بسم الله الرحمن الرحيم

لقد آن الأوان ... ؟؟!!!...


- التفرق المحمود، والمذموم:

الفِرقة، بكسر الفاء، هي: الجماعة من الناس، المفارقة عن الجماعة الأم..

والفُرقة، بضم الفاء، هي: حال التفرق، عكس الاجتماع والاتحاد..

فالأولى مذمومة في حال، ومحمودة في حال، فإن كانت المفارقة سببها التمسك بالحق فهي محمودة، وإن كان سببها الخروج عن الحق فهي مذمومة..

ولذا نجد في الأثر أن هذه الأمة ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار، أي ثنتين وسبعين فرقة، وواحدة في الجنة، هي الفرقة الناجية، التي تكون على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم، فهذه الناجية فرقة تمسكت بالحق، فأفلحت ونجت..

روى الترمذي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

-
(لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ، حَتَّى إِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى أُمَّهُ عَلَانِيَةً لَكَانَ فِي أُمَّتِي مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ، وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً، قَالُوا: وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟، قَالَ: مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي).. الإيمان، باب: افتراق هذه الأمة، صحيح الترمذي 2/334 ( 2129).

في وصية النبي صلى الله عليه وسلم لحذيفة إذا وقت الفرقة ( كما في البخاري في الفتن):

-
(تدع تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)..

هذا يدل على أن الفِرقة محمودة إذا كان فراقها وخروجها سببه لزوم الحق، ورفض الباطل..

---

وأما الثانية، وهي الفُرقة، فهو وصف مذموم في كل حال، لأنه ينم عن الاختلاف، والتنافر، والعداوة، بين أهل الملة الواحدة، مع وجود الحق ومعرفته، وقد نهى الله تعالى عن مثل هذا، فقال:

-
{ولاتكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم}..

-
{منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولاتكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون}.

فأهل الكتاب والمشركون هم من علاماتهم الفُرقة وما ينبني عليها من العداوة، وذلك لأنهم أهل هوى وحب للدنيا، وقد مزقوا دينهم فكانوا أحزابا وشيعا، وأهل الإسلام مأمورون بضد ذلك، فإن امتثلوا فقد حققوا دينهم، وإلا فهم مشابهون لأولئك الضلال في صفاتهم..


- الأصل الشرعي: الاجتماع.. الأصل القدري: الاختلاف:

والواقع أن أهل الإسلام وقعوا في هذا المحذور، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بحدوث ذلك، في حديث الافتراق، فكان ذلك من علامات النبوة: الإخبار بما في المستقبل..

- أخبر بها ليحذر أهل الحق من هذه الفتنة، المسببة للعداوة والبغضاء، وضعف المسلمين..

- أخبر بها لأنها واقعة قدرا، وإن كانت مكروهة شرعا .. ليدفعها المسلمون ما استطاعوا..

ففي الاجتماع فائدتان، وفي الفرقة مفسدتان:

- في الاجتماع: القوة، وبها ينتصر الحق.. والتآخي، وبه يذوق المؤمنون الطعم الجميل للحياة..

- في الفرقة: الضعف، وبه ينهزم الحق.. والعداوة، وبها يذوق الناس الطعم القبيح للحياة..

قال تعالى:
{واعتصموا بحبل الله جميعا ولاتفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ..}.

فالشريعة تنهى التفرق بين المسلمين، وتأمر بالاجتماع، بالاعتصام بحبل الله تعالى، الذي هو الكتاب والسنة، في نصوص كثيرة متنوعة، لكنها أيضا تبين أن التفرق قدر واقع، يجب التوقي منه، ومدافعته، والتقليل من شره، كالمرض، فإن معرفة أن المرض قدر واقع لم يمنع الناس من الوقاية منه، ومن علاجه بكل وسيلة، فهذا مرض البدن، والتفرق مرض المجتمع، فلا بد من التوقي منه، وعلاجه إن وقع بكل وسيلة..

وتجربة الأنبياء أثبتت أن من الممكن القضاء على التفرق والاختلاف، وتحصيل الاجتماع..

قال تعالى:
{ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولايزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين}..

فقد بين أن الخلاف هو الأصل، لكن كذلك بين أن الاجتماع ممكن في قوله:
{إلا من رحم ربك}.

والاجتماع هو الأصل في أمة المسلمين، وفي تاريخ البشرية، فأمة الإسلام بنيت علي يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي جمعها، ووحدها، وربط بينها، فمات وهي مجتمعة متحدة، ثم بعد عقود سرى المرض إلى الجماعة، بفعل المرضى المفسدين، الذين يفسدون في الأرض ولايصلحون، حتى تمكن فأفسد وفرق..

وكذا البشرية في أول أمرها كانت على الاجتماع، من عهد نوح إلى آدم، عشرة قرون، لم يكن بينهم تفرق، حتى حدث مرض الشرك، بعبادة الأصنام، قال تعالى:

{كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}.

فالأنبياء ما بعثوا إلا ليردوا الناس إلى الاجتماع، وطريقه عبادة الله وحده، فإذا اجتمع الناس على هذا، وطبقوه بصدق انتفى التفرق.. ففي عبادة الله وحده تنتفي كل حظوظ النفس، وتتلاشى وساوس الشيطان وحظوظه، التي هي سبب التفرق في الأصل.


- التفرق في الأصول، لا في الفروع:

التفرق في الأصول له وجه، أما في الفروع فلا وجه له، فالأول يستحق به التفرق، أما الآخر فلا يسوغ التفرق لأجله..

والأصول هي أصول الدين، التي من خالفها يكون مبتدعا أو كافرا، وهي التي اتفق عليها السلف من الصحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم من التابعين ومن تبعهم، مما أجمع عليه كلهم، أو جمهورهم.

وأما الفروع فهي ما تسمى فروع العقيدة والفقه ونحوها، مما اختلف أولئك الأعلام فيه، وتراجحت أقوالهم فيها، وهو ما كان النص يحتمل الخلاف، كقوله صلى الله عليه وسلم:

(لايصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة)..

فصلى بعضهم في الطريق، وبعضهم صلاها في بني قريظة بعد خروج الوقت، فلم ينكر على أحد، لأن النص يحتمل هذا، وهذا.. يحتمل أن أراد إسراعهم، ويحتمل أنه أراد الظاهر..

ومثل ذلك حديث رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه، قال: (نور أنى أراه).. فهم بعضهم أنه رآه بعينه، وبعضهم بقلبه.. فقائل بهذا، وقائل بهذا، والنص يحتمل، وإن كان الراجح معلوما، لكنه غير مقطوع به.. فاختلفوا..

ومثل ذلك الأخذ من اللحية ما زاد عن القبضة، قد ورد وصح عن جمع من الصحابة، فمن قال به لم يخرج عن السنة، ولم يأتي بما يوجب الفرقة..

والأمثلة كثيرة، لكن يحتاج من أهل العلم من يميزها، ويعددها، ويوضحها، ويخرجها في مؤلف للناس، حتى يعرف الناس ما الذي يسوغ لهم الخلاف فيه، فيجتنبوا التفرق فيه، وما الذي لايسوغ الخلاف فيه، فيتمسكوا فيه بالحق..

فقدر من الاختلاف مقبول..

فالإسلام إنما جاء متفقا مع حاجات الناس، وفطرهم، وعقولهم، لذا لم يمنعهم من الخلاف مطلقا، لأن ذلك كما أنه محال، كذلك هو داء، فإن افتراض الناس أن يكونوا على رأي واحد مطلقا في كل صغيرة وكبيرة، خلاف المصلحة والطبيعة البشرية:

فحياة الناس لا تستقيم إلا بتفرد كل إنسان بشخصيته وتفكيره، فلا بد أن يكون له مجال يصول وفيه ويجول بفكره دون عائق أو مانع، حتى ينتج ويبدع، ويتبين للناس قدر نعمة الله على الإنسان بهذا العقل الجبار، أولم نسمع لقوله تعالى:

{سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق}؟..

ففي الإنسان آية عظيمة هي العقل، فلا يجوز الحجر على العقل، حتى يكون صورة متسنسخة لغيره، لايفكر إلا بما يمليه غيره من المسيطرين، هذا خطأ كبير، وهو ضد تعاليم الإسلام، لكن مع إعطاء كل عقل مجال من الحرية، لا بد كذلك من تحديد هذا المجال بحدود الشريعة، وإلا فإن العقل يطغى، فيخرج من المفيد إلى الضار..

وهذا مثل أمامنا:

الحضارة الغربية، أعطت للعقل مجالا غير محدود، فأنتج المفيد والمضر، فما هذه الأسلحة الغربية المدمرة، وما تلك الاختراعات المفسدة للأخلاق، وما الأبحاث الطبية الخطيرة المضادة للصالح البشري، إلا مثال، ولو أنهم جعلوا للعقل حدودا، لما جنوا من ورائه كل تلك المفاسد..

فنحن بين فريقين:

- فريق يريد من العقول أن تكون مستنسخة، على صورة واحدة، صورة الآمر المستبد الظالم.

- وفريق لا يريد أن يحد للعقل حدودا، يمنع من تعديها..

- والوسط: حده بحدود الشارع، فالله تعالى أعلم بعباده، هو الذي خلق العقل، وحد له حدودا، فله الحق أن يحد ما يشاء، كما يشاء..

- وحدود العقل في الإسلام:

أن يفكر وينتج ما شاء، كيف شاء، بشرط ألا يجلب على نفسه أو البشر شيئا من الضرر في: الدين، أو النفس، أو العرض، أو العقل، أو المال..


خلاصة الكلام في هذه المسألة:

أن نعرف ما الذي يسوغ فيه الخلاف، وما الذي لا يسوغ فيه الخلاف، ويكون ذلك بتحديد الأصول والفروع بتحرير ودقة.. فإن أكثر خلاف الناس اليوم في أشياء يسوغ فيها الخلاف، فخلافهم ناتج عن جهل..

والمشتغلون بالعلم عليهم أن يبحثوا ويفحصوا هذه المسائل، ويخرجوا للناس بقول محرر، فيه بيان ما يسوغ وما لا يسوغ من الخلاف، ولو خالف ذلك بعض أقوالهم السابقة، وإلا فإنهم ربما عمقوا الخلاف، وأسهموا في الفرقة من حيث لا يشعرون..

ومن الحسن ألا يخرج واحد برأي منفردا إلا بعد أن يطلع عليه إخوانه من العلماء، فذلك مما يعين على تكامل النظرة تجاه المسألة، فهذا يحرر زاوية منها، والآخر زاوية أخرى، وهكذا، فيقف كل على ما فاته، فيكتمل تحرير المسألة وتمحيصها بالتضافر والتعاون، فإذا اتحد منهجهم، توحد فتواهم في الأصول، أما الفروع فلا ضير في الاختلاف بعد ذلك، وعلى جميع المسلمين أن يعوا أن الاختلاف في فروع المسائل حق مشروع، ولايترتب عليه عداوة ولا بغضاء، ولا فرقة.

أبو سارة
abu_sarah@maktoob.com

الصفحة الرئيسة