اطبع هذه الصفحة

http://saaid.net/rasael/696.htm?print_it=1

الدخولُ في نوايا الكاتب

أبو الهُمام البرقاوي


بسم الله الرحمن الرحيم


بسم الله، والحمدُ لله، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله، محمد وآله وصحبه ومن والاه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم نلقاه
وبعد
لا أقبحُ من هذه الشبكة التي تلقي شباكها اصطيادًا لأخطاء الآخرين، وتفرق الأصابع بعد أن كانت مشبَّكة، لتُفرحَ الكاتبَ بما رآه من زلل، وتبهِجه بما لهجَ من لسانِ أخيهِ الخَطل، فيزول ما بهِ من غُمة، ويظن أنّ قلبه استراحَ بالغلبة، وأمرَه اشتهر بالقهر والقوة.

طالما رأيتُ الوضيع والشريف إذا حادثَ أخاهُ من وراءِ حجاب، حادَ عن الحقّ والصواب، وإذا ناقشَه أو نصحَه أبرز له أنيابًا ما أخرجها لو كان بحضرته، فيظنُّ المحادَث أنّ صنيعَ أخيه صار له طباعا، وسوءَ خلقه هوى مطاعا، وليس بذاك إنما جلوسُ المرءِ بين جنبتي جهازِه، لا حسيبَ لما يتفوه به ولا رقيب، وعنده من خزائن الكتب والمجلدات ما يقرب به البعيد – جوجل-، ما يجعله لأن يتفنن في العبارة.
فإن هرعَ لما لا يرضاه من أخيه، اشتعَلَ قاموسُه الدنيّ بأفصح الألفاظ، وأشنع الاتهامات، ليري من يرى المحادَثة أنّه رجلٌ علميٌّ رصينٌ متينٌ، قد فتقَ بطنُه من سِمَن العلم وطولِ المثابرة، وصدَأ لسانُه من إنشاء القريض، وما هو إلا نقّال بطّال، لا يملُك بلغَة، ولا يوجد في جرابِهِ مضغة، حقيقتُه غثاءُ السيل يضرُّ ولا ينفع.
فإذا جلست مع هذا الذلِق طأطأ برأسِه، ولانَ جانبُه، وأظهر بياضَ أسنانِه الظاهرة؛ لئلا تُرى طواحينُه السوداء الباطنة، وإن طُولب بالكلام قال: وكيف والشيخ بين أيدينا؟ يا هذا ! أما هرعت إلى كتبِ الأدب لتصفَه بأقذع الألفاظ، وترجمُه بأفظعِ الألحاظ، أم أنّ الغَيْـبَة تبيحُ لك ما شئتَ من الغِيبة، والمشاهدة تمعنك من المرواغة والمداهنة؟
تقول: هذا ينافق لفلان! كتبَ ذلك لأنه يكرهه ! يخالف ما يكتبه ! محا الكلام لئلا يراه فلان! أصله عنده كذب! ترى لا يغرّك هو رجل مراوغ! كتبه إرضاء لجماعته! كتب ليمدحه الناس! كتب ولم يرد به وجه الله! لما داخل فلانٌ مقالَه غيّر أسلوبه خوفا منه! هو يعترف بضعفه العلمي.!
تساهَل للدخول بنيةِ المرء، وجعْلِ عرضِه مباحا حلالا، وعرضَ نفسه مبرئًا من كل فساد نية، وقُبح طوية، لا يُحسِن إلا نقد الكاتب، ولا يعشقُ إلا أن يعرف بأنه ناقد، كأنه خُلق ليزيل العلل.
وما دخلَ في نيّته، إلا أنه أساء به الظن، وما أساء الظنّ إلا لوغَلٍ في قلبه، وما الوغلُ إلا من طبعِ الكذب والادعاء الزائف، ولا يعلم أنّه كشفَ ما هو عنهُ محجوب، وأن النيّة محلها القلب، ولا يعلم بها إلا رب العباد، ولو اشتغلَ كل كاتبٍ بنواياه؛ لوسعه أن يكتبَ مجلدًا في " فساد النوايا. "
وأما سليم الصدر، طيّبُ الفؤاد، فإنه لا يسيء الظن بنية الكاتب، ولا يدخل في نوايا هو في غنىً عنها، (يأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرًا من الظن إن بعضَ الظنِّ إثمٌ) (إياكم والظن فإن الظنَّ أكذبُ الحديث) وما أكثر من كتم بحثًا علميًّا، أو حبس فتوى؛ ليسلمَ من اتهامِ الناس، ولئلا يُكسبَهم إثما وجُرما.
قلّما يسلمُ المرءُ من دخولِه في نياتِ الكاتب، ولكن سأشيرُ إلى بعض الأسباب، ونحاول معًا أن نبحث عن العلاج، فالداءُ مستطاعٌ والدواءُ من المتخصصين.
السببُ الأول: عدمُ الاستشعار بمراقبة الله، فمن كتب مقالة وهو موقنٌ بأن لا رقيب ولا حسيب لما يكتب، فما يمنُعُه من أن يفعلَ كل خطيئة، وأن لا ينظر بعينٍ صحيحة؟

وإن سمعتَ قيلا ** يحتملُ التأويلا
فاحملهُ خيرَ محملِ ** فعلُ الرجالِ الكمَّل
فالخطْبُ بالمشافهة ** ضربٌ من المسافهة.

السبب الثاني: الفشلُ الذريع، فمن لم يلِح له النجاحُ يوما، ولا رأى قبولًا بين الناس، فما عذرُه من الحقد الدفين؛ ليُخرجه فيمن نجح؟
السببُ الثالث:
فسادُ الطوية، فمن ينظر إلى نفسه أنّه إنسانٌ كاذب يظهر بخلافِ ما يبطِن، فهو كرجلٍ أرادَ أن يرى حُسن وجهه من على المرآة، فأظهرت له حقيقته.

وعيـنُ الرضـا عن كل عيبٍ كليلة ** ** كما أنّ عينَ السـخـطِ تبدي المساويا

السبب الرابع: أمراضُ القلوب وعللها، فأغلب من يدخل في النوايا حاسدٌ حاقدٌ، عيلَ صبرُه فنفثَ سمّه، وأغلب هؤلاء لا يمدح إن رأى خيرًا، ويفرح إن رأى زلةً أو شرًّا، ليجيء بشيء نُكرا، ويبقيَ له في المخزيات ذِكرا.

إن يسـمعوا سُبَّةً طاروا بها فرحًا** ** منّـي وما يسمعوا من صالحٍ دفنوا
صمٌّ إذا ًسَمعوا خيرًا ما ذُكرتُ به ** ** وإنْ ذُكرتُ بسوءٍ عندهم أذنوا
إنْ يعلموا الخير أخفوه ،وإن علموا ** ** شرّا أذاعوا ، وإن لم يعلموا كذبوا

العلاج

صدقَ من قال (اللجاجُ شؤم، والحنق لُؤم، وتحقيق الظنّة إثم، وإعناتُ البريء ظلمٌ) ولن يستريح قلبُ مسيءِ الظنِّ، ولا يهنأ له بال وحال؛ حتى يخليَ قلبَه من كل درنٍ، ويقنعَ بفضلِ الله وأنه يُؤتيهِ من يشاء، وأن يحسنَ ظنّه بأخيه فـ(من جعل من حسن ظنه بإخوانه نصيبًا أراح الله قلبه) ولا تقف على السقطة، والكلمة الضعيفة، وضع الاحتمالات أمامك، واختر أحسنها وألصقها خيرًا بكاتبها.
ولا تسرع في الرد على الكاتب؛ لئلا يظن بك شرًّا، بل تمعّن كلامَه وافهمهُ على ما يريد، والوجه الذي يليق به ويحلو له، فإن لم يكن للظن الحسن موضعًا -كأن يحتف بالكاتب قرائن تصل إلى اليقين بسوءِ كلامه-، فالجأ إلى النصيحة غير مستعل ولا مستكبر، وأن يكون صوابُه أحبّ إليك من صوابك، وخطؤك أبعد إليه من خطئه.
وضع نفسك مكانَه فيما لو كنت الكاتب، وكتبت ما كتبت قاصدًا الخير، فمؤكدٌ سيسوؤك لو اتهمكَ أحدٌ بفسادِ نيّتك، وتتمنى أن تضيقَ بك الأرضُ بما رحبت على أن لا تُظلم ويجحفَ حقُّك.
ولا تدخل في نية الكاتب إن سبق بينك وبينه شيء غيرُ مرضي (لا يجرمنّكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى).

ملاحظة:
ما كتبتُ صفة لهذا الداخل في النية، إلا وضعت نيتي أمامها؛ حتى أتقِن اسمه ورسمه، ولَـأنا المخاطبُ الأول من هذا الدخيل، نسأل الله العصمة، (لنا الظاهر والله يتولى السرائر).

أخوكم المحب/ أبو الهُمام البرقاوي
1433هـ 2012 م


 

رسائل دعوية

  • رسائل دعوية
  • معا على طريق الجنة
  • الصفحة الرئيسية