق الله تعالى، من ولد آدم، ولد وعاش ومات كغيره من بني آدم.
الثاني: أنه أفضل البشر، وأحسنهم، وأعلاهم، وأقربهم إلى الله تعالى.
فمن النصوص في المعنى الأول قوله تعالى:
{قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون}.
{قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا * قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشد * قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا}..
{قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحي إلي وما أنا إلا نذير مبين}.
{ ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين}..
{ وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفئن مت فهم الخالدون}..
والآيات في المعنى كثيرة، أما الأحاديث فمنها:
ما رواه الإمام البخاري بسنده عن عمر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
(لا تُطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مرين، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله) .
وما رواه الإمام أحمد بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم:
(ما شاء الله وشئت! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أجعلتني والله عدلا؟!بل ما شاء الله وحده) .
وما رواه الإمام أحمد بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلا قال:
( يا محمد! يا سيدنا، وابن سيدنا، وخيرنا، وابن خيرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس! عليكم بتقواكم، لا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله) .
وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تربية أصحابه رضوان الله عليهم على هذا المعنى، وهو أن النبي - مهما بلغ – فلن يبلغ أن يكون إلهاً وربا مسؤولا، فكان حرصهم رضوان الله عليهم على طلب مرضاة الله تعالى وسؤاله والرغبة إليه فوق كل شيء، ولم يكن في قلوبهم الرغبة إلى المخلوق أو طلب الحسْب منه مهما كان شأنه، ومن أمثلة ذلك:
ما رواه الإمام البخاري في حادثة الإفك بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت:
" فلما سُري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُري عنه وهو يضحك، فكانت أول كلمة تكلم بها: (يا عائشة! أما الله عز وجل فقد برأك)، فقالت لي أمي: قومي إليه، قالت: فقلت: والله لا أقوم إليه، فإني لا أحمد إلا الله تعالى" .
وما رواه الإمام البخاري – أيضا - بسنده عن كعب بن مالك رضي الله عنه في قصة توبته قال: "فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك)، قال: قلت: أمن عندك يا رسول الله، أم من عند الله؟، فقال: (لا، بل من عند الله)" .
و لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم قام أبو بكر رضي الله فقال كما روى الإمام البخاري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما:" أما بعد:
فمن كان منكم يعبد محمدا صلى الله عليه وسلم فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله:
{وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين}" .
ذلك فيما يتعلق بالأمر الأول، وهو بشريته صلى الله عليه وسلم.

أما فيما يتعلق بالأمر الثاني، وهو أفضليته صلى الله عليه وسلم على سائر الخلق، فاصطفاؤه بالرسالة الكاملة الخاتمة الشاملة، وتقديمه على الخواص من الأنبياء والرسل، واتخاذه خليلا، وجعله سيد ولد آدم، واختصاصه بأنواع من الشفاعة، روى الإمام مسلم بسنده عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
( لو كنت متخذا خليلا، لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكنه أخي وصاحبي، وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا) .
وروى مسلم - أيضا – بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
( أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع) .
وروى الإمام أحمد بسنده عن عبد المطلب بن ربيعة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، ألا إن الله خلق خلقه، فجعلني من خير خلقه، ثم فرقهم فرقتين فجعلني من خير الفرقتين، ثم جعلهم قبائل فجعلني من خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتا، فجعلني من خيرهم بيتا، وأنا خيركم بيتا وخيركم نفسا) .
ويكفي من ذلك كله أن الله تعالى شهد له بالعبودية الكاملة، ووصفه بها في أشرف المواطن، في الإسراء والمعراج في أول سورة الإسراء، وفي مقام التحدي في سورة البقرة، وفي مقام الدعوة في سورة الجن.
فقد وصف بالعبودية في هذه المواطن الشريفة، مما يدل على أن هذا الوصف هو وصف تشريف وتكريم، وليس انتقاصا كما قد يظن من يظن.
فالنبي صلى الله عليه وسلم عبد رسول، كما وصف هو نفسه بذلك في قوله الذي رواه الإمام البخاري بسنده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
( إنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله) .
وفي هذا رد على طائفتين غاليتين:
الأولى: مفْرِطة، رفعته فوق منزلته، فجعلته فوق مرتبة العبودية، في مرتبة الربوبية والألوهية، حتى صار عندها إلها وربا مسؤولا.
الثانية: مفَرّطة، لم تعرف منزلته ولا قدره ولا حقوقه، فعاملته كسائر البشر، فلم ترفع بهديه رأسا.
فوصفه بالعبودية رد على الطائفة الأولى، ووصفه بالرسالة رد على الطائفة الثانية، وهذا هو التوسط، وهو خير الأمور، وبذلك نعطي النبي حقه ومنزلته، دون غلو أو إجحاف.
فمن كلام الغالين في حق النبي صلى الله عليه وسلم ما قاله البوصيري في البردة التي يرددها ملايين الصوفية في العالم، في كل آن، خاصة في الموالد النبوية في شهر ربيع:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به..........سواك عند حلول الحادث العمم
ولن يضيق رسول الله جاهك بي...........إذا الكريم تجلى باسم منتقم
 فإن من جودك الدنيا وضرتها............ومن علومك علوم اللوح والقلم
فهذا هو الغلو بعينه، بل هو الشرك والكفر الأكبر، حيث استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، فقد استغاث به وهو ميت، والميت لا يستغاث به، فهو لا يقدر على شيء..
ثم إنهم زعموا أن هذه الاستغاثة إنما تكون يوم القيامة..
ولو فرضنا الأمر كما قالوا، فكيف لهم أن يتقدموا بهذه الاستغاثة في الدنيا قبل حلول الآخرة؟..
إنهم استغاثوا به حال موته، وهذا هو المحرم.
ثم الزعم أن الدنيا والآخرة إنما هما من جود النبي صلى الله عليه وسلم:
فهل هما من جود النبي؟..
هل أوجدهما النبي؟..
أم وجدا لأجل النبي؟...
أما الأول فباطل لا ريب، فلا خالق إلا الله..
أما الثاني فهو الغلو بعينه، ومن أين لهم أن الدنيا والآخرة ما وجدتا إلا لأجل النبي صلى الله عليه وسلم؟، بل عندنا أن الله ما خلق الخلق إلا لعبادته، قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}.
ثم القول بأن من علوم النبي علم اللوح والقلم، فذلك معناه أن علم النبي زيادة على ما في اللوح والقلم، إذن هو يعلم ما كان وما لم يكن، وزيادة، وهذا باطل، فالنبي لا يعلم ما في غد، إلا شيئا علمه الله، والله تعالى لم يعلمه كل شيء، وقد قال الله تعالى:
{قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون}.
أما هؤلاء فيزعمون أن النبي يعلم كل شيء في اللوح وزيادة، ويدعون أن الله علمه، وذلك باطل، ولم يكن، ولو كان لما أخبر النبي عن نفسه أنه لا يعلم الغيب، ولما مسه السوء..
وهؤلاء بلاياهم وغلوهم كبير في النبي، فهذا ابن عربي يقول:
" بدء الخلق الهباء، وأول موجود فيه الحقيقة المحمدية الرحمانية" الفتوحات المكية 1/118
ويقول الحلاج:
" أنوار النبوة من نوره برزت، وأنوارهم من نوره ظهرت، وليس في الأنوار نور أنور وأظهر وأقدم سوى نور صاحب الكرم... همته سبقت الهمم، ووجوده سبق العدم، واسمه سبق القلم، لأنه كان قبل الأمم... العلوم كلها قطرة من بحره.. والأزمان ساعة من دهره" الطواسين 13
وقال ابن الدباغ:
" اعلم أن أنوار المكونات كلها من عرش وفرش وسموات وأرضين وجنات وحجب وما فوقها وما تحتها إذا جمعت كلها وجدت بعضا من نور محمد، وأن مجموع نوره لو وضع على العرش لذاب، ولو وضع على الحجب السبعين التي فوق العرش لتهافتت، ولو جمعت المخلوقات كلها ووضع ذلك النور العظيم عليه لتهافتت وتساقطت" هذه هي الصوفية ص87 نقلا عن محبة الرسول ص203
فمثل هذا هو الغلو، وهو رفع للنبي فوق منزلته، والله لا يرضى بذلك، ولا النبي صلى الله عليه وسلم..

أبو سارة
abu_sarah@maktoob.com

الصفحة الرئيسة